أبو طه
لم أكن زرتها من قبل. طبيعتها صحراوية أقرب إلى بيئة الرعي. الجمال فيها أكثر من البشر. عرفت أنها أشبه بميناء، أو محطة وصول للجمال من السودان إلى مصر، تقام عليها المزادات، أو تباع بالذمة والأمانة.
سافرت في صحبة خبير الفنون الشعبية القديم أحمد سعد الدين. كان يرأس وفدًا لصالح صندوق معاشات الفنانين. وجدت في الدعوة فرصة لتنفيذ مشروع يماثل ما فعله الروائي الأمريكي الأشهر شتاينبك حين صحب كلبه تشارلي في رحلة إلى المدن الأمريكية، ولم أكن أملك من الموارد ما يتيح لي رحلة شتاينبك.
زرنا العديد من مدن الصعيد، حتى وصلنا إلى هذه المدينة — أو الضاحية — الصحراوية. تعرفنا — رغم شحوب المرئيات وقت الغروب — إلى الطبيعة الإنسانية البسيطة، الطيبة. مئات من أبناء دراو بالجلابيب البيضاء، والعمائم المستديرة، التفوا حول الفنانين الذين يستمعون إليهم في الإذاعة، ويطالعون أخبارهم وصورهم في الصحف، لكنهم يلتقون بهم للمرة الأولى.
توالى صعود الفنانين على خشبة المسرح؛ مصطبة خشبية في نهاية حظيرة ترابية، أُخليتْ من الجمال، وأُغلقت أبوابها، إلا من زيق صغير ينفذ منه دافعو التذاكر.
غنى محمد قنديل وشريفة فاضل، وألقى أحمد غانم بعض المونولوجات، وأدى الرجل الكاوتشوك رمَّاح بعض عروضه، وتثنَّتْ وتأوَّدَتْ راقصة شابة لا أعرف اسمها. ولم يكن رد فعل الجمهور بالقدر الذي توقعه سعد الدين. ظل متحفظًا، وإعجابه أقرب إلى المجاملة.
أعلن مقدم الحفل عن المطرب الشعبي محمد طه. تصورت — في اللحظة التالية — أن ضجيج التصفيق والهتاف سيهد المكان على من فيه: أبو طه! أبو طه!
أدركت سذاجة تصور أحمد سعد الدين — وتصور مجموعة الفنانين — أن مجرد وصولهم إلى هذا المكان عند ناسه يعني أشياء، لم يكن دقيقًا.
محمد طه، المطرب الذي يرتدي القفطان والطربوش، ويتغنى بقيم البسطاء والغلابة، هو المطرب الذي قدموا لسماعه!