الحضارة والصياعَة
وكانت معركة نهر البرعم هي صحوة الموت بالنِّسبة للهنود الحمر، فلم يحدث أن قامت لهم قائمة بعد ذلك، واشتدت حملات البِيض ضدهم حتى تمكَّنُوا أخيرًا من حصارهم في مُستنقَعات فلوريدا، وبعض الهنود الذين تركوهم يعيشون في أريزونا وأجبروهم على ارتداء ملابس البِيض وقُبَّعاتهم، وظَلُّوا يَتسكَّعون بِلا وجهة وبِلا عمل، وسَخِر أحدهم من حاله فقال: «لقد ألبسونا ملابسهم، ومَنحُونا إلِهَهم لنعبده، وأعطَوْنا كتابهم المقدَّس لنقرأه، وحرَّموا علينا الزراعة والصيد، وفرَضوا علينا العيش على إعانة الحكومة، ثم قالوا لنا: الآن تَحضَّرْتم، ولم أكن أعلم أن الحضارة والصِّيَاعة وجهان لعملة واحدة!»
لقد انتهَت مأساة الهنود الآن لسبب بسيط للغاية، وهو أن الهنود انتهوا، وستفشل الآن في العثور على هندي أحمر واحد في أنحاء الولايات المتحدة؛ لأنهم يحاولون إخفاء أصلهم. ولكن العبد لله عثر على أحدهم في طائرة عملاقة أقَلَّتْنِي من نيويورك إلى لوس أنجلوس، قدَّم لي نفسه في البداية على أنه مكسيكي الأصل، وخلال الحديث عرفتُ منه أنه مهندس رَي وأنه يعمل في شركة كبرى تتولَّى تحويل مجاري الأنهار وإقامة السدود عليها، وبعد ثلاث ساعات من الطيران فتح الرجل قلبه للعبد لله عندما علم أنني من مصر، ودهشتُ عندما علمتُ أنه من الهنود الحمر، وأن والده تُوفِّي منذ حوالي ثلاثين عامًا وهو يرتدي زِيَّهم. كان المهندس الهندي الذي يبلغ الخمسين من العمر من قبائل الشايان في يوم من الأيام، ونَجا أبوه من معارك الإبادة؛ لأنه كان طفلًا، ولكنه ظل إلى آخر يوم من عمره يذكر الأيام السُّوداء ويحفظ تفاصيلها، وازدادت دهشتي عندما علمت أن المهندس الهندي مُعجَب بعبد الناصر، وبالزعيم كاسترو، وقال لي المهندس الهندي إنه يُعاني الاضطهاد حتى الآن، ولكنه اضطهاد على الطريقة الأمريكية، تشعر به ولا تراه، إنهم يسمحون لنا بالتقدُّم للوظائف الحكومية، وندخل الامتحان وننجح بدرجات كبيرة، ولكن من حق الحكومة بعد ذلك اختيار الموظَّفِين من بين الناجحين، ولأن حظوظنا سيئة، فلم يحدث أن وقع اختيار الحكومة على أحد من الهنود الحمر الناجحين. لذلك سترى في الحكومة الأمريكية موظَّفِين زنوجًا وموظَّفِين من أصل ياباني أو صيني أو يوناني أو إيطالي، ولكنك لن تعثر على موظف واحد أصله من الهنود الحمر. وقال لي المهندس الهندي، ونحن نطير فوق ولاية كاليفورنيا إنهم يُنتِجون كل عام أفلامًا عن الهنود الحمر يحشونها بالأكاذيب والمُغالطات، ويُنتِجون مسلسلات تليفزيونية أكثر لتلويث سُمعة الهنود الحمر، وتلويث شَرفهم والحط من كرامتهم، وفي المقابل يَمنعون إنتاج أي شيء يُنصِف الهنود الحمر أو يشرح قضيتهم بعدالة، ورفضوا نَشْر كُتب عن فنون الهنود ولغتهم، لقد سَمَّموا عقول أفراد الشعب الأمريكي، وسمَّموا عقول البشر جميعًا، بما أنتجوه من أفلام ومسلسلات، وهم يريدون تبرير جريمتهم ضد الهنود على أساس أنهم كانوا مجرَّد حيوانات بلا لُغة ولا فَن ولا تقاليد من أي نوع، فالهندي في أفلامهم همجي، بلا شرف، وبلا أي أخلاق، وهو في أفلامهم يغتصب النساء، ويقتل الأطفال، ويقطع طريق البِيض المُسالِمين، ويجز رقابهم بلا رحمة. والحقيقة أن كل ما نَسبوه للهنود في أفلامهم كان من صنعهم، والذي ساعد على إبادة الهنود أنهم احترموا تقاليدهم، واحترموا قِيَمهم، ولو أنهم بادَلوا البِيض وحشية بوحشية وانحطاطًا بانحطاط، فربَّما نَجَوا من المصير الأسود، ولكنهم رغم كل الظروف لم يَغتصبوا امرأة بيضاء قط، بينما لم تَنجُ امرأة هندية وقعَت في أيدي البِيض من الاغتصاب. ولم يسكن المهندس الهندي إلا عندما هبطَت الطائرة في مطار لوس أنجلوس، والغريب أنه لم يترك لي اسمه أو عنوانه، باعتبار أن الثرثرة في الطائرة إذا كانت ضرورية فالحذر أوجب! الهندي الآخر الذي التقيتُ به كان يرتدي بالفعل ملابس الهنود الحمر التقليدية. وكان اللقاء في بغداد، وفي مؤتمر عالمي لمناصرة العراق احتجاجًا على ضرب إسرائيل للمفاعل النووي وقد حضر المؤتمر العالَمي وفودٌ من كل مكان. وكان من بينها وفد الهنود الحمر. وأقول الحق، لقد ركبني هَمٌّ شديد بعد هذا اللقاء. روى الرجل مأساة الهنود الحمر بالتفصيل كان للمأساة أسباب كثيرة، من بينها وحشية البِيض وإصرارهم على إبادة جنس الهنود.