في بيان الشعوب المختلفة الساكنة في الأقطار المعبر عنها باسم أفغانستان
إن أعظم الشعوب المستوطنة لتلك الأقطار وأكثرها عدًّا هو الجنس الأفغاني، ومقرُّه جنوب البلاد والشرق الجنوبي منها، والخُلُق الغالب في هذا الجنس هو الحقد والضغينة والتشوق للانتقام، واقتحام المحاربات، والتهور في المخاصمات والمنازعات لأدنى الأسباب، وإنَّ صورهم الظاهرة تحكي عن خليقتهم هذه، وتنبئ عنها، فإن وجوههم على الدوام عابسة وقلما يوجد بينهم البشوش، وإن كان يظهر في بعض معاملاتهم الحلم والتؤدة، وكذلك خشونة لغتهم، وغلظ أصواتهم، يدلان على هذه الخليقة، وعلى الفظاظة وغلظ الطباع، ولهم ميلٌ عظيمٌ للنهب والسلب، وشنِّ الغارات، وإثارة الفتن، وبما ارتكز في طباعهم من الشجاعة والإقدام والميل الطبيعي إلى المحاربة أرشدتهم الطبيعة من قرون إلى ترتيب نظامهم العسكري على هيئة تقرب من النظام الموجود في هذه الأزمان، وذلك أنهم كانوا يصفون الصفوف، ويحكمون ترتيبها، ويقيمون الضباط أرباب الرتب العالية وأرباب الرتب الدنية.
وعند سَوق الجيوش للمحاربة كانت الضباط تتقدم العساكر لتقودهم، حتى إذا اشتعلت نيران الحرب تأخرت الضباط وتقدَّمتهم العساكر للنزال والصدام، واشتغلت الضباط بالأوامر والنواهي، والنظر فيما يجب إجراؤه من الإقدام والإحجام، والتيامن والتياسر، والسير والتوقف، وغير ذلك، وكان من عاداتهم أنه إذا ولَّى أحد العساكر فرارًا حكموا عليه بالقتل، ومن ذلك ما وقع في واقعة أصفهان، وهو أن ضابطًا همَّ بقتل أحد العساكر عندما رآه متقهقرًا، فأراه العسكري يده اليمنى مقطوعة تخلصًا من العقاب القانوني؛ فعافاه الضابط من القتل، إلا أنه لم يخلص من عتابه، ولم يرضه هربه وتقهقره، بل أرجعه إلى المعسكر قائلًا: «يا مخنث، ألم تكن يدك اليسرى موجودة؟! فإن قُطعت أيضًا فعندك أسنان تنهش بها أعداءك، فاذهب، وقاتل الأعداء إلى آخر رمق في حياتك.»
ومن وظائف الضباط زيادة عن الأوامر والنواهي المتعلقة بترتيب العساكر وحفظ نظامهم، تفقُّد من يموت من العساكر في الميدان؛ ليأتوا به من ساحة القتال ويدفنوه؛ كي لا تقع جثته تحت إهانة أيدي الأعداء، إلا مَن قُتل منهزمًا فإنهم لا يجوِّزون دفنه أصلًا، ولأفراد العساكر الأفغانية من الطاعة والانقياد لرؤسائهم ما لا يوجد في عساكر ملك من ملوك البلاد المتمدنة، حتى إنهم عند تفرُّقهم في البادية، وتشتتهم بحيث لا يكون فردٌ منهم مع الآخر لو سمعوا نداء منادٍ يدعوهم إلى ضابط أو رئيس من رؤسائهم، لهُرعوا مهرولين جميعًا لإجابته، والاجتماع حيث يأمرهم، ولو نالوا طعامًا في المخمصة لتركوه ملبين داعيهم، ولحسن طاعتهم إذا فتحوا بلدًا، وأمرهم أمراؤهم بعدم التعرُّض لأهاليها، لا يقع منهم أدنى شيء يخلُّ بالراحة، حتى لو مرَّت عليهم النساء مكللات بأكاليل الذهب لا يلتفتون إليهنَّ، واتفق أنه وقع النزاع في أصفهان بين طائفتين من الأفغانيين في أول جلوس أشرف على كرسي السلطنة، وعظم الخلاف بينهما حتى اقتتلتا، فقفل أرباب الحوانيت حوانيتهم؛ خوفًا من حصول الهرج والمرج، فجاء الأمر من أشرف بفتح الحوانيت مُعلنًا: «إن مَن يصيبه خسارة فأنا الكفيل بتعويضها.» وامتدَّ القتال في المدينة أيامًا ولم يحصل أدنى ضرر للأهالي من المقاتلين.
ولجميع رجالهم تدرُّب تام في الطعن بالرِّماح والضرب بالسيوف، ولهم خفة ونشاط في ركوب الخيل، وفي الأزمنة الأخيرة صارت لهم الدربة في إطلاق الرصاص أيضًا. ومن زمن الأمير دوست محمد خان شرعوا في ترتيب العسكرية على النظامات الجديدة، وقد برعوا فيها عملًا لا علمًا، وبلغ عدد عساكرهم المنتظمة ستين ألفًا.
وغالب الأفغانيين يَعْتَمُّون بعمامة زرقاء، وأما السردارون والعظماء فغالبًا يعتمون بشيلان الكشمير ألوانًا، وسكان البلاد الحارَّة يحتذون النعال، ويتخذون صدريات ويلبسون أقمصة تنتهي إلى نصف الساق واسعة الأكمام، وغالبهم يتحزم بأحزمة عريضة تشغل ما تحت الصدر إلى الفخذية، وغالب القبائل لا يحلقون رءوسهم، وبعضهم يتخذون ضفيرة طويلة من شعورهم، وأما نساؤهم فإنهنَّ يلبسن ألبسة طويلة، ويتمنطقنَ بمناطق تقرب من الثدي حتى يرى بارزا، وغالب نساء القبائل الساكنة في الجبال يقطعن شعور أذناب الخيول ويَصلنها بشعورهنَّ، ونساء قبيلة الغلجائي يحبكن شعور نواصيهنَّ، ويشكلنها بشكل قرص، ثم يسدلنه على الجبهة، فيمتدَّ إلى الصدغين في العرض، ويستر الأنف طولًا، كأنَّما هو برقع مستدير، ويعلقنَ في آذانهنَّ حلقات غليظة ثقيلة من الفضة والحديد والنحاس والبلَّور.
