مذكرات يمليخا
هل أروي لكم ما حدث لي في ذلك اليوم؟
لست أدري إن كانت ستهمُّكم حياتي القصيرة، التي قالوا لي فيما بعد لفرط دهشتي إنها أطول من حياة خمسة رجال يموتون على أحسن الفروض بعد سن الستين؛ فقد تعوَّدت خلالها ألا يهتمَّ بي أحد، اللهم إلا غنمي القليلة وكلبي العزيز قطمير، هذا إذا تكرَّمتم عليَّ واعترفتم بأن نظراتهم الودودة يمكن أن تُعَد نوعًا من الاهتمام. أنا على أية حال سوف أحكي لكم ما جرى لي في ذلك اليوم، أو سيحكيه لكم إنسانٌ مجهول لا أعرفه على لساني، وكل ما أطمع فيه هو القليل من وقتكم، وإن شئتم أيضًا من صبركم وتسامحكم.
في ذلك اليوم صحوت كعادتي في كل صباح، فأحسست أن عظام ظهري وجنبي تؤلمني أكثر من أي يوم مضى. لم أكترث لذلك كثيرًا، بل لم أحاول أن أفتح عيني؛ لأنني كنت أعلم سلفًا أنهما لن تريا شيئًا في ظلام الكهف الذي اعتدت أن آوي إليه كلما جنَّ الليل. وعندما تحسَّست وجهي بكفي — من قبيل الاطمئنان لا غير — لاحظت أن شعر ذقني قد طال أكثر من اللازم، وأنني في حاجة إلى أن أذهب إلى الحلَّاق في أقرب وقت، وإن كنت أحسب حساب زيارته لما تكلِّفني من مال لا طاقة لي به، ومن صبر على الجلوس أمامه كأنني قردٌ مسلسل بالقيود، وثرثرته التي لا تنتهي في كل شيء لا تعنيني، وكل شيء كان في ذلك الحين لا يعنيني.
المهم أنني كنت قد صحوت من نومي — وهذه نعمة من الآلهة أن يصحو الإنسان كل صباح ويتمكن من تحريك عضلاته بغير مشقة — ومددت يدي على الفور في جيبي لأطمئن إلى وجود الورقة المالية التي أعطاها لي زميلاي الجديدان في الكهف — سأحدِّثكم عنهما بعد قليل فأرجوكم أن تصبروا — كانت السماء تُمطر في الخارج فلم أستبشر كثيرًا لذلك؛ إذ كنت أعلم أن سقوط المطر معناه أن غنمي التي ربطتها كما أفعل كل ليلة قبل أن آوي إلى الكهف قد ابتلَّت، وأن بعضها لا شك قد أصابه البرد والسعال، ولكنني لم أجد الغنم في مكانها الذي تركتها فيه، ورحت أبحث عنها في كل مكان، ودرت حول الكهف أكثر من مرة، وجريت إلى المراعي المُجاورة، ولكنني لم أعثر لها على أثر، بل لم أجد حتى آثار أقدامها على الأرض. حزنت بالطبع لفقد غنمي، وهي كل ما أملك من متاع الدنيا، وعزوت ذلك إلى كثرة قُطاع الطُّرق الذين كان عددهم يزداد في مدينتنا أفسوس، خصوصًا بعد المجاعة التي كانت قد انتشرت فيها، والفوضى التي كانت قد جعلت الواحد منا لا يطمئن على نفسه أن يخطفوه في عز النهار. المهم أنني حاولت أن أعزِّي نفسي وأقول لها إنني ربما وجدتها ترعى عند جار لي، أو ربما عوَّضتني عنها السماء بقطيعٍ آخر أو حتى بالنسيان. وساعدني على ذلك أنني التفتُّ ورائي فوجدت كلبي قطمير يرفع رأسه إليَّ في حنانٍ عظيم بما يرجع لشدة جوعه، ويهزُّ ذيله ويجري نحوي فيتشمَّم رجلي ويعلِّقهما بطرف لسانه ويجري أمامي (ولا بد لي أن أقول هنا إنه كان يبذل مجهودًا كبيرًا ليُقنعني بأنه ما زال قادرًا على الجري، حتى ظننت أن عظام ظهره أيضًا تؤلمه كما تؤلمني).
