في ابتداء سلطنتهم وقيام زعيم منهم بأمر الملك
نشأت هذه الأمة على الجلادة والإقدام فكانت أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها، حتى أنه في زمن محمود الغزنوي وجنكيز خان التتري وتيمور الكوركان، الذين تمَّت لهم السلطة عليها، لم تكن تبعيتها لهم خالية من الخطر، وكذلك في عهد انقسام ممالكها بين سلاطين الهند وفارس؛ إذ كانت تتربص بملوكها الشر دائمًا وتترقب الفرص لإيقاد نار الفتنة، وقد تطاولت أيدي طائفة «الغلجائي» على معسكر محمود الغزنوي ونهبوه، وقد تسلطوا على مدينة «قزنة» زمنًا وشكلت طائفة منهم سلطنة في «دهلي» أيضًا.
ولما استولى شاه عباس الكبير على بلدة «قندهار» دخلت طائفة الغلجائي و«العبدل» تحت طاعته، ثم جار عليهم الحاكم المتولي من طرفه وعاملهم بالظلم، أرسلوا من طائفة العبدل رجلًا يسمى «سدو»؛ ليرفع الشكاية من الحاكم لحضرة الشاه، فلما وصل وعرض الشكاية عليه تعجب الشاه من فصاحته، ولاسترضائه عزل ذلك الحاكم وولاه بدله، فأقام في منصبه بالعدالة وحسن السلوك، حتى جلب قلوب الأفغانيين إليه بحيث رأوا أنه من الواجب أن تكوَّن حكومة الأفغان دائمًا من ذرية هذا الشخص، وبلغ منهم حسن الاعتقاد فيه إلى حد لو قتل أحد من ذريته أحدًا منهم لا يقاصونه، ولو سلَّ أحد سيفًا على أحد من نسله كان عقابه القتل، وقد تكون من نسله فصيلة تسمى «سدوزائي» ومنها أحمد شاه على ما سنبينه، وفي زمن شاه سلطان حسين الذي هو آخر سلاطين الصفوية الإيرانية، وقد جلس على كرسي الملك في سنة ١١٠٦، حصل العصيان من قبيلة «الغلجائي» القاطنة في مدينة «قندهار» وما يليها، وكلما اجتهدت رجال دولة الشاه في قمعهم لم تزدد نيران الفتنة إلا اشتعالًا، فلما أعيتهم الحيل في أمر العصاة أرسلوا إليهم «جرجين خان الكرجي» الذي كان حاكمًا من طرف الشاه على «كرجستان» وكان قد أظهر العصيان على الشاه إلا أن دولة الشاه استظهرت عليه وقهرته، وبعد وقوعه في قبضتها لم يجد كفَّارة لذنوبه سوى خلعه للدين المسيحي، ودخوله في الدين المحمدي، وكان معروفًا بحسن التدبير وقوة الحزم وثبات الجأش، وجعلوه حاكمًا على قندهار.
ولما ظن الشاه أن لسلاطين الهند التيموريين يدًا في إيقاد الفتنة، أرسل مع جرجين المذكور نحو عشرين ألفًا من العساكر الإيرانية وجماعة من الأبطال وذوي الدراية والدربة من أهالي كرجستان احتياطًا لكف شر المداخلات الخارجية، فلما وصل هذا الخان بعساكره إلى ضواحي قندهار خرج العصاة وأظهروا الطاعة والانقياد إلا أنه رأى من الواجب عليه إظهار القساوة ومعاملتهم بالخشونة؛ ليذلل بذلك نفوسهم، فلم يَرَ من عزيز إلا وأذلَّه، ولا من قوي إلا وأضعفه، ولا من أمير إلا وأسره، حتى ضاقت صدور القوم عن كتم ما أودعها هذا الوالي من الضجر والغضاضة؛ فبعثوا رسلًا وسفراء إلى أصفهان كرسي دولة الشاه ليعرضوا أحوال الأهالي على مسامعه، وحين وصولهم إلى أصفهان بذلوا مجهودهم لنيل ملاقاة الشاه لعرض شكواهم، وبعد أن أعيتهم الحيل لكثرة الحجاب والمناع «الذي هو أساس الظلم في البلاد الشرقية حيث يوجب تطاول أيدي الولاة والمأمورين على حقوق الرعايا كما هو مشاهد الآن في جميع أقطار الشرق» حظوا بملاقاته مرة واحدة، وعرضوا عليه مظالمهم، وكان بمعيته بعض أحباء جرجين خان فألقى إليه: أن شكوى هؤلاء العصاة شكوى الزور والبهتان يرومون التخلص من واليهم صاحب الضبط والربط؛ ليعودوا إلى مثل ما كانوا عليه، فلم يسمعوا من السلطان سوى العتاب فرجعوا إلى بلادهم مصحوبين بالخيبة وبثوا خبر الواقعة في أقوامهم، وكان للولي اطلاع على هذا الأمر بواسطة رقبائه، فأضمر السوء، وأخذ ينتهز الفرص للإيقاع بمن كان له مَدخلية في هذا التظلُّم، خصوصًا «ميرويس» المشهور بجلالة النسب، ومكانة الحسب، الذي كان أميرًا لقبيلة كبيرة، محافظًا على بلدة قندهار، ومعروفًا بين الناس بسعة الأخلاق، وفصاحة اللسان، ولين الجانب، وجودة القريحة، وكان ذا وقع في النفوس وتمكن في القلوب، فمد الوالي عليه يد التعدي بعد زمن وأرسله مسلسلًا إلى مدينة أصفهان، وكتب إلى أولياء الدولة أن الراحة والطمأنينة لا تستقران في البلاد إلا بحبس هذا الرجل، ومنعه من الرجوع إلى قندهار؛ لأنه مصدر الفساد ومنشأ الفتن.
وقد أخطأ جرجين خان في إرسال ميرويس إلى أصفهان مع علمه بأن الأمراء الشرقيين توطنت نفوسهم على الارتشاء، وأن بلوغ المقاصد ونيل المرام موقوفان على وجود الرشوة وعدمهما على عدمها، فإنه بإرساله هذا قد مكَّنه من إعطاء الرشوة لأولياء الدولة؛ لينال منهم مرامه، فلم تمض مدة من وصول ميرويس إلى أصفهان حتى اطلع على هيئة الحكومة وضعف عقل الشاه ونفاق أركان الدولة، وأولياء الأمور، وتودد إلى كثير من أعداء جرجين خان، واستمال قلوبهم إليه، حتى ساعدته الفرصة على مقابلة الشاه فبث إليه تفاصيل ما عنده من المطالب، وتمكن بحذقه وعذوبة منطقه من استمالة قلب الشاه إليه وتوسل بالرشوة إلى جذب قلوب الأمراء والكبراء، ولم يلبث أن انتظم في سلك أولياء الأمور في دولة الشاه.
وكان يمكنه إذ ذاك الرجوع إلى قندهار إلا أنه بعد اطلاعه على ضعف دولة إيران واختلال أمورها تمكن من نفسه فكرٌ أعلى من هذا، وهو أنه يمكن أن يخلص بلاد الأفغان بتمامها ويفصل حكومتها عن حكومة الشاه، وعلم أن مثل هذا الأمر العظيم لا يصح الاستعجال فيه، فطلب من الشاه أن يرخص له في السفر للحج، فلما وصل إلى مكة المكرمة رأى من المناسب أن يأخذ بعض الفتاوى من علماء أهل السُّنة بوجوب محاربة الشيعة؛ ليدعو بذلك قومه إلى حرب دولة الشاه التي هي دولة شيعية، ويجمع كلمتهم على ذلك، فتحصَّل على بعض فتاوى بذلك، وبعد قضاء فريضة الحج رجع إلى أصفهان مُخفيًا أمره مُظهرًا للشاه غاية الإخلاص.
ومن غرائب الاتفاق أن وقعت في ذلك الوقت واقعة كانت من أحسن الوسائل لتنفيذ مقاصده، وهي أن رجلًا مجهول النسب من الأرامنة عالمًا ببعض الألسن الشرقية تقدمت له خدمات للدولة الروسية في الممالك العثمانية فتوسل إلى إمبراطور الروس «بطرس الأكبر» في أن يجعله سفيرًا لدى الشاه، فَلِحُسْن خدمته اقترن طلبه بالقبول فبعثه الإمبراطور إلى إيران سفيرًا، وزاد في مكافأته أن أعفى جميع الأموال التجارية المتعلقة بهذا الرجل من رسوم الجمرك، فجمع هذا السفير كثيرًا من تجار الأرمن، وتوجه بهم إلى إيران، ولما قرب من حدودها شهر نفسه بأنه من أولاد سلاطين الأرمن، فاتخذ ميرويس دخول هذا السفير بهذه الكيفية أحسن وسيلة لنيل مقاصده، وذلك أنه أخذ يتكلم في المجامع والمحافل سرًّا وعلانيةً، بأن النصارى يريدون أن ينزعوا كرجستان وأرمنستنان من أيدي دولة الشاه، ولا بد أن يكون جرجين خان حاكم قندهار هو الواسطة الفعالة في ذلك، ولقرب عهد جرجين خان بالإسلام؛ أخذ هذا الكلام من النفوس موقعًا، وغلب على ظن أولياء الدولة صدقه، فراموا قهر جرجين خان، إلا أنه لقوة عضده وتمكنه في قندهار، تخوفوا من عصيانه عليهم، فأرجعوا ميرويس إلى بلاده حتى إذا تحرك وجرجين خان للعصيان قاومه للعداوة السابقة بينهما «انظر إلى ضعف الرأي واضطراب فكر الشرقيين إلى يومنا هذا.»
ولما رجع ميرويس إلى قندهار اشتد غضب جرجين خان وأراد أن يتخذ وسيلة لهلاكه، فأرسل إليه يتحكم عليه في أن يبعث بابنته إلى ابنه، وإذ رأى ميرويس أن هذا الطلب على وجه قهريٍّ وأن إذعانه له يحط من قدره، جَمَعَ الأفغانيين وحدثهم القصة، فاغتاظوا لذلك وحثوه على المقاومة والمدافعة عن شرفه؛ فامتلأ لذلك سرورًا، لكنه أمرهم بالصبر والتأني، وقال: «الأولى أن نقتل الأسد في النوم إلا أنه يلزمكم الثبات على ما أنتم عليه واعتمدوا عليَّ فإني سأنتقم من العدو.» فاطمأنوا وحلفوا له بالخبز والملح والسيف والقرآن على معاضدته والقيام بطاعته وقالوا: «ومن رجع عن ذلك فزوجته طالق بالثلاث.»
وكان من خادمات ميرويس المتربيات في بيته بنتٌ جميلة أرسلها إلى جرجين خان ليتزوجها ابنه باسم أنها بنته، وأظهر غاية السرور والبشاشة وأنه غير حاقد على جرجين خان؛ فمحا بذلك ما في قلب جرجين، وأزال أحقاده حتى حصل عنده كمال الاعتماد عليه، وبعد زمن هيأ ميرويس مأدبة فاخرة بحديقة خارج البلد دعا إليها جرجين خان وأتباعه، وكان شراب الجميع بتلك المأدبة كأس الموت وساقيه ميرويس «هكذا لا يليق بالأمراء والسلاطين إذا غدروا بشخص أو ظلموه أو أضاعوا حقه أن يصافوه ويعتمدوا عليه خصوصًا في مهمات أمورهم، فإن الحقد والعداوة إذا قرعت قلبًا قلما زايلته.» ولبس ميرويس لباس جرجين خان وتبعته من الأفغان ألبسة تبعته، ودخلوا البلد بعد المغرب، وهجموا على مستحفظي القلعة على حين غفلة، ولحق بهم جماعة من الأفغانيين كان قد أعدهم كمينًا قرب المدينة وانضم إليه أيضًا سائر الأفغانيين الساكنين فيها فاستأصلوا جميع المحافظين إلا من فرَّ، واستولوا على القلعة ونادوا: «من لم يأوِ جنديًّا من جند جرجين فهو في أمان.» وكان هناك ستمائة جندي أرسلهم جرجين لتأديب بعض القبائل في بعض نواحي الولاية، فقدموا إلى قندهار بالغنائم الوافرة بعد تلك الواقعة، فقوبلوا بالمدافع والبنادق وشجعان الأفغانيين فاطلعوا على حقيقة الأمر، وقاوموا مهاجميهم، فخرج إليهم ميرويس بخمسة آلاف، وثبتت أقدامهم أمام عساكره ثلاثة أيام أظهروا فيها من الجلادة والبسالة ما استوجب الثناء عليهم، ثم انهزموا، إلا أنهم خلصوا أنفسهم، ونجوا إلى أرض خراسان، فأخبروا بالواقعة، فازدادت بذلك دهشة الإيرانيين من الأفغانيين.
ولما خلا جوُّ قندهار من المعارضين بعث ميرويس إلى رؤساء القبائل الأفغانية، فحضروا، ثم قام فيهم خطيبًا يبين فضائل الحريَّة ومزاياها، وشدائد العبودية وبلاياها، ثم قال: «إن وازرتموني واتفقتم معي، فسنخلص أعناقنا من غلِّ الذلِّ، وننشر أعلام العز والحريَّة، ونتملص من سلطة الإيرانيين الشيعيين.» ثم أبرز ما عنده من الفتاوى الحاكمة بقتال الشيعة التي سبق أخذها من علماء مكة، وأذن فيهم قائلًا: «ألا من رجع جانب الإيرانيين، واختار أن يكون في ربقة عبوديتهم، فليقطع الأمل عن أن يساكننا في ديارنا؛ إذ لا يمكن له معاشرتنا ويستحيل أن ينال مودَّتنا ومصافاتنا.» فوافقه جميع الأمراء، وأكدوا الموافقة بالأيمان «هكذا، هكذا، أولو الفضيلة والحزم، يفدون بأرواحهم ويخاطرون بأنفسهم؛ لتحرير أمتهم، وتخليصها من ربقة الأسر والذلِّ، ولا يطلبون لذلك جزاءً سوى تخليد الذكر الجميل، بخلاف أرباب النفوس الدنيئة والهمم المنحطة المنهمكين في الشهوات، فإنهم يبيعون أممهم وأوطانهم للأجانب بأبخس الأثمان.»
ولما بلغ خبر اتفاق الأفغانيين كرسي دولة الشاه، فعوضًا عن أن يرسل عسكرًا جرَّارًا لتأديب العصاة وتقرير السلم، أرسل «محمد جامي خان»؛ لتهديد ميرويس ومن اتفق معه، فلما وصل هذا السفير إلى قندهار أخذ يبين عظمة دولة إيران وقوتها وقدرتها التامة على تذليل من ناوأها وينذر ميرويس بسوء عاقبة عمله هذا، فأجابه ميرويس قائلًا: «هل تظن أنه لا يوجد العقل إلا في رءوس المترفين وأرباب النعم ولا يوجد في أهالي جبال الأفغانستان؟ ولو أن في إمكان سلطانك قهري وغلبتي ما كان له من حاجة لإرسالك لتتكلم بهذه الكلمات التي لا طائل تحتها.» ثم أمر بحبسه، ومع ذلك لم تنتهِ دولة الشاه من نوم الغفلة، حيث بعثت بسفير آخر يسمى «محمد خان» حاكم هرات بعدما بلغها حبس السفير الأول، وقد كان السفير الثاني من أحباء ميرويس ومصاحبه في سفر الحج، ولما وصل إلى قندهار قال له ميرويس: «لولا سابق المحبة والصحبة لعاقبتك عقاب المذنبين، ولكن لا بدَّ أن تعلم أن الرجال الأفغانيين لا يعودون إلى تحمل نير العبودية بعدما تخلصوا منه، وأن الأسود التي قطعت السلاسل لا تقيد بها، وأن السيوف المسلولة لا تغمد، وأن ملككم سينكب ويغلب ودولتكم ستنهب وتسلب.» ثم أمر بقيده.
