ميادين القتال والغرام
ولقد كان بين العبيد الأوائل الذين وصلوا إلى الشاطئ الأمريكي بعض المسلمين وكان من بينهم — أيضًا — أعداد من الوَثَنيِّين، ولكن هؤلاء جميعًا حُرِموا من مُمارَسة شعائرهم الدينية، وأُجبِروا على اعتناق الدين المسيحي، وبالرغم من ذلك، لم يُسمَح لهؤلاء العبيد بتشييد كنائسهم إلا بعد مائتي عام من وصولهم، وقامت أول كنيسة زنجية عام ١٨١٦م. ولم يتنفَّس العبيد إلا خلال حرب الاستقلال؛ فقد حاربوا على الجبهتين، بعضهم مع الإنجليز وبعضهم مع الأمريكان!
وعندما نَشبت حرب تحرير العبيد لم يكن الهدف تحرير العبيد في الحقيقة، ولكن الهدف كان قيام «الولايات المُتَّحِدة» وبالرغم من انتصار الشمال على الجنوب، ومنح الحرية للزنوج، إلا أنهم لم يستمتعوا بحريتهم إلا في القرن العشرين، وبعد أن خاضُوا الحربين العالَميتين وتأكَّدَت هذه الحرية بعد الحرب العالَمية الأخيرة! وكانت الحرب العالَمية الأولى هي الفرصة التي انتهزها الزنوج لإثبات حُريَّتهم والكشف عن مواهبهم. وبسببها أعيد توزيع الزنوج على كافة الولايات المُتَّحِدة بعد أن كانوا يَتكدَّسون في الجنوب. والسَّبب أنه عندما قامت الحرب توقَّف سير المهاجرين إلى الأرض الجديدة، وعاد مئات الألوف من أمريكا إلى بلادهم الأصلية لتأدية الخدمة العسكرية، وعندما خَلَت المصانع من العمال، اتَّجَه أصحاب الأعمال إلى العامل الأسود، وتم شحن العمال السُّود من الجنوب إلى الشمال بأعداد ضخمة، وسرعان ما تدفَّق هؤلاء العمال مِن مناجم الفحم ومزارع القطن، ومن المطاعم والمطابخ، إلى مدن عظيمة؛ مثل: سنسناتي، وديترويت، وشيكاغو، ونيويورك. وبدأ تأسيس حي هارلم أعظم أحياء الزنوج في أمريكا أكثر حَيٍّ يتحدث عنه العالَم! وفي نيويورك بالذات حصل الزنوج على مُمتلَكات لأول مرة تُقدَّر ببلايين الدولارات، وهَبَّت أحياء البِيض المجاوِرة تُقاوِم ظهور السُّود، وظهرت المشاكل العُمَّالية، وزادت الجرائم وتضاعفَت أعمال الرذيلة، وبِسَبب الحرب أيضًا بلغ عدد الجنود السُّود الذين أُرسِلوا فيما وراء المحيط إلى فرنسا ۲۰ ألف جندي مُلوَّن، ونصحت فرنسا بألا تعامل السُّود معامَلة البِيض؛ لأن هذا العمل ليس من الحكمة، كما أنه ليس من مصلحة أحد! ولكن بَنات فرنسا المُتحرِّرات الخالِيَات من عُقْدة اللون لم يَعبأْن كثيرًا بتعليمات قيادة الحلفاء. عرف الزنوج لأول مرة طعم اللحم الأبيض … واستطعموه! وعرف الزِّنْجي كيف يكون العبد سيدًا في ميدان القتال وسيدًا في ميدان الغرام أيضًا! وحدثَت عِدَّة حوادث في جبهات القتال، فقد أطلق الجنود الزُّنوج النار على بعض الضُّبَّاط البِيض لإصرار هؤلاء على معامَلة الجنود السُّود معامَلة الحيوانات، بينما كان رصاص الأعداء لم يُفرِّق بين الأبيض والأسود، كما أن الشجاعة لم تكن دائمًا في صف الجنود البِيض! وبالرغم من كل شيء فإن فِرَقًا كاملة من الزنوج بالإضافة إلى بعض من الضباط والجنود السُّود أُدْرِجت أسماؤهم لمَنْحِهم صليب الحرب، وآخرون أُدرِجَت أسماؤهم لمنحهم وسام الشَّرف، وصليب الخدمة الممتازة! ولكن هؤلاء الأبطال السُّود ندموا بشدة عندما عادوا إلى أرض الوطن؛ فقد اسْتُقْبِلوا من الجهات الرسمية بلا مبالاة وبدون ترحيب؛ وحاوَلوا من جديد فَرْض القيود عليهم ضاربِين بعُرْض الحائط ما أفرزته الحرب العالَمية من نتائج جديدة!
ولكن غلاة المُتعصِّبين من البِيض كانوا يعلمون أن الحرب العالَمية الأولى قد أفرزَت نوعًا جديدًا من السُّود، فألَّفُوا في الخفاء جمعية لاضطهاد السُّود، وهي جمعية «كوكلوكس كلان» وقد أنشئت في عام ١٩١٥م؛ أي في نفس الوقت الذي كان فيه السُّود يُعرِّضون صدورهم لطلقات النار في ميدان القتال! وشَرعَت الجمعية في العمل على الفور، وارتكبت أفظع أنواع الجرائم ضد السُّود، وكان الزنوج يُطارَدون كالحيوانات، ويُطلَق عليهم الرصاص، ويُشْنَقون، ويحرقون بدون أدنى شفقة! ووقفَت المحاكم في صَف المجرمين البِيض ضد الزنوج! ووقف محامٍ «أبيض» أمام إحدى المحاكم في شيكاغو يترافع عن المُتهمِين بقتل عشرات من الرجال السُّود يقول: «إنهم سلالة أقل نشأة ولا يحق لهم التَّمتُّع بالاحترام الذي يجب أن يتمتع به الرجل الأبيض!» وفي هذه السنوات الكالحة السُّوداء قام في أمريكا أول تنظيم للزنوج يدعو إلى العودة إلى أفريقيا الوطن الأم. وانتشرت بين السُّود الأغاني التي تبكي أفريقيا وتَتغنَّى بأيام الغابة العذراء، وظهر إلى الوجود أول تنظيم للمُسلمين السُّود من هؤلاء الذين كانوا يَنتَمون في الأصل إلى دين الإسلام، وسرعان ما انضمت إليهم جماعات أخرى كانوا قد اعتنقوا دين المسيح، باعتبار أن مُضطهديهم كانوا مَسيحيين وينتمون إلى نفس الكنيسة التي ينتمي إليها السُّود! وظهر الأب الأسود يصرخ بأعلى الصوت ضد المجرمين البِيض، وصدَرت أشعار جيمس ولدن، وألف مستر جونسون «مانهاتن السُّوداء»، وقام ألن لوك بِنَشر ديوانه «الزِّنْجي الجديد» وفي المسرح اضطلع شارلز جلين بدور البطولة في مسرحية «الإمبراطور جونز»، وقام بول روبنسون بالدور الأول في مسرحية «جميع ملائكة الله لها أجنحة»!
وعندما هبَّت عواصف الأزمة الاقتصادية في بداية الثلاثينيات، تَشرَّد عدة ملايين من الزنوج، وبينما كانت الحكومة تُغدِق على العاطلين البِيض تَركَت العاطلين السُّود في أسوأ حال! ثم جاءت الحرب العالَمية الثانية وتغيَّر كل شيء، ولأول مرة صار هناك قباطنة من السُّود في سلاح البحرية، وتطوَّعَت أربعة آلاف سيدة زنجية في الجيش النسائي، وكذلك تطوعت الألوف من الفتيات في فِرَق الترفيه عن الجنود! واشترك بوجه عام أكثر من نصف مليون زنجي في الخدمة العسكرية فيما وراء البحار!
