باي … باي
«الآن وقد طُفنا ببلاد العم سام، مشرقها ومغربها، وعِشنا مع أَثرِيائها وصعاليكها، وتكلَّمْنا مع مُثقَّفيها ومغَفَّليها، ورأينا حسناتها وسيئاتها، واكتشفْنَا أنها ضدنا لأننا ضد أنفسنا، وتمنَّيتُ على الله الكريم أن نستفيد من الحَسن الذي لديهم وأن نتجنب الشر الذي عندهم. فأمريكا مثلها مثل أي مكان آخر. ليستْ خيرًا خالصًا، ولا هي شرٌّ خالص، وإنما فيها كل شيء وإن كانت حسناتها أكثر من سيئاتها».
ونحن على أهبة الرحيل لا نملك إلَّا أن أقول … الله الله على أمريكا، الله عليها وع اللي حواليها.
كل شيء متوافر، وكل شيء موجود، وكل شيء على قَفا من يشيل. أنهار … ألف نهر ولا نهر الكونغو، وتِرَع … عشرة آلاف ترعة ولا ترعة سُبْك، وبحيرات … عشرة آلاف بحيرة ولا بحيرة التمساح، وأشجار على ودنه، وفاكهة من كل صنف، وحيوانات من كل شَكْل، وطيور على كل لون. الحيوانات من الأسود، إلى الضباع، إلى الفهود، إلى الديوك الرومي المُتوحِّشة، الديك منها ولا خروف معلوف قبل العيد الكبير بعدة شهور، والعجيب أن للدِّيك الرومي عيدًا يحتفلون به في أمريكا. وأصل الحكاية أن المهاجرين الأوائل عندما نزلوا على الشواطئ، جاء عليهم حين من الدهور كاد الجوع يقتلهم، وقد حاصرتهم المياه من كل جانب وضَربتْهم العواصف من كل صوب وقذفتهم السماء بحجارة من جليد، ولم يكن هناك شيء يُؤكل ولا أمل في ذلك فالمزروعات غطتها الثلوج والماشية نفقت من شدة الصقيع والجوع، وحتى الطيور اختفت؛ فقد هاجرَت إلى مكان آمن. ووسط هذا الهول الأعظم والموت الزؤام. تطوَّع عشرة من المهاجرين الشُّبان للبحث عن طعام في أي مكان وفي كل مكان. وخرجوا يَتعثَّرون في الثلوج ويغوصون في الأوحال، ومر عليهم نهار وليل ثم نهار آخر، وكاد اليأس يقتلهم والجوع يُعمي أبصارهم ويفقدهم توازنهم، فَقرَّروا العودة ليُعلنوا للآخرين أن الأرض التي جاءوا إليها ليست أرض السمن والعسل، ولكنها أرض الثلوج والطين. وأنها ليست أرض الميعاد، ولكنها أرض الممات، وفي طريق العودة والأنفاس تقطَّعت، والصدور تحشرجَت، والعافية راحت، والأمل خبَا وانطفأ، ظهر فجأة قطيع من الديوك الرومي المُتوحِّشة، واضح من منظره أن أفراده شعروا بالجوع فخرجوا يبحثون عن غذاء. وتقابل القطيعان على الجوع، وتقاتلوا على مَن يأكل الآخر. معركة الرجال والديوك. وكانت معركة نزفت فيها الدماء وتحطَّمَت فيها العظام وتكَّسَرت فيها الرءوس، ولم يحسمها في النهاية إلا البنادق والرصاص. عشرات الديوك، وحمل الرجال معهم إلى معسكر اللاجئين مِئات الديوك وكانوا قد أشرفوا على الهلاك، فأكلوا هنيئًا وشربوا مريئًا وعاشُوا بعد ذلك على إبادة نوع آخر من المخلوقات اسمه الهنود! ويحتفل الأمريكيون كل عام بعيد الديك الوحشي. يحتفلون به وقد تغيَّرَت الظروف وتغيَّر الديك أيضًا. فلم يَعُد الأمريكيون يُعانون الجوع، ولم يعد الديك وحشيًّا، فقد تَكسَّرت أظافره، وفقد حِدَّة منقاره، وأصبح كالدَّجاج البلدي، آخر لطافة وآخر خنوع. لقد انقرضت الديوك الوحشية من أمريكا