في سبيل الرب
وكان من عادة الهنود الحمر إقامة مهرجان كل عام اسمه مهرجان التأهيل للحياة، وفي هذا المهرجان كانوا يُزوِّجون الرجال الشيوخ بالبنات الأبكار، ويُزوِّجون النساء المُسِنَّات بالشَّباب الناهض، وكان هذا الزواج لا يستمر أكثر من عام واحد، تكتسب فيه البنت البكر الخِبرة من الرجل العجوز، ويكتسب فيه الشَّاب الخبرة من السَّيدة المُسِنَّة، وفي العام التالي يتزوج الشُّبان الأقوياء من الفتيات الصغيرات، وتبدأ دورة حياة جديدة مُدعَّمة بالتجربة والخبرة، وكان يحلو للهندي العجوز أن يختار يوم وفاته، وكان غالبًا يختار يومًا ربيعيًّا جميلًا، طقسه معتدل وشمسه مشرقة، في ذلك اليوم كان الهندي العجوز يُودِّع أهله، ويحمل معه الزاد الذي يحتاج إليه في رحلته إلى الدار الآخرة، ثم يصعد وحيدًا إلى قمة الجبل، وهناك يتمدَّد في هدوء ويتطلَّع إلى السماء ويُتمتِم في صوت خافت، هذا طيب يصلح لانتقال المرء من هذا العالَم الأرضي إلى جنة الله في السماء، ثم يُغمض عينيه ويموت في هدوء.
وكانت الحرب تدور بين القبائل الهندية بين الحين والآخر، وكانت الحرب وسيلتهم لإفراز جيل جديد من الزُّعماء والقادة. وكانت لهم تقاليد رفيعة وشديدة الرُّقي لم تعرفها جيوش البِيض في حروبها إلا قريبًا، كانوا لا يقتلون أسيرًا ولا شيخًا ولا امرأة ولا طفلًا، ولا يطعنون أحدًا من الخَلْف، ولا يُباغِتون قبيلة، وكان من عادتهم أثناء المعركة سلخ جلود رءوس القتلى من قبائل الأعداء، وكان كل هندي منهم يزهو بعدد فروات الرأس التي في حوزته، ولكنهم كانوا يَعفُون عن سلخ فروة رأس المقاتل الشجاع؛ احترامًا لشجاعته وتقديرًا لقلبه الذي لا يخشى الموت، أما الجبان الذي يفر من المعركة، فهو لا يجلب العار على نفسه، ولكنه يجلب العار على القبيلة كلها، وغالبًا كانت القبيلة تتولَّى قتله بنفسها، وكانوا يعيشون في مُجتمع بدائي يُنتِج فيه الجميع وتتوزَّع فيه خيراته على الجميع بعدل شديد، وكانوا يحترمون كبار السِّن، ويستمعون إلى نصائحهم ويستفيدون من خبرتهم. كان الهندي الأحمر يعامِل النساء باحترام شديد ولطف أشد؛ ولذلك رفضت مئات من النساء البِيض اللواتي وقعن في أسرهم أن يَترُكْن أزواجهن الهنود، ورفَضْن العودة إلى مجتمع البِيض بسبب المعامَلة الطَّيِّبة والاحترام البالغ الذي كان يبديه الهندي لنسائه. وكان الهنود الحمر لا يأكلون إلا الطازج من الطعام، ويشربون اللبن المحلوب فور حَلْبه، ويأكلون الخبز الذي يصنعونه بأيديهم فور نُضْجه، وكان من عادتهم إقامة الحفلات والأفراح كل ليلة، يُغنُّون فيها ويرقصون، وكان إذا مات الهندي في الحرب، تاركًا خلفه عدة زوجات، انتقلَت