حضرة صاحب العصابة!
كان في تليفزيون الولايات المُتَّحِدة في تلك الأيام برنامج عظيم، أرجو أن تَبثَّه محطات التليفزيون تبعنا أكثر من مرة؛ هذا خير من مسلسلات زوزو وحلقات خنجر في الظلام، وأفلام مغامرات الرجل العنكبوت!
البرنامج العظيم الذي كان يُعْرَض في حلقات على امتداد الولايات المُتَّحِدة يحكي قصة أمريكا خلال المائة سنة الأخيرة، وهو عمل فني يدعو إلى احترام الأمة الأمريكية، ويشير إليك نحو الطريق الذي يجب أن تسير فيه الأمم لتحقق لها مكانًا لائقًا تحت الشمس، أنا نفسي كنت أعرف مادة الحلقات، قرأتها قبل ذلك في كُتب عن أمريكا، ولكن القراءة شيء وتجسيد الواقع في عمل فني رائع شيء آخر، ها هي أمريكا بلحمها ودمها تنتصب واقفة أمامك عارية تمامًا، وصور الحياة تتراءى لناظريك منذ الربع الأخير من القرن الماضي، وبيوت الخشب وحنفيات المياه المتصلة بآبار، وفُرن كَفُرن المرحومة سِتِّي ينفث دخانًا أكثر مما ينفث نارًا ولكن الكل يعمل بلا كلل، حتى النساء والأطفال العَرَق يتصبب من جِباه الجميع في الحقول وفي المصانع والكل يَجوعون مرة ويشبعون مرة، والجميع على باب المولى الكريم، ويسألون الله الستر وحُسن العاقبة، وكان الرُّعب يسيطر على الجميع، فالعصابات هي سيدة الموقف والمُسَدَّس هو القانون، وأهل القرى البعيدة لا يعرفون متى يأتيهم الموت، وكانت العصابات تهاجمهم بغتة، عيانًا مرة كل أسبوع، أو مرة كل يوم، أو مرة في الصباح ومرة في المساء، وحدث في أحيان كثيرة أن أُبِيدَت قرى بأكملها، أو تم القضاء على صنف الرجال فيها ولم يكن هناك قانون موحَّد لمواجهة أعمال الإجرام، بل كان الأمر كله يخضع في النهاية لشخصية القاضي، وأحيانًا كان يُوجَد قضاة أصلهم لصوص يَتَّحِدون مع العصابات ضد المواطنين، وأحيانًا كان من بين القضاة من هو أضعف من مواجهة عِصابات شرسة ومُسلَّحة وكان هؤلاء القضاة يعقدون الجلسات، ويجلسون وراء منصات القضاء وبعد نظر القضية والمُداوَلة، كانوا يُصدِرون أحكامهم بتبرئة المُجرمِين، وكان المجني عليهم يحمدون الله لأن القاضي العادل لم يوقع الجزاء عليهم! ومع عصابات القتل والإجرام تأسَّست عصابات أخرى، ولكن من نوع آخر قامت هنا وهناك شركات احتكارية، تمد خطوط السكك الحديدية وتستخرج النفط، وتجمع المحاصيل، وتسيطر على قطعان الماشية، وتضع علاماتها المُسجَّلة على ملايين الأفدنة لزرع صنف مُعيَّن ومطلوب! وكانت عِصابات المال تَستأجر وتَستعين بعصابات القتل، وهؤلاء كانوا يُوجَّهون ضد الفلاحين الذي يَرفُضون بيع أراضيهم، أو يُغالُون في ثمن الأرض وبينما ظهرت أعداد لا حد لها من أصحاب الملايين بقيت طبقة عريضة من الأمريكان من أصحاب الفقر، وكان هؤلاء يتجولون في جماعات عَبْر الولايات لجَمْع المحاصيل أو زراعة الأرض، وكثير منهم كانوا يسقطون مَرضى بالسُّل ويموتون في النهاية دون أن يُعْنَى