تجارة البني آدمين
قصة السُّود في أمريكا أسودُ من وجوههم، ومسيرتهم أصعب من دخول الجمل في عين الإبرة، وحكايتهم تحتاج إلى مَوَّال ولا مَوَّال أدهم الشرقاوي، ومأساتهم في حاجة إلى شاعرة كالخنساء لتبكي عليهم! ومأساة السُّود في أمريكا هي مجرَّد فرع من المأساة الأم، عندما أصبحَت تجارة الرقيق كالنفط هذه الأيام، مصدر ثروة ومصدر قوة، ولقد بدأت التجارة القذرة ذات يوم عندما خَطفَت سفينة برتغالية بعض أهالي ساحل الذهب (غانا) وعَرَضوهم للبيع في البرتغال. واندهش الناس في أوروبا لهذا البنيان البشري العجيب، وهذا الاحتمال الذي بلا حدود، وهذا الصبر على الشقاء بلا نهاية! وسُرعان ما تَدفَّقت المراكب على الشاطئ الأفريقي. تخطف وتبيع، وبدأت شركات العَبيد تظهر هنا وهناك، شركات ولها علامات تجارية، ومؤسَّسات ولها مجالس إدارة، وانتظرت الإعلانات تدعو وترغب الناس في البضاعة الجديدة، وانتشر السُّود في المَزارع وفي المَخادِع، وكما ربح التُّجَّار؛ كسَب النسوانُ البِيض رجالًا من نوع آخر! وإذا كانت أوروبا قد غرقَت حتى أذنيها في تجارة العبيد، فقد بَقيَت أمريكا لفترة من الوقت بعيدة عنها، كان المهاجِرون الجُدد في الأرض الجديدة مُنهمِكين في إبادة جنس الهنود الحمر، فلما استقَرُّوا بدَءُوا البحث عن أيدٍ عاملة رخيصة. وذات يوم ربيعي من العام ١٦١٩م رسَت سفينة هولندية في ميناء «بليموث» وعرَض قبطان الباخرة على المُستعمِرين في «جيمستون» صفقة رابحة. إذ عرض عليهم شراء عشرين زِنجيًّا كانوا معه على ظهر السفينة كعبيد مقابِل كميات من المُؤَن وبعض زجاجات الخمر وكَمية مماثلة من التَّبْغ، وكانت هذه الصفقة هي أول عهد الولايات المتحدة بالعبيد! وسرعان ما نَشطَت تجارة العبيد بعد ذلك بعدة أعوام، وكان مركزها في البداية ولاية نيو إنجلاند، ولم تلبث أن انتشرت التجارة وراجَت، وأصبحت من أهم مصادر الثروة في ولاية جورجيا! كانت تجارة العبيد قد احتلَّت مكانًا مرموقًا في العالَم، وتحوَّل ميناء ليفربول الإنجليزي إلى بورصة للعبيد، ودخلت أشهر الشخصيات الإنجليزية في سوق العبيد، لدرجة أن معظم ثروات اللوردات الإنجليز كانت نِتاج هذه التجارة المُخجِلة!
وعندما قفز عدد الزنوج العبيد إلى الملايين، وُضِعَت القوانين لتنظيم الرِّق، واختلفَت هذه القوانين من ولاية لأخرى، فهناك قانون يُحرِّم على العبد اقتناء الطيور الأليفة أو تَملُّك الأرض والحيوانات، وقانون آخر يُحدِّد كميات الطعام التي يجب على السيد تقديمها للعبد، وقانون ثالث يُنظِّم العقوبة التي ينبغي فَرضُها والحدود المسموح بها للقسوة عليه، ولكن القوانين اتفقت على أن قَتْل العبد مجرَّد مُخالَفة، وشهادة العبد لا تُقبَل ضد السيد الأبيض أمام المحاكم!