هذه التبقيعات النثرية
والرسم التبقيعي هو الاسم الذي أطلقه ألكزندر كوزنز (فنان ومعلم فن، روسي المولد، من القرن الثامن عشر) على إنشاء تكوين من الأشكال التي يوحي بها سكب بقع قليلة من الحبر على اللون — عشوائيًّا — على صفحة من الورق، وطي الورقة — إذا دعا الحال — لإحداث مزيد من البقع. إن البقعة، أو مجموعة من النقط — هنا — يمكن أن توحي بمنظر طبيعي، أو بأي تكوين آخر يعكف الفنان على إتمامه فيما بعد. ويبدو أن هذا الأسلوب كان معروفًا لليوناردو دافنشي الذي أوصي الفنانين — إذا أعوزهم الوحي — بدراسة البقع على الحائط، أو الأشكال المرتسِمة في نيران الموقد، بوصف ذلك منبهًا للخيال الإبداعي. أدت مناصرة كوزنز لهذا المنهج الذي اتبعه في التدريس إلى أن دُعِيَ «مبقِّع البلدة». وقرب نهاية حياته نشر مذهبه هذا في رسالة عنوانها « منهج جديد لمعاونة الابتكار في رسم تكوينات أصيلة للمنظر الطبيعي» (حوالي١٧٨٥م، وأعيد طبع الرسالة في ١٩٥٢م) (انظر معجم بنجوين للفن والفنانين، وضع بيتر ولندامري، الطبعة الخامسة، كتب بنجوين ١٩٨٦م، ص٩٥).
«عمر من الأغنيات» لون من «أصداء السيرة الذاتية» تنتقل بنا من الإسكندرية إلى دراو قرب أسوان، مرورًا بالقاهرة، مع إلمامات بسلطنة عمان، ومنطقة الخليج. وخيوط هذه الأغنيات عديدة: جغرافيا الإسكندرية، تجربة الصحفي المصري في منطقة الخليج، كفاح الأديب الناشئ لإثبات وجوده في معترك الأدب والصحافة الذي لا يعرف الرحمة، لمحات من الأحداث السياسية التي مر بها الوطن منذ منتصف القرن العشرين، الحضور الغالب للثقافة الدينية، وما يتعلق بها من معتقدات وطقوس وأساطير، خبرات المراهق وعذابات الشباب (عندي أن أجمل هذه المقطوعات — هكذا أفضل أن أسمى هذه الأغنيات — هي المقطوعة المسماة «الجسد»). وثمة لمحات مضيئة عن شخصيات أدبية حقيقية، مثل عبد الرحمن الخميسي وعبد الفتاح الجمل. وتمثل الأغاني — تمشيًا مع عنوان الكتاب — مكانًا بارزًا في هذه اللوحات. انظر — مثلًا — إلى حديث جبريل عن أغنية محمد عبد الوهاب من نظم أمير الشعراء شوقي «النيل نجاشي»، وهي أغنية سبق أن حللها نقديًّا الدكتور على الراعي في مقالة له، بالإصدار المسمى «كتابات مصرية» وقد صدر منه — إن لم تخنِّي الذاكرة — عددان، أو ثلاثة أعداد، فقط، منذ أكثر من نصف قرن (في أحد هذه الأعداد كتب الشاب محمد جبريل مقالة تنظيرية متعالية — يحلو لنا جميعًا، في شبابنا، أن نلعب دور الأساتذة الثقات — عن فن القصة القصيرة). وعَرَضًا يزعم جبريل، في إحدى مقطوعاته، أن صوت عبد الحليم حافظ يعلو على صوت سعد عبد الوهاب، ولا أعرف أشد خطلًا من هذا الرأي.
إن كتابات محمد جبريل تشكل كلًا متكاملًا، فأنت لا تستطيع أن تتذوق مقطوعة مثل «الثأر» هنا إلا بالرجوع إلى كتابات أخرى له: «رباعية بحري» (وهي من أعظم الأعمال الروائية العربية في القرن العشرين)، و«أهل البحر»، ثم — في فترة أحدث — «الحنين إلى بحري». ومقطوعات العمانية تردنا إلى رواية «الخليج»، و«صافيني مرة» تردنا إلى «الشاطئ الآخر»، ومقطوعات « ظالم» و«يا حلو يا اسمر» و«يا زايد في الحلاوة» تردنا إلى فصله الضافي عن عبد الحليم حافظ في كتابه «ملامح مصرية».
لكن هذه الأصداء المتجاوبة ليست إعادة ولا تكرارًا، فمحمد جبريل فنان لا يكرر نفسه قط، وهو في هذا العمل يُغِير على موقع جديد من الخبرة الفنية والحياتية، ويكسب أرضًا جديدة في مغامرة فنية مستمرة، تعرف البداية، ولكنها لا تعرف النهاية، بل لا تعترف — أساسًا — بوجود نهاية.