وأمراء الأفغان لا يجلسون على المنصات والكراسي، بل يفرشون مجالسهم بالأنماط والنمارق الفارسية، وليس لهم من الأبهة والعظمة ما لغيرهم من الأمراء، ولا يستنكفون من تناول الطعام مع خدمهم والأصاغر من الناس.
والجِبِلِّيُّون منهم، وأهل البادية، يحترفون رعي المواشي والأنعام، ويتعيشون منها، وقليل من الزراعة، وقلما يوجد منهم التاجر إلا في قبيلة «لوهاتي» من الجِبِلِّيِّين، فإن غالب هذه القبيلة من التجار، ونشاطهم في التجارة على نمط غريب إذ يبلغون بأمتعتهم محمولة على الجمال إلى قُرب الصين وبلاد سيبريا، ويجيئون بها إلى بلاد الأناضول، ويطوفون الأقطار الهندية، وهذه القبيلة تمتاز عن سائر القبائل بألبستها، فإن عمائمهم ذات زوايا أربع متقابلة، وأقبيتهم تُشبه أقبية الأرناؤد وسكان أذربيجان، بأنها ضيقة الأعالي، واسعة الذيول، كثيرة التكاميش من الوسط.
وأما سكان المدن والقرى فيشتغلون بالزراعة وغرس الأشجار وإنشاء البساتين والرياض، وقلَّما يوجد فيهم أرباب الصناعة كالحدادة والنجارة والحياكة وما يشبهها، ولا يشتغل منهم بالتجارة غالبًا إلا أهالي قندهار، فإن لهم حرصًا على التجارة، وغالب تجارهم من طلبة العلم.
وليس للأفغانيين دراية كافية بكيفية إدارة الحكومة، وضبط الدفاتر، وما يشبه ذلك؛ ولهذا تجد جميع هذه الأمور بأيدي طائفة «قزل باش» الذين هم بقايا عساكر نادر شاه، ولا يجوِّزون بيع الأُسَرَاء، وإن كانوا غير مسلمين، ويكرمون الغرباء، وأبناء السبيل، ويستقبحون غالبًا السرقة، وإن كانوا يتفاخرون بالنهب والغارة، وغير خافٍ أن الفرق بين السرقة والنهب هو الفرق بين القوة والضعف، والمنكرات التي هي نتائج الترف والترفه قليلة الوجود فيهم؛ لتمكن أخلاق البداوة منهم، ولا يخلو غالبهم من خلَّة الطمع؛ لتسلط الفقر عليهم. وإن نساء الأفغانيين الساكنات في المدن يسترنَ وجوههنَّ بخلاف نساء القرى والبوادي، فإنهن مكشوفات الوجوه، ويختلطن مع الرجال، وتأخذ كل منهنَّ يد رجل، ويرقصن في الأفراح على هيئة دائرة، وتارةً يرقص الرجال منفردين على هذه الهيئة في الأعياد والأفراح، ويسمى هذا الرقص لديهم «عتن».
ومن عادة سكان القرى والبوادي من الأفغانيين في أفراحهم أن يدعو والد العروس أقاربه وأحبابه وجيرانه في نهار الزفاف، ويعرض عليهم الثياب التي عليه عادةً أن يعدها للعروس وزوجها، ثم يستدعي الزوج في هذا الحفل، ويلبسه على ملأ الحاضرين ما أعدَّ له بعد قراءة الفاتحة، والنسوة يفعلن ذلك بالعروس، ثم يزفونها إلى محل بعلها، مصحوبة بالأغاني والطبول، وعند وصولها واستقرارها في الحجلة التي أعدت لها، تأتي الفتيات بأنواع الفواكه والنقل، وينثرنَ على رأس العروس، ويأخذ المدعوُّون والمدعوَّات في التفكه بالفواكه والتنقل بها، وتلبث العروس عاكفة في محل زوجها لا تظهر في الناس أيامًا، فإذا مضت تلك الأيام أتت إليها بنات محلتها يعزفن بالدفوف، وعلى رأس كل منهنَّ جرة، ويأخذنها ومعها جرَّة مثلهن، ويذهبنَ جميعًا على هذه الهيئة مغنيات عازفات إلى أن يصلن نهرًا أو عين ماء، فيملأن تلك الجرات، ويرجعن كذلك، وللعروس بعد ذلك ترك العزلة ومعاشرة الناس، وتختص قبيلة «منكل» و«داوور» دون القبائل بكون أبوي العروسين يجب عليهما الرقص في العرس، ولهاتين القبيلتين عادة غريبة، وهي أن شُبَّانهم في أيام المواسم والأعياد يحلقون أحد حاجبيهم وأحد جانبي شاربهم من خلاف، ويكحلون عينًا بالسواد وعينًا بالحمرة، ومن له لحية منهم يحلق جانبًا منها ويترك الآخر، ويقضون أيام عادتهم هذه باللعب بالسيوف، حتى يُخيل للناظر أنهم يحاولون الفتك ببعضهم، وأبناء هاتين القبيلتين ممن يستفزهم حسن الصورة ويشغفهم الجمال أينما تجلَّى، بل هم يتنافسون في إظهار صدق المحبة وخلوصها، بتقديم الذبائح، حتى تغالى بعضهم بتقديم أبيه ذبيحة.
ومن عادة قبيلة «ختك» أن نساءها في المأتم يصبغن وجوههن ويعفرنها ويثبن لاطمات صائحات ويخمشن وجوههن بأظفارهن، ومن عادة جميع الأفغانيين إطعام المعزِّين ثلاثة أيام إلا أنهم يختلفون عادة في من يقوم بنفقة الأطعمة، ففي غالب القبائل يقوم بها صاحب المأتم، وفي بعضها يقوم بها جيرانه وأهالي القرى القريبة منه، أما هو فلا يصنع شيئًا.
ومن أهالي القرى من يعلِّم الأولاد الذكور الرقص ويلبسهم ثيابًا تشبه فساتين نساء الإفرنج، ويجعل عليها شراريب من جميع أطرافها، لأجل الرقص في الأفراح، وإذا وُلد لأهل القرى والبوادي منهم مولود تصعد القابلة ولو في نصف الليل على سطح البيت، أو على محل مرتفع، وتنادي بأعلى الصوت ثلاث مرات إخبارًا بالمولود، وتأدية لشكر هذه النعمة لله.