وفي خلال سنوات الحرب العالَمية الأخيرة انضم أكثر من مليون زنجي إلى الوظائف المدنية، وفي خلال أربع سنوات حقَّق الزنوج مكاسب أضعاف أضعاف ما حقَّقوه خلال المائة عام الماضية! وما إن حل منتصف القرن العشرين حتى كان الزنوج الأمريكيون قد حقَّقُوا مكاسب عديدة ولأول مرة في تاريخ الزنوج، كان عدد الزنوج الذين يعيشون في المدن، أكثر من عدد المقيمين في الريف، وأصبح هناك مليون زنجي على الأقل … أعضاء في النقابات العُمَّالية! كما كان هناك ألوف من الخريجين الذين مُنِحوا درجات صفوف القوات المسلحة، ومنح الزِّنْجي حق الانتخابات والترشيح — أيضًا — لعضوية المجالس النيابية.
ولكن هل صحيح انتهت التفرقة العنصرية داخل أمريكا اليوم؟ إن الرجل الزِّنْجي صار مواطنًا أمريكيًّا من الدرجة الأولى؟ الجواب بنعم، بالنِّسبة للقوانين المكتوبة والسلوك الرسمي. ولكن الجواب بلا بالنِّسبة لما يدور بين الكواليس وفي الخفاء ومن وراء ظَهْر القانون الأمريكي! وقد يتقدَّم اليوم مائة زنجي لوظيفة ورجل أبيض واحد، ولكن الاختيار سيقع على الرجل الأبيض، وسيقال لك إنه أثبت في الامتحان الشفوي أنه الوحيد الصالح للوظيفة! والغالبية العظمى من نزلاء السجون من المواطنين السُّود، ليس لأنهم مجرمون بطبعهم، ولكن لأن جميع الأبواب سُدَّت في وجوههم، فلم يعد هناك إلا باب الجريمة! وجميع الأعمال المُنحطَّة يقوم بها السُّود الآن، والصُّيَّاع والمتشرِّدون والمتسوِّلون والغالبية العظمى من البغايا والعاهرات كلهم من الزنوج، والعالَم السفلي كله يحكمه سود، وتجارة المُخدِّرات وحبوب الهلوسة يسيطر عليها السُّود، وجميع الألعاب الرياضية للمحترفين يتحكم فيها السُّود، والشارع الأمريكي هو شارع الرجل الأسود، ولذلك يخاف الرجل الأبيض من الشارع ويُحذِّر الآخَرِين من عواقب السَّير فيه، ولكن تجربة العبد لله أثبتت أنها خرافة، وأن الخوف هو في داخل الرجل الأبيض، وأن السُّود بَشَر كالآخرين بشرط ألا تبدو متعجرفًا ولا تنظر إليهم من طرف العين، ولا تُصافحهم بأطراف الأصابع. أنا زرتُ حي هارلم مثلًا، وجلستُ مع السُّود في حاناتِهم، وعندما عرَفوا أنني أفريقي من مصر انهالت الدعوات على العبد لله، وسلام مربع للأفريقي الغلبان، ودُعِيتُ إلى العشاء مع أسرة زنجية في حي السُّود في مدينة «سنسناتي» في أوهايو، ودعتني بنت سوداء إلى العشاء في الحي الصيني في نيويورك، وسهرتُ الليل معها أجوب شوارع نيويورك ولم يَتعرَّض لنا إنسان بسوء!
لقد نهض الرجل الأسود أخيرًا لينتقم من سنوات الذُّل والجوع، وأصبح الرجل الأبيض أسير خوفه، ولذلك يهرع إلى منزله بعد العاشرة ويغلق على نفسه الباب خوفًا من شبح السُّود. ترافق البنت البِيضاء كما القشطة رجلًا أسود وتسير معه في الشارع بعد منتصف الليل، بينما الرجال البِيض لا يستطيعون الاستمتاع بالبنت السمراء إلا في الخفاء! وإن جهروا بالعلاقة تَعرَّضوا لضرب المَطاوي والموت بالرصاص! لقد شَهدَت أمريكا اليوم نوعًا من التمييز العنصري، ولكنه يختلف عن التمييز العنصري الذي كان معروفًا أيام زمان، فالرَّجل الأسود اليوم يستطيع التَّجوُّل في المدينة دون خوف، والدخول في أي مكان دون عوائق، بينما الرجل الأبيض وَضَع حول نفسه سورًا لا يتعداه، وهو يخاف العراك كما يخاف المنافَسة في المجالات التي يسيطر عليها السُّود.
