زمارة، توت
المشوار طويل والمقبرة ما تزال بعيدة. وعم إبراهيم يضرب الأرض بعصاه رقيقًا كأنه يخشى أن يستيقظ راقد تحت التراب ليسأله ما الذي جاء بك إلى هنا؟ كنا أشبه بنملتين غبيَّتين. نسير بين الأحجار القديمة، والتماثيل المهشَّمة والمعابد المتهدِّمة، والجبل الشامخ يظلِّلنا من كل مكان، كأنه خيمةٌ سوداء بلا حدود.
– خلاص، قرَّبنا.
قالها عم إبراهيم فانتفض قلبي، كأن يدًا رهيبة هزَّتني لتُعلن عن مولد معجزة. والتفتُّ أراقب الوجه العجوز المتهدِّم. واليد الجامدة تُشير إلى كهف في «وادي الملوك» غير بعيد عنا. وهمست خائفًا: هي دي المقبرة؟ فجاءني صوته الغاضب: هس!
الحق مع عم إبراهيم؛ فالكلام هنا شيءٌ محرَّم. إنه حجر يعكِّر بحيرة السكون. وعدتُ أتأمَّل وجه رفيقي العجوز ورأسه الشامخة التي تجلِّلها شعراتٌ بِيض كأنها تاج من الفضة، وضعه فرعون العظيم. وابتسمت وأنا أتخيَّل عم إبراهيم — الصعيدي الطيب — ينفض التراب عن هدومه، وينهض من تابوتٍ قديم، فيفتح عينيه ويفكُّ الأربطة عن جسده، ثم يمدُّ يده فيشرب من قُلة قناوي موضوعة بجانبه، ويتجشَّأ ويقول لي: إيه اللي جابك هنا؟!
– تعال. لأ، من هنا. هات إيدك. أيوه كده!
كنا قد بلغنا المقبرة. وهذا هو مأوى رجل من الخالدين أراد أن يُخفيه عن أعيُن الفانين من أمثالي. وصاح بي عم إبراهيم: ما لك خايف كده؟
فقلت وأنا أرتعش: أصل دي أول مرة …
فرنَّ صوت كالجرس: يا شيخ، ده اللي يشوفك يقول ده جاي يسرق التُّرب. وذكَّرتني كلمته بلصوص المقابر؛ يتسلَّلون في ليالي مصر القديمة ويسلبونها الأكفان والكنوز والأسرار.
وعاد الصمت يُجلجل: حد يخاف من أبوه وجده؟ هات إيدك هات.
وتناول يدي يساعدني على صعود المَمشى الطويل، وتقدَّم يدلُّني على المكان. إنه يعرف كل شبر من أرضه وكل موضع من جدرانه، وكأنما يسبقني إلى بيته القديم؛ فهو ينفض التراب والعنكبوت عن سقفه وستائره.
ومضى عم إبراهيم يُعرِّفني على المقبرة، كأنه سمسار شقق في وادي الملوك.
قلت وأنا أحني قامتي لأدخل حجرةً ضيقة: دي أودة إيه؟
فقال عم إبراهيم: دي بقى أول أودة، كان فيها تابوت فاضي مفيش غيره، تُخش منها على تاني أودة. استنى أما أولع الشمعة فيها هدوم توت عنخ وعصيانه، وقول زلعتين كمان.
فقلت مُتعجبًا: زلعتين!
فهتف كأنه يُنكر جهلي: أُمال أنت فاكر إيه؟ الراجل يقوم عطشان، يبل ريقه.
– طيب والأودة دي؟
وكنا قد وصلنا إلى قاعةٍ كبيرة.
– هنا بقى تمثالين، هو ولا مؤاخذة، والست بتاعته، وجنبهم العربية بتاعتهم، جايز الراجل يجيله مزاجه.
– مزاجه؟
– أُمال! يقوم يتفسح هو وجماعته شوية، يشموا هوا. القصد، تعرف لقينا الزمارة فين؟
وأعملت فكري لأتذكر معلوماتي الضئيلة عن المقبرة ومُكتشفيها وسألته: قصدك النفير؟
– باقولك زمارة توت عنخ.