وجميع الأفغانيين سنيُّون متمذهبون بمذهب أبي حنيفة، لا يتساهلون رجالًا ونساءً، وحضريين وبدويين، في الصلاة والصوم سوى طائفة «نوري» فإنهم متوغلون في التشيُّع، ولهم محاربات شديدة مع جيرانهم السنيين، ولا يبالون بالصلاة والصوم، وإنما يهتمون بأمر مأتم الحسين — رضي الله عنه — في العشر الأول من محرَّم ويضربون ظهورهم وأكتافهم بالسلاسل مكشوفة، ويوجد في بعض قبائل «كاكر» بقايا من الطريقة المزدكية، وإن كانوا على دين الإسلام.
ومزدك هذا كان رجلًا في زمن «قباذ» من أكاسرة فارس، وقد ادعى النبوة، وتبعه قباذ وأربعون ألفًا من الفارسيين، وكان من أصول دينه الاشتراك في الأموال والنساء، وكان يعلل ذلك بأن المنازعات والمقاتلات لا تحصل إلا لأجلهما فلو حصل الاشتراك فيهما لارتفع الشقاق واستتبت الراحة، ولما مات قباذ وجلس ابنه أنوشروان المعروف بالعادل على منصة الملك، احتال لإبادة هذه الشريعة المبتدعة، فطلب الشارع، وقابله بالبشر والبشاشة، وأظهر له رضاه وقال له: «إني قد اخترت هذه الشريعة البديعة، واستحسنتها، ولكن لا أقدر أن أتظاهر بها؛ خوفًا ووجلًا ما لم أر الذين اتبعوك، وأعلم أن فيهم كفاءة لدفع شر المنكرين.» فعرض الشارع أتباعه عليه في محل أعدَّه أنوشروان لذلك، فصار الجميع طعمة للسيوف، وما هرب منهم إلا ثلاثة أشخاص منهم زوجة مزدك، ولم يصدر عنه هذا الفعل إلا بمشورة وزيره بزرجمهر، حيث قال له: «إن هذا الشارع لا يريد بشريعته هذه إلا استئصال السلطنة عن وجه الأرض؛ لأن السلطنة لا تكون إلا بالمال والنسب، فإذا تأسس الاشتراك في الأموال والنساء فلا سلطنة.» وقال خواجة «نظام الملك» في تأريخه: «إن الإباحيين الموجودين في إيران من أتباع مزدك، وقد توارثوا هذه الطريقة عن الذين نجوا من حدِّ سيف أنوشروان.» وكذلك يُرى في أهالي خست وكرم بعض عادات الخوارج والنواصب فإنهم يصورون هيكلًا في غرَّة محرم، ويدفنونه، ثم إنهم يخرجونه في يوم عاشورا، ويكسرون عنقه متهللين مستبشرين، وهؤلاء يستقبحون الختان أيضًا.
والأفغانيون — مع شدة تعصبهم للدين، والمذهب، والجنس — لا يعارضون غيرهم في حقوقهم، ولا يتحاشون عن أن يروا شيعيًّا، أو غير مسلم، يقيم مراسم دينه، ولا يمنعون المستحقين منهم من نيل المراتب العالية في حكومتهم، فإنك ترى أرباب المناصب في البلاد الأفغانية من الشيعيين «القزل باش». وكل أفغاني يزعم أنه أشرف الناس؛ لكونه أفغانيًّا، ولو كان فقيرًا، وأنه لا يوجد الإيمان الكامل والإسلام الخالص إلا في جنس الأفغان والعرب. وكل قبيلة إذا أرادت أن تبرم أمرًا فلا بد أن يجتمع أمراؤها للمشورة، وتسمى هذه الجمعية عندهم بجركه، وإذا قتل أحد من قبيلة أحدًا من قبيلة أخرى فكل فرد من أفراد القبيلة المقتول يرى أنه من الواجب عليه أن يجتهد لأخذ الثأر بقتل رجل من قبيلة القاتل، ولا يقتنعون بقصاص الحاكم، ولا يتجاوزون عن ذلك، ولو مضت عليه أعوام إلا أن يستجير بهم القاتل، وهكذا تكون الحال إذا قتل أحدٌ من عائلة أحدًا من أخرى.
والأفغانيون يحمون الدخيل، ويعينون الملتجئ إليهم بدمائهم وأموالهم، وأهل الحضارة والبداوة منهم يتسلحون غالبًا بسيوف صغيرة تسمى «سيلاوة» و«نورة» وبخناجر مستقيمة، وبآلات نارية كالبنادق، والطبنجات، وغالب بنادق أهل الجبال بالفتيل، ولا تنقطع المحاربات بين القبائل والعائلات، وقد وقع كثيرًا أن الابن قتل أباه، والأخ قتل أخاه، ولا ينعقد الصلح بين القبيلتين المتحاربتين إلا بالمصاهرة، وغالب سكان الجبال والأودية لا ينقادون للأمير إلا بقوة جبرية، وينتهزون الفرصة دائمًا لرفع الضرائب الأميرية عن عواتقهم.
ومن القبائل مَن يقتات بالذرة، ومنهم من يقتات بالدخن، ومنهم من يقتات بالشعير، ومنهم من يقتات بالبر، وغالب أُدُمِهِم الأقِطُ واللحم، وفي زمن الشتاء يصنعون منهما طبيخًا، ويخبزون خبزهم غالبًا بالصباح، وفي الأسفار يخبزونه بمصبأ محماة يضعونها في قطعة من الخمير، ويملئونها نارًا حتى تستوي ويسمون هذا الخبز «كاك». وقلما يوجد البصل عند القبائل كقبيلة «يوسف زائي» و«أجيك زائي» فتجدهم إذا رأوا أجنبيًّا يتملقون ويتذللون له قائلين: «عندنا مريض فنرجوك أن تتفضل عليه ببصلة عسى أن يكون شفاؤه فيها.» وإن قبيلة أجيك زائي كثيرًا ما يتعرَّضون للقوافل إرادة النهب، ويسدُّون طريقها، ويقابلونها بالأسلحة النارية والآلات الحادَّة، فإذا لم يمكنهم الغلبة عليها صالحوها بأقة أو أقتين من البصل، واتفق أن محمد أعظم خان بعدما ترك البلاد الهندية وفد على قبيلة يوسف زائي، ونزل في خيمة خانها فقام الخان مسرعًا وعلى وجهه لوائح الفرح وإذا به قدَّم للأمير بصلة.
