المسلمون السُّود
ولكن أعظم الحركات الدينية التي تُخالف الجو العام في أمريكا، هي حركة المسلمين السُّود، وهي سَمَّوْها كذلك لأن الذين دخلوا في دين الله أفواجًا كانوا في البداية من الزنوج، ولكن الحركة تَطوَّرت بعد ذلك فأصبح هناك أُلوف من البِيض يعتنقون الإسلام، وهناك عدد آخر من الهنود الحمر، وحوالي عشرة أشخاص ينتمون إلى جنس الإسكيمو، والإسلام هناك يتقدم ببطء ولكن بإصرار، وهو يكسب كل يوم أصدقاء جددًا، ولم يفقد واحدًا من أتباعه قط، وهناك مراكز إسلامية نشأت بالجهود الذاتية في بنسلفانيا، وأوهايو، وكاليفورنيا، وعدد آخر من الولايات هنا وهناك ولو مجموعة من الدعاة المسلمين العرب تَفرَّغوا لهذه المهمة لدفعوا هذه الحركة مسافات طويلة إلى الأمام؛ لأن الانقسامات داخل الحركة كثيرة، والخلافات شديدة، وينبغي التَّدخُّل لحصرها الآن قبل أن يفوت الأوان! والسبب في هذه الانقسامات أن الذَّين دعوا إلى الإسلام في بداية الأمر كانوا من بلاد آسيا، من بينهم من يعتنق القاديانية، ومنهم من ينتمي إلى جماعة البهرة، وفيهم من يعتنق المذهب الإسماعيلي، وهذه الجماعات في أمريكا صغيرة ولا تُشكِّل خطرًا في الوقت الحاضر، ولكنها قد تُشكِّل خطرًا في قادم الأعوام! ولكن الذي يُطَمْئِن أن الإسلام الحقيقي الصحيح هو المَوجَة الغالبة داخل الحركة الإسلامية في أمريكا، ولكن الجهود المبذولة حتى الآن في هذا المجال جهود فردية، بمعنى أن هناك تبرعات من رجال أعمال مسلمين، وهناك مساعدات من دول عربية وأخرى إسلامية، ولكني أقترح الآن إنشاء هيئة إسلامية عربية عُليا تشترك فيها كل الدول العربية، تكون مُهمَّتها التبشير بالإسلام ونشره والدعوة إليه في جميع أنحاء العالَم مع التركيز على أمريكا في المقام الأول وأفريقيا بعد ذلك، ولو قامت هيئة مثل هذه مدعومة بالمال والرجال والدعاة المُخلصين ستجد أن الأرض ممهدة، وهي فرصة ذهبية قد لا تُعوَّض بعد ذلك، خصوصًا بعد أن طَحَنَت المذاهب المادية — سواء في الشرق أو في الغرب — الإنسان العادي وتركَتْه وحيدًا وضائعًا ومُنسحِقًا في بحار من الشك والحيرة والضلال! ولذلك أخذ هؤلاء الناس يلجئون إلى أي شيء يَحمي نفوسهم ولو كان كذبًا، ويُهْرَعون إلى أي بريق ولو كان سرابًا، والسعيد الحظ منهم من اهتدى إلى الطريق الصحيح … ساقَتْني الصُّدفة إلى رجل أمريكي أبيض في الخمسين من عمره، كان يقرأ في كُتَيِّب صغير يَروي أحاديث النبي صلوات الله عليه، والكتاب مطبوع طبعة أنيقة ومُترجَم بأمانة، ومُهدًى من دولة الإمارات إلى المسلمين الذين لا يقرَءُون العربية، كان الرجل «ماك ستيفن» مبهورًا بما قرأه من الأحاديث، هذا كلام رجل نطَق به منذ أربعة عشر قرنًا، ما أروعه من فكر وما أرجحه من عقل، هكذا قال «ماك ستيفن» الأمريكي الذي ينحدر من أصول اسكتلندية، استمَع إليَّ في انبهار شديد وأنا أعلق على حديثه «العقل كان راجحًا والفكر كان رائعًا» ولكن لا تَنْسَ الإلهام، فقد كان الرجل «رسول الله» تَمْتَم «ماك» أعلم ذلك، ولكن الرسول كان رجلًا قبل ذلك! وراح العم «ماك» عندما عرف أنني عربي ومن مصر يسألني أسئلة المَلهوف في أمور الدين، الكارثة أنهم يظنون — هؤلاء المسلمون الأجانب — أن أي عربي هو فقيه في أمور الدِّين، وأقول كارثة لأن هذا الظن يفتح بابًا أمام النَّصابِين ويَنهالون على الناس فتاوى ما أنزل الله بها من سُلطان كان العم «ماك» توَّاقًا إلى معرفة كل شيء عن الإسلام؛ لأنه وهو صغير في المدارس قرأ فصلًا عن الإسلام في كتاب مدرسِي وصف الإسلام بأنَّه ثورة التُّجَّار لفتح أسواق جديدة أمام التجارة!