ولما رأى أولياء الدولة أن لا فائدة في إرسال الرسل، ولا مفرَّ من المحاربة، وجَّهوا الأوامر لحكام خراسان أن يجيِّشوا جيوشهم، ويهجموا على الأفغانيين، وبعد انهزامات متتالية للعساكر الإيرانيين تحقق لديهم أن عساكر خراسان وحدها لا تكفي لقمع الأفغانيين، فأعدوا جيشًا كبيرًا وجعلوا قيادته بيد «خسرو خان» ابن أخ جرجين خان الذي لم يكن في الجلادة والرشد أقل من عمه، وإنما فوَّضوا قيادته إليه؛ ليكون حب الانتقام لعمه موجبًا لزيادة إقدامه وتحمسه «هكذا لا تفيد المماطلة والإهمال سوى الوقوع في الشقاء وعسر التخلص منه.»
فتقابل خسرو خان مع ميرويس واشتعلت نيران الحرب بينهما، فانهزم ميرويس، وحاصر خسرو خان مدينة قندهار فطلب محافظوها الأفغانيون من خسرو خان أن يسلموا له المدينة على شرط أن يؤمنهم على حياتهم فلم يرض بهذا الشرط، فلما علموا أن لا مفرَّ من الموت أخذوا أهبة الدفاع، وكانوا كل يوم يهاجمون محاصريهم، وميرويس بعد جمع عساكره المتفرقة شرع في الهجوم عليهم من الخارج، حتى نفدت ذخائر خسرو خان فاضطر لترك المحاصرة والاشتغال بمدافعة ميرويس، إلى أن قتل، ولم ينجُ من عساكره الإيرانية التي كان مقدارها خمسة وعشرين ألفًا سوى خمسمائة شخص «تلك عاقبة العُجب والغرور.»
ثم أرسل الشاه جيشًا آخر يقوده «محمد رستم خان» فانهزم أيضًا وتمت السلطة لميرويس على ولاية قندهار بلا مزاحم ولا مخاصم، ثم توفى ميرويس عن ولدين لا يزيد سن أكبرهما على ثماني عشرة سنة؛ ولهذا اختار الأفغانيون أن يخلفه في الحكومة أخوه «مير عبد الله»، وكان لهذا الخليفة ميلٌ للصلح مع سلطنة إيران، إلا أن آراء الأفغانيين كانت لا تساعده على هذا الميل، بل عارضوه، وقالوا: «إن لم تستطع أن تحذو حذوَ أخيك في المهاجمة فلا أقل من أن تهمل في أمر المصالحة.» ومع ذلك لم يسمع مقالتهم، بل تشاور مع بعض أصحابه، واستقر الرأي بينهم على أن يرسلوا معتمدين إلى دولة الشاه لعقد المصالحة بشروط ثلاثة؛ الأول: أن تعفى ولاية قندهار من الخراج السلطاني. الثاني: أن لا يكون للدولة عساكر في تلك الولاية. والثالث: أن تكون الإمارة وراثة في ذرية مير عبد الله المذكور.
فلما اطلع على ذلك الأمراء من الأفغانيين اشتد غيظهم منه وانحرفت قلوبهم عنه وحقد أكبر ولدي ميرويس المسمى «محمود» الذي كان يظهر من ناصيته علائم النجابة والشهامة على عمه حيث تعدَّى على حقه، فاتفق مع أربعين شخصًا من الأفغانيين، ودخل بيته على حين غفلة، وذبحه، وباطلاع الأفغانيين على ذلك، أقاموه حاكمًا على أنفسهم ولقبوه بشاه قندهار.
ولما علم لطف علي خان أن مير محمود سيعود كرة ثانية، شرع في حشد العساكر وجمع الذخائر، وأخذ أهبة الاحتياط في «شيراز». ولدواعٍ اقتضاها الحال إما لعدم الانتظام أو حكم الزمان، قد نشأ عن هذا وقوع الظلم بالرعية؛ إذ كانوا يصادرونهم في أموالهم، ويسخرون دوابهم في الأعمال اللازمة وغير ذلك، فاتخذ أعداء لطف علي خان هذا الاختلال وسيلة للسعي في عزله، فسعوا لدى الشاه فعزله عن رئاسة العساكر، فتفرقوا، وذهبوا من حيث جاءوا. «انظر إلى الأدنياء الأخسَّاء خائني الوطن والأمة، كيف أنهم لبعض أغراض شخصية وعداوات جزئية، وللتشفي من شخص واحد، قد تسببوا في تفريق العساكر التي كانت وقاية للأمة وحفاظًا للوطن، وترتب على تفريقهم ما ترتب كما سنبينه.»
وفي تلك الأوقات قد أغار العبدالية من الأفغانيين على غالب بلاد خراسان حتى كادوا يفتحون مدينة «مشهد» وهي طوس القديمة، وفي أثناء هذه الفتن والقلاقل وقعت زلزلة شديدة في مدينة «تبريز» وأصبح ثمانون ألفًا من الناس تحت التراب، وحصل في الجوِّ تكاثف حتى حجب ضياء الشمس، فكانت لا تُرى إلا كنقطة من نحاس أحمر، فوقع في أوهام العامة أن هذه آثار الغضب الإلهي، ومقدمات نزول البلاء السماوي، وأخذوا يتحيلون لدفع القضاء بطرد الفاجرات وإزالة كثير من المنكرات، والمشايخ كانوا يطوفون في الأزقة ويدعون الناس للاستغفار، والمنجمون قد حكموا حكمًا باتًّا أنَّ هذه علامة لخراب أصفهان؛ فوقعت العقول في وحشة، والنفوس في حيرة، وضعفت القلوب، وتدانت لهم حتى كانت هذه الأمة الكبيرة واقفة على قدم الاستعداد للموت، وانقطعت آمالها من الحياة والنجاة. «تفطن وانظر إلى مضار الاعتقادات الخرافية، وما ينشأ عنها من ضعف النفس وسقوط الهمة وارتباط الأيدي عن العمل.»
ولم يكن عند الأفغانيين مدافع، ولكن كان معهم مائة زنبورك «وهو شيء يشبه المدفع يحمل على الجمل ويطلق وهو فوقه» فأناخ الأفغانيون جمال الزنبورك وراء معسكرهم، ثم ابتدأ الإيرانيون بالقتال فهجمت ميسرتهم على ميسرة الأفغانيين، فتقهقر الأفغانيون منكسرين فغنمت منهم بعض الغنائم، ثم هجمت ميمنة الإيرانيين فتقهقرت ميمنة الأفغانيين، بخدعة حربية، فأغارت خيالة الإيران على عسكرهم، فلما دخلت الخيالة في المعسكر انشق عسكر الأفغان إلى فرقتين، وأطلق الزنبورك على الخيالة، فتساقطوا تساقط ورق الشجر في فصل الخريف، وهجم وقتئذ «أمان الله خان» الأفغاني على مؤخرة العساكر الإيرانيين فقتل الطبجية، وأخذ المدافع، وأمر بإطلاقها على عساكر الشاه، فلم يمض إلا قليل زمن، حتى انهزموا وتفرقوا، وتركوا جميع لوازمهم غنيمة للأفغانيين، فلما وصل خبر الهزيمة إلى أصفهان اهتزت له القلوب، واضطرب الشاه، وجمع وزراءه للاستشارة، وقال: «إن من الرأي أن نترك أصفهان، ونأخذ الخزينة معنا ونشتغل بجمع العساكر الشاهانية، ثم نهاجم الأفغانيين من خلفهم ونستأصلهم.»
فقبل هذا الرأي عند محمود قلي خان الوزير، ولم يقبله والي عربستان المذكور لأمر سنشير إليه، وقال: «لا يليق بالسلطان أن يترك كرسي مملكته لهزيمة واحدة فإن هذا آية الضعف، وموجب لنفرة قلوب الأهالي منه.» فأخذوا في تهيئة لوازم الدفاع والاستعداد للمحاصرة. وكان محمود وقتئذ مترددًا في أمره حتى جاءه بواسطة جواسيسه «أتباع والي عربستان» خبر استيلاء الرعب على قلوب الإيرانيين، فاطمأن وساق عسكره إلى «فرح آباد» واستولى عليها بلا محاربة؛ لعدم وجود العسكر فيها، وبعد استيلائه عليها توجه للهجوم على محلة «جلغا» مسكن الأرامنة في أصفهان فاستولى عليها أيضًا، ونشأ عن استيلائه خسارة جسيمة لساكنيها.
ثم هجم على برج من أبراج مدينة أصفهان فدفع عنه بقوة البنادق والمدافع فتقهقر ووقع في نفسه أن هذا التقهقر ربما يوجب زوال الرعب من قلوب أهالي المدينة فيصعب الأمر في فتحها، فهجم في اليوم الثاني مع الأبطال الأفغانيين على بعض الاستحكامات، وأظهروا جلادة وشدة، حتى كادت المدينة تفتح لولا مقاومة أحمد أغا أحد أغاوات الحريم، فإنه قاوم ببسالة، وجبر الأفغانيين على التقهقر، فوقع الرعب في قلب محمود، وأرسل يطلب المصالحة، على شرط أن تكون حكومة قندهار وكرمان وخراسان وراثة في ذريته، وأن يزوجه السلطان بابنته، ويعطيه خمسين ألف تومان، ولكن لم تقبل هذه المطالب عند الشاه.
ولما سمع والي عربستان بذلك أرسل سرًّا إلى محمود رسولًا يلومه على طلب المصالحة، ويوصيه بالثبات، ويعده بالظفر، وقال في رسالته: «إنني منكم مذهبًا، فاثبتوا ولا تخافوا.» ولما أحاط محمود علمًا بفحوى الرسالة انتعش مرة ثانية، ودبر تدابير أخرى، وهي أن يخرب القرى والقصبات التي هي حول أصفهان ويجمع الذخائر منها لعساكره ويحرق ما بقي، وقد فعل، ففرَّ أهالي القرى إلى المدينة؛ لعدم وجود الأقوات عندهم، وكان الأمراء — لجهلهم بحقيقة الحال — يقبلونهم بكل مسرة؛ لظنهم أنهم يزيدون في عدد المدافعين، ولم يخافوا من حصول القحط في المدينة؛ لأنها لم تكن محصورة إلا من جهة واحدة، ثم هجم الأفغانيون من الجهة الأخرى، واستولوا على أحد الاستحكامات فيها، وكان محافظوا هذا الاستحكام من الكرج المنهمكين في شرب الخمر، ثم تجاوز الأفغانيون من قنطرة كانت هناك، واستولوا على بعض نواحي المدينة، وفي ذلك الوقت سمع الأفغانيون بقدوم قوم إيرانيين ببعض ذخائر إلى المدينة فعارضوهم وانتهبوها منهم، وقبل أن يصلوا إلى معسكرهم خرج إليهم قوم من قرية صغيرة يقال لها «أصفهانك» واسترجعوها منهم، وأسروا عم محمود وأخاه وابن عمه، وقتلوهم، وكان الشاه أمر بعدم قتلهم؛ لطلب محمود ذلك منه إلا أن أمره لم يصل إلا بعد القتل، فقتل محمود جميع من عنده من الأسراء الإيرانيين عندما سمع بذلك، وأخذ يتشبث بإتمام لوازم الحصار، وقطع طرق المواصلات، وفي تلك الحالة ألحَّ بعض أولياء الدولة على الشاه أن يسلم إليه قيادة المدافعين، وتكفل بدفع الأفغانيين وطردهم من ضواحي أصفهان إلا أن والي عربستان «خان أهواز» منع الشاه من هذا بتمويهات وتدليسات ألقاها إليه.
ولما طالت مدة المحاصرة أخذت الأسعار ترتفع شيئًا فشيئًا، وظهرت علائم القحط في المدينة، ولم يجد الشاه وسيلة سوى أن أرسل ولده «شاه طهماسب» ولي العهد سرًّا إلى سائر البلاد الإيرانية؛ ليدعو الناس إلى حرب الأفغانيين وتخليص كرسي المملكة من أيديهم، فلم يتمكن من جمع كلمة الأهالي على القيام بتخليص أبيه، وكان كل يوم يشتدُّ الكرب على أهل المدينة ويذهبون إلى الشاه ويلحون عليه في أن يخرج معهم للمحاربة؛ كي يخلصوا أنفسهم من غائلة الجوع والقحط، وخصوصًا حينما سمعوا أنه سيرد إليهم ذخيرة، فإنهم اجتمعوا حول السراي السلطاني، ونادوا على الشاه بالخروج إلى الحرب؛ خوفًا من أن تقع هذه الذخيرة في أيدي الأفغانيين ويموت أهل البلد جوعًا، فأرسل إليهم الشاه يعدهم بالجواب في غد، فلم ينصرفوا، وأدمنوا على الطلب، حتى أطلق عليهم بعض مستخدمي الحرم البنادق ليرهبهم، فانزجرت نفوس الأهالي من هذا العمل، وتكدَّرت خواطرهم، وكادوا أن يهجموا على السراي لولا خروج أحمد أغا السابق الذكر إليهم وإرضائه لهم، وبعد انصرافهم جمع جماعة من أبطال العساكر وهجم بهم على الأفغانيين، واشتدَّت حملته عليهم حتى استخلص بعض الاستحكامات من أيديهم، إلا أن عساكر العرب الذين كانوا تحت إمرة والي عربستان «خان أهواز» تقهقروا تعمدًا، فغضب أحمد أغا لذلك، وأمر بإطلاق البنادق على الفرقة العربية من عساكره.
فلما وقع النزاع بين العساكر، واشتغل بعضهم ببعض هجم الأفغانيون، وهزموهم، فذهب أحمد أغا إلى الشاه، وقال له: «إن خان أهواز هو الذي أوجب انهزامنا في جميع المواقع؛ لاتحاده مع محمود في المذهب، ولولا وجوده في معسكرنا لدفعنا الأفغانيين وهزمناهم من أول وقعة.» ولكن خان أهواز ألقى إلى الشاه ما زين له عزل أحمد أغا عن رئاسة المحافظين للقلعة، فعزله فتناول السم ومات، وبموت أحمد أغا فرح الأفغانيون جدًّا ووقع الاضطراب والوجل في أهالي أصفهان، فاضطر الشاه لأن يرسل رسولًا إلى محمود يطلب منه المصالحة على الشروط السابقة، فأجاب محمود «بأن الشاه لا يملك الآن شيئًا حتى يعطيني إياه، بل جميع ما في قبضته قد أصبح تحت يدي.»
ولما رجع من عالم الغيب الظاهر، وخرج من الخلوة إلى الجلوس ازداد فيه الوسواس وسوء الظن، حتى إنه لخبر لا أصل له أمر بقتل تسعة وثلاثين من أولاد السلاطين الصفوية، وما زال به الوسواس حتى أورثه خبلًا وجنونًا، وقال «مُلَّا على حزين»: «إنه بلغ به الجنون إلى درجة أن كان ينهش لحم نفسه بأسنانه.» وفي أثناء جنونه سمع الأفغانيون بحركة شاه طهماسب وتهيئه للإغارة فاضطروا أن يُجلسوا أشرف على كرسي السلطنة في حياة محمود، فأبى قبول السلطنة ما لم يقتلوا محمودًا قصاصًا؛ لأنه هو الذي قتل أباه مير عبد الله، فقطعوا رأس محمود في سنة ١١٣٨ من الهجرة، وقدَّموها إليه، فقبل السلطنة وأخذ بزمامها، وكان موت محمود عن سبع وعشرين سنة، وكانت مدة سلطنته ثلاث سنين.
