عبادة الدولار!
هل تَذْكُرون الأب جونز، الأب المجنون الذي استدرج أتباعه إلى جزيرة نائية في الكاريبي وأقنعهم بأنَّ تناوُل السُّمِّ والموت جماعة هو أقصر طريق إلى الجنة، كان الرجل يُؤمِن بدين غريب، فالحياة قصيرة، والآخرة ممتدة، وعلى الفرد أن يؤمن بأن الآخرة خير من الدنيا، وليس أمام الإنسان ليُبرهِن على أنه يُفضِّل الآخرة على الدنيا، إلا بالذهاب إلى الآخرة طواعية واختيارًا، والانتحار هو خير دليل وهو أفضل برهان، وطوبى للذين ينتحرون؛ لأن ملكوت الله لا يَتَّسع إلا لمن يموتون بأيديهم!
ومذهب الأب جونزليس هو المذهب الوحيد الغريب في أمريكا، هناك مائة دِين وألف مذهب وعشرون ألف طريقة، وهناك جماعات تعبد الشمس، وأخرى تسجد للقمر، وثالثة تُقدِّس الهرم، وجماعة الهرم هؤلاء يؤمنون بأن هرم خوفو هو مركز الكون، وأنك لو زَحزَحْت الهرم من مكانه لاختل نظام الأرض، وربما انطلق الكوكب الذي نعيش عليه في الفضاء ليصطدم بالشمس، وربما ضل طريقه وراح يَسبح إلى يوم القيامة في فضاء بلا نهاية!
ولذلك فهم يذهبون كل عام إلى الهرم الأكبر ليُؤدُّوا طقوسهم هناك، يسألون ربَّ الهرم أن يُبقِي الهرم مكانه، وأن يُحافظ عليه في نفس المكان وبنفس المواصفات، وأحيانًا يستبد الوجد بأحدهم، فيصعد إلى القمة ويلقِي بنفسه سعيدًا ليحظى بالميتة المثالية، ويفوز بالنهاية السعيدة، ويموت وقد تناثرت أشلاؤه على أحجار الهرم! جنون … ربما، بلاهة … يجوز، ذكاء … ممكن، ولكنها الحقيقة، ولذلك فهي مُؤلِمة! في أول لحظة للعبد لله في الأرض الأمريكية، ومن مطار دلاس في واشنطن إلى قلب العاصمة، رأيتُ محطة بنزين في كنيسة، أنكرتُ ما رأيتُ، وسألتُ مُحدِّثي هل هذا ممكن؟ أجابني بأن في مقدور أي مخلوق أن يستأجر كنيسة قديمة، وفي استطاعته أن يستخدمها في أي شيء! يفتح فيها محلًّا للبقالة، يقيم ملهًى ليليًّا على أنقاضها، يُحوِّلها إلى مَرقَص، وهناك مئات من الكنائس في أمريكا لَقِيَت هذا المصير، ولكن ما حدث لهذه الكنيسة بالذات — كما قال مُرافِقي — هو الوضع الصحيح والسليم؛ لأن البترول هو الإله الجديد في أمريكا!
وفي كولورادو جماعة دينية صغيرة، عدد أعضائها هم عدد أعضاء الأتباع الذين أحاطوا بالسَّيد المسيح، وكل فرد في الجماعة يتسمَّى باسم واحد من الحواريين، فهناك: مَتَّى، وبولس، ويُوحنَّا، وبُطرس، وبرنابا، ويَهوذَا أيضًا، وهم يختارون المسيح مِن بينهم مرة كل شهر عن طريق الاقتراع، وهم يجتمعون ويُؤدُّون الشعائر والطقوس في كهف يمتد غائرًا في بطن أحد الجبال المحيطة بمدينة دنفر، وهم أثناء اجتماعاتهم يرتدون الثياب ويأكلون نفس الطعام ويستخدمون نفس الأدوات التي كان يستخدمها السيد المسيح وأتباعه، وهم يقولون إن السيد المسيح كان يؤمن بأن القيامة ستقوم بعد ستة أشهر، وكان قوله صحيحًا، ولكن الخطأ الوحيد الذي ارتكبه المُفسِّرون، هو أنهم توقَّعوا القيامة بحساب أهل الأرض، ولكن المسيح كان يحسب بحساب السماء، ويوم عند الله بألف سنة عند أهل الأرض، ولذلك فالقيامة ستقوم كما تنبَّأ المسيح بعد موته بمائة وثمانين ألف عام! ولاحِظ الصلة بين ما يعتقدون وما جاء في القرآن الكريم: وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ! هل قرَءُوا القرآن؟ هل تأثَّروا بما جاء فيه؟ لا أحد يعرف سِر هذه الجماعة، ولا أحد يستطيع أن يفتي في أمرهم؛ لأنهم بلا كُتب منشورة، ولا أقوال مأثورة، كما أنهم أشدُّ صمتًا من الجبل الذي يَدخلون فيه!
