فلسطين
مع أني لم أكن جاوزت العاشرة، فقد أصخت السمع لتقديم المذيع، وحديث الشاعر علي محمود طه عن أغنيته الجديدة لفلسطين.
كان المساء قد حل. هدأ صخب الطريق، فيما عدا أصوات صفارات بواخر تترامى من الميناء الغربي.
تحول إنصاتي لأحاديث أبي مع أصدقائه، ومانشيتات الصحف، ونشرات الأخبار … تحول ذلك كله إلى متابعة شخصية، همٍّ شخصي. ربما توقفت أمام دكان بقالة أو علافة في شارع الميدان، لأن صاحبه يتبادل حوارًا في القضية التي شغلت الجميع.
لم تكن الأسماء، ولا الأحداث، واضحة في ذهني تمامًا، لكن توالي الأحداث والأخبار والمناقشات جعل الصورة في متناول العين: ثمة حرب قاسية يخوضها أبناء فلسطين ضد المهاجرين اليهود، تركوا بلادهم للإقامة في القدس ويافا وحيفا وغيرها من المدن التي كان أبي يذكرها في أحاديثه، ويروي ذكرياته عن زياراته المتعددة لها.
أشار أبي إلى الأسرة اليهودية، التي غادرت الطابق الثاني في بيتنا، إلى جهة غير معلومة، وإن أعلن ثقته أن تلك الجهة هي فلسطين. وغلب على أحاديثه الاستياء والحيرة والألم لما سماه بيع فلسطين بلا ثمن. وألِفْتُ أسماءً ومسميات: الانتداب، وترومان، والدول الكبرى، والتقسيم، وعبد الرحمن عزام، والحاج أمين الحسيني، وشتيرن، والهاجاناه، وبن جوريون، ودير ياسين، وأحمد حلمي رئيس حكومة عموم فلسطين، وأحمد عبد العزيز شهيد غياب كلمة السر، وعبد القادر الحسيني شهيد معركة القسطل.
قدم المذيع مؤلف القصيدة باسمه الشخصي، وليس بصفة الملاح التائه التي كان قد عُرف بها، ربما لأن المناسبة تفرض الجدية.
تحدث الشاعر — بصوت أتذكر إلى الآن نبرته — عن ظروف كتابة القصيدة، واعتزازه باختيار عبد الوهاب لها. أما عبد الوهاب، فقد اكتفى — فيما يبدو — بتلحين القصيدة وغنائها.
أعطيت انتباهي لصوت محمد عبد الوهاب. من فصيلة مميزة، امتدادها الأجمل عبد الحليم حافظ. فضلًا عن مراتب أقل، ممثلة في سعد عبد الوهاب وعادل مأمون وهاني شاكر، وغيرهم، فلست أقصد الحصر.
اجتذبني اللحن. راقص بما يتيح له مرافقة أداء حفل رقص جماعي.
أبديت ملاحظتي لأبي:
قال أبي: هذا هو عبد الوهاب … لا تهمه الكلمات ولا المعنى بقدر ما يهمه اللحن.
وابتدرني بالسؤال: أغنية «مين زيك عندي يا خضرة» … من خضرة هذه؟
قلت بعفوية: بنت يعرفها.
— أبدًا … إنها الراية المصرية الخضراء، يخاطبها جندي في طريقه إلى الميدان.
وعلا صوت أبي في تأكيد: هذا هو عبد الوهاب … صوت ولحن. أما المعنى فيلغيه غناؤه لخضرة … ولفلسطين!