غريب الدار
كان صوت «عبده السروجي» يعلو في جهاز الراديو بالأغنية الجميلة:
أعطيتها وجداني، بحيث إني نسيت المشكلة، المأساة، التي كنا نعانيها.
الإذاعة — كما تعلم — لا تنسق برامجها وفق أوضاع الناس، أو ما يعانون من ظروف، ولا حتى متطلباتهم الملحة. وبالتأكيد فإنه لا يَشغَل الإذاعة إلا أن تنوِّع في برامجها، في امتداد اليوم، بما يرضي كل الاهتمامات والأذواق.
كنا نعاني ظروفًا قاسية، امتدت منذ ما قبل وفاة أبي، إلى ما بعد رحيله بعامين. لم نعد نملك مجرد دفع إيجار الشقة. تراكم الإيجار، فأبلغَنا عم أحمد البواب — ذات صباح — أن الشقيق الأكبر للطبيب محمود عبد اللطيف موسى — مالك البيت — سيزورنا لمناقشة ما يمكن فعله.
أيقظنا صوت الجرس من جمال الأغنية، ومن أنفسنا، ومن كل شيء.
أومأ كل منا إلى الآخر ليفتح الباب.
كان أخي علي أجرأنا.
ألقى الرجل تحية هادئة، ودخل.
بدا في حوالي الأربعين (عرفت — فيما بعد — أنه كان قائمقامًا، عقيدًا يعني، ويعمل مأمورًا لمركز كفر الدوار) يرتدي جاكتًا كحليًّا له صفان من الأزرار، ويَبين في الجيب العلوي منديل أبيض، وضع في إصبعه خاتمًا، وتدلت من ساعده ساعة ذهبية، واستند إلى عصا أبنوسية، ربما من قبيل الوجاهة، أو اصطناع الوقار!
أشار إلى الراديو، فأغلقناه.
جلس، ووقفنا صامتين.
لمحت في عينيه ما يشبه الإشفاق، أو التعاطف، وهو ينظر إلى وقفتنا المتناثرة، الصامتة، الخائفة.
– ما بتدفعوش الإيجار ليه؟
قال علي: إن شاء الله الفلوس تيجي قريب.
وهو ينقل الإشفاق إلى تعبيرات وجهه: فين يا ابني … المسألة طالت.
وتراجع بصدره إلى الوراء: المهم … عندي اقتراح … ممكن أنقلكم لشقة تانية من غير إيجار.
صرخت بعفوية: لا!
دلق الرجل اقتراحه ببساطة، دون أن يعي التأثير القاسي الذي سيحدثه في نفوسنا.
الشقة ليست مجرد جدران. إنها البيت، الموطن، والطفولة، والنشأة، وأيام العز، والمواكب الرسمية من سراي رأس التين وإليها، وحواديت جدي، وليالي رمضان والعيدين، ومواكب الجلوة، والجلوس تحت جهاز الراديو لسماع تلاوة محمد رفعت — تأثرًا بأبي — وأحاديث بابا شارو، وتمثيليات علي بابا وقسم وعوف الأصيل، والمذاكرة، ومرض أمي وأبي، وموتهما، واللعب في شارع التمرازية الخلفي، ونداءات عم أحمد الفكهاني على بضاعته، وتناهي الأذان من سيدي علي تمراز، وطرقات مغاوري بائع الخبز، وتأمل صيد المياس — وقت العصاري — في المينا الشرقية، ولعبة السلم والثعبان مع عادل الصبروتي على بسطة السلم، وقراءاتي في مكتبة أبي، وفي شقة البيت المقابل، وخطب الشيخ عبد الحفيظ في صلاة الجمعة. أعي كلماتها، وأتساءل: ألا يخشى الملك والحكومة؟
تنقلت نظرة الرجل بين إخوتي. أظن أنه وجد في الملامح استجابة لصرختي الرافضة.
قال وهو يطوِّح عصاه الأبنوسية: ربنا يعمل اللي فيه الخير.
سكت الرجل — في الأشهر التالية — عن المطالبة بالإيجار المتأخر، المتراكم، حتى ظهر لأبي نقود، شغله المرض عن تسلمها من شركة الجراية لتصنيع الورق.
أتذكر الإيجار.
يفزعني الوضع المأساوي الذي كنا نحياه. كانت قيمة الإيجار — أول كل شهر — مائتين واثنين وأربعين قرشًا!