تدريب وتهليب … وأبطال!
كل شيء في أمريكا تِجارة … الرياضة والسلاح والحب …! المهم أن يكون معك فلوس. وأن تدفع الثَّمن عند الاتفاق، ومن حقك بعد ذلك أن تحمل التجارة وتمضي إلى المكان الذي تريد! وقد تكون البضاعة دبابة، أو غوَّاصة، أو امرأة في طعم القشطة وفي عُمر الورد، أو لاعبًا رياضيًّا شهيرًا …!
والرياضة في أمريكا حق لكل مُواطن كالماء والهواء وأكل الذرة المسلوقة، وهي في التنس تتقدَّم الدول، وفي السباحة هي ست الكل، وفي ألعاب القُوى هي أعظم من الكل، وفي الملاكمة هي الكل في الكل!! وهي حق من حقوق الجميع حتى المواطن في السجن، وحتى الغريب اللاجئ … وحتى الزائر عابر السبيل! وبلغَت نفقات الرياضة في السجون مليار دولار في عام ١٩٨٠م وبعض أبطال الملاكمة من المحترفين هم رُوَّاد سجون، وخِرِّيجو ليمانات، وأصحاب سوابق، ليس لهم أصل ولا فصل ولا جذور!
وقصة الولد ليستون شرير الحلقة لا تزال عالقة بالأذهان كان زعيمًا من زعماء البلطجة، ونجمًا من نجوم الليل، مارَس النَّشْل فترة، وقضى فترة من حياته فتوَّة في حي من أحياء البغاء، واشتغل لِصًّا محترفًا في عصابة تهاجم المنازل والبنوك، وتعلَّم الملاكمة في السجن، وفي أوائل الستينيات لمع نجمه، وانتزع بطولة العالَم، ولم يهنأ بها ستة شهور وفجأة أطاح به محمد علي كلاي، فترك الحلقة وعاد إلى الشارع من جديد … والتحق بالعصابات من تاني، ولكنه عندما عاد لم يكن ذلك اللص القديم الذي يعرفونه، عاد أكثر غرورًا، وأشد شراسة؛ فقتله رجال العصابات! وقيل إنه مات من شدة السُّكر، وقيل إنه انتحر، ولكنه ذهب بسِرِّه إلى قبره ولا يعلم الغيب إلا علام الغيوب!
ولد آخر من أبطال الملاكمة قضى حياته كلها في السجون، وتدرَّج فيها كأي مُجرِم من الملجأ إلى إصلاحية الأحداث إلى السجن إلى الليمان إلى مُعتقَل سنج سنج الرهيب، الذي لم يخرج منه أحد خلال ثلاثين عامًا طويلة إلا لتلبية نداء ربه إلا هذا الولد «كونتي» الذي خرج من السجن لملاقاة حَظِّه، ولقد سمحوا له بالخروج؛ لأنه أبدى طاعة عمياء طول فترة سجنه، وسلك سلوكًا ممتازًا لا غبار عليه، ونبغ نبوغًا عظيمًا في فن الملاكمة حتى طمع المُشرِفون على السجون أن يفوز سجين آخر بلقب بطل العالَم، وقَبِل محمد علي كلاي أن يُنازِل الولد السجين، وخرج الولد المحظوظ إلى حلبة الملاكمة ليقابل بطل العالَم، وأبدى خلال الملاكمة قُوَّة على التحمل، ولكن حكم الحلبة اضطر لوقف المباراة بعد الجولة السابعة … فقد وقف الولد على الحلقة كالشوال يتلقَّى اللكمات دون أن يتحرك … فلم يكن قادرًا على أن يرفع يديه ليدافع عن نفسه، ولم يكن قادرًا حتى على السقوط … والرياضي في أمريكا يُباع ويُشترَى كأنه جاموسة في سوق الثلاثاء … وليس له الرأي عند البيع أو عند الشراء … هل تعرفون «أسامة خليل» نجم فريق الإسماعيلي ومنتخَب مصر في السبعينيات؟ لقد رحَل الولد من القاهرة ليجرب حظه في أمريكا، واشتغل الولد لعيب كرة في أحد نوادي نيويورك وأجْرُه قدْرُه ثلاثة آلاف دولار في الشهر خلاف الشقة والسيارة ومكافآت التعادُل والفوز وهدايا المُحبِّين والمشجعين … واستقر الولد في مدينة نيويورك هانئًا بما هو فيه شاكرًا رب العباد على نعمائه … ومر عام وتوجَّه أسامة إلى النادي فوجد أبوابه مُغلقة وليكتشف أن صاحب النادي باع النادي بما فيه وبمن فيه … أدوات ومُعدَّات ومُدرِّبين ولاعبين إلى شركة في كندا وأن على الجميع أن يَنتقِلوا إلى هناك! ورحل أسامة إلى كندا فهكذا تَقضي القوانين، فاللاعب مُجرَّد شيء في النادي وهو لحظة التوقيع على العقد يكون قد وافق على بيع نفسه وشخصه، وليس فنه أو لعبه، وعلى صاحب الشغل أن يتصرَّف فيه وكما يشاء خلال المدة المحدَّدة، في كندا فوجئ أسامة بأن الشركة التي اشتَرت النادي قد قامَت ببيع النادي مرة أخرى إلى مشترٍ آخَر في كاليفورنيا، وحمل أسامة عصاه على كاهله ورحل إلى لوس أنجلوس فهو بعد أن وقع العقد أصبح موظفًا بدرجة جناح أيمن في فريق الكورة، ويحضر إلى النادي حسب نظام صارم، ويخضع لنظام دقيق وهو يتدَرَّب في مواعيد ثابتة، ولا تَتغيَّر، ولا يُقْبَل أي اعتذار إلا في حالات المرض الشديد، وإذا حدث وتمارَض اللعيب وقَّعُوا عليه الجزاء وأحالوه إلى لجنة التحقيق … وإذا حدث وتمادى اللعيب في الدَّلَع وأمعن في التزويغ فإن قرارًا بالفصل في انتظاره والطرد من النادي هو مصيره المحتوم؟
وبأسلوب حياتنا وبالطريقة السبهللية والتوكلية التي تمضي عليها أمورنا قد يقول قائل: وما له الطرد أو الفصل؟ سيذهب اللاعب إلى نادٍ آخَر، وقد يأخذ أجرًا أكبر، وقد يجد ظروفًا أفضل وسيعاود حياته من جديد، هذا يحدث عندنا ولكن الذي يحدث في أمريكا هو العكس، نهار أبوه أزرق اللاعب الذي يَطردُه ناديه، سيصوع ولا كلبة مسعورة، وسيُضرَب ولا حمار في مطلع، وسيجوع ولا مؤمن في بلد كلها خنازير … لأن النادي الذي سيطرده سيُصدِر في الوقت نفسه قرارًا بوقفه عن اللعب، وإذا صدر قرار بوقفه عن اللعب فليس لأي قوة في العالَم الحق في أن تخرج عن هذا القرار، واللاعب يعرف أن مصيره مُعلَّق على قرار من هذا النوع ومستقبله مرهون بموقف من هذا الطراز، وعلى اللاعب أن يلتزم بقوانين النادي وتعليمات المدرِّب، وأن يحظى بعطف وحُب وتشجيع ناديه؛ لأنه لا مهرب أمامه، ولا طريق للنجاة، وليس هناك وسيلة للعيش إلا باحترام القوانين والتفاني في خدمة النادي، والإجادة في اللعب لكي يحظى فوق كل ذلك بتأييد الجماهير.
عندنا في بلادنا كنت أعرف لعيبًا نجمًا يتسكَّع عند خط التماس والكل يتوسَّل إليه لكي يشترك في المباراة، وكان النجم يَدَّعي المرض في البداية ثم يُساوِم في النهاية ليحصل على أَجْر مُعيَّن وكان لا يخلع ملابسه إلا إذا تناوَل الأتعاب. أعرف نجمًا آخَر كسر القواعد وخَرَق جميع القوانين، وتحدَّى كل النُّظم والأعراف، واضطر اتحاد الكورة في مصر إلى وقفه عن العمل لمدة عام، ولكن لم يَمضِ شهر على هذا القرار … حتى احتاجوا إليه فجأة وفي مباراة بين مصر وإيطاليا في كأس العالَم العسكرية في كرة القدم، تمكَّن الفريق الإيطالي من إحراز هدفين في الشوط الأول وكان يكفي مصر التعادل لتفوز بكأس العالَم وبحثوا عن الكابتن إياه خلال الشوطين حتى عثُروا عليه في مقهى في عابدين يجلس مسرورًا آخر هدوء وانسجام! وسحبوه من يده إلى أرض الملعب وألبسوه زِي الكورة وهو غائِب عن الوعي لا يكاد يعلم ماذا يجري من حوله، والغريب أنه اشترك في اللعب، واستطاع تسجيل هدفين وتعادلَت مصر مع إيطاليا، وفازت بكأس العالَم وأصدر اتحاد الكورة قرارًا برفع الوقف عن اللاعب، ويا دار ما دخلك شر!