وثبَّت عم إبراهيم الشمعة على الأرض وقال لي وهو يجلس: تعالَ نقعد هنا تعالَ. من يومها ويعملوني حارس. أقول لك الحق؟ أنا كنت خايف موت، ما هو أنا اللي لقيتها بقى. ولما وريتها للخواجة قال لي برافو يا خبيبي، إنت كويس كتير. حطتها تحت باطي، ونمت.
ليلتها نام عم إبراهيم على باب المقبرة. كان الأنفار قد هدَّهم التعب طول النهار، وسهروا يشربون الشاي الثقيل، وينفضون التراب عن أرواحهم وأجسامهم، ويُثرثرون عن الفراعنة حتى زحف النوم إلى عيونهم، وبقي عم إبراهيم سهران.
– ما تعرفش إيه اللي جرالي من ورا الزمارة دي، حاجة ورا العقل، وثبت عينيه بالسقف، كأنه ينتظر أن ينشق عن الملك الجميل يتقدم إليه ويُصافحه ويقول له: إزيك يا عم إبراهيم!
وفي نص الليل ألاقي لك اللي بيخبط على كتفي. قمت مفزوع من عز النوم. لقيت اللي واقف قدامي. قلت بسم الله الرحمن الرحيم. مين؟
قال: أنا توت.
قلت: توت مين؟
قال: ما تعرفنيش يا عم إبراهيم؟
هزيت رأسي وقلت: لا والله، ما خدش بالي.
قال: بقى يا راجل متعرفش توت عنخ آمون، فرعون مصر، قبلي وبحري؟
قلت له: وعاوز إيه يا سيدنا توت؟
قال لي: قوم يا إبراهيم.
قلت له: أقوم أروح فين يا سيدنا توت؟
أنا راجل غلبان، وعلى الله حالي.
رجع يمد لي إيده، ويقول لي بأقولك قوم انفخ في الزمارة دي.
وعنها والنوم طار من عيني. فتحت ما لقيتش حاجة قدامي، حسست على الزمارة لقيتها مطرحها قول يا شيخ حمدت ربنا اللي جات سليمة، بصيت حواليه لقيت الأنفار نايمين نوم أهل الكهف من تعبهم طول النهار ومن كتر الشيل والحط. قول صحيت وقريت الفاتحة لأهل البيت وفاتت الليلة على خير.
تاني ليلة الشيطان لعب في عبي، قلت يجرى إيه يعني لو جربت الزمارة دي؟ حطيتها على بقي وقلت يا بركة سيدي توت.
فقلت ضاحكًا: ليه؟ هو شيخ؟
فقال وهو يتعجب من جهلي: ومن أولياء الله كمان.
فأحبيت أن أجاريه في قوله: أهل زمان كلهم بركة.
فأطرق برأسه مؤكدًا كلامي: أمة لا إله إلا الله ما تخفش عليها. القصد، نرجع للزمارة. سميت ونفخت فيها. حاكم أنا لي صنعة في المزامير دي. طول عمري ما حدش يغلبني على الأرغول. أنا نفخت فيها من هنا.
– طلع منها صوت؟
– صوت؟ قول رعد، برق! زي ما تكون السما انطبقت على الأرض. توت توت. اتهيألي إن الفراعنة كلهم صحوا، زي الجن المسلسلين اللي ربنا ها يفرج عنهم يوم القيامة. اتلموا عليَّ من كل ناحية. أنا قلت تروح على فين يا إبراهيم، تيجي منين يا إبراهيم؟
– وتوت، ما كانش معاهم؟!
– جاي لك أهه. الفراعنة طبقوا على نفسي. شوف أنت بقى ما هم فراعنة، وسرهم باتع. أنا قلت خلاص، رحت يا إبراهيم في شربة مية، واللي كان كان. اتلموا حواليَّ يضحكوا، ويشاوروا عليَّ، ويرطنوا بكلام، ما أنا عارف هما بيقولوا إيه.
– يمكن بيتكلموا هيروغليفي؟
– عليك نور. أهو كلام كده زي نبش الفراخ!
