عصر الاحتكار
ولكن، ولأن الطبيعة لها قوانين، وأحد هذه القوانين يقول: كل حركة لها رد فعل مُساوٍ لها في القوة ومُضاد لها في الاتجاه! فلم يكن ملوك الصناعة والتجارة والتهريب والتهليب يَستريحون على عروشهم حتى ظهرت في الأُفق طبقة جديدة صاعدة من أسفل وضاغطة بإلحاح، كانت الطبقة العاملة في أمريكا قد تَكوَّنَت خلال القحط وسنوات الشقاء ولكنها كانت مكسورة الظهر مُحطَّمة الأضلاع، ثم ازدهرت مع بداية الازدهار وكان يمكن للحركة العمالية أن تنمو ببطء، وأن تَتطوَّر في هدوء لولا أن رجال المال الأمريكان اهْتَدَوا إلى أعجب نظام مالي في التاريخ، وبقدر ما كان النظام الجديد خيرًا وبَرَكة على رجال المال والأعمال كان شَرًّا وَبيلًا على طائفة المستهلِكِين وطبقة العمال، وكان النظام الجديد يهدف وببساطة إلى تجميع وتوحيد كل الشركات ذات النوعية الواحدة في شركة احتكارية، وكان قيام مثل هذه الشركة يمنحها امتيازات أقلُّها خفض النفقات وتحديد أجور العمال وأهمها فرض الأسعار على النحو الذي يحقق أقصى أرباح طافت بخيال أصحاب رأس المال! وكانت شركة «ستاندرد أويل» أول من ارتاد هذا الطريق، وفي الوقت الذي كان فيه مُنتِجُو البترول في بنسلفانيا مشغولين حتى الآذان في منافَسة دموية، كان ثمة شاب هادئ رزين من رجال الأعمال في ولاية أوهايو، ينهمك في هدوء وبدون ضجيج في شراء مَعامل التكرير في الولاية ويَضمُّها في شركة واحدة، ومَضى روكفلر مُنتهزًا فرصة سَنَحتْ له وسيطر على مَعامل التكرير في كليفلاند، ثم واصل سعيه فسيطر على معامل التكرير في نيويورك وفيلاديلفيا وبتسبرج، ثم امتدت سيطرته على خطوط الأنابيب، ولم تَمْضِ عشر سنوات حتى كان روكفلر قد سيطر تمامًا على كل مَعامل التكرير وخطوط الأنابيب في الولايات، وتكوَّنَت من هذا المجهود الشاق شركة «ستاندرد»، وكانت أول شركة احتكارية في التاريخ!
وبقيام شركة ستاندرد أويل انفتح الطريق أمام الرجال ذوي الإرادة الحديدية والطموح اللامحدود؛ فكوَّنوا عشرات من شركات الاحتكار، فأنشأ أرمور وبعض الشركاء شركة لحوم العجول، وسيطرَت جماعة جوجنهايم على مناجم النحاس في أريزونا، وأنشأت أسرة ديوك شركة للتبغ، وما إن حل العام ١٩٠٤م حتى كانت بعض شركات الاحتكار تسيطر على مصالح تبلغ قيمتها ۲۰ بليون دولار بقيمتها في ذلك الوقت، وتكوَّنَت طبقة من المُساهِمين والمديرين فاقَت سُلطتها وثرواتها سُلطات وثروات الأمراء والملوك، وأصبح المواطن الأمريكي يعيش حياته مربوطًا إلى إمبراطورية هؤلاء القياصرة الجُدد! وبفضل شركات الاحتكار توحَّدَت خطوط السكة الحديد مما أتاح لها خدمات أفضل، ولكن أكبر الضربات الناجحة في عالم الاحتكار كانت في مجال البنوك، وكان بيت مورجان هو أعظم هذه البيوت وأقواها على الإطلاق، وفي بداية هذا القرن لم يكن هناك مشروع اقتصادي أو صناعي في الولايات المُتَّحِدة ليس لبيت مورجان علاقة به، وبلغ رأسمال مورجان ٢٥ بليون دولار! مما دفع الرئيس الأمريكي ويلسون إلى القول بأن أعظم احتكار في هذه البلاد هو احتكار المال، ولكن هذا التضخُّم الرهيب والمخيف لشركات الاحتكار جعل الحكومة الأمريكية نفسها تشعر بالخوف من هذه الشركات التي أصبحت حكومة داخل الحكومة، بل إن سُلطَتها فاقت سلطة الحكومة وأصبَحَت تُملي عليها سياسات معيَّنة، وتفرض رغباتها على السلطات التشريعية نفسها، وكان الخوف الذي انتاب الحكومات الأمريكية قد تسرَّب إلى نفوس الملايين من الأمريكيين عندما نظروا حولهم، وشاهدوا أن معظم مصادر الثروة الطبيعية، والصناعات، والسكك الحديدية، والمنافع الأخرى كان يسيطر عليها حفنة من الرجال لمصلحتهم الخاصة وليس لمصلحة المجتمع، بدَءُوا يَشكُّون في أن الديمقراطية يمكن أن تبقَى وتدوم؛ فالنَّفَقات الباهظة والتمييز في العمالة، واغتصاب الأراضي جملة، والأساليب السيئة التي اتبعها روكفلر، وكارنيجي في سحق المنافِسِين، والقوة الوحشية التي كانت تستخدمها الشركات الضخمة في قهر العمال وإخضاعهم، ومحاولات مُحامِي تلك الشركات وهم يبحثون عن ثغرات في التشريعات الموجودة، وتحايلهم على النُّظم الضريبية، كل هذا أثار موجة من الرعب في القلوب، وأشاع الأسى في نفوس الجميع! وهبَّت حكومات الولايات تضع القوانين التي تحظر قيام شركات الاحتكار، وتقدم المليونير «بيتر كوبر» للترشيح في انتخابات رئاسة الجمهورية على أساس برنامج «العملة الورقية الخضراء» يُحذِّر من أن الخطر الحالي على نُظمِنا الحرة لا يقل شأنًا عمَّا كان هناك من خطر في بدء الثورة …! كما أطلق صيحتَه المعروفة «أن أرستقراطية تقوم على أساس المال هي أسوا أنواع الأرستقراطيات»، ونفس الإحساس بالخطر دفع الرئيس «كليفلند»، إلى الصراخ عاليًا: «إن الشركات الاحتكارية التي كان ينبغي أن تكون مخلوقات تَخضع للقانون وتخدم الشعب، أصبحت بسرعة أسيادًا للشعب، وفوق كل النُّظم والقوانين لتنظيم الأحوال في البلاد وكان أخطرها قانون أن أي ممتلكات تتصل بالمصلحة العامة أو مُخصَّصة لمنفعة الجمهور تكون خاضعة للتنظيم بواسطة الحكومة»!
وكان المَغْزى وراء هذه القوانين، والدَّرس الذي يجب أن نتعلمه جميعًا، أن التنظيم ليس ضد الديمقراطية، وأن تَدخُّل الحكومة مطلوب حتى في ظِلِّ أعظم النُّظم ديمقراطية، وفي مجتمع هو أكثر المجتمعات حرية؛ لأن تَرْك الأمور تسير حسب المزاج، ووفق مصالح الأشخاص تنتهي حتمًا إلى فوضى لا يعلم مداها إلا الله وإلى ثورة قد لا تستطيع أقوى الحكومات في العالَم على مواجهتها. ليتَنا تعلَّمْنا من التجربة الأمريكية ما ساعَدَنا على تنظيم عملية الانفتاح، ولا أعتقد أن هناك انفتاحًا أكثر من الانفتاح الأمريكي، ولا رأسمالية أعظم من رأسمالية أمريكية، ولا مكاسب «على ودنه» قَدْر المكاسب في السوق الأمريكية! ولكن كان لا بد من التنظيم، ومن وضع اللوائح والضوابط وإلا تحوَّلَت هذه الشركات الاحتكارية إلى غول يأكل الوطن حسب تعبير أحد زعماء نقابات العمال الأمريكية الذي قال: «لقد حَلَّت الشركات الاحتكارية محل العصابات، وصار أخطر الخارجين على القانون هو حضرة صاحب العصابة المدير!»
ولكن شركات الاحتكار الكبرى سواء بعد التنظيم أو قبله كان لها الفضل المباشر في خلق طبقة عُمَّالية كبرى في الولايات المُتَّحِدة، فبدون قيام هذه الشركات لم يكن ممكنًا حَشْد كل هؤلاء العمال في ظل شركة واحدة، وبقدر تَضخُّم الشركات الاحتكارية كان تَضخُّم عمالها — أيضًا — وكانت المفارَقات الضخمة سببًا آخر في تَطوُّر الحركة العمالية. لقد كان العمال طرفًا أساسيًّا في نمو الأعمال الضخمة، ولكنهم كانوا طرفًا مُهملًا عند تقسيم الأرباح، وكان أغلبهم يعملون في ظل ظروف شديدة القسوة داخل مصانع شديدة الحرارة، وتتسم بالضوضاء وفساد الهواء، وكانت إصابات العمل من المسائل العادية التي لا تُولِيها الإدارة أدنى اهتمام، وحتى حوادث الموت بسبب العمل كانوا يَدفعون مقابلها تعويضاتٍ تافهة لا تكفي مصاريف الجنازة، وخارج المصانع كان العمال يَتكدَّسون في أحياء قذرة، ولم يكن للعمال ممثلون في المجالس التشريعية إلا عددًا أقل من القليل، ولم يكن هذا العدد كافيًا لإعلان رأي الطبقة المسحوقة أو الحصول على مكاسب لها! وخلال الفترة من عام ١٨٧٠ إلى عام ١٩١٠م تدفق أكثر من عشرين مليون مهاجر للبلاد، وكان كل هؤلاء في لهفة للعمل في المصانع والمناجم، ومَهمَا كان الأجر وتحت أي ظروف، وبسبب تدفُّق الهجرة ازداد الهبوط في الأجور، والهبوط في المستويات، وانتهى الأمر باتحاد العمال إلى الشَّلل التام، وبالرغم من تلك الظروف التعسة فقد كافَح العمال ببسالة، وخلال ربع قرن كان أول الإضرابات التي قام بها هؤلاء بلغت ٣٧ ألف إضراب، وكان نتيجة هذا النضال المستمر حصول العمال على مُعْظَم حقوقهم في عام ١٩٠٠م، وقُبَيل بدء الحرب العالَمية الأولى كان محظورًا تمامًا في كل الولايات المُتَّحِدة استخدام الأحداث في المصانع، كما حصلَت النساء العاملات على حق إجازة الحمل.