الزوجات على الفوز إلى شقيق الميت، وإذا لم يكن له أشقاء انتقلَت إلى أولاد العم، أو إلى العم نفسه، وكان من حق الهندي أن يتزوج أي عدد من النساء ما دام أنَّهن راغبات في الزواج منه، فقد كان اختيار شريك الحياة من حق الزوجة وليس من حق الزوج، وكانت الزوجة إذا رغبت في الافتراق، تَركَت بيت الزوجية ولجأت إلى بيت رئيس القبلية، وكان من حَقِّها عند ذلك أن تختار من تشاء ليكون زوجًا لها، وكان مهرها هو عدة خيول وعدد من الأبقار وعدد من فَراوي الرأس قطعها المرشَّح للزواج في مَعاركه ضد الأعداء، وكان الهندي إذا قطع عهدًا على نفسه نفَّذَه، وإذا قاتَل لا يتوقف عن القتال إلا إذا قَتل عدوه أو مات، وكان إذا اختلف مع قبيلته لأي سبب من الأسباب، لا يلجأ إلى أعداء قبيلته على الإطلاق، ولكنه يعيش وحيدًا في البراري حتى يتم الصُّلح مع قبيلته فيعود أدراجه كما كان، وكانت للهنود فنون راقية، ولا تزال بعض رسومهم باقية كما هي داخل الكهوف المَنحوتة في الجبال، وكانوا يَتزيَّنون بالريش، ويعشقون الألوان الزاهية، ويُؤمنون بالسِّحر، ويَتداوَون بالأعشاب البرية، وكانوا أول من اكتشف الطباق ودخَّنوه، وكانوا يعيشون كما قال أحد زعمائهم «في غاية السعادة والحب حتى جاء هؤلاء الوافدون من وراء البحر فجعلوا من الحياة مِحْنة وأحالوها إلى جحيم» والمأساة أن هذا الذي حدث للهنود من جانب البِيض لم يكن له مُبرِّر ولا أي سبب، اللهم إلا جَشع البِيض وطبيعتهم العدوانية واحتقارهم الشديد لغيرهم من البَشر!
من يريد أن يفهم لُغز أمريكا، عليه أن يعود قليلًا إلى الوراء، إلى اللحظة التي رسَتْ فيها أول سفينة على الشاطئ الأمريكي، قادمة من الشاطئ الآخَر للأطلنطي … لحظتها كانت أمريكا مجرَّد كيان جغرافي، قارَّة مترامية الأطراف، مترامية السكون، هادئة وعذراء، غنية إلى أقصى حد، وممتلئة إلى حد الشبع، تسكنها قبائل شديدة الشَّبه بقبائل العرب في الجاهلية، قبائل وكل قبيلة لها زعيم، وكل زعيم له شارة، وهم يتكلمون لغة واحدة ولهجات شَتى، ولهم فُنونُهم وأدبهم، ويُزاولون السِّحر، ويُمارسون الطب، ولهم عادات وتقاليد ويُقدِّسون الشجاعة، ويتقبلون الموت برحابة صدر، ويُحبون الورد والزهور، ويعيشون في أمان واطمئنان، وربما توهَّمُوا أنهم وحْدَهم على كوكب الأرض، وأنه لا شيء فيما وراء البحر … إلا البحر وأمواجه وأعماقه وسره الدفين! هكذا كانت قارَّة أمريكا لحظة رسَت أول سفينة قادمة من الشاطئ الآخر تحمل على ظهرها عُصبة من حُثالة قارَّة أوروبا، مهاجِرين بحثًا عن الرِّزق، وهاربِين من أحكام قضائية، ومُجرمِين خارجِين على القانون، ومُغامرِين سَئِموا الحياة في