صياد
مضيت إلى داخل بحري: الأنفوشي والسيالة ورأس التين، وغيرها من شياخات الصيادين وغازِلي الشباك والعاملين في «القُزق» (ورش المراكب) وفي الميناء، والبحارة. اعتدت المشوار من بيتنا، في شارع سكانه من الموظفين والمهنيين (مهندسين وأطباء ومحامين ومحاسبين إلخ) إلى بيئة مغايرة، مذاق مختلف. أحبه، وأحاول التعرف إلى تفصيلات حياته اليومية، القيم والمثل والمعتقدات والعادات والتقاليد.
هذه المرة، كنت أسعى إلى مقابلة «السدا»، مطرب المنطقة المحددة بين ميدان أبو العباس إلى سراي رأس التين، يتغنى بالصيادين وركوب البحر والنوة ورزق يوم بيوم.
كنت قد بدأت في جمع المواد لمشروعي القديم «رباعية بحري». التعرف إلى ملامح البيئة، والتقاط الجزئيات التي ربما تفيد في رسم لوحات الرباعية. همي أن أحصل من «السدا» على نصوص أغنياته، وبواعث غنائها. كل أغنية — أتصور — لها مناسبة، بحيث تفيد في سياق الحدث الروائي.
عرفت من أصدقائي أنه يجلس على قهوة الزردوني في السيالة. إذا غاب عنها، فإنه يجلس على باب دكان الحاج محمد سليط الحلاق، أو أحد دكاكين السيالة.
أجهزة الريكورد كاسيت تعلو فيها أغنية «صياد» لمحمد رشدي. أدركت معنى انتشارها حتى على عربات اليد التي تحمل مسجلات.
بدا في حوالي الخامسة والأربعين، يرتدي جلبابًا أبيض مكويًّا، ونظيفًا، ويدس قدميه في شبشب جلدي، أميل إلى البدانة، وشعره مهوَّش فوق رأسه، وعيناه دائمتا الارتجاف، كأنهما تعانيان ألمًا، بينما أصابعه تداعب طرف شاربه الذي غطى شفته العليا.
قال لي السدا: إنهم يحبون الأغنيات التي تتحدث عنهم، أو تخاطبهم.
ورفع كتفيه: لن يسمعني أحد لو خَلَت أغنياتي من الصيد والصيادين.
استطرد في تأكيد: هذا صحيح … لكل أغنية مناسبة … وحياة الصيادين ليست في البحر وحده. إنها في المناسبات الطيبة أيضًا … الخِطبة والزفاف والختان والعودة من الحج.
ودندن بالأغنية: