«أمريكا يا ويكا»
… وأخشى أن يفهم البعض دعوتي للاهتمام بالعرب الأمريكان أنني أطالب بالاهتمام بهم سياسيًّا، أو إيفاد البعثات لتوعيتهم من أجل سلوك الطريق النِّضالي الاشتراكي الوحدوي المُتعانق مع الفجر القادم والبزوغ الآتي تحت قيادة الزَّعيم المناضل، أو الزعيم المجاهد، أو القائد المُقاتل، أو الرئيس المُلهَم، أو الرئيس البطل، إلى آخر هذه التسميات التي شَبِعنَا منها على مدَى نصف قرن من الزمان، أنا لا أقصد الاهتمام بالعرب الأمريكان على هذا النحو، ولكن أقصد الاهتمام بهم عن طريق تنظيمات تَضمُّهم وتربطهم بالعروبة كجنس، وبالعربية كلُغة، وبالإسلام كَدِين، وهي مسألة ضرورية للغاية وفي الدرجة الأولى من الأهمية أن يكون الاهتمام بهم على المستوى القومي، وأن يكون الهدف هو خدمة قضايا العرب الرئيسية. ويمكن استخدامهم بعد ذلك كوسيلة ضغط على صانع القرار الأمريكي، وحبَّذا لو بدأْنا بإنشاء مَجالس عربية للمحافظة على اللسان العربي في الأجيال القادمة. وأظن أنه عارٌ وعيب — أيضًا — أن ينشئ العرب عدة نوادٍ ليلية وكباريهات وبارات في واشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس، ولا يُنشئون مدرسة واحدة في طول الولايات المُتَّحِدة الأمريكية وعرضها! ثم أين المساجد والمراكز الإسلامية؟ وأين الدعاة والرُّسل يذهبون ويعودون بيننا وبينهم؟ وأين الندوات والمؤتمرات؟ ليبقى الجسر موصولًا بين عرب الوطن وعرب الولايات … ولقد رأيت في لوس أنجلوس مثلًا حيًّا مصريًّا لحمًا ودمًا، وكأنه جزء من حي شُبرا، نفس الزِّحَام ونفس الروائح ونفس الأطفال في الشوارع، فلو قُدِّر لك وذهبتَ إلى هناك فستسمع في دروب الحي نفس الشَّتَائم، وستلتقي ببائع البلح، وبائع الجوافة، ودكاكين تَقلي الطعمية وتدمس الفول، وستَسمعُ أغاني عبد الوهاب، وأم كلثوم، ومحمد طه، وشفيق جلال، وعبد الحليم حافظ. وفي ولاية أوهايو وجدتُ عربُا هم نموذج أعظم على ما نستطيع تحقيقه لو أحسَنَّا العمل، وأخلصنا النية وعقَدْنا العزم على أن نخدم العروبة والإسلام. في مدينة سنسناتي عاصمة الولاية وجدتُ رابطة عربية أركانها عرب أمريكان، طبيب عِلم النَّفس مصري، وابنته الطالبة تدرس الفلسفة في جامعة الولاية، وطبيب بَشري من فلسطين، وطالب بعثة عراقي، وتاجر سوري، ورجل أعمال من الإمارات، وشاب ليبي، وسيدة مَغربية، وزُول من السُّودان، وهي مجموعة مُنسجِمة، ومتكاملة، وتصدر مجلة شهرية بإمكانات قليلة، وأحلام كبيرة، ولقد اعتذرَتْ بنتُ الدكتور الفلسطيني (اعتذرت لأونكل سعدني) «بيكوز شي هاف توجو، أند شي هوب توميت مي أجين» الكلمة الوحيدة التي نطقت بها بالعربي كانت السعدني! بنت الطبيب المصري وهي المُشرِفة على المجلة الشهيرة كانت تبكي كلما جاء ذكر مصر، فهي لم تَرَ مصر في حياتها، والبلد العربي الوحيد التي رأته كان العراق، واندهشَت عندما رأت في العراق أناسًا وسيارات وعمارات وحدائق، فقد كانت تظن أن بلاد العرب صحراوات، بَدْو، وقوافل، وجِمال، ومَضارب شَعْر، وقَيس يغني على ليلاه!
في مدينة «ليويزفيل» بولاية كنتاكي، الْتَقيتُ بمصريين طيبين يعملون موظفين في الصباح وتُجارًا بعد الظُّهر، وهم يُتاجرون في بضاعة خان الخليلي؛ عُقود، ومسابح، وتماثيل، وجَعارين، ويكسبون دولارات قليلة، ولكنهم عند التَّحويل تصبح نقودًا مصرية كثيرة تُعينُهم على أداء الواجب نحو الأهل في الوطن الأم! وهُم سُذَّج في السياسة، ويتصورون أن بلاد العرب تعوم على بحر من الفساد، ويَخشَون من التأميم والمُصادرة مع أنهم لا يملكون سوى بدلة واحدة، وبعضُهم يرتَدي «جاكتة شكل» و«بنطلون شكل» وحذاء أغلب الظن أنه من وكالة البلح، وعندما تحدَّثْت معهم عن ضرورة عمل عربي مشترَك في أمريكا! اقتنع بعضهم بمنطقِي وتَشكَّك البعض الآخَر ولديهم بعض الحق؛ حيث إن كل عربي في أمريكا مشغول بنفسه وبمصالحه ولا شيء آخَر! ولكن أغرب من قابلتُ من العرب في أمريكا، بنت مصرية تعمل راقصة في نادٍ ليلي في سان فرانسسكو، وبنت أردنية ترقُص في نادي علي بابا بلوس أنجلوس، وهي أول مرة اكتشفتُ أن الأردنيَّات ينافِسن المصريات في «هَز البطن!» البنت المصرية تعمل راقصة في الملهى ليلًا ومُدرِّسة رقص شرقي في معهد أمريكي نهارًا، وهي تقول إنها جاءت إلى أمريكا بعقد كأستاذة للرقص الشرقي، فهي سفير للفن العربي في بلاد العم سام، ثم اكتشفَت وهي في أمريكا أنها تستطيع أن تُحقِّق دخلًا آخر من خلال عملها في الملاهي ليلًا فلم تتردد، ولكن الشيء الذي أثار الراقصة هو أن جميع رُوَّاد الملهى من العرب، بعضهم من الخارج، وبعضهم من بلاد تَرفَع شعار الثورة اللي ما يغلبها غلَّاب وتنادي بتحقيق الاشتراكية وتحرير الوطن من النهر إلى البحر؛ وهي لأنها تعيش في العالَم السفلي، فهي لا ترى أمامها أي وميض من النور، وليس هناك أي أمل، وإذا كان العرب يُبعثِرون أموالهم في علب الليل، فماذا تريد من راقصة أن تفعل؟ «يا خويا خلِّي الطابق مستور وخَلِّينا في حالنا» هكذا قالت الراقصة المصرية وهي تستأذن في الانصراف … فقد دقَّت ساعة العمل الثوري! أما البنت الأردنية فقد كانت ترقص في ملاهي دمشق، ثم انتقلَتْ إلى ملاهي بيروت قبل أن تشتعل النار في بيروت وتأكلها، وكان لها أكثر من تجربة مع زبائن عرب أصحاب نفوذ وأصحاب قوة، وكانوا يَدخلون الملهى وفي جيوبهم مُسَدَّسات، فهم مناضِلون أيضًا! ثم عَبَرت البحر إلى أمريكا لتكتشف أن كل عربي هنا عالم لوحده، وكل عربي جزيرة منعزلة، وبعض العرب يستأجِرون الملهى كله ليلة واحدة لينعموا فيه وحدهم ومع أصدقائهم وينفقوا عشرات الألوف من الدولارات، ثم غَمزَت البنت الأردنية بعينها وهي تقول: «هل تعرف أن صاحب الملهى يهودي وأسرته لا تزال تعيش في تل أبيب؟»
ولكن في المقابل هناك عرب أفاضل، ولكن قلة، ويبذلون جهودًا عربية صادقة؛ وإن كانت ضعيفة، اتحاد الطلبة العرب يحاول ولكن وسط غابة من المُشكِلات والمعوِّقات، وأسوأ ما في الاتحاد أن الأيديولوجيات فيه على وِدنه، والنِّقاش داخله يَجعلهم كخَلية نَحْل ولكن برطانة لا يفهمها العربي العادي، وفي كل فترة يتغلَّب تيار سياسي على الآخر ويحاول أن يجرهم خلفه، بعض التيارات تحاول فَرْض رأيها بالعافية وبالفلوس، والخلاف الحقيقي ليس على برامج أو مبادئ، ولكن وسط جَلَبة من المناقَشات البيزنطية؟ ويبدو أنهم لم يَصلوا إلى حل بعد؛ لأن البِيضة لم تَنطق والفرخة لم تتكلم! وهناك عدة روابط عربية، وكل منها تُكافِح في طريق مُعادٍ للأخرى ومُضاد لها! وهناك عرب «صُيَّع» يبدءون الطريق دون مرشِد أو مُعِين، وخطَر سقوط هؤلاء في قبضة الأعداء وارد … وحصل! وهناك قصص يتداولها العرب في الولايات، وبرغم قُبح الصورة وسوء الحال، فان العزاء الوحيد هو أن حال العرب في الولايات المُتَّحدة هو انعكاس لحال العرب في الوطن، ولو انصلح حال العرب في داخل الحدود، لانعكس الحال في الخارج، ولو زعيم قام بجَمْع شتات الأمة ويدعو الجميع إلى النهوض، ويمنحهم الأمل في عالَم أفضل، لو حركة انتصار واحدة على المستوى القومي، لو خطوة شموخ واحدة في مُواجَهة العدو الإسرائيلي، لو لَحْن واحد يعزفه الجميع من الخليج إلى المحيط، لو حدث شيء من هذا لَهبَّ جميع العرب في الخارج، وانتظَمُوا في صف العروبة وزحَفوا تحت لوائها، ولكن «لو» للأسف الشديد تفتح عَمل الشيطان، وهي كلمة صغيرة ولكنها تحتاج إلى مُعجزة لكي يصبح لها محل من الإعراب.
ولكن صبرنا على الكارثة أنه حَدثتْ معجزات كثيرة لشعوب كانت مِثلَنا من قبل، فهكذا كان الفيتناميون في فرنْسا قبل الحرب العالَمية الأخيرة، خدمًا في المطاعم، وقَوَّادين في البيجال، وجواسيس للمكتب الثاني الفرنسي، فلمَّا جاءهم هوشي منه، انكشف الغطاء عن المعدن الفيتنامي الحقيقي، فإذا به ذهب رنان، وحديد صلب لا يلين، وهكذا أيضًا كان صنف الجزائري في باريس، كان من بينهم سماسرة حي البيجان، وسائقو التاكسي في الليل، وخَدَم فنادق ونوادٍ وصالات قمار، فلمَّا انطلقت رصاصات الثورة في سماء الجزائر، وهَبَّ بن بللا ورفاقه انطلق هؤلاء الذين كانوا مُجرَّد حُثالة ليصبحوا أُسودًا وأبطالًا، وكانوا أعظم احتياطي للثورة، وأقوى أجنحتها على الإطلاق، وفي أيام المد العربي في الخمسينيات وحتى منتصف الستينيات، كان كل عربي في أوربا وأمريكا قنبلة موقوتة، وكانت أجهزة الأمن في بلاد الخواجات لا هَمَّ لها إلا مراقبة العربي، حتى من ذهب إلى هناك للمتعة! ذلك لأن الأمم عندما تخيب، تخيب بكل فصائلها، وعندما تهب، تهب بكل أجنحتها، وتسألني ومتى يكون النهوض والنفير؟ وأجيبك عندما تصبح أمور العرب في أيديهم، وحدودهم مفتوحة أمام أصدقائهم، وبنادقهم مصوبة نحو أعدائهم، وعرباتهم الملغومة تنفجر داخل بلاد الذين هزموهم وأذلُّوهم، عندما يكون العالِم في مَعْمله، والزارع في حقله، والإداري في مكتبه، والكاتب في موقعه بين الناس، والفدائي عند خط النار وليس في فندق خمس نجوم، وعندما تكون الشعارات مُطابقة للأعمال، والأعمال سابقة للأقوال، وعندما تكون الحكومة وكيلة عن الشعب، والشعب فوق الحكومة، عندما يأمن العربي في أرضه فلا يَخاف طارق الليل ولا جاسوس النهار، عندئذٍ تُشرق الشمس على أرض العرب، ويتحقق النصر اللي طال الشوق إليه، ولن نكون في حاجة عندئذٍ إلى رأي عام دولي، ولا أمم متحدة، ولا مجلس أمن نرفع إليه شكوانا، كما تفعل المُطلَّقات، والأيتام، وأبناء السبيل!
والآن، لقد كنا في رحلة في بلاد العم سام، ولكن هموم الوطن شَدَّتْنا إليها، ولكن لا بد لنا من وقفه نُلقي فيها نظرة أخيرة على البلاد المترامِية الأطراف من المحيط إلى الخليج، نظرة أخيرة قبل أن نرفع قُبَّعتنا وداعًا ونرحل بعيدًا عن بلاد الذهب الأصفر، والذهب الأسود، والتراب الذي ينافس الذهب في البورصة وفي الأسواق!