الجيران
بدأ السائق والعتال — يساعدهما عم أحمد البواب — في إنزال الأثاث من عربة النقل إلى الرصيف، أمام البيت.
عرفنا أن سكان الطابق الثاني، الجدد، وصلوا.
أطلت الوجوه — بالفضول— من النوافذ والشرفات وأبواب الدكاكين. لم ألحظ — في الأيام الأولى — هوية السكان الجدد؛ هل هي أسرة صغيرة العدد أو كبيرة؟ وهل لها أولاد في مثل سني، فيتاح لي صداقتهم، واللعب معهم في الشارع الخلفي؟
في اليوم الرابع، لمحت من الشرفة المطلة على شارع إسماعيل صبري فتاة في مثل سني، في الرابعة عشرة أو أقل بشهور، تتابع حركة الطريق بنظرة متأملة.
أهملت النظرات من دكاكين الشارع، ترصد الإشارات والهمسات بين الشرفات والنوافذ المتقابلة. حدقت النظر. اجتذبني الشعر المنسدل على كتفيها، والرموش الطويلة تظلل عينين واسعتين، والأنف الدقيق، وسمرة الوجه الرائقة.
رأيتها — بعد أيام — تسبقني في النزول إلى الطريق. مضت ناحية شارع فرنسا. أبطأت من خطواتي، فلا يبدو أني أحاول ملاحقتها. الشارع نفسه هو طريقي إلى مدرستي في محرم بك.
تعددت — فيما بعد — لقاءاتي الصامتة بها، على السلم، أو في شوارع الحي. ورأيتها في النوافذ والشرفات التي تطل من البناية المتفردة على أربعة شوارع. شغلني أمرها بما لم أكن أعرفه من قبل. أحاول ضبط موعد ذهابها إلى المدرسة، أو عودتها منها، وقفتها المتأملة في النافذة قبل أن تنسحب الشمس من واجهات البيوت، نزولها إلى شارع الميدان، تشتري لوازم أسرتها، فهي أصغر الإخوة لوالدين أدركهما الكبر؛ رجل في حوالي الخمسين، عرف طريقه — منذ اليوم الأول — إلى مقهى المهدي اللبان أسفل البيت، وصبي وفتاتان فوق رءوس بعض.
كانت مشاوير الولد إلى فرن التمرازية، والطنطاوي بائع الفول في شارع التتويج. أما البنت فكانت تشتري الخضر واللحم والبقالة من شارع الميدان.
مديحة!
لا أذكر من نطق الاسم أمامي … لكن مجرد معرفتي الاسم أضاف إلى انشغالي بها.
تناهى صوت عبد الحليم حافظ بالأغنية، من نافذة لم أتبينها في البناية المقابلة:
تدبرت الكلمات. استوقفني حضن الجيران الذي تمناه عبد الحليم، وتمنيته، وإن لم يداخلني — كم طالت أعوام عذريتي! — أي مشاعر حسية.
عرفت السهر والمتابعة والشرود والنظر — بلا مناسبة — إلى شرفات ونوافذ الطابق الثاني، وملامح البنت في كتب المذاكرة.
أدركت أني أحب.