ثم إن أشرف أخذَ يستقبح أعمال محمود التي صدرت منه في آخر عمره، ويبث التشنيع عليها في الملأ العام، ولتطييب نفوس الأهالي، واستمالة قلوبهم، أخذ تاج الملك ووضعه على رجل شاه سلطان حسين وألحَّ عليه في لبسه، فلم يرض الشاه بذلك، ورفَع التاج بيده، ووضعه على رأس أشرف وقال: «إني اخترت العزلة على العزة.» وزوجه ببنته الثانية، ثم أراد أشرف أن يخدع شاه طهماسب فكاتبه يدعوه للملاقاة مبينًا له «أنه قد وقع الهرج في بلاد إيران، وتطاولت إليها يد الأعداء والأجنبيين فلنجتمع لنصلح ذات بيننا ونتعاضد على دفع العدو من البلاد.» وإذ علم بذلك بعض الأمراء الإيرانيين الذين كانوا في خدمة أشرف كتبوا إلى طهماسب محذِّرين إياه من الاجتماع والاعتماد على قول أشرف، ولما استشعر أشرف بهذا أمَرَ بقتل بقية الأمراء الإيرانيين الذين تخلصوا من سيف مير محمود متعللًا بأنهم يراسلون عدوَّه، وقبل موت مير محمود بقليل كان سلطان العثمانيين قد عقد معاهدة مع إمبراطور روسيا «بطرس الأكبر» على تقسيم الممالك الإيرانية التي لم تدخل في حوزة الأفغانيين، وطرد الأفغانيين من البلاد التي حازوها، وتسليمها ليد طهماسب إن وافق على هذه المعاهدة، ولما أخذ أشرف بزمام السلطنة أرسل سفيرًا إلى قسطنطينية فتفاوض مع علمائها في هذا الشأن وقال: «لا يليق بالسلطان أن يعاهد ملكًا نصرانيًّا على اقتلاع ملك مسلم سنِّي.»
فوافقه العلماء على ذلك إلا أن الوزراء حاجُّوا العلماء وحجوهم حيث قالوا: «إن السلطان العثماني هو أمير المؤمنين وخليفة رسول رب العالمين، وظلُّ الله في الأرضين، ومن لم يكن له مطيعًا لأمره، ولم يخطب باسمه، ولم يعط الخراج، فهو عدوٌّ للدين، والجهاد فيه أفضل من الجهاد في النصارى.» فسكت العلماء لهذا البرهان الناشئ عن هوى الأنفس، ورجع السفير خائبًا، وصدر الأمر لأحمد باشا الذي كان متسلطًا على «مراغة» و«قزوين» بسوق العساكر إلى أصفهان، ولما سمع أشرف بذلك أمر بحرق القرى، وجمع عساكره واستقبل العساكر العثمانية فتلاقى أولًا مع ألفين من مقدمة جيوشهم على بعد خمسة عشر فرسخًا من أصفهان، فقتلهم عن آخرهم، فوقع الرُّعب في قلوب الأتراك لهذا الخبر، وأمر أحمد باشا بتوقيف العسكر وحفر الخنادق حولهم، أما أشرف فقد بعث بأناس سرًّا ليسعوا في قلوب الأكراد على ولائه وليذيعوا في المعسكر العثماني أن هذه الحرب مضادة للدين الحنيفي، وبعث بآخرين من العلماء جهرًا إلى أحمد باشا ليستميلوا فؤاده إلى السلم ويبينوا له أن الصلح خيرٌ، فلم يسمع مقالتهم، بل أمر بسوق العساكر، وكانت ستين ألفًا يصحبها سبعون مدفعًا، ولم يكن مع أشرف سوى عشرين ألفًا يصحبها أربعون «زنبوركًا»، فلما تلاقى العسكران انهزم العثمانيون شر هزيمة بعد أن قتل منهم عشرة آلاف، وتركوا جميع أسلابهم وأدواتهم، وفرَّ أحمد باشا إلى «كرمان شاهان»، وخوفًا من أن يتعقبه أشرف لم يقم فيه، بل ذهب إلى بغداد، فاتخذ أشرف من ذلك فرصةً لاستمالة أفئدة العثمانيين، فكتب إلى أحمد باشا: «إنني لا أحب التصرف في أموال المسلمين فأرسل أمينًا من طرفك يستلم جميع ما تركتم سوى الآلات الحربية.» وأطلق أسراء العثمانيين فأوجب ذلك اشتهاره عند العثمانيين بحسن السيرة، فالتزموا أن يصالحوه على أن يعترفوا له بكونه شاه إيران، وأن يعترف هو من سلطان قلبه بكون السلطان العثماني هو ظل الله في الأرضين.
وقد بقي الأفغانيون تحت سلطة الإيرانيين من زمن موت شاه أشرف إلى موت نادر شاه. ولما مات نادر شاه في سنة ١١٦١ قام أحمد خان العبدالي السدوزاي الذي كان في معسكر نادر شاه مع جموع من الأفغانيين والأزبك، وهاجم الإيرانيين ونازلهم منازلة عنيفة ثم انعطف بغاية السرعة إلى قندهار واستولى عليها ووضع يده على الأموال الخراجية التي كانت تحمل من كابل وبلاد السند إلى نادر شاه عند مرورها بقندهار، وبذلك قوي اقتداره فادعى الاستقلال، ولقب نفسه شاه أفغان، وسمى القبيلة العبدالية «دراني». ثم وجَّه عساكره إلى هرات ومشهد وسجستان، وغيرها من بلاد خراسان، وافتتح الجميع، وكان في مكنته أن يفتح جميع بلاد إيران في ذلك الوقت، غير أنه رأى اشمئزاز نفوس الأهالي من الأفغانيين لما سبق لهم من الإساءات إليهم، وأن تغيير المذهب الذي حدث فيهم بواسطة نادر شاه لم يكن متمكنًا منهم، فعلم أن افتتاح تلك البلاد لا يعود بعظيم فائدة، واشتغل أولًا بتدبير داخليته، واكتفى بتخليص أمته وترك بعضًا من بلاد خراسان لابن نادر شاه، قيامًا بواجب حق أبيه عليه وتكفل له بحفظه، ثم لما رسخت قدمه في الملك ودان له جميع الأفغانيين ساق عساكره ست مرات إلى الأقطار الهندية، ونال الظفر في كل مرة خصوصًا في الواقعة التي وقعت بصحراء پني پتان «بالباء الفارسية فيهما» الواقعة بقرب مدينة دهلي، وكانت تلك الواقعة مع المراتيين من عبدة الأوثان الذين أعجزوا أعاظم السلاطين التيمورية في الهند؛ إذ كانوا يرومون نزع السلطة من أيدي المسلمين، وعساكرهم في تلك الواقعة كانت ثمانين ألفًا وعساكر أحمد شاه كانت ستين ألفًا نصفها من الأفغان، ولم يكن اعتماد أحمد شاه إلا عليهم، فهزم بهم عساكر المراتيين شر هزيمة، ونكَّل بهم تنكيلًا، حتى صارت هذه الواقعة سدًّا لسبيل فتوحاتهم، وانتشر له بهذه الواقعة أحسن ذكر بالبلاد الهندية، وكان ذلك مؤيدًا له في فتوحاته الهندية فافتتح بلادًا كثيرة كبنجاب وكشمير وسند وما يتاخمها من البلدان، ثم فتح بلوجستان ومكران وبلخ وغيرها، وخضع له بعد ذلك سائر الأمراء الكبراء الذين كانوا على مقربة من بلاده، وصار بتدبيره وحكمته متسلطًا على مملكة عظيمة، وكان رجال مملكته من الغنى والثروة بمكان، إلا أن مالية الحكومة كانت فقيرة، فإن خراج أقطار كابل وقندهار قد وهبه لأمراء القبائل الأفغانية، ولم يكن يطلب منهم على ذلك عوضًا سوى الطاعة والانتظام في سلك العسكرية.
وكان هذا السلطان العظيم الشأن من قبيلة «السدوزاي» على ما تقدم، وهي القبيلة التي كان الأفغانيون يجلونها، وينظرون إليها بعين الاعتقاد، وكان مع ذلك شجاعًا ذا عزم وحزم، وتدبير محكم، وسداد رأيٍ، وعلمٍ وحكمة، وسعة أخلاق، وطيب نَفْس، وعدل وإنصاف، ورحمةٍ بالضعفاء، وعنايةٍ بشأن الرعية وإصلاحها؛ ومن أجل ذلك تمكنت محبته من قلوب رعاياه عمومًا مع اختلاف في الأجناس والمشارب، ومن قلوب الأفغانيين خصوصًا، حتى إنهم كانوا يعتقدونه من المقرَّبين إلى الله، ويعدونه أبًا لعموم الأفغانيين، ومن ثم لقبوه ببابا وهو إلى الآن يُعرف عندهم بهذا اللقب، إذ يدعونه أحمد شاه بابا. استقرَّ عرش ملكه وسلطنته على دعائم الثبات والتمكن، ولكن لما كانت العلة الحقيقية لثبات الملك والسلطنة هي حكمته وتدبيره، ولم يكن في عقبه من يكون على مثل حاله وقعت المملكة بعد موته في ارتباك واضطراب، وكانت وفاته سنة ١١٨٥ وقيل: سنة ١١٨٧ بعدما قضى من العمر خمسين سنة.
وكان وقتئذ ولده تيمور في مدينة «هرات» فلما سمع خبر الوفاة جمع العلماء والرؤساء وقواد العساكر وخاطبهم قائلًا: «إن أبي وهو في حال حياته قد جعلني وليَّ عهده، غير أن وزيره أغراه وهو في الاحتضار بخلعي من ولاية العهد، وتولية أخي سليمان، بدلًا عني. وهو الآن تُضرب له طبول السلطنة في قندهار، وقد وضع يده على خزانة والدي، وعظمت بذلك قوَّته، واشتدَّ بأسه، فهل فيكم من يؤازرني على استرداد حقي المغتصب؟» فصرخوا خافضين له جناح الخضوع، وقالوا بأجمعهم: «إن السواد الأعظم معك وكلنا بين يديك وعلى أهبة لتنفيذ أغراضك.» ثم اجتمعوا في مزار «خواجة عبد الله الأنصاري» وقام الشيخ يحيى العالم المشهور إذ ذاك، وقلده سيف السلطنة، وخضع له جميع الأفغانيين، واستعان بهم على أخيه حتى ظفر به وسجنه في قفص، ولبث في السجن زمن سلطنة تيمور إلى أن مات فيه، وكانت وفاته سنة ١٢٣٣، ثم قتل وزير أبيه الذي كان قد سعى في خلعه، ثم ساق الجيش إلى هندستان وكشمير ولاهور وألجأ من نبذ طاعة الأفغانيين إلى الدخول في طاعتهم، وبعد ذلك ببضع سنين قلد ولده الثاني «محمود» ولاية هرات، ونقل كرسي السلطنة من قندهار إلى كابل، وجعل المتصرف فيها ولده الثالث «زمان» وقد كان هذا الولد على جانب عظيم من مكارم الأخلاق، واتفق في تلك الأيام أن شاه مراد بك أمير بخارى أغار على مدينة مرو فدمرها، وأسر جميع أهلها، وكانوا على مذهب الشيعة، فاستغاثوا بتيمور شاه فهمَّ لاستنقاذهم، ولكن حال بينه وبين ذلك «فيض الله» أحد القضاة حيث أفتى بأنه لا يجوز لسنيٍّ أن يسعى في خلاص شيعيٍّ. «فاعتبروا يا أولي الألباب.» وتوفى تيمور بكابل ليلة الثامن من شوال سنة ١٢٠٧ وماتت راحة الأفغانيين بموته، وكان حسن السيرة، لين العريكة، محبًّا للسلم، ومن أجل ذلك قد نبذ طاعته بعض أمراء البلدان، وكان له من النساء ثلاثمائة من الحلائل، ليس فيهن أفغانية، وخلف اثنين وثلاثين ولدًا.
ولما سمع همايون، وهو في قندهار، خبر وفاة والده، قام في قومه برسم السلطنة، وحشد الجنود، وتوجه بها إلى كابل؛ ليستولي عليها، فبلغ ذلك أخاه زمان فخرج لمقابلته بجيش جرَّار فتلاقيا، واحتدم القتال بينهما في «كلات الغلجاي»، غير أن همايون لم يثبت أمام أخيه، بل فرَّ إلى هرات، والتجأ بأخيه الآخر محمود، والتمس منه أن يعينه على زمان فلم يجبه، ولما آيس منه ترك هرات، وسلك طريق قندهار، واتخذ له مقامًا بين المدينتين، فاتفق أن قافلة كانت تأتي من قندهار إلى هرات فاعترضها همايون وقتل رجالها، وسلب أموالها، واستعان بها على حشد جيش؛ ليعاود قتال أخيه زمان، فبلغ ذلك حيدر ابن زمان، فخرج لصدِّه، فلم يقوَ عليه، بل انهزم، ودخل همايون مدينة قندهار، وعامل أهلها بالخشونة، وعذَّب تجارها، ونهب أموالهم، وجَيَّش بها الجيوش، ولما سمع بذلك زمان شاه ساق جيشه نحو قندهار، وأخذ في الحملة على همايون، وكانت الدائرة عليه، ففرَّ إلى «ملتان» وقاومه واليها حتى هزمه، وقتل ولده، وأخذه أسيرًا، وبعث به إلى زمان شاه فأمر بسَمْل عينيه.
وبالجملة فإن زمان شاه بمعونة القاضي فيض الله وباينده خان، وبمساعدة البخت، قد خلص له الملك بعد أبيه، واتخذ رحمة الله خان وزيرًا له، مع أن الأمراء نصحوه بعدم توليته هذا المنصب، فلم يسمع نصائحهم، ولزم من إقامته فيه فسادٌ على ما نبينه، وقد نفذت سلطة زمان شاهن في البلاد التي كانت تحت سلطة آبائه، كسند، وكشمير، وملتان، وديرة، وشكاربود، وبلخ ثم سار بنفسه إلى قندهار، وفي أثناء ذلك قام أخوه محمود في هرات، وادعى الاستقلال، وحشد العساكر، وسيرَّها نحو قندهار، فلما أحسَّ بذلك زمان شاه خرج منها، وتوجه لمقابلته، فتلاقيا بين كرشك وزمين داود، فطلب زمان شاه أولًا المصالحة من أخيه محمود، فأبى اتكالًا على قوته، فاشتعلت نيران الوغى بين العسكرين، وانجلت بهزيمة محمود، ففرَّ إلى هرات، ووقع كثيرٌ من أمرائه في الأسر، وخزينته في قبضة عساكر أخيه، وبعد هذه الواقعة وقعت المصالحة بينهما على شرط أن تكون هرات وفره تحت إمرة محمود، وأن تقرأ الخطبة، وتضرب السكة فيهما باسم شاه زمان، ثم توجه الشاه إلى كابل، ومن كابل إلى لاهور، وتسلط عليها وعلى الممالك القريبة منها، وعادت تلك النصرات على عساكره بالثروة والغنى.
وبينما هو في نواحي لاهور إذ بلغه أن محمودًا نقض المعاهدة، ويريد فتح قندهار، فأسرع بالرجوع إليها، ومنها توجه إلى هرات، فلما سمع بذلك محمود جمع عساكره، وخرج من هرات لمقابلته إلا أنه بلغه أن الأمراء الذين تركهم في مدينة هرات قد أثاروا الفتنة فيها، ونزعوا لتسليمها بغْضًا في وزيره لكونه شيعيًّا فاضطر للرجوع، ولما دخل المدينة قام عليه «قلج خان» الذي كان رئيس أويمق «طائفة من الترك» مع فرقة من عساكره، وأظهروا العصيان، فأرسل وزيره الشيعيَّ ليستميلهم، فحبسوه وأبَوْا إلا العدوان، وفي هذه الحالة سمع أن قيصر ابن شاه زمان قرب من المدينة، فلم يجد محيصًا من الهرب فخرج مع ابنه كامران وفرَّ إلى بلاد العجم، والتجأ إلى فتح علي شاه جد هذا الشاه الموجود الآن، فدخل قيصر مدينة هرات بلا ممانع، ثم حلَّ بها شاه زمان أبوه، وجعله واليًا فيها، وبعد مدة رجع محمود إلى نواحي هرات، وجمع بعضًا من العساكر لفتحها، إلا أنه لم ينجح، بل انهزم، وحيث لم تطب نفسه بالرجوع إلى فتح علي شاه ذهب إلى أمير بخارى «شاه مراد» وبعد أن لبث عنده ثمانية أشهر استأذن منه في الذهاب إلى خوارزم ثم توجه من خوارزم قاصدًا فتح علي شاه سلطان إيران مرة ثانية، وبعدما قضى مدة من الزمن عنده استعان به على تجهيز جيش جرَّار وساقه إلى قندهار فدخلها بدون ممانعة، ثم اتصل به فيها فتح محمد خان بن باينده خان، وساق معه الجيوش إلى كابل، فلما سمع بذلك شاه زمان خرج لملاقاتهما، ولما التقى الجمعان وقعت بينهما حرب هائلة، أريقت فيها دماء غزيرة من الطرفين، وانتهت بهزيمة شاه زمان، ووقوعه أسيرًا بيد أخيه شاه محمود، فأمر بسمل عينيه، وقبض على وزيره رحمة الله خان الخائن، الذي قد كان لطمعه في السلطنة أغرى شاه زمان بقتل جميع الأمراء، وفيهم باينده خان أبو فتح محمد خان الذي اتصل بمحمود، فأمر محمود بتجريد هذا الوزير الشرير من ثيابه وإلباسه ثوبًا من حصير، وإشهاره في المدينة على حمار، ثم بقتله بعد ذلك.