لم أكَد أسير خطوات في طريقي إلى السوق لأشتري طعامًا لي ولصاحبيَّ المُترَفين في الكهف عددًا من الأرغفة، وشيئًا من الجبن والخضر، والفاكهة إن بقي من الورقة المالية شيء، حتى لاحظت أن فارسًا مَهيبًا كان يمرُّ بي يقع بجواده فجأةً، ويُدير رأسه نحوي، ويفتح عينيه دهشة، ويصرخ مفزوعًا ثم يُطلِق لجواده العنان. أقول لكم الحق إنني تعجَّبت بيني وبين نفسي لمسلكه، وإن كنت قد حمدت السماء أنه لم يكلِّمني، ولم يكتشف في مشيتي شيئًا يؤاخذني عليه؛ فقد كنت دائمًا سيئ الظن بالفُرسان أتجنَّب طريقهم، وأتلافى التحدث معهم، وأتَّقي غضبهم المُفاجئ وسيوفهم اللامعة وأقدامهم التي تتلذَّذ دائمًا بركل الرُّعاة من أمثالنا. وهززت رأسي تعجبًا وسرورًا وأنا أتابع سحابة الغبار التي تُثيرها حوافر الجواد الأصيل وهو ينهب الأرض نهبًا. ومضيت في طريقي أحاول أن أتَّقي المطر بوضع طرف ردائي على رأسي، والدندنة بلحنٍ كنت أستعذب غناءه خصوصًا؛ إذ عرفتم أنني أنا الذي ألَّفت أنغامه وكلماته التي لا شك أنها كانت سخيفة وعبيطة ككل شيء كنت أفعله. وتذكَّرت زميليَّ تلك الليلة في الكهف. كنت قد قابلتهما في اليوم السابق بينما كنت أحاول أن أجمع غنمي المشتَّتة قبل أن تغرب الشمس. كانا يسيران، لا، بل يجريان في خوف وكأن هناك أحدًا يتربَّص بهما، وكان منظرهما يُوحي بأنهما يبحثان عن ملجأٍ يسترهما، وكانت ملابسهما تنطق بأنهما قائدان عظيمان، أو حارسان من حراس قصر الملك، أو وزيران من وزرائه كما علمت فيما بعد. اقتربا مني وقال أحدهما، وكان نحيلًا طويلًا واسع العينين سمح الوجه، عصبيًّا يتحسس وجهه بيديه، ويتلفت وراءه مذعورًا في كل لحظة: أيها الراعي الصالح (لم أدرِ لأي سبب وصَفاني بالصلاح مع أن الجميع، وأنا أولهم، كانوا يشهدون لي بالعبط)، هل تعرف مكانًا نأوي إليه؟ قلت وأنا ما زلت أُنادي على غنمي وأُداري خوفي منهما: ليس في هذه الحقول مكانٌ يليق بكما أيها القائدان العظيمان. قال الرجل الآخر الذي كان يبدو أكبر من صاحبه سنًّا، كما كان أقصر قوامًا وأميَل إلى السمنة والاعتدال في حركاته وكلماته: أي مكان في الأرض يُرضينا أيها الراعي الصالح، ما دامت كلها أرض الله، المهم أن يسترنا عن عدو الله. قلت في غباءٍ شديد لم يكونا يعرفانه بعدُ عني: وما دام هو عدو الله فما شأنكما به؟ لاحظت ابتسامةً مُتسامحة على وجوههما، وقال الرجل الطويل النحيل في وقار لم أكن أتصور أنه يمكن أن يصدُر عنه: إن عدو الله هو عدونا أيضًا، فنحن الاثنان نؤمن بالله أيها الراعي الصالح، وسوف تؤمن أنت أيضًا به إذا عرفته، ولكن عدو الله وعدونا دقيانوس (وهنا تذكَّرت أنني سمعت هذا الاسم من قبل) يُريد أن يُمسِك بنا وينتقم منا. وتدخَّل الرجل السمين المتوسط القامة، فقال في صوتٍ متَّزِن: وأن يفعل بنا مثل ما فعله بإخواننا من الشهداء الصالحين. تساءلت وأنا نفسي مُندهش من جهلي: وماذا فعل بهم؟ فأجابا في صوتٍ واحدٍ غاضب حتى خشيت أن أكون قد ارتكبت ما يُوجِب الموت عليَّ: ألم تدرِ بعد بما فعله؟ لقد ذبح المؤمنين، وقطع أجسادهم، وعلَّقها على أعمدةٍ عالية حول سور المدينة، ألم تسمع بذلك؟