وقال كِتاب المدرسة الأمريكية إن «محمدًا النبي» كان تاجرًا، وكان طليعة طَبقَتِه لتحقيق هذا الحلم! قلتُ للعم «ماك» الطيب: يُدهشني أن الأمريكان يَكرهون كل شيء في الجانب الشيوعي ولكنهم في الإسلام يَقتنعون ويُروِّجون نفس التَّحليل الشيوعي!
قال: هل هذا تحليل شيوعي للإسلام؟ لم أكن أُدرِك هذا من قَبل! لقد اختلف الذين يُؤمِنون بالمسيح والذين يؤمنون بالشيطان، ودخلوا معركة ولا معارك البسوس، ولكنهم. وهنا العجب. اتَّفقُوا ضد الإسلام وعليه سألني في براءة: ليه؟ قلتُ: هذه مسألة تاريخية وقديمة، عمرها من عمر الإسلام، وعندما ظهرَت حركة الإسلام الوليدة تحالَفَت عليها إمبراطوريتان كبيرتان، واحدة كانت تعتنق المجوسية، والأخرى كانت ترفع الصليب، وهم الذين أشعَلُوا الحرب في البداية ولم تكن دولة الإسلام قد قامت بعدُ، وكانت معركة معان هي الخطوة الأولى، ولولا إرادة الله لتَمكَّنوا من الإسلام ودفَنُوه وهو بعدُ في المهد! قلتُ للأخ «ماك» الطيب وقد فتح فمه دهشة: وعندما انتشر الإسلام هبَّت أوربا كلها ضده، وتحالفَت كلها عليه، ولا يزال الغرب المسيحي يحتفل بيوم معركة «شارل دي تور» كواحد من أعظم أيام التاريخ المسيحي إنْ لم يكن أعظمها على الإطلاق؛ لأنه في هذا اليوم انكسر القائد المسلم عبد الرحمن الغافقي، وانحسر المد الإسلامي، وحصَرُوه في الأندلس وحاصروه هناك حتى تَمكَّنُوا في النهاية من طَردِه!
وفي العصور الوسيطة جاءت جيوش الغرب المسيحي لتهاجم الإسلام في عقر داره، واحتَلُّوا الساحل العربي كله من اللاذقية إلى دمياط، وتوغلوا في البلاد حتى مشارِف القاهرة، وارتكبوا من الجرائم والمذابح ما يخجل منه الضمير! ولكن أغرب شيء حدث تلك الأيام، أن الغربي المسيحي الذي يُؤمِن بالله والمسيح واليوم الآخر، تعاوَن بكل قناعة مع التتار الذين كانوا يعبدون الأصنام، وتعاوَنوا معهم على الإسلام، مع أنه دين سماوي يؤمن بالمسيحية ويحترم السيد المسيح كَنبيٍّ من أنبياء الله! وصَمَت الأخ «ماك» صمتًا طويلًا وعميقًا، وفي النهاية قال وكأنه يُوصِيني: ما أحوجنا إلى معرفة الكثير عن الإسلام!