وكل الأفغانيين يعتقدون بقبور الأولياء، ويذهبون لزيارتها، ويذبحون الذبائح لديها، وبعضهم تغالى في اعتقاده بها، حتى إن رجلًا من قبيلة الأفزيدي المشهورة بالسلب والنهب لقي شخصًا فأراد أن يسلبه، فاستجار بالله وبالرسول، فلم يتركه ثم استجار بتربة شيخ يسمى «منلايار محمد» فاضطرب ذلك الرجل خوفًا وقال: «جلَّ جلاله أوقعتني في الكفر.» وترك سبيله، وغالب القبائل وسكان الأودية والقرى يميلون إلى اللعب والطرب، وفي الأزمنة الخالية عن الشغل يجتمعون على هيئة دائرة ويرقصون الرقص الموصوف سابقًا، ويلعبون بالخيل والسيوف، وساكنو الجبال الباردة منهم «كخست» و«كرم» أغلبهم أبيض اللون، والساكنون في البلاد الحارَّة كقندهار وجلال آباد سمر الألوان.
ومن العوائد الدينية الجارية عندهم أنه إذا مات أحد منهم يخرجون دراهم ودنانير من ماله يعطونها للفقراء والمساكين من العلماء باسم إسقاط الصلاة، ومن أهل القرى والمدن من له شغفٌ عظيم بتعلم العلوم كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والفقه والأصول، والتفسير والحديث، والمنطق والفلسفة، والهيئة والهندسة، والحساب، ويتعلم بعض منهم العلوم الطبية، وبعض من أهل القرى يكتفون بتعلم الفقه بدون استحصال العلوم العربية، والعامة يتكلفون بأرزاق الطلبة مدة الطلب بطيب نفس فيخصص كل واحد قسمًا لطلبة العلم مما هيأه لغذائه أو عشائه ثم يطوف بعض صغار الطلبة على الدور لجمع ما أعدَّ لهم، وأهل بعض الجهات لا يجوِّزون تناول ما خصص للطالبين إذا غفل الموكل بالجمع عن أخذه، وللعلماء في تلك البلاد شأنٌ عظيمٌ وسلطةٌ تامةٌ ونفوذ كلمة بين الأهالي، بحيث يخشاهم الكبراء والعظماء والأمراء حيث إن قلوب العوام في قبضتهم. ولهم أن يثيروا الشعب على أي أمير أو كبير متى شاءوا، والكثير منهم يستنكف من ملاقاة الأمراء ويتنزه عن قبول هداياهم وإن كان يقبل هدايا غيرهم من الناس، ويستكبر عن زيارة رجال الحكومة حتى إن أمير البلد لو زار أحدهم لا يرى من نفسه أن يتنازل لمقابلة زيارته بزيارة مثلها، وبسبب سلطتهم هذه قد يصدر عنهم أعمال مضرَّة يأباها الشرع والعقل، إذ يحكمون بكفر بعض الأشخاص أو بفسقه إذا رأوا منه ما يخالف أهواءَهم، بل قد يكفر بعضهم بعضًا حبًّا للانفراد بالرئاسة، خصوصًا في هذه الأزمان الأخيرة بعدما انتشر مذهب الوهابية في الهند، فإن من كان أنقذ سلطة إذا رأى نجاحًا لمن هو دونه يحكم بأنه وهابي، حتى يسيء إلى اسمه.
ويُلزمون الحاكم بإجراء العقوبات الفظيعة على من حكموا عليه، ومن ذلك ما وقع في قندهار، وهو أن أحد كبار العلماء حكم بكفر الشيعة فثارت عليهم قلوب الأهالي، وقامت الحرب بينهم، وسفك فيها عزيز الدماء، ونُهبت البيوت والدكاكين، وكذلك ما وقع في كابل وهو أن بعض علمائها حكم بكفر الشيعة، ووقعت بسببه حرب امتدَّت أشهرًا بين السنيين والشيعة «القزل باش»، والبعض منهم يتسم بسمة الطريقة، ويتوسد وسادة الإرشاد، وهؤلاء يتخذون مساكن، ورباطات للزائرين وغيرهم، ويقدِّمون لهم الأطعمة في أوقاتها، ووجاهتهم ونفوذ كلمتهم، وسعة نفقاتهم، بحسب ما يأخذونه من الذين يلوذون بهم باسم الهدايا والنذور، ومنهم من يتمكن بحسن سلوكه وظاهر صلاحه من قلوب العامة، ويحصل له الكلمة العليا والنفوذ التام، ويقصده ألوف من الناس من كل فج، فيقدِّم لهم الموائد مدَّة إقامتهم لديه، ولا يخلو رباطه في جميع الأوقات من مئات من الأطعمة والأشربة والألبسة، ومنهم من يتفرَّد بالحكم في بعض أضلاع البلاد الأفغانية، ويتمتع بضلعه، ويحامي عن حوزته، ويدفع من يهاجمه من جيرانه، ويهجم في بعض الأوقات عليهم محتجًّا في كل ذلك بالأدلة الدينية، ومن هؤلاء عبد الغفور المشهور «بأخند صوات» الذي كان متسلطًا على «صوات» و«بنير»، وكان معقدًا في جميع البلاد الأفغانية على العموم، بل وفي بلاد الهند وبخارى، وكان فقيهًا زهدًا متقشفًا، مخشوشنًا في معيشته، يتعيش من الذرة والدخن الجِبِلِّيِّين، وألبان معز لا ترعى إلا أعشابًا جبلية، وكان عنده على الدوام عدد وافر من المريدين، وكثيرًا ما شنَّ الغارة على الإنجليز، وانتصر عليهم، وكان ينشر في البلاد منشورات يدعو بها أهلها إلى الجهاد فيجتمع إليه ألوف من الناس، وكان يؤيده ويساعده على هذا جماعة من الوهابية من الهنود أصحاب السيد أحمد الوهابي الذين هاجروا من الأقطار الهندية خوفًا من المسلمين السنيين وتوطنوا في صوات وبنير.