قلت كاذبًا لأنجو من عيونهما المدهوشة التي تكاد تفتك بي: «طبعًا علمت، ولكنني لم أكن أعلم أنكما من أعدائه.» ثم أضفت لكي أُنهي الحديث الذي لن أستطيع المُساهَمة فيه: على كل حال أنا أبيت في هذا الكهف (وهنا أشرت إليه كأنني أعتذر)، إن شئتما أقمتما فيه الليلة معي. وأردت أن أكمل اعتذاري لهما، ولكنهما سارعا إلى الدخول وهما يهتفان في سعادة الأطفال: جازاك الله خيرًا أيها الراعي الصالح! لتحلَّ عليك بركة السماء. ثم تمتما بكلامٍ غريب وهما يجريان نحو الكهف ويتلفَّتان حولهما؛ مما جعلني أطمئن إلى أنني لست العبيط الوحيد في هذه الدنيا، كما كنت دائمًا أقول لنفسي.
وعندما دخلت من باب الكهف، بعد أن ربطت غنمي وجمعت لها ما يكفي عشان الليلة، سمعتهما يتكلمان، توقَّفا عن الكلام فجأةً وساد عليهما الصمت والظلام والعنكبوت الذي يسود عادة في الكهوف، وانزويت وحدي في ركني المعهود، وبسط قطمير ذراعيه أمامي، وخُيل إليَّ أنني سمعت شخيرهم هم الثلاثة قبل أن أغفو تمامًا.
لا أُطيل عليكم؛ فقد وصلت إلى السوق الذي حدَّثتكم في أول هذه المذكرات أنني كنت في طريقي إليه لشراء الحاجيات التي كلَّفوني بشرائها. لم يسترعِ انتباهي شيءٌ غير مألوف؛ فذلك كان طريقي المُعتاد كل يوم تقريبًا، من الكهف إلى السوق لأرى الناس وأشتري منهم، أو أبادلهم بغنمي أو لبني أو صوف مغزلي، لقمة أو كسوة أو ذكرى أعود بها إلى كهفي في حضن جبل بنجلوس. كانت أشجار الجميز الضخمة وفروع الكافور العالية تتمايل على جانبَي الطريق الجبلي المُترِب، وأحدِّثها وتحدِّثني؛ فأنا راعٍ قديم أفهم لغة الأشجار، وأتبادل الغناء مع العصافير، وأتفاهم مع الأنجم الوحيدة، وأحيِّي أشعَّة الشمس التي تُقبلها وتغسل عن خصلات شعرها تعب الليل. قلت إنني لم أجد شيئًا غير مألوف فيما رأيت، هذا إذا استثنيتم حادث الفارس الشجاع الذي عبر بي وولَّى مذعورًا عندما رآني؛ إذ استطعت بعد أن استنشقت بعض نسمات مُنعشة أن أُسامحه، بل وضحكت أيضًا وعجبت؛ لأن هناك مخلوقًا يمكنه أن يرتاع لمجرد رؤيته لي. أقول هذا لأمهِّد للحادثة التي جرت لي بعد ذلك؛ الحادثة الوحيدة في حياتي القصيرة الطويلة، والتي جعلتني أصرخ وأبكي، نعم أبكي، ربما لأول مرة، أنا الذي ما عرفت شيئًا في حياتي مثل الكتمان، والبُعد عن كل ما تفوح منه رائحة المأساة.