وها هو الطريق مفتوح، والفرصة مُتاحَة والرغبة موجودة والإمكانات وَفيرة، فقط علينا أن نبدأ بخطة مدروسة، وبرنامج واضح، وبِطاقَم من الدعاة المخلِصِين، وسنكسب في النهاية؛ لأن الإسلام هو دين العصر وكل عصر، شيء آخر أحب أن ألفتَ إليه الأنظار فقد نُنفِق ملايين الجنيهات في سبيل الدعوة، وقد نرسل ألوف الدعاة المخلصين، وقد نكسب ألوف المؤمنين للإسلام، ولكن تَصرُّف مسلم عربي واحد قد يَقضي على هذه الجهود، ويصيبُنا ويصيب الإسلام في الصميم! مثلًا، في لوس أنجلوس كنتُ ضمن مجموعة من السائحين في جولة حول هوليود، وكان ضمن الجولة زيارة لحي الفنانين «بيفر لي هيلز» حيث تسكن جميلات الكواكب ومشاهير النجوم، كان السائق يشرح للسُّيَّاح خلال مكبر صوت، وأشهد أنه كان متحدِّثًا جيدًا، وخفيف الدم، ووقحًا في بعض الأحيان، قبل أن ندخل حي الفنانين سأل عبر الميكروفون: «هل يوجد بينكم عرب؟» لم يرفع أحد يده وأمسكتُ أنا الآخَر عن رفع يدي فقد أدركتُ أن في الأمر سرًّا ما! عاد يسأل مرة أخرى، هل بينكم أحد من المسلمين؟ لم يرفع أحد يده وكذلك فعلتُ أنا الآخر، وهنا قال: «عندئذ سأريكم شيئًا تندهشون له غاية الدَّهْشة وتَعجبون له غاية الإعجاب» وانحرف بالسيارة إلى شارع عام، وتوقف عند قصر منيف تحيط به حديقة مترامية، ويحيط بالجميع سور حديدي غاية في الرشاقة والأناقة والإحكام، ولكن مَن ينظر إلى القصر من أول وهلة كان يدرك أن القصر أصابه التَّلَف الشديد، وزحف عليه الخراب، وثمة آثار نيران تَركَت بصماتها على جدران القصر، وعلى أشجار الحديقة، وعلى السور، وامتد أثرها إلى أشجار الطريق، وقال السائق وهو يشير نحو القصر: هذا قصر الشيخ (…) ولا داعي لذِكْر الاسم لأنَّنا لا نقصد التشهير، استطرد السائق قائلًا: إنه عربي (توقَّف عن الكلام وضحك) اشترى هذا القصر بمليونين من الدولارات، وأضاف إليه ديكورات بسبعة ملايين، وأحدث في هذا المكان ضجة ولا ضجة الهنود الحُمر لحظة بدء الهجوم وتظاهَر سكان الحي ضد الرجل، وطافوا في مَسيرة بالحي لم تتوقَّف إلا أمام مبنى البلدية، وطالبوا رئيس البلدية بوقف الضجة أو طرد الساكن من الحي، ولكن الساكن لم يتوقَّف، وفي كل ليلة كان لديه حفلة في القصر، راقصات يَحضُرْن بالطائرات من الشرق، وأطعمة تُحضرها الطائرات من مطعم مكسيم، وضيوف تنقلهم الطائرات من جميع أنحاء الأرض! وأخيرًا لم يجد الجيران بُدًّا من التصرف، فأشعلوا النار في القصر، وأجْبَروا الإسلام على الرحيل! انتهت.
ستقولون إنه سائق وَقِح، وإنه ربما يهودي يكيد العرب والإسلام، وقد يكون هذا صحيحًا كله ولكن الذي يستحق الحرق مثلًا هو العربي المسلم الذي أعطى الفرصة لهذا اليهودي الجبان!
المهم، ما أسهل الوصول إلى قلوب الناس بالإسلام، خصوصًا في هذا الزمان الذي حطَّمت المادة فيه كل شيء في الإنسان الأمريكي، وسيكون الإسلام هو الراحة، التي يلجأ اليها الرجل المكدود لينعم بالسكينة والسلام، وكما قال لي كاتب أمريكي ساخر.