الأرض القديمة التي أَجدبَت، وجاءوا يَضربون في المجهول عن حياة أفضل، ومستقبل مضمون! ومع هؤلاء كان هناك عدد من المُبشِّرين جاءوا يصرخون في البَرِّية: أَعِدُّوا طريق الرَّب، مَهِّدوا سُبُله مستقيمة! وكان الجميع على ظهر السفينة مُسلَّحين من الرأس حتى أخمص القدم؛ خَناجر، ومطاوٍ، وبنادق، ومُسَدَّسات، ومَدافع، حتى أصحاب القداسة كانوا مُسلَّحين بالأناجيل والصُّلبان والمُسدسات. ولِمَ لا؟ وقد جاءوا في مهمة في سبيل الرَّب، في سبيل الرَّب سيفعلون أي شيء وكل شيء، وهم بالتأكيد فعلوا ذلك، لم يَتوانَوا ولم يَتهاوَنوا، وعلى المعابد البدائية للهنود الحمر أقاموا كنائسهم، وعلى أشلاء الملايين من سكان البلاد الأصليين شيَّدوا أديرتهم، واختلطَت أنغام الأرغُن وتراتيل صلاة عيد القُدَّاس بصياح الجَرحى من الهنود الحمر، وأنَّات الذين حصدَهم الرصاص بالألوف، وداست عليهم حوافر الخيل بلا رحمة! المهم أنه لحظة رَستْ السفينة أوَّل مرة على الشاطئ الأمريكي لم يكن على ظهرها من حضارة العالَم القديم إلا المُسَدَّس والإنجيل. ومن هذه اللحظة وإلى الأبد ستلعب كل أداة منهما دورًا مهمًّا ومؤثِّرًا في حياة أمريكا! وسيكون المُسَدَّس في المقدِّمة والإنجيل بعد ذلك، ولكن كل منهما سيكمل مهمة الآخر، وسيكون التعاون بينهما على أكمل وجه!
تلك، كانت البداية، ولكن النهاية جاءت أفضل مما كان يرجو هؤلاء الرواد، تم ذَبْح الهنود الحمر عن بكرة أبيهم، حتى الذين ألقَوا السلاح وعَقَدوا المعاهَدات معهم، انْقضُّوا عليهم وذبحوهم بعد ذلك، فلم يكن هؤلاء المُهاجرون البِيض يَنشُدون السلام، ولكنهم كانوا يريدون الأرض! وتحرَّك البِيض على ثلاثة مَحاور لتحقيق هذا الهدف، إبادة الذين هَبُّوا يدافعون عن أرضهم، وتحييد الذين لم يَفهَموا حقيقة الأمر، واستمالة الذين في قلوبهم مرض! استمالوهم بالويسكي وبالسلاح، وهو سلاح استُخْدِم أغلبه في إبادة هنود آخَرين، مُستغلِّين حُب الهنود للزعامة، وسعيهم للرئاسة، وشَغفهم الشديد بقيادة الآخَرِين! ولم يكن هناك في ذلك الوقت رأي عام عالَمي ولا صحافة مُؤثِّرة، ولا راديو ينقل الأخبار، ولا أُمم مُتَّحِدة، أو حتى متنافرة. كما أنه لم يكن هناك قانون يحكم العلاقة بين أصحاب الأرض وهؤلاء الذين جاءوا من وراء البحر. كان كل منهم قاتلًا أو مقتولًا، وكان قَتْل البني آدم لا يُكلِّف أكثر من رصاصة، وكانت الرصاصة لا تُكلِّف أكثر من خمسة سنتات؛ ولذلك كان البِيض يَتسلَّون أحيانًا بقتل قبيلة صغيرة، وأحيانًا كانوا يَتراهنون على قَتْل عائلة هندية ترعَى على شاطئ النهر! وكان القتل أداة لتبديد السأم، ووسيلة لشغل أوقات الفراغ!
وهكذا، ومِن خلال أكبر جريمة عرَفَها تاريخ الإنسان، قامت إمبراطورية أمريكا ولا تزال، إمبراطورية العنف والعافية، العَضَل والقبضة، القوة والعنفوان! وبدلًا من السهول امتدت الشوارع، وَمَحل الجبال قامَت ناطحات السحاب، وبدلًا عن الحصان انطلقَت السيارات من كل نوع! وفي أوَّل أيام الاستقرار كان البِيض يختارون أشرس المُجرِمين لتولِّي منصب العمدة، وبعض هؤلاء كان يجمع بين العُمدية والقضاء! وفي تاريخ أمريكا صفحات مُطوَّلة عن ثورات هَبَّت ضِد عُمَد، وضِد قُضاة وانتهَت بشَنْقِهم على أغصان الشجر! فهذا الشعب الذي احترف القتل لم يكن من السهل قيادُه إلا بواسطة قتلة لهم تاريخ عريق في الإجرام! ولقد توارثت الدولة الجديدة الرُّوح نفسها، وشُرطة أمريكا هي أغرب شُرطة في العالَم، وسَحْب المُسَدَّس أسهل من سَحْب سيجارة، وقَتْل مُواطن في الطريق أهون من قَتل ذبابة! ولذلك يُنصَح السائح والغريب أن يَستسلم على الفور إذا أمَره شُرطي بذلك، وألَّا يحاول أن يدس يده في جيبه لاستخراج منديل أو علبة سجائر؛ لأن وضْع اليد في الجيب معناه في السلوك الأمريكي أنَّك تشرع في سحب المُسَدَّس، وعندئذٍ يكون من حق الشرطي إطلاق النار عليك … ولا تَثريب عليه! ولذلك — أيضًا — ستجد في جيب كل مواطن أمريكي سلاحًا يُدافع به عن نفسه، ويعتدي به على الآخَرين، حتى الفقراء منهم يحملون شفرات حلاقة من النوع الذي كان يستعمله الحلَّاقون أيام زمان! وفي كل بيت ستجد مِدفعًا رشاشًا على الأقل، ومُسَدَّسًا سريع الطلقات، وبندقية آلية، حتى مِظلَّات السيدات تجد لها سُنونًا مدينة تخترق قلب الأبعد إذا لَزِم الأمر! ولهذا السبب لن تعثر بسهولة على مُتسوِّل في أمريكا، ولماذا يَتسولَّون؟ إذا كان العاطل يستطيع أن يأكل عيشه بمُسَدَّس، والضائع يستطيع أن يشق طريقه في الحياة بخنجر، كما أن المِدفَع الرَّشاش هو خير وسيلة للسيطرة على الجماهير، والعصابات هي طريقك إلى مجلس النُّوَّاب، ومجلس الشيوخ، ورئاسة الدولة، وهي أيضًا الوسيلة الوحيدة للوصول إلى قيادة النقابات العمالية، والنوادي الرياضية؛ ولذلك فكل مدينة في الولايات المُتَّحِدة هي غابة من الأسمنت المُسلَّح، وهي غابة أكثر خطرًا من غابات أفريقيا، وأشد شراسة من أحراش الأمازون!
إن الإمبراطورية التي قامت على القتل، ستظل تمارِس القتل حتى النهاية ولن تعرف من أين يأتيك الموت، من العصابات أم من الشرطة؟ من الشعب أم من الحكومة؟ فالكل قاتِل والكل مجرم. وعساكر الشرطة يُشاهَدون في المطاعم يتناولون طعامهم ومُسَدَّساتهم على الطاولة، والمُجرم يقضم الساندويتش بيساره ويمينه في جيب معطفه استعدادًا للطوارئ! وسائق التاكسي مُسَدَّسه في جيب بنطلونه، والساقي في البار مُسَدَّسه في درج أمامه مَحشُو مُستعِد للإطلاق في أي لحظة، ورَبَّة البيت تَسحب مُسَدَّسها من تحت الوسادة إذا دق جرس الباب بعد التاسعة مساء! وينصحك مدير الفندق الذي تنزل فيه بعدم الخروج وحْدَك ليلًا، وينصحك بعدم الوقوف على باب الفندق بعد الحادية عشرة مساء! وينصحك الجميع بعدم استخدام مترو الأنفاق إلا إذا كنت ضمن شلة، إنه الخوف يحكم المدينة ويحكم الولاية ويحكم الإمبراطورية كلها. وهم يخافون القتل ويُمجِّدون القتلى. وكما كان حسن الإمام مخرج الروائع يحتفل بالراقصات ويكتب تاريخ مصر من خلال صالة بديعة. كذلك فَعلَت هوليود، فهي تكتب تاريخ أمريكا من خلال الجريمة، وتُؤرِّخ للولايات المُتَّحِدة من خلال قصص حياة أشهر المجرمين! وهم مجرمون لا كمثلهم مُجرمون في أي مكان. في إنجلترا مثلًا يحتفلون بروبين هود، كان مجرمًا يحب الفقراء ويعطف على الضعفاء، وكان يسرق من الأغنياء ليعطي المُعدمين! وأرسين لوبين في فرنسا كان لِصًّا شريفًا يسرق الأثرياء ليعطي الفلاحين. ولكن دلنجر في أمريكا كان شيئًا آخَر مختلفًا. لصًّا حقيرًا يتحاوَر بالمُسَدَّسات، ويتفاهم بالمِدفَع الرَّشَّاش، وهو يقتل الذين يقفون في وجهه والذين يقفون من ورائه! وهو لا يرحم الذين يعملون ضده والذين يعملون معه، وهو قتل أعتى خصومه وأخلص أصدقائه، وهو أخذ من الجميع ولم يُعطِ أحدًا شيئًا، وسَلَّمَته للموت البنتُ التي كانت تحبه، عندما اكتشفَت أنه لا يحب أحدًا ولا يتعلق بأحد، وأنه مجرم هوايته القتل ومِهنتُه السرقة! وجوني أيجر مُجرم عتيد في حياة أمريكا كان سائق تاكسي في النهار وملكًا من ملوك الجريمة في الليل، وكان يُشرف على إمبراطورية من كازينوهات القمار، وبيوت الدعارة، وشبكات لتزييف العُملة، ومافيا لفَرض الإتاوات! وبلغ من فرط وحْشِيَّته أن هجَره الكل وتركه الجميع، ولم يَبقَ معه إلا صديق واحد كان يبكي الليل كله وينزوي في أحد الأركان النهار كله. وعندما صرخ جوني أيجر في وجهه لماذا لا تذهب أنتَ الآخَر؟ رد وهو يبكي لأنني أجبن من أن أذهب. وأضعف من أن أعتمد على نفسي، وليس أحب على قلبي من أن أراك يومًا جُثَّة مُمزَّقة بفعل الرصاص. ولم يتركه جوني يستمر، أخرج مُسَدَّسه وأفرغه في دماغه، وفَقَد آخِر صديق! وهذه هي عينة من مُجرمِي أمريكا، مُجرمون بلا طعم وبلا لون، مُجرمون فقط، مُجرمون لا أكثر ولا أقل. وإذا كان الإناء ينضح بما فيه. فالمجرم الأمريكي هو نتاج المجتمع الأمريكي، وهو نموذج الشخص الأمريكي، هذا الذي انحدر من سلالة المهاجرين الأوائل، الذين ذَبَحوا قبائل بأَسْرهم ولم يَخفق لهم قَلْب، وأبادوا شعبًا بأَسْره ولم يَرمش لهم جَفن. وهؤلاء هم الذين ارتكبوا مَذبحة هيروشيما دون أي قَلق! وارتكبوا مَذابح فيتنام دون أي عذاب، وقَتلوا الملايين في كوريا، وفي شيلي، وفي جواتيمالا، وفي بوليفيا، وفي الكونغو دون أي إحساس. فالمهم ليست الخسائر، المهم النتائج، والأمريكي الحقيقي يقول لك في خيلاء: لولا إبادة الهنود الحمر لما كانت أمريكا، ولولا أمريكا لما كانت حضارة القرن العشرين! لقد خُضْنا في بحر الدماء لكي نصل إلى القمر وإلى الكواكب. وما قيمة الهنود الحمر أمام تفتيت الذرة وإنتاج مَرْكَبات الفضاء؟