أحد بمجرَّد دفنهم. وعندما هَبَّت موجة البحث عن الذهب في ولايات الجنوب وخصوصًا في ولاية كاليفورنيا، اندفع مئات الألوف من الناس نحو الجنة الموعودة، يبحثون في الأنهار الجارية، وفي أعمال الصحراء، وفي باطن الجبال عن المعدن الذي خطف أبصار الناس وخطف عقولهم، وتسبَّب ذلك الجنون — جنون الذهب — في خراب أمريكا فقد تُرِكَت قطعان الماشية تهيم وحْدَها في البراري! وتُرِكَت ملايين الأفدنة مزروعة بأجود المحاصيل دون أن يهتم أحد بحصدها ونَفقَت ملايين الرءوس من الضأن لأنها لم تجد من يرشدها إلى مَجاري المياه وجَفَّت الأرض وماتت، وأصبحت أمريكا على شَفا هاوية! ولكن ميزة الشعب الأمريكي أن الضَّربة التي لا تقتله تزيده قوة، وأن المحنة تزيده لمعانًا فسرعان ما ينهض على قدميه مرة أخرى ليعاود السعي من جديد! الأمريكيون هم أول مَن اكتشَفُوا النفط وكانت ملايين الأطنان من النفط تُشاهَد عائمة تسبح مع التيار المنحدر مع المَصَب، ولكن أحدًا منهم لم يفهم في ذلك الوقت سِر هذه الظاهرة الغريبة، وظنَّها البعض أنها مياه قَذِرة من مُخلَّفات الإنسان مختلطة بالطين، وأفتى البعض الآخر ربما كانت من مُخلَّفَات بركان ثار وخمد دون أن يدري به أحد! ولكنَّهم لاحَظوا بعد فترة أن النار تَشتعِل على سطح النهر إذا ألقى أحدهم فيه مخلَّفات غليونه، المهم أن أحد الأمريكان راح يُعبِّئ هذا السائل الغريب في زجاجات ويبيعها لأهل القرى المجاورة باعتباره دواء لروماتيزم المفاصل، والأغرب من ذلك أن الناس كانت تشعر بتحسُّن في الصحة بعد فترة من استعمال هذا «العقار»! ثم ما لبث القوم أن اكتشفوا قيمته كوقود، وهنا نَشطَت شركات الاحتكار، وراحت تَستحوِذ على أكبر كمية من الآبار وتبيع أكبر كمية من الكيروسين، وكان أعظم المُحتكِرِين هو المليونير روكفلر، عميد عائلة روكفلر الشهيرة في تاريخ أمريكا، وفي تاريخ شارع المال! وكما قامت شركات النفط قامت شركات السكة الحديد، وشركات الفواكه، وشركات اللحوم، وشركات النسيج، وشركات الأخشاب، وتكوَّنَت الرأسمالية الأمريكية الحديثة ولكن على طريق كان مشحونًا بالعرَق وأحيانًا مُلطَّخًا بالدم! وفي بدايات هذا القرن العشرين تم اكتشاف اختراع السيارة ثم الطيارة، وقامت شركات لهذه وتلك ودخلت أمريكا فترة رخاء لم تشهد مثلها من قبل! وانتشرَت حُمَّى تشييد المدن وشق الطُّرق وبناء القصور الفخمة وتَكوَّنَت في الولايات المُتَّحِدة أغرب وأعجب وأغنى طبقة حاكمة عَرَفها تاريخ العالَم، وسيطرَتْ عدة عائلات على كل شيء من الحديد والصلب إلى التبغ، واستخْدَمَت لفرض، نفوذها وتثبيت أقدامها كل شيء وأي شيء من الرشوة إلى القتل، ومَدَّت نفوذها إلى دُور الصُّحف لتكون لسان حالها، واستأجَرَت العصابات لتكون ذراع حالها! وبدأ في لحظة من اللحظات أن العالَم كله لا بُدَّ من أن يخضع لهذه القوة الجديدة، وأن ينقاد لها!