ولم يعد لها وجود إلا في الأماكن النائية، وعددُها لا يتجاوز المئات! وخلا مكان الديك في مملكة الوحوش، وإن كانت المملكة لا تزال عامرة بكل أنواع الوحوش … السِّباع والضباع والطيور الجارحة والبني أدمين! وإذا كانت أمريكا بلاد الوفرة فهي — أيضًا — بلاد التِّيه. فمن نيويورك إلى كولورادو مسافة أربع ساعات بالطائرة الجامبو، وهي نفس المسافة من طرابلس إلى الكويت، ومن كولورادو إلى تكساس مسافة ساعة ونصف الساعة، وهي نفس المسافة من البحرين إلى بغداد، ومن تكساس إلى لوس أنجلوس ساعتين ونصف كالمسافة بين القاهرة والرياض، ومن واشنطن إلى سان فرانسسكو سبع ساعات ونصف الساعة، وهي نفس المسافة من أبو ظبي الدار البِيضاء. ومع ذلك فلا أحد هناك يستوقفك، ولا أحد يفتشك، ولا جمارك ولا حدود ولا جوازات، بلاد الله لخلق الله. كل مُواطن فيها حُر. يتجوَّل كما يشاء أو كما يستطيع، فالتذاكر غالية والمصاريف باهظة، ولكن الأمريكي معه فلوس ودخله يكفيه للمعايش والتجوال. والسبب هو وحدة هذه الأمة الممتدة من المحيط الأطلنطي إلى المحيط الهادي، شقفه واحدة بلا تقطيع ولا انفصال، ولذلك البطيخ «المكسيكو» يُغطِّي الولايات المُتَّحِدة كلها صيفًا، والعنب وارد «كاليفورنيا» يُغطيها صيفًا وشتاء، وكل الولايات تعطي وتأخذ، لا رسوم ولا تعقيدات، مع أن الفروق بين الولايات أعمق من الفروق بين بلادنا، وحتى اللهجات أكثر تباينًا من عندنا، فالتِّكساسي لا يفهمه النيويوركي، والفرجيني لا يفهم الأريزوني، ونمط الحياة في دنفر يختلف عن نمط الحياة في بافالو، ولكن التفاهم موجود، والمصلحة قائمة، والبَركة حَلَّت على الجميع. وفي أمريكا مائة قومية، ناس أصولها آرية، وناس من الهنود الحمر، والسُّود جميعًا من أفريقيا، ولديهم قومية كبيرة من الصُّفر … من الصين واليابان وجنوب شرق آسيا … وفي أمريكا عرب أمريكان، وأمريكان يهود، ولديهم إسبان يتكلمون لغتهم حتى الآن، ولديهم مائة دين، فمَعابد البوذيين منتشرة، ومعابد اليهود قائمة في كل ركن، ومآذن المسلمين مرتفعة في السماء، والكنائس من كل صنف وعلى كل لون، مئات الأديان وألُوف المذاهب، ناس تعبد الشجرة، وناس تعبد البقرة، وناس تسجد ووجهها شطر الأهرام، وبالرغم من ذلك فَهُم أمة واحدة … ونحن عشرون دولة ومائة إمارة ومليون اتجاه ومائة وخمسون مليون زعيم خالد، وبعد ذلك نحلم بالعودة إلى الماضي ونريد أن ندخل الجنة! ولأنها اتَّحدَت، فقد أصبح كل أمريكي حُرًّا وكل أمريكي مسئولًا. والحكومة مجرَّد إدارة للإشراف على تنظيم الأعمال. وليست مالكة للعباد والبلاد. والرئيس الأمريكي موظَّف يمكن فصله أو طرده والاستغناء عن خدماته في أي لحظة، وليس صاحب حق إلهي في حكم الناس، فمَن خالفه منهم فهو ملعون، ومن وقَف ضده فهو مطرود، ومن رفَع يده احتجاجًا فهو متآمر، وخائن، وعميل، وبلا أخلاق قرية! ولذلك فكل شيء هناك على ما يرام. ليس مائة في المائة ولكن سبعين في المائة. وهذا حَسن للغاية. والحكومة تحكم بواحد وخمسين في المائة وليس بتسعة وتسعين في المائة