الناس الطيبون!
عندما وضَع كولومبس أقدامه على الأرض الأمريكية كانت أمريكا كلها شمالية وجنوبية هي أرض الهنود الحُمر، وبعد أن عاش كولومبس معهم فترة، كَتَب إلى ملك إسبانيا قائلًا: هؤلاء الناس طَيِّبون جدًّا ومُسالِمون جدًّا، بحيث إني أقسم بجلالتكم أنه لا يوجد أُمَّة في العالَم أفضل منهم، إنهم يحبون جيرانهم أكثر مما يحبون أنفسهم، كما أن حديثهم شديد الحلاوة واللُّطف، ورغم أنهم فعلًا عَرايَا إلا أن سلوكهم مُحتَشم وجدير بالإطراء.
ولكن هذا الإطراء من جانب كولومبس لم يمنعه من خطف عشرة من الهنود الحُمر، حملهم معه إلى إسبانيا، وقد مات أحدهم بعد وصوله إلى الشاطئ الأوربي، ولكنه قبل ذلك كان قد أصبح مسيحيًّا طيبًا، ولقد كانت رحلة كولومبس إلى أمريكا هي بداية النهاية لصنف الهنود الحمر. وانتهَت المعركة بين البِيض والحُمر بإبادة قبائل بأَسْرها، وضاع كل أثر لقبائل: الفيكوت، والبوكانكت، والأباتشي، والكوماتشي، والموهيكان، والغاراغانست، والشوني، ولم يُدمِّر البِيض صنف الهنود الحمر فقط، ولكنهم دمَّروا الحضارة، والتاريخ، والعقيدة، والفن، وأبادوا الجنس نفسه، واشترك في عملية التدمير الجيش الأمريكي، وتُجَّار الفراء، والباحثون عن الذَّهب، والقَتلة المحترفون، والمُقامرون، والمبشِّرون، ورجال اللاهوت، وبَلغت وحشِيَّة البِيض حدًّا لا مثيل له في التاريخ؛ إذ تم إبادة قبائل غاراغانست، وبنواخ خلال عام واحد فقط، وأُبِيدَت قبائل البودا، وتأمى، والكياكابو، بعد حرب ضارية دامت عشرة أعوام، وكانت قبائل الهنود تقاتل بقيادة الصقر الأسود، وحقَّقوا انتصارات رائعة ضد البِيض، ولكن بعض الخونة من الهنود الحمر خانُوا زعيمهم، فسَلَّموه للبِيض عام ۱۸۳٢م مقابِل عشرين جوادًا ومائة دولار، وقد أدخلوه السجن ولكنهم قبل ذلك عَرضُوه للفُرْجة على البِيض في المدن المختلفة، وبعد أن مات في أسْرِه الذي لم يستمر إلا ستَّ سنوات، حصل حاكم منطقة آيوا على هيكله العَظْمي وعرَضَه في مكتبه عدة سنوات، وأندروا جاكسون رئيس أمريكا الأسبق، والذي كان الهنود الحمر يسمونه السكين الحادَّة، ذبح خلال عمله كضابط عشرات الألوف من الهنود التشيروكي، والتشيكوتو، والسيمونول.
والحق أقول: إن مأساة الهنود الحمر هي أعجب وأغْرَب مأساة في تاريخ البَشر، ففي البدء استقبل الهنود الحمر القراصنة البِيض القادمين من أوربا بكل الوُد والتَّرحاب، وعندما جاع هؤلاء الوافدون قدَّمُوا لهم الأغذية، وعندما شَعروا بالبرد قدَّموا لهم الأغطية، وعامَلوهم كإخوة وأصدقاء، ولكنَّ شيئًا ما في البِيض وفي سلوكهم جعلهم ينفرون من صنف البِيض عمومًا؛ فقد كان هؤلاء الوافدون من وراء البحر ذَوو العيون الزرقاء والشعر الأصفر يكرهون كل ما في الطبيعة من غابات وطيور ووحوش ومروج وأنهار، وحتى الهواء نفسه كانوا يضمرون له حقدًا شديدًا، وقد اندهش الهنود الحمر بشدة عندما شاهدوا البِيض يَتبوَّلون في مجاري الأنهار، ويبصقون على الأرض، ويُطلِقون النار على الحيوانات دون أن تكون هناك أي حاجة لقَتْلِها، لقد عاش الهندي حياته كلها يُقدِّس الطبيعة، ويُكنُّ احترامًا خاصًّا للأنهار والتُّربة وللغابات الحية وللطيور، وكان لا يقتل إلا الحيوان الذي يحتاج إلى لحمه أو إلى جلده، وكانوا يؤمنون بإله السموات العَلِي، ويعتقدون أن الجنة في مكان قريب من الله في السماء، وأن بها مروجًا وغابات وجيادًا أصيلة وأنهارًا تفيض بالعسل والسمن، وكانوا يَعتقدون أن الميت ينتقل فورًا إلى الجنة بعد موته، وكانوا يقدرون الشجاعة ويحتقرون الجبناء، وزعيم القبيلة هو أشجعها، أما صاحب الحكمة فهو المستشار، وكانوا يصطادون الخيول البرية بطريقة لا يعرف سِرَّها