ولما لم يقوَ قيصر بن شاه زمان على مقاومة عمه، ترك مدينة هرات لفيروز الدين شقيق محمود، والتجأ إلى شاه إيران فتمت السلطة لمحمود وتسلط على كرسي كابل، ولما كان محمود يميل إلى مذهب الشيعة نفرت منه قلوب السنيين فتحرَّك عرق حميتهم وثاروا عليه ثم خذله الشيعيون أيضًا، وأجْمعَ أمر الجميع على إعناته فألقوا القبض عليه، وحبسوه في «بالاحصار» وأخرجوا شاه زمان الأعمى من الحبس ليحكم فيهم إلى أن يصل إليهم شاه شجاع، وبعد خمسة أيام قدم شاه شجاع من البنجاب، فأخرجوا محمودًا من السجن، وقدَّموه إلى شاه زمان ليقتص منه، فعفا عنه رحمة به، وأمر برِّده ليحبس في بالاحصار. وبعد زمن قليل توجه شاه شجاع بجيش جرَّار إلى كشمير لتأديب واليها عطا محمد خان ابن شير محمد خان، حيث بلغه عصيانه، فلما وصل إلى مدينة مظفر آباد بقرب كشمير، وافاه سفير من قبل عطا محمد ليعتذر للملك عن عصيانه، ويعرض عليه طاعة سيده وعبوديته له فرجع شاه شجاع بعدما وثق من معاهده، وبينما هو في الطريق إذ بلغه أن محمودًا ومن كان معه من الأمراء في الحبس ذبحوا حرس القلعة، وفرُّوا، والتحقوا بفتح خان، الذي كان مسجونًا في قندهار وتخلص من سجنها، واتصل بكامران بن محمود وهو وقتئذٍ في نواحي الأراضي الأفغانية، وأنه قد وقع لذلك اضطرابٌ شديد في مدينة كابل.
فلما ورد شاه شجاع المدينة وشاهد القلق المستولي على أهاليها تأسف بذلك أسفًا عظيمًا، وبعد اجتماع محمود وابنه وفتح خان ذهبوا إلى هرات؛ ليستعينوا بالأمير فيروز الدين السابق ذكره، والي تلك المدينة، فقابلهم بكل احترام، وقدَّم إليهم هدايا وألبسة فاخرة، إلا أنه لم يأذن لهم بدخول المدينة، وأبى مساعدتهم، وأبدى لهم عن ذلك أعذارًا فانقلبوا راجعين، وفي أثناء رجوعهم صادفوا قافلة آتية من هرات إلى قندهار وأخرى من قندهار إلى هرات فأجمعوا أمرهم على أن يقطعوا سبيل هاتين القافلتين، ويسلبوهما، وقد فعلوا، وبعد أن تمت لهم الغنيمة جهزوا أربعة آلاف خَيَّال؛ لفتح قندهار، فلما اقتربوا منها برز إليهم واليها عالم خان بعساكره، وكانت مقتلة عنيفة انتهت بأسر عالم خان. وبعد مدة يسيرة افتتحوا المدينة، واستولوا عليها، ثم بعد مضي زمن جهزوا مائة ألف، وساروا بها لمحاربة شاه شجاع فالتقى الجمعان في قزنة، وبعد ملحمة مهولة تقهقر شاه شجاع، وفرَّ إلى كابل، وحيث لم يكن على ثقة من الأهالي، ولم يركن إليهم فبارح المدينة متوجهًا إلى بيشاور، بعد أن ترك فيها الأمير حَيْدَر بن شاه زمان، وبذلك تمَّ الظفر لمحمود فدخل، واستولى على عرش الملك، وأبدى لرعيته علائم الشفقة والرحمة، وقلد فتح خان منصب الوزارة، وفوَّض إليه مهام أعمال السلطنة، وأطلق له التصرف ونصب ابنه كامران واليًا على قندهار، ثم إن فتح خان أقام جميع إخوته ولاة في الممالك الأفغانية، وفي خلال تلك الوقائع قتل كامران قيصر الذي أسلفنا خبر هربه إلى إيران. وكان عَوده لما سمع أن عمه شاه شجاع صار سلطانًا، وبعد مدة طرد شاه شجاع من بيشاور فراسل عطا محمد والي كشمير يطلب منه أن يمدَّه بالدنانير والدراهم، فأجابه عطا محمد «بأنك إن بعثت ما لديك من الجواهر رهنًا أرسلت إليك ثلاثين لَك روبية» «كل لَك منها يساوي عشرة آلاف جنيه» ولم يكن عند الشاه من الجواهر سوى جوهرة كبيرة تسمى «درباي نور» أي بحر النور، فقدَّمها لعطا محمد فأرسل إليه خمسة عشر لكًا، ووعده بإرسال الباقي، فجهز شاه شجاع جيشًا، ورجع به إلى بيشاور ليسير منها إلى مدينة كابل، فلما بلغ محمودًا خبره أخرج شاه زمان من السجن وخاطبه قائلًا له: «إن المملكة قد حاق بها الضرر، وآلت إلى الخراب، وأريقت دماء المسلمين هدرًا، فهلموا بنا نستبدل الشقاق بالاتفاق، ونشتغل فيما يعود على المملكة بحسن العاقبة وعليَّ أن أقوم بجميع واجباتكم وإنزال كل واحد منكم منزلة لائقة به، وأطلق جميع الأمراء المحبوسين من قيودهم وعليكم أن تراعوا مكانتي نظرًا لكوني ابنًا بكرًا لأبينا.»
ثم بعد مضي سنتين شرهت نفس رنجيت سنك للاستيلاء على كشمير، فجهز ثمانين ألفًا من عبدة الأوثان الباباناكيين، وسار بها إلى تلك المدينة، ولم يكن عند عظيم خان سوى عشرة آلاف من المسلمين، فكمن بهم حتى دخل الجيش الوثني الوادي، فأحدقت بهم العساكر الكامنة من الجهات الأربع، وأوقعوا بهم قتلًا وأسرًا، فكان عدد من قتل وأسر أربعين ألفًا وفرَّ باقي العساكر إلى بلادهم، ناجين بأنفسهم من العناء والمشقة، فانفعل لذلك رنجيت سنك، وكتب يستعطف محمودًا ويعتذر إليه مما فعل قائلًا: «إن الذي أغراه على ما فعل إنما هو شاه شجاع» ولما استشعر بذلك الشاه همَّ بمفارقة لاهور فطمع رنجيت سنك في مجوهراته، فأبى أن يسلمها إليه على وجه الملكية بل أعطاه إياها على سبيل الأمانة، وكان من جملتها درباي نور «وأظن أنها هي التي أصبحت الآن درَّة تاج بريطانيا» ثم فرَّ ليلًا والتجأ إلى الحكومة الإنجليزية، فتأسف رنجيت سنك لذلك، وكتب إليه يستميله إلى الرجوع، فلم يطب به نفسًا، فردَّ عليه مجوهراته، وأما الإنجليز فإنهم عدُّوا التجاء الشاه إليهم من أسباب حظهم فأكرموا وفده.
وفي تلك الأوقات تحركت عزيمة شاه زمان الأعمى، الذي كان موقرًا عند العلماء والأمراء للسفر إلى بلخ قاصدًا زيارة قبر هناك مشهور بأنه قبر سيدنا علي — رضي الله عنه — فبلغها، وسافر منها إلى بخارى، فقابله أميرها «مير حيدر» بالتعظيم والإجلال، وتزوج بابنة الشاه، ثم سافر من بخارى إلى طهران، فأكرمه فتح علي شاه مزيد الإكرام، وزوَّده ثم شخص إلى بغداد، وكان واليها إذ ذاك داود باشا المشهور، ومنها قصد الحج، فمات في الأقطار الحجازية.
وفي خلال تلك الحوادث سنة ١٢٢٢ من الهجرة أزمع حاجي فيروز الدين الذي كان واليًا في هرات من طرف أخيه محمود أن يفتح خراسان معتمدًا على همة «صوفي الإسلام» البخاري الذي هو من الصوفية الجهرية، وقد كان ترك بلاده خوفًا من «بيك بان الأزبك» وكان أيضًا يزعم أن الوحي ينزل عليه وأنه يقدر على خرق العادات طامعًا أن يرتقي بأنفاسه الباطنية إلى عرش السلطنة، فجهز خمسين ألفًا من قبائل هرات وقندهار واندخود وكندز وميمنة وفارياب، وسار بها إلى قلعة شكيبان، فلما أحسَّ بذلك نائب خراسان محمد خان فاجار جهز جيشًا لمقابلته، فلما تقابل الجيشان على بُعد سبعة فراسخ من هرات اشتعلت نيران الحرب بينهما، حتى فني كثير من الحزبين، وقتل صوفي الإسلام المذكور، وكان في قلب المعسكر داخل هودج مزركش ومحاطًا بثلاثمائة وستة وستين من خُلَّص أتباعه بعدما قتلوا جميعًا، فعند ذلك تقهقرت عساكر فيروز الدين إلى هرات، وأما عساكر محمد خان، فقد أحرقوا جثة صوفي الإسلام، وأرسلوا جلدة رأسه بعد سلخها، وحشوها تبنًا إلى فتح علي شاه. «هذا جزاء من أوقع الفتنة بين طائفتين من المسلمين حتى سفك بعضهم دم بعض، حيث غرَّهم وأوهمهم بمشيخته وتمويهاته وادعائه الكاذب أنه ممن ينتهي إليهم زمام التصرُّف في عالم الكائنات، بما ينطوي عليه من القوة الإلهية والأسرار الربانية.»
وبعد انهزام فيروز الدين اضطر إلى أن يرسل إلى الشاه هدايا فاخرة، استمالةً لقلبه واتقاءً لضرره، بكف عساكره عنه، وقد تعهد أيضًا أن يقدم إلى سدة الشاه كل سنة جزءًا وافرًا من الخراج، وكان فيروز بعد هذه المصالحة مع الإيرانيين بين إقدام وإحجامٍ، ومحاربةٍ ومصالحةٍ، وتسننٍ وتشيعٍ، إلى أن اشتدَّت المنافسة بينه وبين حسن علي ميرزا بن فتح علي شاه والي خراسان، وخاف من إغارته على بلاده فأرسل سفيرًا إلى أخيه شاه محمود يستمد منه، فعدَّ محمود ذلك وسيلة للاستيلاء على مدينة هرات فأرسل وزيره فتح محمد خان بجيش جرَّارٍ، ولما وصل إلى المدينة استوحش منه فيروز ولم يسمح بدخوله فيها، بل أمره أن يتوجه لأخذ غوريان من يد الإيرانيين، إلا أن فتح محمد خان كان مأمورًا من طرف سيده بدخول مدينة هرات فلم يَرَ بدًّا من إعمال الحيلة لأخذها، فأرسل إلى فيروز يطلب منه القدوم إلى المعسكر ليستشيره، فلما خرج إليه قبض عليه وأرسله مع أهله أسيرًا إلى قندهار ودخل المدينة وأقام بها، وجهز أخاه كهندل خان لتسخير غوريان، ونشر مكاتيب في بلاد خراسان يدعو بها رؤساء القبائل للاتحاد معه على محاربة الإيرانيين.
ولما سمع بذلك حسن علي ميرزا أرسل جيشًا لمحافظة تلك البلدة، ولما حصل التقاوم بين المدافعين والمهاجمين جهز فتح خان جيشًا كبيرًا من أهالي قندهار وهرات وبلوجستان وسجستان وقبائل جمشيدي وهزاره وفيروز كوهي، وسار به مصحوبًا بالمدافع والزنبورك لتسخيرها وسائر بلاد خراسان الباقية تحت سلطة الإيرانيين، وعند وصوله إلى كوسيه بلغه أن حسن علي ميرزا وصل بعساكره إلى «كافر قلعة» لمقاومته، وكان بينهما إذ ذاك فرسخان، فأرسل إليه سفيرًا يطلب منه تسليم غوريان، ويهدِّده بالحرب قائلًا: «من ذا الذي يدري عاقبة الحرب أهي لك أو عليك؟ وربما أوقعك كبرك واشمئزازك الناشئان عن رؤيتك نفسك ابن سلطان في أمرٍ يوجب تزلزل سلطنة أبيك.» فأجاب حسن علي ميرزا على لسان سفيره: «بأن سيدك محمودًا المتربي بنعمة الشاه لا يليق به أن يتكلم بمثل هذا الكلام، فضلًا عن خائنٍ مثلك قد حارب ساداته السدوزائية.»
فلما رجع السفير خائبًا ساق فتح خان عساكره إلى كافر قلعة، ووقعت بين العسكرين محاربة مهولة، قُتل فيها جمٌّ غفيرٌ من الفريقين، حتى إذا كاد أن ينهزم العساكر الإيرانيون أصيب فتح خان برصاصة في فمه، فتقهقر إلى هرات، فاضطرب شاه محمود وولده كامران اللذان كانا وقتئذٍ في المدينة، فأرسل ملا شمس مفتي هرات وخان ملا خان «أي شيخ الإسلام» إلى فتح علي شاه ليخبراه أن هذه الجراءة من فتح خان، ولم تكن بعلم من محمود، وليستعطفا قلبه إليه، ولما اطلع الشاه على فحوى السفارة خاطب السفراء قائلًا: «إني لا أرضى من شاه محمود إلا أن يبعث إليَّ فتح خان أو يسمل عينيه.» ولما أحاط كمران بذلك علمًا حمله الجبن وضعف النفس وقلة العقل على سمل عيني هذا البطل الشجاع الذي أقعد أباه على كرسي السلطنة وحبسه مع أخيه «شيردل خان» وفرَّ «دل خان» أخوه الثاني من هرات إلى قرية «نادر علي» وتحزَّب مع جماعة من الغلجائي على كامران ليخلص أخويه، وعند سماع كامران هذا التَحزُّب أمر بإطلاقهما، جبنًا منه وضعفًا.
ولما شاع خبر سمل عيني فتح خان ووصل إلى مسامع أخيه الثالث الشديد البأس «عظيم خان» والي كشمير، أرسل اثنين من إخوته، وهما «دوست محمد خان» و«يار محمد خان» إلى بيشاور لطلب شاه زاده أيوب أخي محمود ليقلداه السلطنة، وقعد فعلًا، وناديا باسمه، ودخلا في حدود «جلال آباد» وهجم دوست محمد خان على كابل، وافتتحها، وأرسل أيضًا أخاه محمد زمام خان لطلب شاه شجاع الذي كان مقيمًا في البلاد الهندية التي كانت تحت سلطة الإنجليز، فجاء شاه شجاع المذكور وحارب «سمندر خان» والي دره وغلبه.
وبالجملة فقد قام إخوة فتح خان الذين يبلغ عددهم عشرين رجلًا، واتحد كل واحد منهم بواحد من أبناء تيمور شاه الذين يبلغ عددهم اثنين وثلاثين رجلًا، وداروا بهم في البلاد الأفغانية شرقًا وغربًا، وقلعوا أساس ملك محمود ولم يبق في يده سوى قندهار وهرات، ثم انتزعوا الملك من أبناء تيمور، واستقل كل واحد في ولايةٍ من ولايات أفغانستان، كل ذلك أخذًا بثأر عيني أخيهم.
ثم بعد زمن قليل استولوا على قندهار ونزعوها من يد محمود أيضًا فانحصرت سلطة محمود على هرات ونواحيها، وفي سنة ١٢٤١ ساء ظن محمود بابنه وتفرَّس منه العصيان وخاف منه أن يقبض عليه فخرج من هرات، وجمع بعضًا من قبائل «فره» وتوجه لمحاربته، فاضطر ابنه للالتجاء بحسن علي ميرزا، والاستغاثة به، فأغاثه فغلب أباه وهزمه، وأعدَّ كامران — أي الابن المذكور — بعد هذه الواقعة مأدبة فاخرة في هرات دَعَا إليها حسن علي ميرزا وسلمه مفاتيح خزائنه.
وفي أثناء هذه الفتن استفحل أمر رنجيت سنك الوثني الذي سبق ذكره حتى استولى على ولاية كشمير على غيبة من محمد عظيم خان واليها، حيث ذهب إلى كابل لزيارة أخيه دوست محمد خان، وفي سنة ١٢٤٥ أرسل كامران سفيرًا إلى الشاه ليستعين به على أبيه محمود ثانيًا، فصادف وصول السفير إلى إيران وفاة أبيه بمرض الوباء، وتلاقى هذا السفير مع فيروز الدين الذي ذكرنا أنه حبس في قندهار، وكان قد هرب منها إلى إيران في فتنة فتح خان، فاتفق معه على خلع كامران وإجلاسه على كرسي هرات، وأغراه بأن يستعين بالشاه على ذلك، وبعدما أبرما أمرهما، وجهزا بعضًا من الجيوش، وقفلا إلى هرات، وقعت في أثناء الطريق منازعة بين خدم فيروز وبعض الإيرانيين فخرج لمساعدة خدمه فقتله الإيرانيون على غير علم منهم.
وفي سنة ١٢٤٨ عزم عباس ميرزا على أن يفتح هرات فأرسل ابنه محمد ميرزا مع عسكر جرَّار إليها، ووقعت محاربات شديدة آلت إلى محاصرتها، وكان سفير الإنجليز «مستر كميل» وقتئذ قد سعى سعيًا بليغًا لمنع هذه المحاربة، ولكن خاب مسعاه، وبينما كان محمد ميرزا محاصرًا لتلك المدينة إذ بلغه موت أبيه، فرأى من المصلحة أن يطلب المصالحة مع كامران، فوقع هذا الطلب عند كامران موقع القبول، وحوَّل أمر المصالحة على وزيره «يار محمد» الذي كان إذ ذاك محبوسًا عند الإيرانيين في مشهد، فعقدت المصالحة على أن تضرب السكة في هرات باسم فتح علي شاه، وأن يدفع له كامران في كل سنة خمسة عشر ألف تومان.
ولما علم الإنجليز أن دخول الممالك الأفغانية في حوزة الإيرانين يستعقب زوال سلطتهم في الهند جهزوا شاه شجاع، وأيدوه بعساكر من لدنهم، وأوعزوا إلى رنجيت سنك الوثني وأمير السند «مير غلام علي خان» بتأييد شاه شجاع فَلَبيا دعوتهم، وإن لم يكونا تحت سلطتهم، فأيداه وعززاه بالعساكر، حتى تمَّ له من العساكر نحو ثلاثين ألفًا وتقدم بهم إلى قندهار من طريق بنجاب، فقابله كهندل خان وإخوته وقاتلوه، فهزموه شر هزيمة، وفرَّ إلى هرات، واستنجد ابن أخيه كامران، فأبى، وبعد معاناة مشاق كثيرة وصل إلى بلوج ومنها إلى الهند. «والحاصل أن شره تيمور شاه وانهماكه في الشهوات، وحرصه على اللذات، وكثرة أولاده من أمهات مختلفة، أوجب سلب الراحة، وزوال الأمنية عن الأهالي، وسفك دماء ألوف من الناس، وحرص كل من أبنائه على الملك تسبب عنه حرمان الجميع.»
وفي سنة ١٢٥٠ عزم كامران على فتح سجستان، فالتجأ أميرها إلى محمد شاه بن عباس ميرزا فاتخذ الشاه ذلك وسيلة إلى فتح هرات فجهز جيشًا وسار إليها، وحاصرها زمنًا طويلًا، وكان الأفغانيون يخرجون من الحصار، ويهاجمون عساكر الشاه ببسالة غريبة. ولما اشتد الأمر على كامران أرسل ابنه نادر ميرزا إلى «ميمنة» و«شبر فان» ليدعو الأزبك وهزازه، فأجابوه دعوته، وجهزوا جيشًا عظيمًا ساقوه إلى هرات لرفع الحصار عنها، ووقعت بينهم وبين عساكر الشاه محاربات كثيرة قتل فيها جمعٌ كثير من الطرفين، ثم استظهرت عساكر الشاه عليهم فاضطرب لذلك كامران، واستشار وزيره في أمره، فانحطَّ رأيهما على المناداة بالحرب الدينية، فتوسلا بمُلَّا عبد الحق أحد علماء هرات العظام، فقام يوم الجمعة، وأذَّن في الناس بالجهاد الديني، فلباه أهل المدينة وسكان القرى القريبة منها. فاغتسلوا غسل الجمعة وقصوا أظافرهم، ولبسوا أكفانهم، وخرجوا يهجمون على أعدائهم، وأوقعوا بهم، وقتلوا كثيرًا من أعيان الإيرانيين إلا أنهم لم يقدروا على إجلائهم فرجعوا إلى البلد.
وبعد أن طال زمن الحصار توجه سفير الإنجليز «مكنيل» من طهران إلى المعسكر، وبعد أن تقابل مع الشاه، ورأى أن افتتاح المدينة قد قرب، وفي علمه أن ذلك يوجب انقياد الأفغانيين واتحادهم معه، وفيه من المضرَّة بسلطتهم في الهند ما لا ينكر، قال للشاه: «دعني أدخل المدينة، وأرضي كامران بالتسليم.» فأذن له الشاه ظنًّا منه أنه صادق فيما يدعي. فلما دخل المدينة، ولاقى كامران أخذ في تشجيعه وتثبيته، وقال: «لا يصح لك أن تسلم أصلًا وإنك إن تَثبَّتت قدماك زمنًا ما نرسل لك المدافع والبنادق والذخائر.» وأوثقه على ذلك، ثم خرج وقال للشاه: «إنني كلما هدَّدته هو وعساكره أو رغَّبتهم، لم ينجع مقالي فيهم، ولم يرهبوا لتهديدي، ولم يطمعوا لترغيبي …» وبعد ذلك أمر الشاه بجمع النحاس الموجود بالمعسكر، فعملوا منه مدفعًا هائلًا، ورفعوه على تلٍّ عالٍ، وسلَّطوه على المدينة، وأخذوا في إطلاقه فاشتد البلاء على من فيها مع شدَّة القحط والغلاء، حتى إنهم أخرجوا من الضعفاء والفقراء نحو أربعة عشر ألفًا، فأرسل كامران سفيرًا لعرض التسليم، ولما استشعر بذلك سفير الإنجليز اضطرب، وأرسل إلى كامران سرًّا يطلب منه التثبت، ويعده بأنه سيرفع هذا البلاء عنه، ثم ذهب إلى الشاه وقال له: «إن بين إنجلترا ودولتكم مودَّة، وإن فتح هرات يستوجب ثوران الفتنة في الهند، فأرجو منكم أن تكفوا عنه.» فلم يقبل رجاءَه.
ولما سئم الشاه من طول المحاصرة، ركب جواده، وتقدم أمام العساكر، ونادى فيهم الهجوم على المدينة، فهجمت العساكر دفعة واحدة، وأطلقت المدافع عليها، فتهدَّم كثير من أسوارها، وكادت تفتح، لولا أن السفير الإنجليزي تقدم إلى الشاه وقال: «إنني أتوسل إليكم أن تأذنوا لي في الذهاب إلى المدينة ثلاثة أيام حتى آتي بكامران ووزيره وأسلمهما لكم بدون سفك دماء وسلب أموال، ولمجد إنجلترا لا تردوا رجائي هذا.» فأذن له الشاه بذلك لمجد إنجلترا، ولما اتصل بكامران وشيعته أعطى لهم خمسة آلاف جنيه، وقال: «إن الحرب قد وضعت أوزارها ثلاثة أيام فأقيموا ما انهدم من الأسوار وتثبتوا إلى أن تأتي مراكبنا من خليج فارس.» ولما اطلع الشاه على ذلك طرده من المعسكر، وبعد ذلك احتدَّ الشاه واضطرمت نيران غضبه وأعاد الهجوم على المدينة، وحمي وطيس الحرب، وثبت الأفغانيون في المدافعة، وبلغ من أمر الإيرانيين أن كانوا يصعدون إلى رأس القلعة والأفغانيون كانوا يدافعونهم عنها وكثرت القتلى بين الطرفين.
وفي أثناء تلك الملحمة جاءت مراكب الإنجليز في خليج فارس، واستولت على جزيرة خارق، فلما بلغ الخبر مسامع الشاه، رأى من الأولى به أن يترك المحاصرة، ويشتغل بمدافعة الإنجليز عن بلاده، وكان سائر مأموري الإنجليز مدة المحاصرة يحثون أمراء كابل وقندهار على حرب الإيرانيين ويحملون العلماء بالدراهم والدنانير على المناداة بالحرب الدينية، ولكنهم لم ينجحوا في مساعيهم، ولقد طالت مدة هذه المحاصرة عشرين شهرًا، وكان ذلك سنة ١٢٥٥.
ولما علم الإنجليز من أمراء الأفغانيين الميل إلى الإيرانيين، إذ كان «دوست محمد خان» أمير كابل و«كهندل خان» والي قندهار وسائر إخوانهما الذي نالوا الملك بعد تفرُّق كلمة أبناء تيمور يراسلون الشاه في خلال محاصرته لمدينة هرات، ويوادُّونه، ويراسلون السفراء إليه، توجسوا من ذلك شرًّا خيفة اتفاقهم الذي يوجب تقلص ظلهم من بلاد الهند، فأخذوا إذ ذاك يترقبون فرصة لاستيلائهم على بلاد الأفغان، فلما أحسوا من الأفغانيين النفور والاشمئزاز من أمرائهم الجدد، رأوا إذ عَنَّت لهم الفرصة أن يتخذوا شاه شجاعًا واسطة يتوسلون بها إلى غرضهم من الاستيلاء على تلك البلاد، فجهزوه في جيش جرار مؤلف من جنود منتظمة وغير منتظمة تقودهم المهرة والأمراء ذوو المراتب السامية والمناصب الرفيعة من الإنجليز، فسار شاه شجاع بذلك الجيش من طريق البلوج وسجستان إلى قندهار، وكان قد تقدم هذا الجيش رجال يدعون الأفغانيين إلى شاه شجاع، ويذكرونهم بأنه الوارث الحقيقي للملك، وهو أحق بالسلطنة، ويحثونهم على التخلص من سلطة هؤلاء المتغلبين عليهم، ولما وصل الشاه إلى قندهار رأى واليها كهندل خان أن لا طاقة له على مقاومته لقلة جيوشه وشدَّة ميل أهل المدينة إلى الشاه فخرج هو وعائلته في خمسمائة من خيالته، وقصد طهران فأكرم محمد شاه مثواه وقلده ولاية «شهر بابك» من بلاد فارس.
ثم إن شاه شجاع جعل «تاو» الإنجليزي واليًا على ولاية قندهار، وبعد ذلك سار بجيشه إلى كابل، وفتح في مسيره مدينة قزنة، وبعد وصوله إلى كابل لم يجد دوست محمد خان أميرها من نفسه قوة على المقاومة، ولا اقتدارًا على المصادمة فاضطر إلى الخروج منها، وقصد بخارى ليستعين بأميرها، فلم ينجح قصده، ورأى منه عدم الاحتفال به، بل الإهانة والتحقير، فانقلب راجعًا وسلم نفسه إلى الإنجليز، فأخذوه أسيرًا، وبعثوا به إلى كلكوتا. أما شاه شجاع فقد جعل «ميجر باتنجر» من أعيان الإنجليز واليًا على كابل، ثم استولى على جلال آباد بدون منازع ولا ممانع، وبعد هذا أرسل الإنجليز «بنت جركه» في عشرين خيالًا من الإنجليز مع ثلاثمائة ألف جنيه إلى كامران ليعطيه إياها، ويدعوه إلى إجابة دعوة شاه شجاع، فقبلها وأبقى الرسول الإنجليزي، ومن معه عنده، حتى أنفق ذلك المبلغ في تحصين القلاع والاستحكامات وجمع الذخائر، ثم طردهم جميعًا، وبعث إثر ذلك إلى محمد شاه يعتذر له عما فرط منه في حقه، وقبل أن يخطب، ويضرب السكة باسمه، وكان ذلك سنة ١٢٥٧، وعلى كل حالٍ قد استتب الأمر وتوطدت السلطنة في غالب أنحاء البلاد الأفغانية لشاه شجاع، لكن صورةً، وللإنجليز معنى، حتى أيقن الإنجليز كافةً أن البلاد الأفغانية آلت إليهم، وصارت جزءًا من ممالكهم، يستحيل تملصها من أيديهم، وقد لبثوا فيها ثلاث سنين وبضع شهور.
وفي أثناء ذلك اتفق أن محمد أكبر خان الذي كان بعد أسر أبيه دوست محمد خان يجوب المدن ويجول في البلاد، وَرَدَ مع جماعة من رجاله على مدينة باميان، فاجتمع به هؤلاء وانضمَّ إلى الجميع أيضًا جماعة من طائفة الغلجائي الذين كانوا قد فرض لهم الإنجليز راتبًا ثم قطعه عنهم حكمدار الإنجليز في الهند ضنًّا وشحًّا، فاشتدَّت الفتنة وعظم الخطب فبادر الإنجليز بإرسال «مكننكتن» و«منتس» مع جماعة من العساكر لتدارك الأمر وكف شر هذه الفتنة، ولما زايلوا كابل، وصاروا على مسيرة ثلاثة فراسخ منها خرجت عليهم شرذمة من طائفة الغلجائي، وصادروهم، وقتلوا منهم نفرًا، فوقف الجيش عن المسير، ثم لحق بهم الجنرال سيل، مع أفواج من العساكر، بقصد مبارزة محمد أكبر خان، ولكن كانوا في غاية الرهبة والخوف من إغارة الأفغانيين، وفي ليلة عشرين من رجب بعثوا يطلبون مددًا من العساكر أيضًا فوصلهم المدد وقصدوا مكمن محمد أكبر خان ووقعت بينهم وبين الأفغانيين — وفي أثناء الطريق — محاربة استمرت يومين، ولم يظفروا به. وفي خلال ذلك كان شاه شجاع قد سجن شخصًا اسمه حمزة خان الغلجائي فهاجمت خواطر الغلجائيين، وثار منهم ثلاثة آلاف، وسدوا طريق كابل من سائر أطرافها، فخرج ميجر كريفس خارج المدينة، ووقع القتال بينه وبينهم، وقتل جماعة من أكابر الإنجليز.