وهذا الشيخ «أخند صوات» كان إذا وفد إليه الزائرون وأبناء السبيل يقرِّبهم على حسب أحوالهم، وما منحهم الله في بلادهم من جاهٍ وثروةٍ أو ضعةٍ وفقر، وكان يقدِّم إلى الأمير ما يليق به، وإلى الفقير الرائب والبصل والخبز اليابس، وكان إذا سمع أن شيخًا قد ارتفع في البلاد، أو جلس مجلس الإرشاد بادر بالحكم عليه بالتوهب، حتى تنفر منه القلوب، وتنزل درجته من اعتبار العامة، وقد قتل بعض المشايخ بسبب حكمه هذا، وأشهر بعضهم على أشنع هيئة وأقبح صورة.
وجميع علماء الأفغان يحرمون شرب التبغ بجميع أنواعه كعلماء بخارى، ولكنهم لا يتعرَّضون لمنع العامة عنه إلا «أخند صوات» فإنه يرسل من لدنه الرسل والمبعوثين إلى البلاد الأفغانية؛ ليمنعوا الناس من شرب الدخان، ويكسروا الشُّبُقات والنارجيلات إذا ظفروا بها، ويحرمون أكل ذبيحة الشيعيين، مع أنهم يحللون أكل ذبائح اليهود والنصارى، زاعمين أن الشيعة قد ارتدُّوا، والمرتد لا تؤكل ذبيحته بخلاف أهل الكتاب، وجميعهم يحمل على عاتقه حرامًا غليظًا أو رقيقًا على حسب الفصول لأجل الصلاة، بل ذلك عادة غالب الأفغانيين، وجميعهم يظهرون التعصب للدين، ويبدون الغيرة على الأحكام الشرعية والاعتقادات، إلا من كان منهم على منصة الإرشاد فإنه قد يوجد فيهم التساهل في الأمور الدينية، ولطلبة العلم لما يرون من احترام العامة لهم بعض تعد على الناس، حتى إن طلاب «نكنهار» يتحزَّبون، ويتسلحون بالقرابينات، ويهجمون على أهل القرى، إذا رأوا أدنى إهانة منهم لأحدهم، ولا ينتهون عن التطاول، إلا أن يقدِّم الأهالي كفارة عما فرطوا في جانبهم، وكثير من طلاب تلك النواحي لا يبالون بالصلاة والصوم، ولهم احتفالات في بعض أيام السنة يدعون إليها من الطلبة وغيرهم ما يزيد على ألف شخص، ويلزمون أهل القرى بتهيئة مأدبة فاخرة، ثم يأتون بأمرد جميل، ويلبسونه برقعًا وأساور، ويجلسونه على كرسي ويلقبونه السلطان فيكون له الحكم مدَّة هذا الاحتفال يأمر بضرب من يشاء ويغرم من يشاء، وحينما يريدون الانفضاض يجيء المسمى بالوزير منهم بين يدي المجعول سلطانًا، ويقول له: «إن الجند قد تمردوا على السلطان؛ نظرًا لانقطاع الراتب عنهم.» فيسفر ذلك الأمرد عن وجهه، ويضع جانبًا من النشوق في راحته، ويبسطها، فيتوارد أهل الاحتفال عليه، وكلٌّ يتناول شيئًا من هذا النشوق، وبهذا ينفضُّ الملعب. واللغة الأفغانية في غاية الخشونة، وحروفها الهجائية أكثر عددًا من حروف اللغة الفارسية، وأحسن من يتكلم بها أهل مدينة قندهار، وتوجد مؤلفات قليلة بهذه اللغة نظمًا ونثرًا.
ومن الشعوب الموجودة في البلاد الأفغانية شعب يقال له «تاجيك» ومنه غالب سكان مدينة هرات وضواحيها، ومدينة كابل والقرى الواقعة بينها وبين بلخ، وكذلك أهل مدينة قزنة وبعض القرى المجاورة لها، ولقمان وقصبة لقمان، وبعض قرى قندهار، ومنه أيضًا غالب سكان المدن البلخية، وهذا الشعب ذو جدٍّ واجتهاد، وله حرص على تعاطي الحرف والصنائع كالحياكة والنجارة والحدادة والبناء، وغيرها، وعلى معرفة فن الزراعة وتربية الأشجار والكروم، وله عناية بالتجارة، والساكنون منه في قوهستان كابل قد طبعوا على الشر والفساد وحب القتال وسفك الدماء، فترى الحرب قائمة فيما بينهم أبدًا لا تخلو منها قرية مع أخرى، ولا بيت مع آخر، ومن ثم تجد رجالهم غالبًا قد اتخذوا لهم بروجًا يقيمون بها بأسلحتهم خوفًا من الغارات.
وبالجملة إن هذا الشعب أحسن حالًا من الأفغانيين؛ فإنه أدرى منهم بالإدارة المنزلية، وأنظم في زيه وملبسه، ويمتاز عنهم بمراعاة النظافة، بل يفوقهم درايةً وإدراكًا، وفهمًا وذكاءً، غير أنه قلَّما يوجد فيه عالم أو مَن يميل إلى تحصيل العلوم على خلاف الأفغانيين. ومما اشتهر به سكان القرى من هذا الشعب إصابة المرمى، فهيهات أن تخطئ رصاصة أحدهم الغرض، ولهم صنف من طوال الخناجر يتقلدونها، وجلُّ هذا الشعب سني على مذهب أبي حنيفة، ولا يوجد في هذا الشعب عصبية كما لا يوجد فيه أمراء، وغالبهم بيض الوجوه، ويعتمون بعمامة الأفغانيين نوعًا.
ومن الشعوب أيضًا شعب «هزاره»، ويسكن هذا الشعب في الجبال الواقعة في شمال قزنة الممتدَّة إلى شمال هرات، وأصله من الجنس المغولي كما يؤخذ من سيماهم، فإن بعيونهم ضيقًا مع ميل لحاظها نحو الرأس، ولحاهم غالبًا ليست إلا بعض شعرات نابتة في أذقانهم.