وفي ولاية أريزونا جماعة دينية يتزايد عددها يومًا بعد يوم، وللجماعة وسيط هو راعي الجماعة وشيخها، وأتباع مذهبهم يذهبون إلى الصحراء ويقيمون فيها شهورًا، ويُؤدُّون صلاة على الرمل يسألون الله أن يُنزِل الأمطار، وهو يأكلون الأعشاب ويشربون مياه الآبار، وهم يُحرِّمون أكل الأطعمة المحفوظة، واللحوم المُثلَّجة، وهم يُصلُّون والنار مُشتعِلة، ويَتعمَّدون في مياه النهر، وتدخين الغليون حلال ولكن تدخين السَّجائر حرام! وهم يَعتقدون في حياة أخرى بعد الموت، ويُؤْمنون بأن الفردوس في السماء حيث الأشجار والمياه والصيد الوفير!
وهذه الديانة مأخوذة بتصرُّف من ديانات الهنود الحمر، ولعل هذا هو السبب الذي من أجله يبدو «وسيط» الجماعة يرتدي خِلال الاجتماعات الدينية تاجًا من الرِّيش!
وما أكثر العبادات والديانات في أمريكا، والسبب أن الحرية الشخصية مَكفولة، ومن حق كل فرد في المجتمع أن يختار حكومته عند الاقتراع، وأيضًا من حقه أن يختار إلهه، بشرط ألَّا يفرض عقيدته على أحد، أو يُجبِر أحدًا على أن يعبد إلهه! وفي الآونة الأخيرة انتشرت البوذية، والهندوكية بين الأمريكيين، وظهرَت جمعيات تُطالِب الحكومة بالسماح لها بإقامة معابد لعبادة الشمس، وأخرى لعبادة الثعبان، ولكن أغربها جميعًا هي الجمعية التي لجأت إلى القضاء تطلب السماح لها بإقامة معبد لدين الإله آمون فرعون مصر القديم، باعتبارها أول ديانة دعت إلى توحيد الله، ولا تزال القضية مرفوعة أمام محكمة مدينة سكرامنتو عاصمة ولاية كاليفورنيا، وقال لي واحد من الذين اطَّلعوا على ملف القضية وعرف شيئًا من أسرار الجماعة: إنهم يُقيمون في البراري بعيدًا على هيئة هرم مدرَّج يشبه هرم زُوسر في سقَّارة، وهناك حقيقة ثابتة وهي أن المكسيك صنَعَت مثل هذه الأهرامات وبكثرة في فترة لاحقة على فترة حكم الملك زوسر الفرعون.
ومنذ عام على وجه التقريب لجأَت إحدى الأسر في ولاية ميتشجان إلى الشرطة تطلب التَّدخُّل لدى الجيران لوقف الإزعاج المستمر الذي يُسبِّبه هؤلاء الجيران، ويمنعون النوم عن أَعيُن الناس في الحي كله، وذهبت الشرطة وعاينت الأمور على الطبيعة، واكتشفت أن هؤلاء الجيران المزعجين دأبوا خلال الأشهر السابقة للشكوى على إقامة حفلات تشبه حفلات الزار في بلادنا، حيث تدق الطبول والدفوف، وينطلق بخور له رائحة نفاثة، وتتصاعد أصوات همهمة وغمغمة وكأنها صادرة من عوالم مجهولة، وتدخَّلَت الشرطة حينئذٍ وأجْرَت تحقيقًا بالفعل لتكتشف حقيقة أغرب من الخيال، فهذه الحفلات ليست حفلات زَار ولا هي حفلات للترفيه، ولكنها حفلات دينية لجماعة تَعبُد بَطْن المرأة، باعتبار أنه المصنع الوحيد الذي يخلق الحياة، ففيه تتكوَّن الخلية الأولى للطفل، وفيه يشب ويترعرع، وخلال تسعة أشهر يصبح كائنًا حيًّا يسمع ويرى ويصرخ أيضًا، ولذلك — في شريعة الجماعة — ينبغي تقديسها والتوجه لها وعبادتها أيضًا، وقُدِّمَت الجماعة للمحاكمة لا لأنها تعتنق هذه المِلَّة الغريبة، ولكن لأنها تَسبَّبتْ في إزعاج الجيران وهو الأمر الذي لا يُغتَفر!