وإذا سار الرجل الأبيض في الطريق العام بعد العاشرة مساء راح يتلفَّتُ خلفه، بينما الأسود ينام على الرصيف ويحلم أحلام الملوك! ولكن أعظم حركة الآن بين السُّود هي حركة السُّود المسلمين! وهم أكبر خطر على اللوبي اليهودي في الولايات، وأكبر بُعبُع يخيف اليهود. وفي إمكان هؤلاء أن يَكونوا سندًا للعرب، وأن يكونوا طَليعة للفلسطينيين داخل الولايات، وهم لا يحتاجون إلا للدَّعم المادي، ومَهما بلغ حجم الأموال التي ستُنْفَق عليهم فالمردود سيكون بالقطع أكبر من ذلك بكثير، ذلك خير على الأقل من إنفاق الأموال على موائد القمار، وفي أفراح ولا أفراح الأمير خمارويه كما روت الصُّحف عن زفاف شيخ عربي ثَري تكلَّف عشرة ملايين جنيه وكانت فضيحة للعرب في لندن! وهؤلاء المسلمون السُّود يشتد عُودهم الآن في نيويورك نفسها، مَعقل الصهيونية واليهود، ويُشاهَدون بكثرة على نواصي الشوارع ويجمعون التَّبرُّعات، ويبيعون العطور من أجل دعم حركتهم ودفْعِها إلى الأمام، وكان هناك ثلاثة أبطال عالَمِيِّين في الملاكمة من المسلمين، إمامهم هو محمد علي، والثاني هو سعد محمد، والثالث اسمه مصطفى ولا أعرف اسمه الأخير، وهناك مراكز إسلامية للسود المسلمين في فيلاديلفيا، وبنسلفانيا، وجورجيا، وشيكاغو، وديترويت، كما أن هناك مساجد أنشئت في عدة ولايات خاصة بالمسلمين السُّود، العيب الوحيد في الحركة أن هناك أكثر من طائفة، وهناك نَذير بأن تنشب بين الطوائف حرب ولا حرب البسوس. وعلى الأزهر أن يُوفِد رجاله إلى هناك ليُنسِّق بين الحركات الإسلامية، فليس أكسَب لقضية العرب من انتظام كل هذه الطوائف في طابور واحد، ولو حدث وقام جيش المسلمين السُّود الواحد في الولايات المُتَّحِدة، فسيكون ذلك اليوم هو بداية النهاية بالنِّسبة للنفوذ اليهودي في بلاد القمر الصناعي والصواريخ!
إن قصة السُّود في أمريكا أَسْوَد من وجوههم، ومَسيرتهم أصعب من دخول الجمل في خُرم الإبرة، وحكايتهم تحتاج إلى مَوَّال ولا مَوَّال أدهم الشرقاوي، ومأساتهم في حاجة إلى شاعرة كالخنساء لتبكي عليهم! ولكنهم بالصبر والصُّمود، واحتمال المعاناة استطاعوا أن يقهروا الصعب، وأن يَقلِبوا الآية، وأن يُصبِحوا ملوك الشارع الأمريكي، وأن ينعموا بالليل في بلاد العم سام، بينما يَختفي البِيض وراء المتاريس والأبواب! ويكفي أن ثمانين بالمائة من أبطال أمريكا في الرياضة من السُّود، ويكفي أن عشرين في المائة من أبطال الجيش الأمريكي من الزنوج، وأخيرًا … يكفي السُّود أن سبعين في المائة من الفتيات البِيض يَحلُمن بفارس أسود! وتسعين في المائة من الشُّبان السُّود يَفوزون بقلوب بيضاء، بينما واحد فقط في المائة من الشباب البِيض يَفوزون بقلب أسود! إنها أمريكا التي بدأت حمراء ثم بيضاء وانتهت سوداء من غير سُوء، ويومًا ما في الخمسين عامًا القادمة سيصبح رئيس الولايات المُتَّحِدة رجلًا أسود، ويستطيع العالَم حينئذٍ أن يَتنفَّس الصعداء، وتكون نبوءة الشارع الزِّنْجي قد تَحقَّقتْ «إنه مَلاك أسود طويل القامة يسير مختالًا في الشارع الذهبي، بينما الشارع الأبيض ينام في الظلام»!