يا حلو يا اسمر
استمعت إلى الأغنية مرة وحيدة أمام الطاولة الرخامية، تعلوها قدرة الفول ومقلاة الفلافل. وثمة مائدتان صغيرتان لِصْقَ الجدار المواجه، يحيط بهما ثمانية مقاعد، وفوق الرف المثبَّت في نهاية الدكان جهاز راديو، تتناهى منه أغنية عبد الحليم حافظ:
لم تكن هذه هي المرة الأولى التي أستمع فيها إلى أغنية عبد الحليم. ولم تكن — بالطبع — هي المرة الأخيرة. ربما يذكرني باللحظة تنبُّهي إلى كلمات الأغنية، بدت سخيفةً وبلا معنًى. مجرد كلمات مرصوصة تخفَّت في لحن جميل، وصوت عذب.
أدركت المأزق الذي نحياه في قول عم ربيع البائع، وهو يَعِدني بنتيجة حائطٍ للعام الجديد: علشان الزباين اللي بيشتروا مننا دايمًا!
كانت أسرتي — لظروف مفاجئة وقاسية — قد أصبحت بعضَ هؤلاء الزبائن الدائمين. ألِفنا المكرونة، والأرز، وتقطيع البطاطس إلى شرائح في صلصة الطماطم، وقلي الباذنجان. أصبح الفول طبقًا رئيسًا. ربما نزلْتُ بالكسرولة الفارغة إلى دكان عم ربيع أكثر من مرة في اليوم الواحد.
غلبني الحرج.
أزمعت أن أقصد — في المرات التالية — دكانًا آخر في الشوارع القريبة. الصداقة بيني وبين عم ربيع، أو الكسل، أو اعتبارات لا أذكرها، أو لا أفهمها، عادت بي إلى الدكان. تكرر حملي لكسرولة الفول، وعودتي بها. أسلِّم نفسي لشرود. لا آخذ من عم ربيع — كما ألفْتُ — وأعطي. أغتصب الإجابة إن ألح بالأسئلة … لكنني — في لحظة لا أذكرها — أعطيت انتباهي للأغنية التي كنت أحفظ كلماتها دون أن يشغلني معناها، وصلتُ الأحرف بالكلمات بالسطر الشعري. غاظني الثوب الفَضفاض على جسد يعاني الهزال.
أستمع إلى أغنية النيل في أي مكان، فأنتقل إلى دكان عم ربيع بائع الفول.
تلك هي اللحظة الوحيدة التي تذكرني بها الأغنية.