وبالجملة فإن تركيب وجوههم تركيب وجوه الصينيين والتتر الأصليين، وقد قال بعض المؤرخين إن هذه القبيلة من بقايا عسكر جنكيز خان، بل ادعى أنها كانت منذ ثلاثمائة سنة تتكلم اللغة المغولية، لكن من وقف على تمكنها من اللغة الفارسية، وعدم مزجها إياها بشيء من اللغة المغولية، مع مجاورتها للتركمان، وجنس الأزبك من الترك، يجزم بأنها استوطنت مواطنها هذه من قبل جنكيز خان بمدد مديدة، وهذه القبيلة لم تزل على الخشونة والتوحش، عريقة في البداوة إلى الغاية، على أنها تحسن صنع صنف من الجوخ يقال له «برك» وهو أجود أصنافه، وقلَّما يصنع نظيره في أوروبا، وجميعها ما عدا عمارة جمشيدي يلبسون قباءً مشقوقًا يتمنطقون عليه، لكن إذا كان القباء من برك فيجعلون أكمامه إلى المرفق، ومنها إلى الزند، ويتخذونها من أقمشة أخرى كالحرير وغيره، وفي فصل الشتاء يتخذون قلنسوة من القماش، وأما نساؤهم فيعتممن دائمًا، ويلبسن كالرجال قباء على الشكل المار ذكره، وأما الجمشيدي فلباسهم يشبه لباس مجاوريهم من التركمان والأويمق، وهو جبة تضرب إلى الكعبين ضيقة الأكمام قصيرتهما، وقلنسوة من الفراء تسمى «پاپاق» بالباء الفارسية، وهذه العمارة معروفة بالفروسية ومطبوعة على النهب والسلب وشنِّ الغارة كجيرانها ومشهورة بالشجاعة والإقدام، وإصابة الغرض في المرمى كسائر أخواتها من قبيلة هزاره.
وهذه القبيلة على مذهب الشيعة إلا فصيلة «شيخ علي» و«الجمشيدي»، لكنها ليست على شيء من هذا المذهب إلا بغض الخلفاء، ومحبة علي، وإقامة مأتمه في عاشوراء، بضرب السلاسل على الصدور والظهور، ولا يتقي آحاد هذه القبيلة إظهار مذهبهم، مع أن التقية من واجبات مذهب الشيعة، حتى لو سئل أحدهم عن مذهبه لقال بغلوٍّ بدون مبالاة: «إني عبد علي.» ولهم زيادة اعتصام بمذهبهم هذا.
ومما يحسن سرده هنا أن سنيًّا عرض التسنن على جارية منهم كانت عنده فأبت فعزَّرها وزجرها وألح عليها، فاستشاطت غيظًا، وقالت: «أهون عليَّ أن أكون كلبة ولا أكون سنية.» ومن شأنهم أنهم يلقنون أمواتهم إثر دفنهم بكلمات معناها: «إذ جاءك ناكر ومنكر فلا تخف فإن مولاك عليًّا سيحضر عندك ويطردهما عنك.» ومن عاداتهم أن أهل الميت يشق كلٌّ منهم قلنسوته بعد دفنه ويتركها على قبره، وقلَّما يوجد عند هذه القبيلة نقود، وغالب معاملاتهم بالمقايضة، وتأخذ منهم الحكومة بدل النقود على حسب حال كل شخص عددًا مخصوصًا من صنف المعز، فإن تأخر أحدهم في أداء الضرائب حتى تراكمت عليه وعجز عن أدائها يُقدم بنته بدلًا، فيتخذها العامل أو الحاكم كجارية، وأغلبهم يستعمل أطعمتهم بلا ملح؛ لندرة وجوده، ويعظمون الشرفاء «أي أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه» غاية التعظيم، ويتميز الشريف عندهم عن غيره بالأنفة والعظمة وعدم التحية عند قدومه على مجلس من المجالس واستعمال الشتائم في مخاطبته للعامة، ويعللون هذا بأن الشرفاء سلاطين، فلا ينبغي لهم أن يعاملوا الناس إلا بهذه الطريقة.
ومن العادات الغريبة عندهم أنه إذا حصلت منازعة بين امرأتين تقيم كل منهما نائبة عنها من النسوة أمام الأخرى، فتبتدئ إحداهما بالشتم محركة يديها ورجليها، وحاجبيها بحركات مختلفة فتجيبها الأخرى بشتم أفظع على ذلك النحو من الحركات، وهكذا تتناوبان الشتائم حتى تأتي إحداهما بشتم يبلغ الغاية في الفظاعة بحيث لا تقدر الأخرى أن تأتي بمثله فتنفصل الدعوى، وتكون الدائرة على التي صارت نائبتها عاجزة عن المقابلة، فإن انقضى النهار، وما حصلت الغلبة لإحداهما تأتي كل واحدة منهما بقفَّة تكفؤها قائلة: «الميعاد غدًا.» ومن الشعوب قبيلتا أزبك وتركمان، وهما من أصل تتري يتكلمون الآن باللغة التركية، والقبيلة الأولى تسكن في أقطار بلخ، والثانية في الأراضي الواقعة بين مدينتي ميمنة وهرات، وكلهم سنيون على مذهب أبي حنيفة، وإن الأزبكيين «الذين ينسبون إلى أحد حفدة جنكيز خان» يشتغلون غالبًا بالحرث، وتربية الكروم والأشجار، واقتناء المواشي، ويعتمون بعمائم صغيرة يسدلون عذبتها على آذانهم، ويلبسون جُببًا من الحرير وغيره، مبطنة بقماش غليظ، وشيء من القطن، وتحاكي الحفة الصغيرة، وبعضهم يلبس ثلاثًا أو أربعًا من هذه الجبب بعضها فوق بعض، ولهم حذق في الفروسية والطعن بالرماح، وإذا ذهب أحد منهم لزيارة آخر يرفع يديه إلى السماء، ويقرأ سورة الفاتحة، وبعد ذلك يقدِّم له المزور قطعة خبز فيأخذها ويقبلها بكل احترام، ويضعها في جيبه، ولهم رغبة تامة في شرب الشاي، ولا يستنكفون من أكل لحم الفَرَس، ويوجد فيهم بعض من العلماء.