هذه هي النفسية الأمريكية وهذا هو المزاج الأمريكي، وهذا هو التاريخ الأمريكي بلا ديكور ولا تزويق! سلسلة متصلة من الجرائم، وهي جرائم أدَّت إلى الخير في النهاية من وجهة النظر الأمريكية؛ ولذلك … عبثًا تحاول استِدْرار عطْف أمريكا على شعب فلسطين، وعبثًا تحاول دفْع أمريكا إلى الوقوف في صف قضية السُّود في جنوب أفريقيا. فأمريكا ترى في إسرائيل شبابها الأوَّل، إنها كالكاتب العظيم الذي يصادف كاتبًا شابًّا يُذكِّره بشبابه، فيُسارع إلى تقديمه وتدعيمه واحتضانه. وإذا كانت إسرائيل قد أبادَت نِصف الشعب الفلسطيني فإنَّ جريمتها هي نِصف جريمة أمريكا، والأمريكي عندما تُناقِشه في هذا الأمر، يظن أنك أَبْلَه أو ربما مَعتوه. وماذا في إبادة نصف شعب؟! إذا كان الثمن هو قيام إسرائيل قمة التَّمدُّن في صحراء القرون الوسطى، وبيداء الجهالة والاستبداد؟! إن المسألة ليست شفقة وليست إنسانية، إنه منطق القوة، والأمريكي مع القوي وهو مع الغالب؛ لأن التاريخ نفسه لا يقف إلى جوار الضعفاء والمهزومين. المهم هو النوع الإنساني، ليس مهمًّا مَن الذي ذهب؟ ومن الذي يجيء؟ بل المهم مَن الموجود الآن؟ وماذا يفعل؟ ولذلك لن تجد الحكومة الأمريكية صعوبات في إقناع الرأي العام الأمريكي بضرورة إبادة شعب العرب لأنهم يحتكرون النِّفط ويُهدِّدون مستقبل أمريكا ووضعها الممتاز! ولن تجد صعوبة في إقناع الرأي العام بضرورة إبادة الروس؛ لأنهم العقبة في طريق أمريكا لفرض سيطرتها على العالَم وإحكام قبضتها على الكون! فالأمريكي مُستعد لأن يسمع كلمة «إبادة» دون أن ينبض فيه عِرق. المهم أن تكون «الإبادة» مضمونة، وطريقها سهلًا، ومُهم أكثر أن تتم الإبادة دون خسائر جسيمة للجانب الأمريكي. وإذا كان جَدُّ الأمريكي الأول قد أباد صِنف الأباتشي، والكومانشي، وجلس في أرضهم يصطاد السَّمك ويُربِّي الدجاج. فليس صعبًا أن تُقنِع الحفيد بإبادة جنس العرب وجنس الأفريكان، خصوصًا إذا أكَّدَت له أن في هذه الإبادة مَصلحة لتطوير المدنية وفائدة لعملية الارتقاء بالحياة!
غريبة، أليس كذلك؟ ولكنها أمريكا القاتلة. أمريكا التي ذبحت شعبًا بأكمله. وداست على حضارة زاهرة، وأذابت جنسًا من أجناس البشر، وأقامت حضارتها على أشلاء وعِظام وجماجم عَشرات الملايين، ثم اعْتُبِر الأمر كله بعد ذلك طبيعيًّا، وانطوت صفحة الجريمة وكأنها لم تكن، ثم امتد التزييف بعد ذلك إلى سِجلَّات التاريخ، وتَحوَّلت الجريمة إلى عملية جراحية كانت ضرورية من أَجْل نمو المدنية وتطوير الحضارة! وكما المريب يكاد يقول خذوني ستَجد على أبواب أمريكا الآن تمثالًا يحمل شعلة مُوقَدة في يده، ويُسمُّونه تمثال الحرية! الحرية؟! ولم أجد معنًى لهذا التمثال بعد شهر كامل قضيتُه في أمريكا إلا أن تكون حرية المهاجِرين من خَلْف البحر في إبادة سكَّان الأرض الأصليين! وبهذا المعنى فقط انطلقوا، وتمتَّعوا بِحريَّتهم على أكمل وجه! ويا أيَّتُها الحرية، كم من الجرائم تُرتَكب باسمك!