فلم أكَد أدخل السوق حتى بدأ الناس يتهامسون، ويضعون أيديهم على أفواههم، أو على عيونهم، ويفرُّون من أمامي، ثم لا يُقاومون الرغبة في الالتفات إلي بأعيُنٍ مدهوشة مذعورة. لا أريد أن أُبالغ في هذا؛ فأنتم تعرفون أن كل همي في حياتي كان دائمًا ألا يهتمَّ بي أحد؛ ولذلك فلا تتصورون مدى ضيقي وذهولي ورغبتي في أن أصفعهم جميعًا وأستريح. وقد زاد ذهولي عندما اقتربت من دكان صديقي القديم أندرايوس لأشتري حاجتي وأعود بأسرع ما أستطيع، فوجدت الدكان ليس هو الدكان، ولا أندرايوس هو أندرايوس، لا، بل لعنت غبائي وغفلتي حين تلفَّت حولي فوجدت كل شيء يختلف عن كل شيء تعوَّدته؛ الوجوه غير الوجوه، الأزياء غير الأزياء، البيوت غير البيوت، ولا بد أيضًا أن سكانها غير سكانها، حتى وجوه القطط والكلاب كانت تبدو لي جديدة وغريبة ودائمة التساؤل والتطلع إليَّ. لا أُخفي عنكم أنني بدأت أتشكَّك في كل شيء، بل وتمنَّيت لو أعطاني أحد في تلك اللحظة مرآةً أرى فيها وجهي لأعرف أنه هو وجه يمليخا، وأن عينيه وملامحه وابتسامته هي هي لم تتغير. إنني على كل حال لم أنزعج أكثر من اللازم، بل تماسَكت وخطَوت بين الوجوه الذاهلة والشفاه المُرتعشة والأيدي المُشيرة إليَّ؛ صوب الدكان الذي تصوَّرت أنني زبونه القديم، ومددت يدي في جيبي فأخرجت الورقة المالية التي أعطاها لي القائدان العظيمان، وقلت في أدبٍ مُبالَغ فيه كان يُحسُّ الناس منه دائمًا أنه دليل الخوف والاعتذار أكثر من أن يكون تعبيرًا عن الاحترام: هل تتكرَّم يا سيدي وتُعطيني ثلاثة أرغفة ورطلًا من الجبن وآخر من البرتقال؟ ويظهر أن الرجل لم يفهم كلامي، أو لم يتصور أن مثلي يمكن أن يخرج منه كلام يُفهَم. «بحلق» في وجهي، ثم عاد «يُبحلق» في الورقة المالية (كأنما يبحث عبثًا عن وجه التشابه بينهما)، وارتعشت عضلات وجهه، واختلجت حاجباه، ورفع يديه مذهولًا ثم جرى من الدكان وهو يصيح بالناس والورقة المالية بين يديه: كنز! كنز! هذا الرجل عنده كنز!
وأقبل الناس من كل مكان (وكان بعضهم في الحقيقة في غير حاجة إلى صياح البائع لأنه كان «يبحلق» فيَّ منذ مدة طويلة). وأحسست أنني لا بد شيءٌ يستحقُّ كل هذا الاهتمام الذي لم أحظَ به من قبل. وحاصرني الناس من كل ناحية حتى اختنقت أنفاسي، وكدت أغرق في بحر العرق الكريه الذي يتصبَّب منهم، والأسئلة الغاضبة المُستطلعة الخائفة التي أحاطوني بها. ولا أكذب عليكم فأقول إن أفكارًا كثيرة خطرت لي في هذه اللحظة؛ فالحقيقة أنني لم أفكر في شيء، ولا كانت عندي القدرة على أن أتصور أنني موجود، فما بالكم بأن أفكر؟ المهم أن صوتًا طيبًا أنقذني من هذا الشلل — حين تبيَّنت مصدره عرفت أنه يأتي عن شيخٍ عجوز ذكَّرتني لحيته الطويلة بأنني أنا أيضًا لي لحيةٌ طويلة استحقت يد الحلاق منذ مدة طويلة — قال لي الصوت بعد أن وقف صاحبه أمامي بين رهبة الحاضرين وإجلالهم: من أنت أيها الغريب؟
قلت في أدبٍ عظيم لا يُخفي شكري على إنقاذي من هذه الورطة: أنا يمليخا يا سيدي.
فعاد الصوت يسأل في حنانٍ كبير: يمليخا من؟
فقلت في سخط من يسأل عن شيء يحسب أنه بديهي: يمليخا الراعي يا أبي، يمليخا الراعي.
وكِدت أنصحه بأن يسأل وسوف يعرفني لولا أنني لاحظت العيون الجامدة من حولي، وجاءني صوته قائلًا: مَن أبوك وأمك؟
فصِحت ثائرًا: ما جدوى هذه الأسئلة كلها؟ لقد ماتا كما يعلم الجميع وأنا طفل، ماتا على عهد …
وقاطعني في حبٍّ عظيم وكأنه عثر على السر: على عهد من؟
فقلت وكأنني أباهي بانتصاري: على عهد دقيانوس طبعًا.
فقال وردَّد صوته بعض الحاضرين: لكن دقيانوس قد هلك، هلك منذ قرون عديدة، وهلكت بعده أجيال وأجيال.
أردت أن أسخر من عبطه وأنصحه بأن يُخفي جنونه الذي افتضح أمام الناس جميعًا، لولا أنني رأيته فجأةً يجثو أمامي ويقبِّل طرف ردائي الخشن، بل ويمدُّ شفتيه ليقبِّل قدمي، ويقول وهو يكاد يبكي: أيها القديس! شرَّفت بلادنا أيها القديس! (ثم وهو يرفع رأسه ويتطلع إلى وجوه الحاضرين) لقد قلت لكم دائمًا إنهم سيعودون. قلت لكم إن القديسين الثلاثة الذين ناموا في الكهف واختفت أخبارهم سوف يعودون.
هلَّل الجميع وكبَّروا وأنا أتعجب كيف يصبح الجنون شيئًا عامًّا في هذه المدينة العجيبة، ولم أُفِق من حيرتي إلا وقد أخذوا ردائي وطوَّقوه في عنقي وقادوني — وهم يتمسَّحون بي ويتحسَّسون جسدي — في سكك المدينة. ولم ينسَوا أن يقودوا معي كلبي العزيز قطمير الذي كان يعوي من الدهشة، ويُحاول مذعورًا أن يفرَّ من الكلاب التي راحت تحيط به وتتشممه كأنها لم ترَ كلبًا على صورته.
وطبيعي «أنهم سألوني عن مكان صاحبيَّ»، فدللتهم على الكهف الذي كانا ينتظرانني فيه. ولا بد أن جموعهم قد ذهبت إليهما، وساقتهما في موكبٍ كبير عبر شوارع المدينة التي عبر بها موكبي؛ إذ لم نكَد نصل إلى قصر الملك — كما أخبروني فيما بعد — حتى رأيتهما قد سبقاني إليه. كان الملك معهما في شرفة القصر المُطلة على ساحةٍ عظيمة مُزدحمة بالجماهير، تُحيط به جموع من الرهبان والحراس والوزراء. وسوف تعجبون إذا قلت لكم إنه لم يكَد يراني حتى نزل بنفسه من شرفة القصر، ولم يكتفِ بتحيَّتي، بل عانقني وركع أمامي؛ أنا يمليخا، الراعي المسكين الذي لم يكن يهتم به أحد، ولا كان يحلم في يوم من الأيام بأن يتعطف الملك وينظر إليه نظرةً واحدة.
لا أريد أن أُطيل عليكم؛ فقد أخذت من وقتكم بالفعل أكثر مما كنت أطمع فيه. ولا أريد أن أُرهقكم بسرد كل ما حدث لنا قبل أن نعود إلى الكهف من جديد، على أثر صرخاتي التي دوَّت في أرجاء القصر، وجعلتني أنا نفسي أندهش من أن تصدُر عني: أنا يمليخا العبيط الذي كانت لا تُفارق الابتسامة شفتيه.
قضيت الساعات القليلة التي أمضيناها في القصر أفكر في حالي، ربما لأول مرة يُتاح ليمليخا أن يفكر في حاله. إما أن هؤلاء الناس جميعًا عقلاء وأنا وحدي المجنون، وإما أنهم جميعًا مجانين وأنا وحدي العاقل. كل شيء يؤكد لي، كما قالوا، أنني شبح — ولكن متى خالجني الشك في هذا؟! — خرج بعد نومةٍ استغرقت ثلاثمائة عام.
لم أحكِ لكم شيئًا عن حياتي قبل أن أرقد هذه الرقدة المُميتة التي أرادوا أن يُقنِعوني بها — لا عن نفسي ولا عن أبويَّ، اعتمادًا على أنكم ستُدركون بأنفسكم أنني حتى لو أردت فلن أجد ما أحكيه عن نفسي ولا عن أبويَّ اللذين كانا قد ماتا من زمنٍ بعيد — حتى قبورهما لم أكن أعرف مكانها؛ مما كان يجعلني أشك في بعض الأحيان إن كان لي أب وأم وتاريخ مثل بقية الناس. كنت أعيش مُهمَلًا من كل شيء ومن كل إنسان — اللهم إلا إذا استثنيتم، كما قلت من قبلُ، غنمي وكلبي العزيز قطمير — وكنت قد درَّبت نفسي على السعادة بهذا الإهمال، أؤدي عمل اليوم، وأتجول في السوق، وأغنِّي لغنمي، وأداعب كلبي، وأتكلم مع الأشجار والعصافير والنجوم، حتى كان يوم وأنا أتجول كعادتي في السوق — أرجوكم ألا تعدوا ذلك حادثة؛ فلم يمرَّ بي شيء يرتفع إلى مستوى الأحداث — ورأيت موكبًا من الفُرسان والحراس والعبيد يسيرون أمام عربة فخمة لم ترَ مثلَها عيناي. أنتم بالطبع تتصوَّرون أنني وقفت على جانب الطريق مثل بقية الناس، أتطلع في شوقٍ غامض إلى داخل العربة. هل أقول لكم إن قلبي انتفض كالعصفور المذبوح حين وقعت عيناي على وجه لم أرَ أجمل منه في يوم من الأيام؟ إن هذه حادثةٌ مكرَّرة — الشحَّاذ الذي يقف على جانب الطريق ويحلم بأن الأميرة أحبَّته من أول نظرة — ولكنني أرجوكم ألا تقسوا عليَّ، وأن تصدِّقوني إن قلت لكم إنني أنا أيضًا قد حدث لي ما حدث للشحَّاذ المسكين؛ فقد وقعت عيناي على الوجه الجميل كما قلت، وخُيل إليَّ في لحظة من لحظات الجنون أو السعادة المُفاجئة أن عينيها أيضًا التقتا بعينيَّ، وأنها — أرجوكم ألا تضحكوا مني؛ فأنا كما تعلمون شبح لا مكان له في عالمكم، سيعود إلى كهفه المُعتِم الأمين بعد قليل — أيضًا قد بادلتني حبًّا بحب، في لحظةٍ خاطفة، سعيدة ومُخيفة وباهرة كضوء البرق. ولم أُفِق من هذا الحلم الجميل إلا على صفعةٍ قوية على قفاي، لاحظت أنها أضحكت الأميرة الفاتنة، فضحكت أنا أيضًا وغفرت لصاحبها قسوته، خصوصًا إذا عرفتم أنني التفتُّ فوجدته حارسًا أسود ضخمًا غليظ الكفين، من الحكمة دائمًا أن يتجنب الإنسان طريقه، ولا يوقظ غضبة سياطه. هذه الحادثة — إن شاء كرمكم أن تُسمُّوها كذلك — هي التي جعلتني أرضى عن وجودي، بل وأشكر الآلهة التي ساقت قدمي إلى السوق في ذلك اليوم، وأنعمت عليَّ بتلك النظرة السماوية، كما رزقتني بتلك الصفعة التي لا أشك في أنني أستحقها. من ذلك اليوم، أو قولوا من تلك اللحظة، وأنا أكلِّم الأشجار والعصافير والنجوم كما قلت لكم للأسف أكثر من مرة، من تلك اللحظة وأنا أحلم وأغنِّي لنفسي ولا أنتظر شيئًا.