وأما التركمان فيلبسون جببًا من البرك، ويضعون على رءوسهم قلنسوة من الفراء تسمى «پاپاق» بالباء الفارسية كما ذكرنا، ولهم اهتمام تام بتربية الخيول، وخيولهم متولدة من الخيول العربية التي جلبها نادر شاه من نجد، وغالب هذه القبيلة المتوحشة المتبربرة يتعيشون من السلب والنهب ويغيرون على بلاد إيران وأطراف هرات، ويأسرون الرجال والنساء، ويبيعونهم باسم العبيد والإماء، مستدلين بأن أُسَرَاءَهم من الشيعيين يجوز بيعهم لخروجهم عن الديانة الإسلامية، وكثيرًا ما يأسرون أشخاصًا من السنيين، ويجبرونهم بالضرب والكي على أن يعترفوا أمام الناس بالتشيع؛ كي لا يمتنع أتقياء بخارى عن شرائهم، واتفق أن بعضًا منهم أسر عالمًا من علماء أهل السنة من نواحي هرات، فكبله بالسلاسل؛ خوف الهرب، ومع ذلك كان إذا حضر وقت الصلاة أطلقه ليؤمَّ الجماعة، وكان بعد تمام الصلاة يقيده ثانيًا، ولما رأى العالم منه ذلك قال له: «أنت تعلم أني رجل سني، فبأي وجهٍ تجوِّز أسري وتحلل بيعي؟» فأجابه بقوله: «إنك لست بأشرف من القرآن الكريم، فكما يجوز لي هبة القرآن كذلك يجوز لي أيضًا هبتك، وأما البيع فحاشا.» وبالجملة إن هاتين القبيلتين موصوفتان بالظلم والشر، خصوصًا الأخيرة، غير أن عددها قليل في البلاد الأفغانية.
ومن الطوائف الموجودة في البلاد الأفغانية طائفة الشرفاء «أولاد علي بن أبي طالب رضي الله عنه» ويلقبون في تلك البلاد بالسيد، وبعض من هذه الطائفة يسكن في «بشنك» من نواحي قندهار، وبعض منها يسكن في ولاية «كنر» الواقعة قرب جلال آباد، ولم يخل شرفاء كنر من الكبراء والعظماء من عهد «بابرشاه» إلى يومنا هذا، وللأفغانيين عمومًا مزيد اعتقاد بهذه الطائفة، وأما عاداتهم وملابسهم فتماثل عادات الأفغانيين وأخلاقهم وملابسهم.
ومن سكان بلاد الأفغان أيضًا طائفة «قزل باش» وهو لفظ تركي، ومعناه أحمر الرأس، وقد لقب بهذا اللقب جميع العساكر الصفوية الشيعيين؛ لأنهم كانوا يعتمون — بأمر السلاطين الصفوية — بعمائم حمراء، وجلُّها يسكن في كابل، والباقي منها يستوطن في قزنة وقندهار، وأصل هذه الطائفة من البلاد الإيرانية وقد أتى بهم نادر شاه إلى هذه البلاد، ولهم حذق في الآداب والصنائع والأعمال الديوانية؛ ومن أجل هذا ترى أن المتوظفين في الإدارة الملكية الأفغانية منهم، وغالب الأمراء يختارونهم؛ لتربية أولادهم، ولتعليمهم الأدب والشعر، ويمتازون بالذكاء والفطنة والنظافة عن بقية سكان البلاد الأفغانية، ويتصفون بالشجاعة والإقدام، وكلهم على مذهب الشيعة، يقيمون مآتم للحسين بن علي بن أبي طالب في الأيام الأول من شهر محرم.
ويوجد في جنوب قندهار قرب «بشنك» بعض من طائفة البلوج، وهذه الطائفة من أصل فارسي، ومن عاداتهم أنهم يرسلون شعورهم ويدهنونها ويحتذون بالنعال، ويضعون نجاد سيوفهم حمائل على عواتقهم، وهم موصوفون بالقوة، ومشهورون بالسرقة والغارة، ومعروفون بالكرم، ولا يعرفون من الإسلام إلا اسم الله تعالى، واسم محمد ﷺ، وبعضهم يعرفون عليًّا رضي الله عنه، وإذا قيل لأحد منهم: «يا أيها البلوجي، هل تصوم؟» يجيب قائلًا: «إني ما سرقت معز النبي ﷺ، بل إن خالنا «أي أميرنا» قد سرقها فمنعه النبي — عليه الصلاة والسلام — من الأكل ثلاثين يومًا؛ زجرًا.» وهكذا إذا سئل عن الصلاة يقول: «إن الخان هو الذي يصلي.» وإذا لقي أحدٌ منهم أحدًا سواء كان منهم أو أجنبيًّا عنهم يبتدره بالسؤال عن الخان ثم يحييه بتحيات متتالية تستغرق زمانًا، ويختمها بقوله. وبالجملة فهذه الطائفة في غاية الجهل والتوحش والتبرر وغلظة القلب حتى إن فصيلة منها تسمى «مرى» تغير على القوافل، وتأبى إلا قتل رجالها زعمًا منها أن الأموال لا تحل ما دام أربابها في قيد الحياة.
ويوجد في البلاد الأفغانية كثير من عبدة الأوثان الهنديين، ولهم بها معابد تسمى «درمسال» ولهم خارج مدينة كابل محرقة يحرقون فيها جثث أمواتهم على مقتضى ديانتهم، وغالبًا يحفظون رمادها ويرسلونه إلى نهر القنج، وجلهم على مذهب بابانانك الذي أشرنا إليه سابقًا، ويشتغلون غالبًا بالتجارة والصيرفة، ويجتنبون غاية الاجتناب مس غير المتدين بدينهم، ويتحاشون عن تعاطي طعامه وشرابه.