– وما ردتش عليهم؟
– وأنا أروح فين في وسطهم؟ ده كلهم لسانهم فصيح. وشوية وألاقي الوش المنور جاي من بعيد.
– توت عنخ؟
– بلحمه ودمه! راكب على عربية مزوقة، فشر الحناطير بتاعة الأيام دي، جاررها فرس عربي أصيل، والخدم والحشم والعبيد حواليه. وعنها ويخش في وسط الأمم دي، وهو بيزعق: اوعى يا جدع انت وهوه.
– كان بيتكلم عربي؟
– أيوة أُمال! هو بس اللي بيعرف عربي!
– وسلمت عليه طبعًا؟
– أقول لك الحق، ما جاليش قلب!
– وهو ما كلمكش؟
– فضل يتحايل عليَّ، ويقول لي قوم يا عم إبراهيم، عشان خاطري يا عم إبراهيم. أقوله أروح فين يا سيدنا توت. يقول قوم معايا، الرجالة بتوعي أهم. قلت له أنا راجل غلبان يا عم توت، ما أقدرش أسيب أكل عيشي. قال لي قوم ما لكش دعوة. أنت هاتنفخ في الزمارة وبس. الناس كلها تصحى من عز النوم. قلت له دا نايمين من زمان يا عم توت. قال لي أمة محمد بخير. قلت له يا عم توت، أنا باجري على ولايا، روح أنت لوحدك.
– ضروري زعل منك.
فسرح ببصره قليلًا كأنه يندم على فرصةٍ فاتت ولن تعود، وعاد يقول: زعل بس؟ طيب دا وشه اللي زي البدر اتعكر وبقى لون الأرض. ركب عربيته وقال: سوقوا يا عبيد. والناس مشت وراه. الأرض دي مش سايعاهم. ما أقولكش بقى على التراب اللي طالع من تحت رجليهم.
– وفضل مخاصمك كتير؟
فمال عم إبراهيم ليُشعل شمعةً أخرى بعد أن ذبلت الأولى وكادت أن تختنق: الحق لو واحد غيري وعمل معاه الفصل ده ما كانش كلمه طول عمره.
– لو أنا منه ما أوركش وشي أبدًا.
– الراجل اللي يعرف ربنا ما تخافش عليه أبدًا. ما فيش ليلة والثانية وألاقيلك اللي بيهزني في نص الليل.
– توت عنخ؟
– أنا بصيت في وشه ما عرفتوش أصفر زي الليمون. وعينيه داخلة لجوه، ولا الأموات! متعفر، وهدومه مقطعة، وحالته تصعب على الكافر. قلت له مالك يا عم توت، كفى الله الشر. قال لي أنا مُت خلاص يا عم إبراهيم. بصيت حواليه لا لقيت خدم ولا حشم. قلت الله! أنت جاي ماشي ولا إيه؟
قال: الكفرة يا عم إبراهيم! الكفرة أخذوا مني كل حاجة. ألاقيش عندك لقمة؟
وأنت عاوز الحق؟ أنا قلبي انقبض من الكلمة دي. سيدنا توت جعان، يا دي الكسوف يا ولاد. القصد، قعَّدته جنبي، ودورت على حاجة تنفع للأكل. لقيت لقمتين عيش بايتين من العشاء، وحتة جبنة قديمة. دخلت جيبت له القُلة من جوه. الراجل أكل وشرب وحمد ربنا. أُمال؟ أهل زمان كانوا باكيين على النعمة. بصيت في وشه لقيته متغير قوي، وعيني دي، اللي ما يملاها إلا التراب اتمدت وبصت على رجليه. تعرف وحق من خلق السما بلا عمد، لقيته حافي.
فهتفت بغير إرادة مني: توت عنخ آمون حافي؟
– زي ما بأقولك كده. ميلت عليه. ومديت إيدي حسست على ضهره. لقيته خاسس قوي.
– لازم كان راجع من سكة سفر بعيدة.