إلا الهنود الحمر أنفسهم، وقد تَوصَّلوا اليها بعد دراسة طويلة لعادات الحصان وطبيعة حياته في البراري المُوحِشة، كان الهندي يعرف أن الحصان إذا شعر بالفزع انطلق هاربًا بأقصى سرعة، وكان يقطع عشرة كيلومترات على الأقل قبل أن يشعر بالتعب، وعندئذٍ يضطر إلى التَّوقُّف، وقد لاحَظ الهندي الأحمر على مَر السنين أن الحصان الهارب لا يذهب إلى اتجاه معيَّن، ولكنه يدور في حلقات، ويقطع المسافة التي يَجريها على هيئة قوس، فإذا توقف، توقَّف في مكان غير بعيد عن الذي انطلق منه، وبالخبرة والتجربة اكتشف الهندي أن النُّقطة التي يتوقف عندها الحصان لا تبعد عن النقطة التي انطلق منها أكثر من كيلومتر واحد وعلى خط مستقيم معها، فكان الهندي يعمد إلى إفزاع الحصان البَرِّي، فيسارع الحصان بالهرب، بينما يسير الهندي الهُوينَى في خط مستقيم، وعندما يقطع الهندي كيلومترًا واحدًا يكون الحصان المتعب قد وصل إلى نفس النقطة منذ دقائق، ويكون الحصان قد توقَّف ليلتقط أنفاسه بعد أن شعر بالأمان بابتعاده عن الخطر الذي أفزعه، ولكنه يُفاجَأ بعد لحظات بالهندي نفسه يقف أمامه، فيعود إلى الهرب من جديد، وتتكرر القصة مرتين أو ثلاث مرات حسب قدرة الحصان وقُوَّته، ولكنه في المرة الثانية أو في المرة الثالثة على الأكثر يكون الحصان قد نزف أنفاسه كلها، ويستولي عليه الشعور بأنه وقع في قبضة قَدَر محتوم لا يستطيع منه فرارًا، وعندئذٍ يقف الحصان مُستسلمًا ويستسلم مُطيعًا، وبعد دقائق يكون الحصان مربوطًا بحبل يمشي وراء الهندي الأحمر إلى حيث يَجري تدريبه واستئناسه، ولقد حاول البِيض اصطياد الحصان بالطريقة الهندية، ولكنهم فَشلوا فشلًا ذريعًا، فاكتفوا بوضع الفخاخ والكمائن في طريقه، ولقِيَت آلاف من الجياد الأصيلة حتْفها بسبب هذه الكمائن والفِخاخ، وكانت قُطعان البقر الوحشي تَجوب الأرض الأمريكية بحثًا عن المَرعَى والماء في قُطعان كبيرة، يربو عددها أحيانًا على عِدَّة ألوف، وكان الهنود الحمر على علم تامٍّ بمواعيد هِجرَتها وبالطُّرق التي تسلكها تلك القطعان وكانوا يصنعون لها الكمائن في الطريق، ويبدَءُون صيدها عندما تَستقر هذه القُطعان في الأماكن التي تلجأ إليها، وكانوا يصطادون العدد الذي يحتاجون إليه، ثم يتركون القطيع يرعَى في هدوء ويذهبون إلى حال سبيلهم، ولكن الذي أدهش البِيض حقًّا، هو ما لاحظوه خلال عملية الصيد، فقد كان الهندي الأحمر يُوجِّه سهمه القاتل إلى البقرة التي وقع اختياره عليها فتسقط مكانها، ثم تتوالَى السِّهام وسقوط البقر دون أن يُحرِّك القطيع ساكنًا أو يلجأ إلى الهرب، بينما كانت رصاصة واحدة من البِيض تجعل القطيع يَفرُّ هائمًا في البراري، ومات عشرات من الصَّيادين البِيض أثناء عملية الفرار هذه بسبب الفزع الذي ينتاب القطيع ويذهب به إلى حد الجنون أحيانًا، ولم يكتشفِ البِيض السر الهندي في اصطياد البقر إلا بعد فترة طويلة من الزمان، وكان الفرق بين الطريقة الهندية والطريقة الأوربية هو الفرق نفسه بين المعرفة والجهل، والتجربة والخيبة، كان الهنود الحمر يُدرِكون أن لكل قطيع قائدًا من البقر يتبعه كل القطيع، إذا توقف القائد توقف القطيع وإذا فَرَّ القائد فَرَّ القطيع، وكان أول سهم يُوجِّهُه الهندي في عملية الصيد يكون دائمًا من نصيب القائد، ثم تتوالى عمليات الصيد بعد ذلك دون أن يفر الجميع؛ لأن القائد لم يفر، ولأن القطيع مُنتشر على مساحة خمسة كيلومترات على الأقل، لم يدرك بعد أن القائد قد قُتِل، ولكن البِيض لم تكن لديهم هذه الحاسَّة لمعرفة قائد القطيع، فكانوا يَصطادون البقر بطريقة عشوائية، فكانوا يقتلون عشر بقرات مرة واحدة ثم ينطلق القطيع هاربًا لا يلوي على شيء.