وفي غرَّة شعبان هاج أهل المدينة وغَلَّقوا حوانيتهم، وهجموا على منزل إسكندر برنس، وفتكوا به، وصلبوه على قارعة الطريق، ثم انصبوا على خزينة الحكومة فنهبوها، وكانت الخزينة إذ ذاك تحت نظارة جانسن، ولما سمع شاه شجاع وهو في «بالاحصار» بما كان من الأمر أرسل ابنه في رجال من الجند، ومعهم مدفعان، ولكن لم يُجد ذلك في إطفاء نار الفتنة نفعًا.
ثم هجم الأفغانيون في الرابع من شعبان فاستولوا على «باغشاه» وقلعة «محمد شريف»، ووضعوا حامية لقطع المواصلة بين القلعة التي احتكر فيه الإنجليز ذخائرهم وبين استحكاماتهم، وكانت عبارة عن رصيف يبلغ ألف ذراع طولًا وستمائة ذراع عرضًا، وعمدوا بعد ذلك إلى قلعتهم المذكورة فحاصروها، وكان بها «أنسن وارن» مع فوج من الهنود وطائفة من الحرس، لكنهم لم يستطيعوا فك حصار الأفغانيين عنها، حتى رضي الإنجليز بترك القلعة لهم، وإنما أرسلوا «كابتان سوين» مع طائفة من العساكر لاستخلاص أنسن وارن وإنقاذه من أيديهم، ولكن الأفغانيين أوقعوا بهم إيقاعًا، فقتل كابتان سوين وكثير ممن كانوا معه ورجع الباقي منهزمين إلى المعسكر، ثم أرسلوا «أنسن كارون» مع جماعةٍ أيضًا من العساكر لإنقاذه، فلاقوا ما لاقاه الجيش الأول.
ثم ذهب «كابتان بويد» عند سردار عموم العساكر وقال: «لو سلمت القلعة إلى العدو فإنه فضلًا عن أننا نخسر نحوًا من خمسين ألف جنيه قيمة ما فيها من الذخائر لم يبق لدينا من القوت ما يكفينا سوى يومين، فماذا نصنع وليس بالسهل جلب الأقوات والذخائر لبعد الشقة؟» ولما وعي السردار ما قاله له كابتان بويد أرسل إلى أنسن وارن ليثبته، ويأمره بأن يقاوم ما استطاع، وأن يحذر من تسليم القلعة، ويعده بأنه سيدركه عما قليل بالمدد، فأجابه أنسن وارن بأنه: «إذا لم يدركنا المدد هذه الليلة فلا نجاة، ولا مخلص لنا من العدو، إذ أخذ ينقب علينا أحد أبراج القلعة حتى اشتدَّ الخوف، وتمكنت الرَّهبة من قلوب رجالنا، وحتى إن بعض الحامية ألقى بنفسه من القلعة رهبةً ووجلًا، فإن لم تدركونا الليلة بتنا في قبضة عدونا.»
ولما وصل هذا الجواب جمع السردار رؤساء الجيش وأمراءه، وتفاوض معهم، مستمدًّا من رئيسهم حيلة يتوصل بها إلى تخليص القلعة ونجاه حاميتها من بلاء العدو، فجمعوا أمرهم على إرسال المدد في ليلتهم، اعتمادًا منهم على أن الأفغانيين يجهلون وجوب الحراسة، ولزوم التيقظ والانتباه، لكن رأوا من الاحتياط أن يبثوا الجواسيس أولًا ليأتوهم بحقيقة أمرهم، فأرسلوا كابتان جان، فلم يلبث أن غدا عليهم بما آيسهم من إمكان إيصال المدد، إذ رأى الأفغانيين على يقظة يتشاورون في أمر الاستيلاء على القلعة في تلك الليلة، فأضربوا عن إرسال المدد، وعند الفجر زحف الأفغانيون على القلعة ببأسٍ وإقدامٍ شديدين، وأحرقوا بابها، فخرجت حاميتها من الباب الآخر، وهربوا إلى معسكرهم، فاستشاط الإنجليز من ذلك غيظًا ودعتهم خشية العار ومخافة الجوع إلى أن يبعثوا بجيش إلى قلعة محمد شريف ليستولي عليها تحت قيادة ميجر، فأخذ ذلك القائد حينما شرع الجيش في المسير يروغ حينًا ويتوارى حينًا آخر، فلما رأى الإنجليز منه ذلك أجلوا مسيره، وفي الغد جهزوا جيشًا تحت قيادة «كريفتس» وسار، فاستولى على قلعة محمد شريف، وعلى نصف باغشاه، بعد حرب قتل فيها عبد الله خان، وقاتله كان كابتان أندرس، ثم داخل الأفغانيين الحماسة، وأظهروا البسالة، حتى استردُّوا ما أخذ من باغشاه وفتكوا بالإنجليز، وقتلوا منهم عددًا كثيرًا، وفي اليوم الثامن من شعبان انضمَّ «قزل باشا» كابل إلى الأفغانيين، وأخذوا في ثغر قلعة محمد شريف، فغلب الخوف على الإنجليز، واستولى عليهم من الطيش والدهشة ما لا مزيد عليه، وفي خلال ذلك مرض سردار عموم العساكر الإنجليزية، فرأى الوزير المختار الإنجليزي «أي الحاكم العمومي أو القنصل» وكان اسمه «سير وليم» أن يقيم مقام هذا السردار أحدًا سواه، فاستدعى لذلك «بريك دير مشيل تان» فأجابه، وجمع من كان في بالاحصار من عساكر الإنجليز وعساكر شاه شجاع، وقادهم إلى الاستحكامات، وعند وصوله فبدلًا من أن يشجعهم ويثبت أقدامهم، قام في المعسكر وقال: «اعلموا أن لا طاقة لنا على مقاومة الأفغانيين، ولو ثبتنا لاستأصلوا آخرنا فالأجدر بنا أن ننجلي عن هذا المكان، ونلحق بجلال آباد، ونتحصن فيها.» فأجابه السردار قائلًا: «إنا لن نبرح من ها هنا، بل لا نزال ندافع عن أنفسنا ما استطعنا، فإن خروجنا ومقابلتنا الأفغانيين بالبادية ما هو إلا أن نلقي بأنفسنا في أفواه الأسود.»
فزاد اختلاف الكلمة بينهم خوفهم وضاعف وجلهم، وكان من أمر الأفغانيين في هذه الأثناء أن استولوا على المرتفعات المشرفة على المعسكر شرقًا وغربًا، وعلى برج «ريكاباش»، وأخذوا يمطرون على الإنجليز كرات المدافع، ويصبون على رجالهم رصاص البنادق، فبادر الوزير المختار إلى استنهاض «شلتان»، وأمره في الحال بالحملة على قلعة «ريكاباش» فتأهبت العساكر، وهمت بالخروج من الجانب الشرقي، فضل «كابتان بلو» الطريق بمن قادهم، وخرج من جانب آخر، ففاجأه الأفغانيون، فارتعدت فرائصه، ونزل به ما تمنى الموت دون لقياه، فأوقعوا به، وقتلوا من رجاله مقتلةً عظيمة، فهمَّ «كولونيل مكرلان» و«ليفتنانت برت» بأفواجهما لاستنجاد «كابتان بلو» فحال الأفغانيون بينهما وبينه، ووضعوا السيف في العسكرين جميعًا، وإذ رأى شلتان هذا الهول دبت فيه الحمية، فأمر الجيش عمومًا بالحملة على الأفغانيين، فهاجموهم دفعة، فصُدُّوا ثم عاودوا الهجوم، فرُدُّوا، ثم استأنفوا الهجوم، وفي هذه الكرَّة لم يبق منهم في قيد الحياة إلا «ليفتنانت برت» ورجل آخر، ولم تخسر الأفغانيون في تلك الواقعة الهائلة إلا ثلاثين فارسًا، ووفق الإنجليز في خلال كرِّهم وفرِّهم في هذه الواقعة أن استولوا على قلعتي «ريكاباش» و«ذي الفقار»، وأصابوا فيها مقدارًا من الحنطة فأخذوا أن يجمعوه ويذهبوا به إلى معسكرهم، ولكن لم يلبثوا أن أقبل الليل، وهاجمهم فيه الأفغانيون وثغروا هاتين القلعتين عليهم، وتمَّ استردادهما ليلًا وأجلوهم عنهما منهزمين.
وفي الثالث عشر من شعبان قامت طائفة من الأفاغنة، ووضعت ثلاثة مدافع على رابية مشرفة على المعسكر الإنجليزي من الجانب الغربي وأطلقوها عليهم، فالوزير المختار أمر «شلتان» أن يخرج إليهم «ميجار شتوين» فخرج في فريق من العساكر، حتى صار على مسافة اثنتي عشرة ذراعًا من مشاة الأفغان، فوقع القتال بينهما، وثبت الأفغان يومها، وأبلوا بلاءً حسنًا، لكن لما حمي الوطيس، عاد فرسانهم، فاضطرت مشاتهم إلى الرجوع، فاستولى الإنجليز على الرابية، وكسروا عجلة أحد المدافع الثلاثة، وأخذوا الاثنين الباقيين إلى المعسكر، فارتاحت لذلك خواطر الإنجليز بعض الارتياح، وكاد أن يعاودهم بعض ما فقدوا من النشاط، لولا أن جاءهم من قِبَل الجنرال «سيل» الذي كان مقيمًا في جلال آباد خبر بأن ليس في طاقته أن يمدَّهم قبل مضيِّ فصل الشتاء فقنطوا، لكن رأوا حرصًا على الحياة أن يتحيَّلوا لأخذ استحكام محمد خان إذ كان هو المانع من وصول الذخائر إليهم من بالاحصار، فأقعدهم عنه «استورث» المهندس بقوله: «لا طاقة لعساكر الإنجليز على المقاومة بعدُ.» فعدلوا إلى رأي آخر، وهو أن يستولوا على قرية «بيجارو» التي كانوا يتداركون منها أقواتهم، فأرسلوا «ميجار شتوين» مع عددٍ وافرٍ من العساكر، فوجد الأفغانيين قد سبقوهم إلى الاستيلاء عليها، فاقتتلوا هناك حثيثًا، وكانت الدائرة على الإنجليز، فنكصوا على أعقابهم خائبين وقد جُرح كثير من ضباطهم.
وفي الثامن والعشرين من شعبان قدم محمد أكبر خان من باميان إلى كابل، وتواطأ مع الأفاغنة على كلمة واحدة، وفي ذلك اليوم بعينه أجمع الإنجليز رأيًا على الاستيلاء على قلعة بيجاور فأمر الوزير المختار شلتان بالمسير إليها فسار هو وميجار شتوين وميجار قارش في أفواج من العساكر حتى بلغوا محلًا مشرفًا على تلك القلعة، وكان معهم مدفعٌ واحدٌ ليس غير، ولم يكن في القلعة سوى أربعين رجلًا، ثم إن شلتان ندب ميجار شتوين لطريق غير مسلوك، فأوقع بهم هناك حتى قتل منهم جماعةٌ وجُرح ميجار شتوين، وإذ رأى شلتان تلك النازلة أمر ميجار قارش ومائة من المهندسين أن يسارعوا إلى وضع استحكام يقيهم من بلاء العدو، فقبل أن يتمموا وضعه، أبصروا عشرة آلاف رجل من أهل كابل على جبل مشرفٍ عليهم بحيث يصلهم رصاصهم، ففي الحال أمر «كولونيل أوليور» أن تتأهب تلك العساكر، وتنتظم على شكل قلعةٍ وتصطف الخيالة من خلفهم، ويهجم الجميع بهذا الانتظام على الأفغانيين المذكورين، فعاجلتهم خيالة الأفاغنة بالهجوم على ميمنتهم وحاصروا «ليفتنت واكر» وجُرح من الأفغانيين أحد عظمائهم، ثم عمموا الهجوم عليهم من ثلاثة جوانب فضايقوهم، وفتكوا بهم فتكًا ذريعًا، فطلبوا إلى الفرار سبيلًا، إذ إن خيالتهم قد جبنوا عن الهجوم حينما أمرهم به القائد، ورجعوا القهقري، فاستولى الأفغانيون على مدفعهم وذخائرهم، واختاروا العود إلى البلد نظرًا لكون أحد عظمائهم المذكور أصبح جريحًا، فاختلس الإنجليز هذه الفرصة، وأسرعوا إلى الجبل، فاسترجعوا مدفعهم، وأطلقوه على ظهور الأفغانيين فانقلبوا عليهم وهاجموا مهاجمة الغيظ والحنق، فتبدَّد شمل الإنجليز، وتفرَّقوا، وولى من بقي منهم الأدبار فردًا فردًا، وما برح الأفغانيون يطاردونهم حتى أوصلوهم معسكرهم العمومي، ولم يصدَّهم عنهم إلا جدران الاستحكام، ولما اشتدَّ على الإنجليز الكرب، وعظم بهم الخطب جنحوا للسلم، فأرسل الوزير المختار إلى الأفغانيين رسولًا يدعوهم مستعطفًا إلى المسالمة فقالوا: «نجيبكم على شرط أن لا يلبث في بلادنا من جنس الإنجليز ولا واحد.» ثم اقترحوا عليهم أيضًا أمورًا لم يجد الوزير المختار سبيلًا إلى قبولها وكبر عليه الرضاءُ بها، فقام من مجلس رسل الأفغانيين وهو يقول: «إن يوم القيامة لقريبٌ، وسيجمعنا الميعاد، ويتبين الظالم من المظلوم ويتميز الحق من الباطل.» ثم بعد ذلك وقعت بينهم مناوشات استردَّ الأفغانيون فيها قلعة محمد شريف في السادس من رمضان؛ فضاقت الإنجليز ذرعًا، ورأت أن لا محيص من المسالمة طوعًا أو كرهًا، فكتب الوزير المختار سجلًا ينطوي على معاهدةٍ بينه وبين الأفغان ووقع عليه هو و«شيلتان» و«دنيكتل» و«جميرنر».
وفي الحادي عشر من رمضان خرج هذا الوزير مع «كابتان لارنس» و«تردز» و«مكنيزي» وعدد من رجاله إلى قرب جبل «سياه سنك» وعقد هناك مجلسًا مع جماعة من أكابر الأفغانيين، ثم قام فيهم خطيبًا، وقال مستميلًا عواطفهم إليه: «إنا — معشر الإنجليز — طالما عزَّزنا الأمير دوست محمد خان، ورفعنا شأنه وأكرمنا مثواه في كل مكان.» ثم أبرز السجل وعرضه على المجلس وكان مضمونه: «على الإنجليز أن تخلي قندهار وقزنة وكابل وجلال آباد وسائر البلاد الأفغانية على شرط أن يعطيها الأفغانيون رجلًا من أكابرهم رهنًا حتى تخرج من تلك البلاد بسلام، وإذا وصلت العساكر الإنجليزية إلى الهند بادروا بإرسال الأمير دوست محمد خان، وعلى الأفغانيين أن يرتبوا لشاه شجاع «لَك روبية» يأخذها سنويًّا أينما كان سواء أقام في أفغانستان أو خرج منها، وعلى الإنجليز أن لا تدخل عساكرهم في بلاد الأفغان إلا برضى أهلها.»
ولما رُفع هذا السجل إلى محمد أكبر خان، فبعد الجرح والتعديل فيه، قرَّر أنه يجب على الإنجليز أن تخلي سائر البلاد والقلاع في مدَّة ثلاثة أيام، وهو يجري عليهم في الميرة والمئونة، فشرعت الإنجليز على عجل بنقل العساكر من بالاحصار وإخلاء القلاع، مع ذلٍّ ومسكنة لا مزيد عليها، على أن محمد أكبر خان لم يوف بوعده متعللًا بأنه لا تطيب نفسه بإجراء المئونة عليهم ما لم يخلوا القلاع بالمرة.
وفي الثامن عشر من رمضان نزل الثلج عليهم فتضاعفت مصيبتهم فاضطروا لإخلاء قزنة، واستحضار عساكرهم.
وفي العشرين منه عقد الوزير المختار مجلسًا مع الأفغانيين لحسم الأمر، فطلبوا منه أن يعطيهم نصف ما مع العساكر الإنجليزية من المدافع والجبخانة، فدان لطلبهم رغمًا، ورضي به عجزًا، بل زاده أنه سلمهم «كابتان كيلي» و«كابتان ابري» رهنًا على وفائه بما طلب منه.
وفي الثاني والعشرين منه جاء «مستر اسكنير» الذي كان أسيرًا عند محمد أكبر خان إلى الوزير المختار، وأخبره أن محمد أكبر خان يبتغي منه أمرًا عسيرًا فارتبك وانعقد لسانه ثم قال: «وهو أنه يريد أن تيسر إليه ووجوه ضباط العساكر ليفصم معكم الأمر مرَّة واحدة.» فلما وعي ما سمع لم يجد بدًّا من الطاعة لكنه خشي عاقبة الغدر، فنادى في العساكر بالتأهب والاستعداد خارج الاستحكام ثم سار هو ورؤساء العساكر إلى تلٍّ، حيث ينتظرون قدوم محمد أكبر خان، فلم يلبث أن حضر مع بعض من خوانين الأفغان وأخذ يفاوض الوزير المختار، وكل من الخوانين كان يفاوض رئيسًا ممن معه من ضباط العساكر، ثم أخذت خيالة الأفغان تتوارد عليهم فرادى فرادى، ومثنى مثنى، وعما قليل صرح محمد أكبر خان على قومه بأن يبطش كلٌّ منهم بمن يفاوضه ففعلوا، أما الوزير المختار فقد قطعت يده وجرَّ وهو يستجير ويستغيث ويصيح: «وا ويلاه وا غوثاه.» ثم جزُّوا رأسه وطافوا به في أزقة كابل وصلبوا «تروار» على قارعة طريقها، وأما «لفتننت أبري» وهو الذي روى خبر هذه الواقعة وأبان فيما كتب سخافة عقول الإنجليز وجبن قلوب أمرائها وضعف آرائهم فقد وقع أسيرًا في يد محيي الدين الأفغاني ثم هو مثَّله بين يدي محمد أكبر، فنظر إليه بعين يتقاطر منها الغضب وخاطبه بقوله: «أكنتم طامعين — أيها الإنجليز — في بلادنا؟ أرأيتم ما حلَّ بكم جزاءً عقابًا؟ لكني عفوت عنك فليس لي بقتلك حاجة.» ثم وكل أمر حفظه إلى مُلَّا مؤمن.
ثم إن «ميجر بتنجر» الذي خلف الوزير المختار المسمى «سير وليم» همَّ بافتتاح أمر الصلح ثانيًا مع الأفغانيين، فقالوا: «نجيبك على شروط؛ الأول: أن تترك العساكر لنا مدافعهم ولا يبقى لهم سوى ستة، الثاني: أن تسلم لنا الأموال والأدوات والأثقال المتعلقة بالخزينة، الثالث: أن تعطينا جماعة من كبراء الإنجليز بأولادهم وزوجاتهم رهنًا، الرابع: أن توفي بما كان الوزير المختار وعدنا به من إعطائنا أربعة عشر لكًا من الروبية.» فلما سمع هذه الشروط ورأى أن المقام مقام لا تروج فيه الحيل الثعلبية التي تعوَّدها الإنجليز، بل هو مقام الطعن والضرب، ومجال السيف والرُّمح، لم يجد له محيصًا من قبولها، وإن كانت شاقة ولا ترضى بها نفس حرَّة، نعم، إن الجنرال «ألفستون» أراد أن يظهر الشمم والحماسة، فانتفخ انتفاخ الهرَّة، لكن انتفاخه لم يؤثر في دم الإنجليز من الحرارة أثرًا، بل تواطأ أمراء العساكر في التاسع والعشرين من رمضان على إعطاء «كابتان درمند» و«كابتان وانسن» و«كابتان واربرتن» و«كابتان دب» مع نسائهم وأولادهم رهنًا، ثم جعلوا المجروحين في منزل أحد الأفغانيين، وتركوا معهم بعض الأطباء، وسلموا الأفغانيين خمسة من المدافع السلطانية.
وفي اليوم السادس من شوَّال تجهزوا للرحيل، وساروا بتسعة مدافع واثني عشر ألف جمل تحملهم رجالًا ونساءً وأطفالًا، وفي خلفهم العساكر المشاة يسيرون على أرجلهم، فوصلوا إلى نهر يلزمهم اجتيازه، وليس عليه سوى قنطرة، فبعد أهوال وأوحال وموت كثير منهم اجتازوه، وقطعوا مسافة ما إلى أن وصلوا إلى «بكران». على أن الأفغانيين لم يتركوهم وبلاءهم، بل اقتفوا أثرهم كالذئاب الجائعة ينهبونهم ويسلبونهم حتى أخذوا منهم مدفعًا آخر، وقدَّموه إلى محمد أكبر خان، ثم إن محمد أكبر خان عاد، وشرط عليهم أن يسلموه ستة أشخاص أيضًا من كبرائهم، فأجابوه وعاهدوه على أن لا يطلقوا بندقية واحدة، ولا يشهروا سلاحًا على أفغاني بشرط أن لا يتعرَّضوا إليهم بالإيذاء ولا إلى أقواتهم بالنهب والسلب، ووصلوا بعد زمن قصير مصحوبين بهذه الذلة والمسكنة إلى «بث خاك».
وفي اليوم الثامن من شوَّال أعاد الأفغانيون إطلاق الرصاص عليهم فهمَّ «ميجر شتوين» بأن يدافع فلم يقوَ، ثم طلب محمد أكبر خان منهم جماعة أخرى رهنًا فوق مَن أخذهم فسلموا، حتى سلموا، ووصلوا إلى الطريق الموصل إلى «خورد كابل»، وهو عبارة عن شعب يمتدُّ بضعة أميال طولًا، والمسلك الذي يجب اجتيازه هناك واقع في سفح جبل يكتنفه من أحد جانبيه نهرٌ ينحط عنه بستين ذراعًا وقمة الجبل من الجانب الآخر. فأدركهم هناك الأفغانيون وحاصروهم وأخذوا منهم مدفعًا ولم يصلوا إلى قرية خورد كابل، حتى قتلوا منهم ثلاثة آلاف شخص وسلبوا جلَّ ذخائرهم.
وفي اليوم التاسع من شوَّال الذي كانت الأحياء فيه تحسد الأموات، جاءهم وهم يريدون الرحيل خبر من عند محمد أكبر خان وهو أنه التزم صيانة النساء والأطفال والجرحى فداخلهم بعض الاطمئنان من هذا الخبر.
وفي اليوم العاشر منه فاجأهم الأفغانيون وهم على أهبة المسير، وأحاطوا بهم فسدُّوا عليهم المسالك، ووضعوا فيهم السيف، ولم تستطع الإنجليز حراكًا، بل كانت عساكرهم الهندية تلقي بأسلحتها وتطلب الفرار، ولكن لا تجد سبيلًا ولا منقذًا من دائرة المنايا، ولم ينته بهم السير إلى «قبر جبار» إلا وقد استأصلهم السيف وسلبت أمتعتهم وأموالهم وذخائرهم، ولم يبق مع من بقي منهم سوى مدفع واحد، وقد غص معبر «هفت كتل» بجثث القتلى.
وبالجملة فقد قتل من عساكرهم المنتظمة خاصة من يوم خروجهم إلى يوم وصولهم إلى «كتر سنك» اثنا عشر ألفًا، أما عدد من قتل من العساكر غير المنتظمة فعلمه عند الله. وفي ليلة بلوغهم إلى «كتر سنك» أسرت جماعة منهم، وسلب المدفع الذي كان باقيًا معهم.
وفي اليوم الحادي عشر منه خرجوا من «كتر سنك» إلى «جكدلي» فوصلوها وقت العصر، وإذ ذاك قاموا على تلٍّ، واصطفوا عليه وأظهروا الجلادة إرهابًا للأفغانيين؛ فغضب من ذلك الأفغانيون، وأشرفوا على مرتفعات هناك، وأطلقوا عليهم المدافع والبنادق، ثم إن محمد أكبر خان طلب «اسكينز» وقال له: «لا بدَّ لكم أن تعطوني أيضًا شيلتان وجان سن رهنًا.» وفي أثناء المكالمة أطلقت على اسكينز رصاصة من حيث لا يعلم فمات، فلما رأى الإنجليز ذلك بادروا بالمسير قاصدين «جلال آباد» فابتدرهم الأفغانيون بالسيوف من سائر الأطراف، وكان عدد القتلى في هذا الموقع أكثر مما هو في «خورد كابل».
وفي صبيحة الثالث عشر من شوَّال رأى الأفغانيون أن قد قلَّ عدد رجال الإنجليز، فطافوا بهم فقتلوا بعضًا، وأسروا بعضًا آخر، ولم ينجُ من يد الأفغان إلا «دكتر بريدون» ففرَّ، ولحق بجلال آباد، وأخبر رأسًا الإنجليز بالواقعة، «كأن الأفغانيين علموا أن لوث حيل المحتال، ودرن مكره، وأوساخ خداعه لا يطهرها إلا دمه المهراق، وأن عين الطامعين لا يملؤها إلا تراب القبور، فأراقوا دماء الإنجليز، وجعلوا شعاب جبالهم قبورًا لقتلاهم، وأذاقوهم مرارة نقض العهود.»
وعاد محمد أكبر خان بالأسراء من الضباط والنساء والأطفال والجرحى إلى كابل، وهذا ما انتهى إليه حال جيش كابل الإنجليزي، وأما الجيش الإنجليزي الذي كان في مدينة قزنة، فقد أصيب به الجيش الأول فهلك بعض من الجوع والبرد، وقتل بعض بحدِّ سيف الأفغانيين، وأسر الباقي، ومكثوا في الأسر شهورًا، ثم أرسلوا إلى كابل، فاستقبلهم محمد أكبر خان وأكرم مثواهم واجتمعوا هناك بميجر بتنجر، وبعد هذه الواقعة ردَّ محمد أكبر خان للضباط سيوفهم ومنحهم بعضًا من الدنانير، وكان يتعطف على النساء، ويتلطف بالأولاد، ثم اتفق أنه قتل «شجاع الدولة خان الباركزاي» شاه شجاعًا، فحصل الهرج والمرج بين الأفغانيين وتحزَّبوا أحزابًا، وتفرَّقت كلمتهم، وتنازعوا الملك، وتقاسمه أمراؤهم. فعسكر محمد خان خارج المدينة وانضمَّ إليه «فتى جنك» ابن شاه شجاع.
وفي أثناء هذه الفتن قدم الجيش الإنجليزي الذي كان متحصنًا زمن الشتاء في قندهار، إلى كابل، وانضمَّ إليه بعض من المدد، ووقع بينه وبين محمد أكبر خان بعض مناوشات، وآل الأمر بعدها إلى المسالمة، وأطلق سبيل أسرى الإنجليز وتعهد الجنرال «بولوك» بإرسال الأمير دوست محمد خان وعائلته إلى أفغان، ولما رأت العساكر الإنجليزية تفرَّق كلمة الأفغانيين وتشتتهم وعدم وجود من يضارعهم في المقاومة والمغالبة تطاولوا على البلاد وأحرقوا «جهارته» «السوق الشهيرة الموجودة من عهد أورنك زيب التيموري سلطان الهند وكانت من أبدع الأبنية، وفيها عقود متتالية، يبلغ طولها ستمائة قدم، وعرضها ثلاثين قدمًا. وكان على جدرانها النقوش المزخرفة والتصاوير الأنيقة، وقد علَّق الأفغانيون فيها جثة الوزير المختار سير وليم.» وزحفوا على قرية استالف، وقتلوا من بها من الرجال والنساء صغيرًا وكبيرًا صحيحًا وجريحًا، واعتصم محمد أكبر خان وأهل مدينة كابل بالجبال وقتئذٍ، ولما انتقمت العساكر الإنجليزية من الأفغانيين على زعمهم، قفلوا إلى الهند مسرعين فرارًا مما عساه أن ينزل بهم.
وبالجملة فإن طمع الشاه شجاع في السلطنة قد ساقه إلى البحث عن حتفه بظلفه، وإن حرص إنجلترا على تملك بلاد الأفغان وشغفها بها أوجب أن تكون مساكنها فيها قبور أجسامها، وإن صيانة الأفغانيين لجرحى الإنجليز ونسائهم وأولادهم، وإن قتل الإنجليز لنساء قرية استالف وأولادها ومرضاها قد أبان للعالم السجايا الشريفة غير المكتسبة التي لم يدنسها طول المكث في الجبال والأودية والطبائع الخسيسة التي لم تهذِّبها العلوم والمعارف ولم يطهرها زلال التربية.
ثم أطلقت الإنجليز الأمير دوست محمد خان من الأسر، فرجع إلى كابل، واستولى عليها وعلى جلال آباد وما يجاورها من البلاد، وأما كهندل خان أخو دوست محمد خان الذي بيَّنا سابقًا أنه قد التجأ مع إخوته إلى شاه إيران فإنه لما سمع أن العساكر الإنجليزية قد أخلت مدينة قندهار، جهز جيشًا صغيرًا بإعانة الشاه، وسار به إلى قندهار، وبعد مناوشات يسيرةٍ وقعت بينه وبين بعض من السدوزائية دخلها، وتمَّ نفوذه في أقطارها، وقد وقع بينه وبين الأمير دوست محمد خان محاربات كانت الغلبة فيها للأمير وساق أيضًا عساكره إلى هرات ولكن رجع خائبًا.
وبعد بضع سنين من إمارة الأمير هجم رنجيت سنك بعساكره على مدينة بيشاور، وكانت الحرب بينهما سجالًا، ولما كان زمن المحاربة وقُتل من الطرفين عددٌ كثيرٌ، ورأت الإنجليز أن دخول بيشاور التي هي مفتاح بنجاب تحت سلطة الأفغانيين يوجب استفحال أمر الأمير ويورث الخلل في الممالك الهندية الإنجليزية أسرعت إلى المصالحة بينهما على شرط أن تكون تلك المدينة بيد رنجيت سنك الوثني، فكأن أمة الإنجليز بفعلها هذا لم تقصد سد طرق الخلل عن بلادها فقط، بل أرادت أن تهيئ سبل استيلائها عليها علمًا منها بأن الإمارة السيكية التي شكلها رنجيت سنك واهية الأساس، وقد تمَّ لها ما أرادت حيث استولت عليها بعد المصالحة بزمن يسير، وإثر هذه الوقائع اتفق موت كهندل خان المذكور، ووقعت المنازعة بين إخوته وأبنائه في الملك وآل الأمر إلى المقاتلة وسفك الدماء، ووقع الهرج والمرج في المدينة، فاتفقوا جميعًا على جعل دوست محمد خان حكمًا بينهم، فسار بعسكره إلى قندهار حين بلغه ذلك، واستولى عليها، وعين لكل من المحكمين مرتبًا شهريًّا؛ سدًّا لشرههم، وكفًّا لشرِّهم، وتمت له بذلك السلطة في غالب البلاد الأفغانية، وكان قد أرسل ابنه «محمد أكرم» إلى الأقطار البلخية التي نبذ أهلها طاعة الأفغانيين عند استيلاء الإنجليز على البلاد، واستقلوا بأمرهم فأدخلهم تحت الطاعة. ولم يبق تحت سلطة غيره من المدن الأفغانية الأصيلة إلا مدينة هرات التي بيَّنا سابقًا كونها في قبضة كامران ذلك البطل الذي قاوم العساكر الإيرانيين بغاية الثبات والحزم عشرين شهرًا مع قلة عَدده وعِدده، ثم غلبت عليه الشهوة، واستولى عليه الهوى، وانهمك في السكر حتى نفرت منه قلوب الناس، ولعب به وزيره «يار محمد خان البامي زائي» وخنقه في قرية خارج المدينة، واستولى على الملك، وانقرض بموت هذا سلطة العائلة السدوزائية من البلاد الأفغانية.