فقال عم إبراهيم وقد سرَّته ملاحظتي: ابن حلال قلت إيه الغيبة الطويلة دي يا توت؟ قال لي: تعرف أنا كنت فين يا عم إبراهيم؟ قلت لنفسي هايروح فين يعني، والناس الطيبين دول حيروحوا فين، الناس اللي لا تعرف سيما ولا قهوة. قلت له: جاي من الجامع طبعًا. لقيته اتنفض وقال لي: جامع إيه! أنا جاي من مصر.
أقولك الحق: أنا ما صدقتش واحد ييجي من مصر على رجليه مش معقول. ده حتى القطر بيقطعها في سبعتاشر ساعة. رجعت أقول دول ناس مباركين، وربنا فاتح قلوبهم على الإيمان، فسألته: ورحت فين في مصر؟ قال: والله يا عم إبراهيم أنا دخت! لفيت في كل مكان، رحت القلعة، والسيدة، والإمام، ما سيبتش حارة إلا لما لفيتها، حتى العِزب والكفور اللي من هنا لمصر.
قلت له: والناس عرفتك يا توت؟
– ناس مين؟ هو أنا لقيت ناس؟ كلهم نايمين.
– نايمين؟ يمكن طبيت هناك بالليل.
– بأقولك نايمين، نايمين. قمت سألته وأنا قلبي بينقبض: وفضيلتك كنت عايز تصحيهم؟
قام اتأثر قوي وبان على وشه الزعل وقال لي: أنا كنت فاكر إن احنا بس اللي نايمين، أتاري الناس كلها نايمة، ورايحة في النوم، من زمان.
أعمل إيه؟ هزيت راسي وقتل له: صحيح من زمان.
رجع يقول: أنا كنت فاكر إن أمة فرعون هي اللي نايمة في التراب، أتاري الناس هنا كمان، متكفنين، ومتربطين في البيوت، والشوارع والقهاوي، وفي الحكومة، كله نوم!
استعجبت وقلت له: صحيح يا توت، كله نوم يا رسول الله!
قال لي: أنا غلبت أنفخ في النفير، إن الناس تصحى؟ ما تصحاش. يا عالم اصحوا. لا إحنا مرتاحين كده. قال: تعرف إن بختنا أحسن منكم؟ قول ما عجبتنيش الكلمة دي. قلت له إزاي بأه يا سيدنا توت؟
قال لي: على الأقل احنا لقينا اللي يفتح قبورنا، ويرفع توابتنا، ويشيل الكفن عنا، لكن أنتم …
أعمل إيه؟ قلت له: صحيح، إحنا لسه يا عم توت!
رجع يقول: الحقيقة، ما تبسطش من ده الحال. رجعت أعس وأدور، لقيت ناس غرب كتير، كل ما أبص في وش الواحد منهم أقول أستغفر الله العظيم، مش معقول يكونوا من بر مصر!
قلت له: يأجوج ومأجوج؟
قال لي: عليك نور! همه بعينهم.
قلت له: لكن دول كانوا زمان قوي يا عم توت.
قال لي: ما هو احنا ما عندناش زمان ودلوقتي. كل عدوين بر مصر لقيتهم قدامي، كده على بعض، قل أرجع لأهل بلدي أصحيهم، وعنها وأنفخ في النفير؛ توت، توت. اتلموا عليَّ.
– مين؟ المصريين؟!
لأ، اللي عنيه خُضر، واللي وشه أصفر، واشي لابس برنيطة.
– وقدرت عليهم لوحدك؟
– حاوطوني زي النمل، وقتلوا عساكري كلهم، وكسروا العربية وقطعوا هدومي. ولولا ستر ربنا كانوا خلصوا عليَّ، وأديني أهه، زي ما أنت شايف.
فقال عم إبراهيم وهو يتحسس جبهته كأنما يستخرج منها تفاصيل حلم قديم غاب عنه: في الليلة دي عملت الواجب اللي عليَّ، الراجل اتعشى واتبسط، وكان عطشان شرب، واتمدد جنبي نام، أنا صحيت الصبح، فأسرعت أقول. لقيته متمدد جنبك.
