والله تستاهل
المعهد الديني بالمسافرخانة. الباب الحديدي الضخم، والرَّدْهة الواسعة في الطابق الأول، والإضاءة الداخلية التي تغني عن إغلاق النوافذ في وجه النهار، والسلالم المفضية إلى الطوابق العليا، والطرقة الدائرية الممتدة، على جانبها الحجرات المغلقة، والمواربة، والمفتوحة، يتناهى من داخلها — في الأغلب — صخب متلاغط لا أستطيع تبينه.
بدأت في التردد عليه، بعد أن تعرفت إلى أحد طلبته في سينما الأنفوشي. انشغلنا عن متابعة الفيلم بمناقشة لا رابط بين مفرداتها. تبين كل منا في صاحبه أنه يحاول الكتابة الإبداعية.
زرته في المعهد.
تعرفت — بواسطته — إلى أصدقاء آخرين، تعددت اهتماماتهم، لكنهم شكلوا عالمًا لم يسبق لي الحياة في داخله. الجُبَب، والقفاطين، والعمائم، وقراءة الألفية وكتب الفقه والتراث، ومناقشة قصائد المتنبي والبحتري وشوقي وحافظ وأحمد محرم، وكتابات طه حسين والعقاد والزيات، واختلاف الآراء في الأحوال السياسية، ورواية الحكايات، وارتفاع الضحكات للنكات البذيئة، وأدوار الشاي، وأحاديث النميمة، والنداءات، والصيحات، والشتائم.
مع تقدم الليل أتهيأ للانصراف، لكن الدعوات الملحة تدفعني إلى السهرة الترفيهية التي يحرصون عليها. طالب — أذكر من اسمه عيد — له وجه دهني، دائم التفصد بالعرق، وشفتان غليظتان، وصوت جميل. لديه قدرة على اكتساب الصداقات. يغيب التكلف عن تصرفاته. يتحدث في ألفة، وبوقائع من حياته الشخصية. يكتفي — بعد انتهاء الدروس — بنزع الكاكولا، والاقتصار على القفطان.
يدور علينا بنظرة متسائلة: ماذا تريدون؟
تتعدد الرغبات.
ثمة من يطلب تواشيحَ دينية، ومن يستعذب صوت أم كلثوم، ومن يصر على عبد الوهاب أو السنباطي أو الأطرش.
يعلو صوت عيد بمقاطع من الأغنيات، تلبي ما يريده الجميع. تبدو الألحان — في هدأة الليل — كأنها علوية، أو كأنها السحر.
تفاوتت أصداء أغنيات عيد في ذاكرتي بين الوضوح والخفوت. أغنية وحيدة أستعيدها — حتى الآن — أحيانًا، وأدندن بها، ربما لأني أحببتها، أو لأن عيد كان يَهَب أداءها ذوب وجدانه، أو لأنه كان يحرص على أن تكون — دومًا — ضمن اختياراته اليومية من الأغنيات.
كان يسند وجهه إلى راحة يده، ويغمض عينيه، ويمد رقبته، كأنه يتهيأ لأذان، أو لتلاوة قرآنية، ثم يعلو صوته بأغنية سيد درويش: