تجارة الرياضة
اللعب هنا على الكيف، وهناك على اللائحة، والعلاقة هنا بالمزاج وهناك بالقانون، واللاعب هنا هو الذي يَتحكَّم في النادي، والنادي هناك هو الذي يتحكم في اللاعبين؛ ولذلك فالرياضة عندنا تَسير في خط مُتعرِّج وتسير هناك على خط مستقيم. وهنا نلعب يومًا كالبرازيل ويومًا كالزرازير … وهناك يلعبون بمستوًى واحد ويُحقِّقون نتائج معروفة سلفًا؛ لأن كل شيء هناك بالكمبيوتر والحساب وليس بالنية وحسب التساهيل … ولكن اللعيب هناك يُعامَل كمَلك وله حقوق ولا حقوق نجم السينما، وأجْرُه يتيح له حياة كريمة يحرص هو على استمرارها؛ ولذلك يحرص على الطاعة وتنفيذ الأوامر والبنود، وفي أغلب بلاد العرب يحترف اللاعب عشر سنوات وينتهي إلى التَّسوُّل، وإن ساعده الحظ وجد نفسه موظفًا في أرشيف مصلحة المجاري، أو بوابًا في عمارة من عمارات الأوقاف! أعرف لاعبًا «دوليًّا» مثَّل مصر في أولمبياد طوكيو، وحصلتْ مصر على المركز السادس وكان شهيرًا وجهيرًا واسمه يُدوِّي كالطبل في المنطقة العربية والأفريقية وفي بلاد ما وراء البحار، ويَسرَح الآن بجردل قازوزة على المُصيِّفين في بلاج بورسعيد صيفًا، ويسرح بملابس مسروقة على أرصفة بورسعيد شتاء، وينام بعض الليالي في بيته وأغلب الليالي في قسم بوليس المناخ … كيف صاع الدولي وضاع؟! لأننا نستخدم اللعيب بأقل الأثمان، ثم نرميه في النهاية لأتفه الأسباب.
وفي فترة تألُّقه نحرص على حاضره ولا نهتم بمستقبله؛ لأننا نعامله كلاعب وليس كإنسان، فهو مجرَّد آلة عندنا ينتج اللعب، فإن شاخ أو أصابه عطل ما؛ ذهبنا به إلى الجراج وبعناه بأبخس الأثمان! وهناك تبدو العلاقة بين اللاعب والنادي وكأنه أداة، ولكن الحقيقة عكس ذلك على طول الخط، فهم يُؤمِّنون على اللاعب بمبلغ كبير يَقبضه ورثته إذا مات، أو إذا اعتزل اللعب، وهو مَبلَغ يكفيه لأن يبدأ حياته، وصاروا أصحاب ملايين أو أصحاب عقارات، وأصحاب طين، وكلهم في بحبوحة من العيش، وكل الخير الذي لديهم من عَرَق أقدامهم أو عرق سواعدهم نتيجة الرياضة وما قدموه للناس من فن خلال فترة التألُّق والشهرة والعنفوان!
في ولاية ميتشجان الأمريكية حاولتُ أن أجري حديثًا مع لاعب بيسبول شهير، قالوا لي إنه واحد من مليونيرات الولاية المعدودين، وإن ثروته تُقدَّر بعدة مليارات، وإنه لو وقَّع على كل الأتوجرافات التي تُقدَّم إليه أو تُرسَل إليه بالبريد لأنفق عمره كله في أداء هذا العمل دون أن يجد فرصة لأداء عمل آخر، واتصلتُ من فندقي بالسيد اللعيب المليونير وردَّت على الجانب الآخر سكرتيرة تُغنِّي ولا تتكلم، ولما فهمَت أنني صحفي من بلاد الشرق وأنني أريد إجراء حديث مع النجم المشهور أمهلتني ساعة لتأتيني بالجواب بعد أن تتصل باللاعب الشهير، وبعد ساعة بالضبط جاءني الجواب «ممكن إجراء الحديث بعد ٤٥ يومًا، وسيُسمح لي بنصف ساعة فقط وسأدفع عشرة آلاف دولار نظير إجراء الحديث!» واعتذرتُ للسيدة السكرتيرة لضيق ذات الوقت وليس لضيق ذات اليد … أعوذُ بالله!
وفي فيلادلفيا اتصلتُ بمُلاكم أبيض كان يستعد وقتها لبطولة العالَم لإجراء حديث معه اعتذرَت السكرتيرة لانشغاله الشديد في التدريب، قلت: أريد بعض المعلومات عن البطل إذا أمكن؟ قالت: المعلومات ستكون متوافرة بعد ساعة زمان وسنُرسِلها إلى الفندق مع مخصوص، وقالت وهي تنهي المحادثة: عليك أن تقدم أجر خمسين دولارًا للسكرتيرة التي ستحمل المعلومات إليك. وقلت: آسف لأن طائرتي ستغادر بعد عشر دقائق! وكنتُ كاذبًا فيما أقول! قالت: إذن تستطيع أن ترسل لنا المبلغ وسنرسل لك المعلومات على العنوان الذي تريد، وشكرتُ الست السكرتيرة ووعدتُها خيرًا، وأقسمتُ ألا أُجْري حديثًا مع أي رياضي في أمريكا على الإطلاق!
وإذا كانت الرياضة عندنا هواية فهي عندهم تجارة ومكاسب وفلوس … أغنى رياضي في العالَم أمريكي وهو نجم من نجوم البيسبول، ثاني أغنى رياضِيِّ العالَم وهو برازيلي وهو بيليه، الثالث والرابع والخامس أمريكيون وهم برضه من نجوم البيسبول، ولو في العالَم ألف رياضي غني سنجد أن تسعمائة منهم من أمريكا، ومائة من أوربا وأمريكا اللاتينية، أما اللعيبة تَبعْنا فلهم الستر والعمر الطويل، ولكن هل تأتي الثروة من اللعب فقط؟ والجواب نعم، تأتي من اللعب أولًا، ثم تنمو بالشُّهرة والأعمال والمشروعات وعقود الدعاية والإعلان … مثلًا محمد علي كلاي كان يهبر عدة ملايين كل عام لقاء ظهوره في إعلان عن الهمبورجر، ونجم التنس ماكنرو كان يلهف عدة ملايين كل عام لقاء ظهوره في إعلان عن دنلوب، وبطل سباق السيارات الأمريكي يقبض عدة ملايين كل عام لقاء ظهوره في إعلان عن جنرال موتورز، وكل أمريكي شهير له حصة في ميزانية الدعاية والإعلان، وهي ميزانية ترصدها الشركات في أمريكا وتُقدَّر بعدة بلايين من الدولارات، ويفوز بالنصيب الأوفر من هذه الميزانية نجوم السينما، ثم نجوم الرياضة، ثم نجوم السياسة الذين اعتزلوا المباحَثات والمفاوَضات وتفرَّغوا لأمور الدعاية والإعلان.
وفي الوطن العربي مائتَا مليون بني آدم، وربما ربع مليون شخص أو أقل هم الذين يُمارِسون الرياضة والألعاب، وفي أمريكا مائتان وأربعون مليون، منهم أربعون مليون يمارسون الرياضة، وعدد المحترفين ثلاثة ملايين بالتمام والكمال، والرياضة هناك شركات ومؤسَّسات وعِصابات، والمجال الذي يظهر فيه أثَر العصابات هو الملاكمة؛ فأغلب الملاكمين تلتقطهم العصابات من الشوارع وتُدرِّبهم على الملاكمة وتستخدمهم في حوادث عنف، واللامعون من بينهم يَذهَبون إلى الحلقة، والأغنياء منهم يحترفون الجريمة، والرءوس الكبيرة في العصابة هي التي تُحرِّك الجميع مُلاكِمين ومُجرمين على حدٍّ سواء، ومعظم دَخْل الملاكمين يذهب إلى رجال العصابات.