وأمير الأفغان ليس له أبهة ملوك الشرقيين وجلالتهم، بل يجلس في ديوان الحكومة المسمى عندهم «دربار» على النمارق الفارسية، مع أعيان الحكومة، ولا يتميز عنهم إلا بمتكأ يوضع بجانبه، ولا يمنع الحاجب والبواب أحدًا من الدخول عليه حتى أسافل الناس، ولكل واحد من أهالي البلدان أن يرفع شكواه إليه مكلمًا إياه مشافهة، رافعًا صوته بدون خجلٍ ولا مبالاةٍ، وهكذا سائر الولاة مع الرعية في الولايات، نعم، إنه يقف أمام الأمير كثير من الخدم متسلحين بالسيوف والخناجر مهيئين لإجراء الأوامر والنواهي، ويركب في محفة تحملها أعناق الرجال تارةً وفي هودج محمول على الأفيال أخرى، ويجلس مع الأمير في ديوان الحكومة «خان منلا» وهو قاضي القضاة لفصل الدعاوي الشرعية ويجلس أيضًا مع كل والٍ قاضٍ، ولا يجوز للأمير ولا لأحد من الولاة أن يتداخل في الأمور الشرعية، ولا يوجد للحكومة الأفغانية قانون سياسي وإنما الحل والعقد وفصل القضايا وتعيين الجزاء وتحديد العقاب وضرب الجزية «أي الجزاء النقدي» والحبس والضرب والطرد موكول برأي الأمير، وسائر الولاة يفعلون على حسب ما يتراءى لهم «ولا شك أن هذه الطريقة لا تخلو من الغدر والظلم في كثير من الأحيان» غير أن العقاب بالمثل وقطع اليد والرجل قلَّما يقع في تلك البلاد، وأما القتل سياسة فلا يقدم عليه الأمير جهارًا إلا إذا اتفقت معه آراء كبراء قبيلة مَن أراد الأمير قتله خوف الفساد وخشية التعصب وإثارة الفتنة، نعم، إن الأمير كثيرًا ما يفعل بعظماء عائلته أفعالًا شنيعة كالقتل والسمل وغيرهما من الفظائع؛ لعدم من يقوم بنصرهم ويأخذ بثأرهم، وكثيرًا ما يصادر الأمير أموال الوزراء إذا غضب عليهم أو أحسَّ منهم بسوء، وهكذا يفعل الولاة من العائلة السلطانية مع المستخدمين في الولايات للسبب عينه، ولا ينجو أرباب الغنى من التجار والزرَّاع من هذه البلية، وللأمير أن يتصرف في الخزينة الأميرية كتصرفه في مطلق ماله كيفما يشاء، وليس لأحد حق المنع والرَّدع، بل لا يخطر ببال شخص ما أن الأموال الأميرية ليست من ممتلكات شخص الأمير وأنه لا يجوز لأميرٍ ما أن يتصرف فيها إلا بالمقدار الذي يجوِّزه القانون وترضى به الأمة.
ولعدم معرفة الحكومة الأفغانية بواجباتها، وعدم وجود قانون يجبرها على موجبات الإصلاح، تراها غير مهتمة بتأمين السبيل وإصلاح الطرق ومنع قطاع الطرق وحفظ القوافل ووقاية السابلة، حتى إن القافلة إذا أرادت أن تذهب من بلدٍ إلى بلدٍ فلا يمكنها ما لم تكن مؤلفة من مائتين متسلحين بالسيوف والبنادق كأنهم جيوش حربية مستعدون للطعن والنزال لا للبيع والشراء؛ ولأجل هذا قلَّت التجارة في تلك البلاد، وصار سوقها كاسدًا، ويوجد في بعض البلاد الأفغانية محتسب لدفع الموبقات، وإن الحكومة الأفغانية تشبه أن تكون حكومة عسكرية؛ لأن جميع أرباب المناصب الملكية والعلمية وكل المستخدمين من الوزير إلى الكاتب المسمى عندهم «ميرزا» ومن قاضي القضاة إلى أدنى نائبه تقيد أسماؤهم في الدفاتر العسكرية وتكون مرتباتهم الشهرية على حسب ما يوجبون عليهم إحضاره في المحاربة من الفرسان للمقاتلة والمناضلة، مثلًا يقرَّر لقاضي القضاة مرتب مائة خيال، فيجب عليه أن يحضر في جميع المحاربات مصحوبًا بما فرض عليه من الفرسان متسلحين بأسلحتهم، وإن الحكومة تلزم مشايخ القرى والقصبات بجمع عساكر النظام من أرباب العقارات والضياع فيقدم المشايخ رجالًا على حسب ما يتراءى لهم من غير قانون ولا ضرب قرعة، وليس لمدة العسكرية حد معين، وإذا كان العسكري تحت السلاح فراتبه الشهري ست روبيات بلا تعيينات يومية، وقد يحصل التأخير في أدائه، ولها أن تجمع في أوقات المحاربة من سكان البوادي وأهل القرى على حسب كثرتهم وقلتهم مشاة تسمى عندهم «خاصة دار» وفرسانًا تسمى أوپره سوار «بالباء الفارسية»، وهي التي تقوم بمئونتهم مدة المحاربة وغالب هؤلاء الفرسان من الجمشيدي والأزبك، والإمارة الأفغانية وراثية، ولكن لا يشترط أن يكون الوارث أكبر أولاد الأمير، فله أن يجعل مَن يشاء من أولاده ولي عهده، ومع ذلك لا تخلو الإمارة الأفغانية من التقلقل؛ لشدة حرص الطامعين وكثرة شره المفسدين الذين لا يألون جهدًا في السعي للتغلب عليها، ولا توجد معاهدة دولية بين هذه الإمارة وسائر الحكومات، وإنما تقرر بعض من الشروط بينها وبين الحكومة الهندية الإنجليزية في الزمان السابق.
والأموال الأميرية في تلك البلاد قسمان: قسم يؤخذ من أرباب الزراعة وأصحاب البساتين ومقتني المواشي، وهذا القسم يشبه أن يكون زكاة شرعية، وقسم يؤخذ من أرباب الدكاكين والصنائع ومن كل ذكر من طائفة الغلجائي يكون عمره خمس عشرة سنة «ضربت على كل ذكر من طائفة الغلجائي روبية جزية عليهم وإذلالًا لهم تؤخذ منه كل سنة منذ انتقلت السلطنة منهم إلى العبدل قبيلة الأمير الحالي» ومن أرباب الجنايات جريمة، ومن البضائع الواردة إلى البلاد الأفغانية باسم «الجمرك» والرسم الذي يؤخذ بهذا الاسم لا يتقيد بحدود البلاد، بل يؤخذ في كل مدينة وقصبة، ولما كان سكان الجبال غالب الأوقات في حال التمرد والعصيان، فلا يمكن استحصال الأموال منهم إلا بالقوة الجبرية وإرسال الكتائب من العسكرين، ولتوالي الفتن في البلاد الأفغانية واستمرار عصيان القبائل فلا يمكن بيان المعدل الحقيقي للأموال الأميرية، ويظن أنها لا تزيد عن مليون ونصف من الجنيهات، ولا تنقص عن مليون وربع، وهذا المبلغ يصرف في مرتبات العائلة السلطانية. واللغة الرسمية عند الحكومة هي اللغة الفارسية، ومن عادات الأمراء الأفغانيين أن يخرجوا يوم عيدي الأضحى والفطر في موكب عظيم للصلاة خارج البلد، وبعد أدائها تضرب المدافع والبنادق ويتسابق أمامهم الفرسان على الخيول الجياد، ثم بعد عودهم يجلسون في الديوان وتمد الموائد وترد عليهم الناس أفواجًا للمعايدة.