وبالجملة، فإن ما اكتسبه أحمد شاه السدوزائي من الممالك الواسعة والسلطة التامة بسبب الشجاعة والتدبير والعدالة والاقتصاد في المعيشة قد أضاعه أبناؤه وأحفاده، بالجبن والسفه والجور والترف والانهماك في الشهوات. وكان هذا الوزير على الدوام يرسل إلى شاه إيران ويحتمي بحمايته صيانة لبلاده من سلطة سائر الأمراء الأفغانيين. وخلفه بعد موته ابنه «صيد محمد خان» بإعانة الشاه، وكان هذا الخَلَف سفيهًا سيئ الخلق قسيَّ القلب ظالمًا جائرًا؛ فامتلأت قلوب الأهالي منه غيظًا، وأثاروا الفتنة عليه فطلبوا «شاه زاده يوسف السدوزائي» الذي كان وقتئذ في مدينة مشهد، والتمسوا من الشاه أن يجهزه، ويرسله ففعل، ودخل مدينة هرات بجيش من الإيرانيين بلا ممانع وأهلك صيد محمد خان.
ثم وقع في هرات بعض من الفتن فاغتنم ناصر الدين شاه فرصة الاستيلاء عليها، فأرسل جيشًا جرارًا سنة ١٢٧٤ تحت رئاسة سلطان مراد ميرزا إليها، وبعد محاصرتها أيامًا تمَّ له فتحها، ودخل قطر هرات تحت حكم إيران، فاستشاطت الإنجليز من هذا الفتح غيظًا علمًا منها أن مدينة هرات مفتاح الأقطار الهندية، وبابها فأرسلت مراكبها بدون مهلة إلى خليج فارس، واستولت على بندر «أبو شهر» وجزيرة «خارق» وبلدة «محمده»؛ إرهابًا للشاه، وسدًّا للخلل المزمع وقوعه، وتسكينًا للثورة التي فشت في الهند عندما شاع فيها توجه العساكر الإيرانية نحو البلاد الأفغانية.
بعد مضي سنة من هذه الواقعة وقعت المصالحة بينهما وتركت الإنجليز الفرض الإيرانية على شرط أن يخصص الشاه رجلًا أفغانيًّا ليكون حاكمًا على هرات، ويسحب عساكره منها، فعين الشاه سلطان أحمد خان ابن عم الأمير وصهره واليًا على هرات باستصواب الإنجليز، وشرط عليه أن يضرب السكة ويقرأ الخطبة باسمه، ومع ذلك ما سكن روع الإنجليز، بل أغرت الأمير دوست محمد خان بعد بضع سنين بأخذ مدينة هرات، وتعهدت بأن تعطي له ولمن يخلفه مرتبًا معلومًا سنويًّا كافيًا لتجنيد العساكر، وتحصين القلاع لتكون الإمارة الأفغانية سدًّا منيعًا بين الهند وبين الممالك الروسية في آسيا الوسطى وإيران، فجنَّد الأمير جيشًا وسار به إلى هرات، وحاصرها زمنًا طويلًا، وكانت عساكر الطرفين بين مهاجمة ومدافعة، وقد اتفق موت سلطان أحمد داخل القلعة، وبعد موته بزمن يسير مات الأمير أيضًا في معسكره، ثم أمر رؤساء العساكر المحاصرين بالهجوم، وبعد هجمات متعدِّدة سنة ١٢٨٠ فتحت عنوة وكان الأمير دوست محمد خان هذا عاقلًا ذا دهاء لين العريكة غير مائل إلى الظلم والجور، وقد استمال بحسن سلوكه قلوب إخوته حتى خضعوا له مع أن منهم من كان أكبر سنًّا وأسس بحكمته وتدبيره ملكًا، وكان له أبناء متعدِّدة، وقد جعل أرشدهم وأعقلهم محمد أكبر خان الذي خلص البلاد الأفغانية من مخالب طمع الإنجليز وليَّ العهد، وحيث توفي في زمن حياته ولَّى شقيقه شير علي خان تلك الرتبة. «ولقد راعى الأمير حقوق محمد أكبر الذي له منة عليه خصوصًا، وعلى الأفغانيين عمومًا، بإيثار شقيقه، غير أنه لم يراع حقوق سائر الناس، ولم يلاحظ ما يترتب على ذلك من المضار، فإن بعض إخوة شير علي خان كانوا أكبر منه سنًّا فلم يرضوا بالخضوع له فأثاروا الفتن ولزم منه إراقة الدماء وخراب البلاد ونهب الأموال.» وقد جعل على كل ولاية من ولايات الأفغان واحدًا من أبنائه. «ولقد أخطأ الأمير خطأ آخر بتولية أولاده على البلاد؛ لأن البلاد الأفغانية ليست بلادًا قانونية، فكأنه بفعله هذا قد مكنهم من الفتن والعصيان.»
ولما توفي الأمير حين محاصرته لهرات كما ذكرنا كان في المعسكر من أبنائه شير علي خان وليِّ العهد ومحمد أمين ومحمد أسلم خان، وكان لشير علي وزير خائن يسمى محمد رفيق من طائفة الغلجائي، قد أشار عليه بالقبض على إخوته قائلًا: «لا تتمُّ لك السلطة ما داموا ولاة مطلقي التصرُّف خصوصًا الذين هم أكبر منك سنًّا.» فشاع هذا الخبر وبلغ مسامع من كان منهم في المعسكر، فهرب كل منهم ليلًا وبادر إلى البلاد التي كان واليًا عليها في زمن أبيه.
وبعد أن فرغ من أمرهما جعل ابنه إبراهيم خان الضعيف الرأي حاكمًا على مدينة كابل وذهب بنفسه إلى قندهار؛ لكي يقبض على شقيقه محمد أمين خان، وعند وصوله إلى كرات الغلجائي استقبله هناك شقيقه بعساكره فوقعت مناضلة بينهما قُتل فيها ابنه محمد علي وشقيقه محمد أمين المذكور، وإثر هذه الواقعة استولت الوساوس على شير علي، وغلبت عليه الهموم والغموم، فترك أشغال الحكومة وإدارة العساكر، وانزوى في مدينة قندهار، ولما بلغ مسامع عبد الرحمن خان تغير حاله، وانزواؤه تحرَّك من بخارى إلى البلاد البلخية واستولى عليها بعد مناوشات جريئة بإعانة فيض محمد خان، وكان محمد أعظم خان المذكور الذي ترك البلاد الهندية لسوء معاملة الإنجليز قد انضمَّ إلى عبد الرحمن في بلخ فاستفحل أمرهما وجمعا جيشًا جرارًا، وزحفا به إلى مدينة كابل، وقبل الوصول إليها وقعت محاربة بين عساكرهما وعساكر إبراهيم خان بن شير علي خان في «باج كاه» فانهزمت عساكره، فترك كابل خوفًا وجبنًا وفرَّ إلى قندهار، وكان وقتئذ وزير شير علي خان «محمد رفيق خان» في كابل، فخرج يستقبلهما بغاية البشاشة، فدخلوا المدينة آمنين مستبشرين، ثم أرسل سرية إلى جلال آباد فافتتحوها، ولما اشتدَّ الخطب، وعظم الأمر تنبه شير علي خان من نوم الغفلة، وأفاق من غشية الحزن، فجند جيوشه، وسار بها إلى كابل، وعندما اجتاز قزنة قابله محمد أعظم وعبد الرحمن بعسكر جرَّارٍ في شيخ آباد، فاشتعلت نيران الحرب بينهما، وكانت الغلبة لمحمد أعظم، فانهزم شير علي ورجع إلى قندهار، ودخل محمد أعظم مدينة قزنة، وكان شقيقه محمد أفضل — المشار إليه سابقًا — محبوسًا فيها فأطلقه وسلم عليه هو وجميع العساكر بالإمارة، ولما تمت هذه الغلبة، وقفلوا إلى كابل رأى محمد رفيق خان يسعى في إثارة الفتن وإلقاء الشقاق بين الخوانين والأمراء؛ فأمر بخنقه جزاءً لفتنته السابقة وخيانته لسيده، وتركه له، وسعيه في الفساد أخيرًا.
ثم جمع محمد أعظم عساكره، وسار بها إلى قندهار، فتلاقى مع الأمير شير علي خان في كلات الغلجائي فتصادم الجيشان، وتقاتلا، وأظهر شير علي خان في تلك الواقعة غاية البسالة والشجاعة، غير أن قوة قلبه ما استوجبت ثبات أقدام عساكره الذين غلب عليهم الجبن والخوف بسبب الانهزامات المتتالية، فاضطر إلى ترك قندهار والذهاب إلى هرات. وبعد بضعة أشهر ذهب بفرقة من الخيالة إلى بلخ، وجمع كثيرًا من مقاتلي الأزبك والأفغانيين وزحف إلى كابل من طريق قوهستان الوعرة مصحوبًا بفيض محمد خان فقابله عبد الرحمن خان في «بنج شير»، فتقاتل الجيشان فقُتل فيض محمد خان. «كأن إقباله وإدباره ووفاقه ونفاقه كانت دواعي الموت وسكراته.» وانهزم شير علي تاركًا مدافعه فوق الجبال، وأسرع إلى بلخ، ومنها إلى هرات، علمًا منه بأن عبد الرحمن سيتبعه بعساكره وقنع بها، وتوفي إثر هذه الواقعة محمد أفضل خان في كابل، وكان رجلًا محبًّا للعلم والعلماء كارهًا للظلم والجور فخلفه شقيقه محمد أعظم خان.
وبعد أن استقرَّ على منصة الإمارة أرسل ابن أخيه المتوفي عبد الرحمن خان إلى بلخ وجعله واليًا عليها وعزَّزه بإسماعيل خان بن محمد أمين خان المقتول؛ ليقدر على إطفاء الفتن التي حصلت هناك بين الأزبك والأفغانيين، ونصب ابنه محمد سرور خان واليًا على قندهار، وجعل ابنه الآخر المسمى بعبد العزيز خان الذي كان عمره إذ ذاك ستة عشر عامًا رئيسًا على العساكر الموجودة فيها، وهذا الرئيس الشاب قد ساقه الغرور وحب الظهور إلى جمع العساكر وسَوْقها إلى هرات من دون علم أبيه، وعند وصوله إلى قرية كرشك صادمه محمد يعقوب خان بن شير علي بعساكره، فهجم الشاب الرئيس دفعة واحدة بمائتين من المشاة على قلب عسكر الخصم واستولى على مدفع، وجلس عليه بعد أن قتل طبجيته، فلما نظر جيش محمد يعقوب عدم وصول المدد له أحاطوا به، وأخذوه أسيرًا فتشتت عساكره وانهزمت — كما هي عادة الشرقيين — عند فقد رئيسهم، فأسرع محمد يعقوب بعساكره إلى مدينة قندهار واستولى عليها بحيث لم يجد من يُدافع عنها، فقوي قلب شير علي خان لهذه الغلبة، وجدَّ فيه العزم والإرادة، وقصد تلك المدينة بخيالة «الجمشيدي» و«فيروز كوهي» وجمع منها العساكر المتفرِّقة وأسرع مع ابنه إلى كابل، فتقابل مع محمد أعظم خان في وادي مكر على بُعد ستة فراسخ من قزنة، وأنشأ كلٌّ من العسكرين استحكامات وحفروا خنادق، وكان محمد أعظم عند سماعه بزحف شير علي قد أرسل إلى بلخ يطلب إسماعيل خان الخائن علمًا منه بأنه الخصم الألدُّ لشير علي؛ لأنه قتل أباه وأهانه غاية الإهانة، فجاء بعسكر بلخ، وتوقف في قوهستان إلى أن تقابل العسكران في مكر، فهجم على مدينة كابل وفتحها ونادى فيها باسم شير علي خان ظنًّا منه بأنه سيجعله مكان أبيه واليًا على قندهار.
وعند وصول هذا الخبر إلى عساكر محمد أعظم غلب اليأس عليهم، وحصل فيهم الفتور، وتفرَّقت كلمتهم وتشتت آراؤهم؛ لأنهم قد رأوا أنفسهم بين عسكرين، وعلموا أنه لا يمكن وصول الزاد إليهم، فعلم محمد أعظم أنه لا يجوز الاعتماد على هؤلاء العساكر الذين غلب عليهم الجبن، واستولى عليهم الفتور والخوف، خصوصًا لما رأى جراءة خَيَّالة الجميشيدي وهجومهم على أطراف المعسكر على الدوام، ففرَّ إلى بلخ واجتمع بابن أخيه عبد الرحمن، ودخل شير على خان مدينة كابل بعد أن فارقها زمانًا طويلًا، واستقبله أهلها بكل بشاشة وسرور؛ لأنه كان محبوبًا لدى الناس لسماحة أخلاقه وعدم ميله إلى الظلم بالطبع، ثم إن محمد أعظم وعبد الرحمن بذلا غاية الجهد في جمع العساكر من الأزبك والأفغان، وذهبا إلى قزنة عن طريق هزاره فبارزهما شير علي، وبعد مقاتلاتٍ شديدة انهزمت عساكر محمد أعظم وعبد الرحمن، وهربا إلى مدينة مشهد من بلاد إيران، وانفصل عبد الرحمن من عمه في تلك المدينة وذهب إلى بخارى وأقام بمدينة سمرقند وهو الآن بها، وتوفي محمد أعظم بمدينة نيسابور حين ذهابه إلى طهران، وكان عاقلًا مدبرًا محبًّا للعدل، ولكن أحوجته الضرورات والحوادث الكونية إلى الجور والظلم، وأما إيثاره ولده الشاب الذي كان في الحقيقة سببًا لخيبته، وزوال ملكه بجعله إياه رئيسًا لجيوش قندهار، فقد كان لعدم اعتماده على سرداري الأفغان وخوانينهم؛ لأنه قد تمكن منهم سوء الأخلاق بحيث إنهم ما كانوا يعدُّون الخيانة رذيلة، ولا يستنكفون من ارتكاب العار؛ لأن غالبهم — في خلال هذه الفتن — قد انتمى لكلٍّ من الحزبين المتحاربين أزيد من عشرين مرَّة، وكان متمذهبًا بمذهب الصوفية القائلين بوحدة الوجود.
وبالجملة لما تمت السلطة في سنة ١٢٨٥ للأمير شير علي خان بلا منازعٍ، ولا ممانع، ذهب إلى مدينة أنبالة؛ إجابة لدعوة الحكومة الإنجليزية، فأيدت إنجلترا معاهدته العرقوبية السابقة التي وقعت بينها وبين أبيه دوست محمد خان بمواثيق أخرى هي في الحقيقة عبارة عن تمويهات ومخاتلات، ولما رجع نفي إسماعيل خان الخائن وإخوته إلى الهند، ثم خلع ابنه البطل محمد يعقوب خان من ولاية العهد وجعل أخاه عبد الله خان وليَّ عهده مع صغر سنه محبةً لأمه. «ولبئست الشهوة التي تعمي البصائر وتضلُّ العقول عن الرشاد.» وأما محمد يعقوب خان فقد ذهب إلى هرات وأظهر العصيان بها ولكن لم تمتدَّ مدَّة هذا العصيان فإنه مع غلبته على عساكر أبيه لبى دعوته حينما دعاه إلى كابل، والأمير بدلًا عن أن يجامله أودعه الحبس، ومع هذه كله لم ينل الأمير بغيته؛ لأن الموت قد أسرع بولي عهده الجديد، وفي سنة ١٢٩٥ غلبت الوساوس والأوهام على رجال الإنجليز حينما رأوا وفود السفارة الروسية على الأمير فجهزوا سفارةً مؤلفة من عدَّة مهندسين وألف خيَّال وأرسلوها إلى الإمارة الأفغانية فأبى الأمير إلا منعها لقطعهم المرتَّب الذي تعهدوا بدفعه كل شهر من مدة سنين بلا سبب؛ فاستشاطت الإنجليز غيظًا وساقت العساكر إلى البلاد الأفغانية ظُلمًا وجورًا.