فقال عم إبراهيم: لأ، لقيت واحد من الأنفار بيقول لي: قوم، قوم. أنا افتكرته توت بيصحيني. قلت له: أقوم فين يا سيدنا توت؟ أنا راجل غلبان وعلى قد حالي. لقيت اللي بيلطشني على وشي ويقول لي: قوم شيل لك مقطفين! يومها اشتغلت زي عوايدي، شيلت كام كوم تراب كانوا حوالين السكة دي، وانتظرنا لما جه الخواجة، فقلت أذكره: كارتر؟
فقال ساخطًا: أنا عارف بأه! أهي أساميهم كانت مالية الجرايد أيامها. فتحنا أودتين من اللي كانوا مقفولين، أصلي كنت بأقف على أيديهم، وما كانوش يدوا سرهم لحد غيري. سألني على الزمارة. قلت له: معايا يا حضرة الخواجة. قال لي: خدي بالك منها، اوعى تنفخي فيها. قلت آه يا ابن اللئيم، ليكون حد قال له إنني نفخت فيها، مكرت عليه أنا كمان، وقلت له: ويجرى إيه يا خواجة؟ قام ضحك قوي وقال: دي كله يصخى يا خبيبي، كل الميتين دي يصخى.
قول الحكاية فاتت على خير، وفي ليلتها قاعد على باب المقبرة، حاطط إيدي على خدي، والأنفار نايمة حواليَّ مقطوعين النفس، وبأجرب في البوق: فو! ولا يوم القيامة. أتلفَّت حواليَّ، وحمدت ربنا إن ما حدش صحي، نفرين تلاتة اتقلبوا شوية من تعبهم، وبعدها اتخمدوا ناموا. وأبص بعد شوية، وألاقيه جاي من بعيد.
– توت عنخ؟!
– هو بعينه، ماشي زي الخيال، هدومه مقطعة، ووشه معفر، ورجليه حافية، ورايح في ربع حاله. قلت له: ما تقعد يا توت. قال لي: لأ، قوم. قلت له: أنا لسه ما اتعشتش، قوم كل لك لقمة معايا! قال: والله ما ليش نِفس. قلت: طيب اقعد اشرب شاي. قال: لأ قوم ندخل جوة. قلت له: جوة فين؟ قال: مطرح ما كنت نايم، في التابوت! قلت له: كده يا سيدنا توت؟ بقى بعد ما صحيت وشُفت الدنيا ترضى بالنومة دي تاني؟ قول يا شيخ أنا اتأثرت قوي من الكلمة دي. ميِّل عليَّ وحط إيده على كتفي، وقال لي مصيرها تتعدل. قلت له: إزاي؟ قال لي: يعدلها من لا يغفل ولا ينام! بكرة ييجي اللي يصحيني. قلت له: ييجي منين يا توت؟! قال لي: اطمئن، من بر مصر طبعًا! وعنها مشيت معاه أوصله؛ أصل المقبرة تتوه، لغاية ما وصلنا للأودة بتاعته. الرجل من نفسه دخل التابوت، ومدد رجليه، ونام. قال لي: ما تغفلشي يا عم إبراهيم؛ علشان فيه واحد هايجيني يصحيني.
كانت الشمعة تخفق خفقاتها الأخيرة، فلا أكاد أتبيَّن وجه صاحبي. وكان عم إبراهيم قد غاب عن نفسه قليلًا، وطوقته فترة من الصمت انتبهت بعدها على صوته؛ يظهر أنه راح في سابع نومة، فهمس كأنه يُفضي إليَّ بسرٍّ خطير: عمك توت نومه تقيل قوي!
فتشبَّثت بذراعه حتى لا أتعثر في حجر، وقلت: ربك قادر، يسلط عليه اللي يصحيه، ويصحي العالم ده كله.
قال وهو يقودني إلى خارج المقبرة: العالم الزلط؟!
فقلت: الفلاحين، والأفندية، والعسكر، والغلابة، وتبيَّنت وجه العجوز المتهدم تطل منه عينان مفتوحتان لم تعرفا اليقظة أبدًا.
وتنهَّد قائلًا: هيه، الأمر أمره!
فقلت ضاحكًا: يا أخي يعدلها سيدك.
وردَّد كالصدى: معاك حق، يعدلها من لا يغفل ولا ينام.