أهواك
بدت مختلفة عن كل الفتيات اللائي تصورت — وربما تصورن — أن العلاقة الخاصة في أفق البحر.
لم تكن جميلة، ولعلها كانت أقرب إلى الدمامة، فعيناها مشروطتان، وشعرها مجعد، وثمة ما يشبه الشارب الخفيف فوق شفتيها.
شدني انسحابها — بالخجل — من النافذة المطلة على عم عبد المعطي مكوجي الرجل في ناصية شارعي السيالة والعوامري.
كنت — لبواعث أسرية حدثتك عنها من قبل — قد استأجرت غرفة فوق سطح بيت بين البيوت القديمة المتلاصقة، داخل الحواري الملتوية، والمتعرجة، والمتقاطعة. أُمضِي الوقت في المذاكرة، وأطرد إحساسي بالملل، أو أنشد الصداقة في بيئة لم يسبق لي الحياة اليومية فيها. تعرفت إلى دقائق المهن المتصلة بركوب البحر: الصيد، وصناعة السفن، وغزل الشباك، وبيع السمك، والعمل في الحلقة، وفي الدائرة الجمركية. أفدت من ذلك كله في أعمالي التي تناولت الصلة بين اليابسة والبحر.
لاحظت نظرتها المتسللة من خَصاص النافذة. شدني انسحابها بالخجل، فنقلت ملاحظتي إلى عم عبد المعطي.
قال في هدوء وجدية: عفاف … لا … دي غير كل البنات!
حرصت أن ألتقط طرف خيط الكلام عن عفاف بين خيوط أحاديثنا المتشابكة. نشرِّق ونغرِّب في مناقشات بلا ضفاف ولا آفاق. أعاود إلقاء الطراحة، ربما تصيد، ولو سمكة وحيدة، تتصل بسيرتها. نفض عم عبد المعطي اليد الخشبية للمكواة بقدمه الحافية، واعتدل في وقفته، وأسند ظهره إلى ساعده، وتنهد: البنت دخلت مخك … هل تريد خطبتها؟
أضاف دون أن يعبأ بالدهشة التي أغالبها: إنها مثل ابنتي … أستطيع أن أقنعها بلقائك ليتعرف كل منكما إلى الآخر.
اخترت الوقوف أول شارع السيالة. مضيت — بحيث تراني — في شارع الموازيني، إلى رأس التين، فشارع الميدان. التفتُّ نحوها — للمرة الأولى — محَيِّيًا في ميدان المنشية. غلبنا الارتباك، فلم نجد ما يتيح لنا الكلام، والسير المتمهل.
لم أكن أعرف كيف يتكلم الحبيبان، من يسأل، ومن يجيب، مدى الأفق في حديثهما، بل إني لم أكن أعرف الفوارق البيولوجية بين المرأة والرجل. طاقتي الجنسية أنفقها في ممارسة العادة السرية، ترافقها صور أتمثلها، وأتخيلها، وأستدعيها من الذاكرة.
ترامى من المقهى المطل على الميدان صوت عبد الحليم حافظ:
أهواك واتمنى لو أنساك …
قلت: أغنية جميلة.
قالت: فعلًا.
– تحبين عبد الحليم حافظ؟
هزت رأسها مؤمِّنة.
وأنا أشير إلى الكراسي المتناثرة في حديقة المنشية: هل نجلس؟
– لا … أريد أن أعود إلى البيت.
– لكننا لم نتكلم.
في حسم: تكلمنا.
طالعني عم عبد المعطي في عودتي إلى السيالة بوجه يعلوه الاستياء: ضيَّعت فرصة عمرك … البنت للزواج لا للفسحة!
رنوت إلى النافذة المطلة على الدكان.
ظلت النافذة مغلقة، فأهملت الأمر، تناسيته.