وتسعمائة وتسعة وتسعين في الألف كما هو الحال عندنا، وكل متهم بريء حتى تثبت إدانته، وكل أمريكي حر حتى يحكم عليه القاضي. كل أمريكي مُحترَم حتى نزيل السجن، وأتمنى أن أعيش حتى أرى هذا اليوم في بلادنا، ولكن يبدو أنني أحتاج إلى عمر سيدنا نوح لأرى تباشير هذا اليوم. ولقد حلمتُ بهذا اليوم وأنا أتسكَّع على شاطئ المحيط الهادي بين لوس أنجلوس وسان فرانسيسكو. وحلمتُ به وأنا لأهم بمغادرة قارَّة أمريكا بعد ستة أسابيع كاملة أمضيتُ أغلبها في طائرات وزرت خلالها أكثر من دستة ولايات وحوالي عشرين مدينة، وزُرت القرى والريف الأمريكي وهو ريف غني بالمحاصيل، وفقير في المنظر إذا قورن بريف إنجلترا، وتمشيَّتُ أفرنجي على شواطئ البحيرات، وفي أمريكا عدد منها يفوق عدد البرك الناجمة عن طفح المجاري في الوطن العربي وتفرَّجْت على مسارح مانهاتن وعُلَب الليل، وشاهدتُ باعة المُخدِّرات يقطعون الصنف ويضعونه في الميزان حسب طلب الزبون، هكذا علنًا وأمام الناس وعلى عينك يا تاجر. بينما عسكري الدورية الأمريكي واقف على الناصية متشاغلًا وكأننا في الباطنية ولسْنَا في نيويورك، وتفرَّجْت على بيوت نجوم السينما في هوليود وعلى مقابرهم، وقرأتُ الفاتحة على روح المرحوم دالاس بيري، والمرحوم إدوارد جي روبنسون، والمرحومة لانا تيرنر، والمرحوم جيمس دين، وشاهدتُ أحياء الفقراء، وحارة رابعة بالجيزة أحوالها أحسن بالقطع وأرفع مستوًى من حواري الفقراء في أمريكا، ولاحظتُ أن التفرقة العنصرية لا مجال لها في حي الفقراء، فالسُّود الفقراء والبِيض الفقراء يعيشون جنبًا إلى جنب في سلام وهدوء. وفي انتظار فرج الله، ورأيتُ في أمريكا نصَّابين لا يفوقهم أحد في حرفة النَّصب وحرامية يسرقون في عز الضهر، ودخلت بارات تقدِّم لك المشروب مقابل ثلاثة دولارات وتسمح لك بالفرجة على نسوان ترقص أمام المرأة زلط ملط، وشعرتُ بحزن شديد وأحسستُ بأني جئتُ إلى أمريكا متأخرًا، وكان ينبغي أن أزورها منذ ثلاثين عامًا. ولقد كانت مأساتي الحقيقية خلال الزيارة أنني لم أكن قادرًا على قطع الرحلة حتى النهاية واضطربَت أحوالي قلة صحتي وعظيم رغبتي.
وأتمنَّى أن تتيح لي الظروف زيارة أمريكا في مناسبة قادمة. لكي أرى الولايات التي لم أرها، وأطوف بالأماكن التي لم تَقع عيني عليها.
ونصيحة واحدة للعبد لله إلى كل ويكا يرغب في السفر إلى أمريكا، أن يطرد هذه الفكرة من دماغه إذا كانت شهادة ميلاده تشير إلى أنه قد تعدَّى الثلاثين، وأرفع قبَّعتي الآن، وأنحني وداعًا لأمريكا، وأرفع قُبَّعتي بالرغم من أنني ليس لي قبعة وليس على رأسي شعر، ولكنها عُقدة الخواجة التي أصابَت البعض منَّا، فأصبحْنَا نتشبَّه بالخواجة. ومَن تشبه بالخواجة يُكْرَم.
وأقول وداعًا لقارَّة أمريكا، وأنا أستعد للطيران عائدًا من حيث جئتُ. وهتفتُ من أعماقي وأنا ألقي على أمريكا نظرة أخيرة … باي باي بلاد العم سام … باي باي بلاد الفَتوَنة، والقَرْصَنة، والطمَع، والجَشَع، الثورة والثَّروة، والعافية، والمافيا، باي باي بلاد الأحلام!