فاكراك
عدت إلى الاسم في صفحة الوفيات، فقرأته. أتصفح الجريدة لأختار ما أبدأ في قراءته، وما أرجئه — لطول المساحة — إلى وقت لاحق، الاسم ممدوح أنيس الطوبجي. هل هو ممدوح الطوبجي زميل الطفولة في المدرسة الفرنسية الأميرية بمحرم بك؟
راجعت أسماء الأقارب. أدركت أنه هو اسم زميلي القديم في المدرسة التي أنشئت في نهايات الصراع بين اللغتين الفرنسية والإنجليزية في الثقافة المصرية، قبل أن تفرض الإنجليزية سيطرتها. الأم هي المطربة نجاة علي (أُطلِقَت صفة الصغيرة على مطربة جيلنا نجاة مجاوزةً لتشابه الاسمين).
أذكر لمتنا حول السيارة التي تقلها إلى شارع جانبي تطل عليه واجهة المدرسة. ينفلت ممدوح من ألعابنا في فناء المدرسة، أو دردشة لحظات الانصراف. سيدة أنيقة، فوق قبعتها ريشة تذكرني بالقبعة التي أهملتها أمي بين أيدينا، لتقاوم مرض القلب. حتى أحذيتها تحولت إلى لعب، بعد أن رحلت دون أن ترتديها.
يُدخل ممدوح رأسه داخل نافذة السيارة، يعود وقد ملأته الفرحة، وتندت عيناه بالدمع، لا يكرر الجملة التي قالها في بدايات قدومها لزيارته: هذه أمي.
ألفنا الموقف، يحتل مساحة أحاديثنا في آخر اليوم الدراسي.
لم يكن السائق يخطئ الموعد، يكاد يقف على باب المدرسة في اللحظة نفسها التي يُقرع فيها جرس نهاية اليوم.
كانت زمالة ممدوح الطوبجي أعمق من مجرد العلاقة بين زميلين في مدرسة ابتدائية. كان تعرفًا متجددًا للقراءة في حياتي. البداية مكتبة أبي، معظمها كتب في الاقتصاد مما يتصل بمهنة أبي كمترجمٍ من وإلى عديد اللغات، وأقلها كتب في التراث: سير الأنبياء، وألف ليلة وليلة، وأدب الدنيا والدين للماوردي، وقصائد ابن الفارض، وغيرها. قرأتها قبل أن أقرأ كتب الصغار، ما ألفه كامل كيلاني وسعيد العريان وفريد أبو حديد وغيرهم. مثَّل ممدوح الطوبجي بداية متجددة إلى دنيا القراءة، وَصَل التراث وكتب الأطفال بإبداعات الفترة. أعارني عودة الروح للحكيم، وقنديل أم هاشم لحقي، ومذكرات دجاجة لإسحق الحسيني، ورسالة إلى الرئيس ترومان للشرقاوي، وقصائد صلاح جاهين التي رفضت أن يكون القمح زي الذهب، بل هو زي الفلاحين، عيدان نحيلة جدرها مغروس في طين.
أذكر أني أمسكت القلم حوالي تلك الفترة، وحاولت الكتابة. أدين لعوامل كثيرة: البيئة الروحية في بحري التي أحاطتني بطقوسها وعاداتها، مكتبة أبي، إعارات ممدوح الطوبجي.
تلك الدنيا القديمة، استعدتها في نعي عائلة الطوبجي فقيدها. تزاملنا في المدرسة، وكرت عشرات السنين، قبل أن أقرأ نعيه كرئيس سابق لشركة مصر للسياحة، ووالد لزميلة صحفية هي مروة مدير تحرير مجلة «نصف الدنيا».