هل استطردت كثيرًا بغير داعٍ؟ أسألكم للمرة الأخيرة أن تعفوا عني؛ فربما دفعني إلى ذلك أنني أردت على الرغم من كل شيء ألا تخلو حياتي من حادثةٍ واحدةٍ أرويها لكم، من ذكرى واحدة يمكن من أجلها أن تُسمَّى هذه الحياة نفسها حياة، ولكن هأنا قد فشلت أيضًا في هذا، ولا شك أنني قد استحققت سخطكم؛ مما يجعلني ألتمس منكم العفو من جديد.
صدِّقوني إذا قلت لكم إن بكائي ذلك اليوم كان شيئًا غريبًا عليَّ، شيئًا دُهشت أنا نفسي له، أن يمليخا الذي لم تُفارق الابتسامة يومًا شفتيه، هل قلت بكائي، لا لم يكُن بكاءً. كان عويلًا، نباحًا، نشيجًا مفجوعًا يشقُّ صدرًا مفجوعًا، آهات لم تخرج بعدُ من شفتَي إنسان، وقد لا تسمعونها أبدًا من إنسان. وما بالكم برجلٍ نام في عالم لم يمتَّ إليه بسبب، ثم صحا بعد ثلاثة قرون ليرى نفس العالم الذي لا يمتُّ إليه بسبب؟ ألا تجدون العذر لصاحبه، الذي لا يكره شيئًا كما يكره المبالَغة وادِّعاء المأساة إذا قال لكم إنه بكى، لا، بل صرخ، لا، بل نبح وأعول كوحش يُذبح ويُسلخ ويُداس على جثته بالأقدام؟ وهل ستفهمونني أو تغفرون لي إن قلت لكم إن بكائي المتقطع المخنوق هو في نهاية الأمر كل ما فعلته في حياتي، حتى إن الأجيال لن تجد ما تقوله بعد ذلك عني — إن ذكرتني أو قالت شيئًا — سوى أنني بكيت؟
معذرةً. أنا أقول لكم مرةً أخرى إنني لا أودُّ أن أُطيل عليكم، لكنني قد أطلت وربما أمللت، فما العمل يا تُرى؟ لا شك أنكم تطلبون مني الآن أن أدخل مباشرة في الموضوع، وأن أروي لكم سبب بكائي.
كنت أتجول في حديقة القصر وحدي بعد الظهيرة؛ فرارًا من عيون الناس وثرثرة الرهبان ومحاولات النساء والأطفال أن يتبرَّكوا بي، أقول هذا وإن كنت أجد نفسي مُضطرًّا لوضع الأمور في مكانها الصحيح، وأن أعترف لكم بأن اهتمام الناس والرهبان … إلخ بي كان أقل بكثير من اهتمامهم بالقائدين العظيمين ميشلينا ومرنوش، بل أرجوكم ألا تظنوا بي المُغالاة إن قلت لكم إنهم أهملوني، ولولا المصادَفة التي جعلتني أُرافقهما في الكهف ثلاثمائة عام لنسوني كل النسيان. المهم أنني كنت أتجول ساعة الغروب في حديقة القصر حين رأيت مرنوش (وقد سمح لي ذلك الاكتشاف الذي حدَّثوني عنه، وأعني به أننا نِمنا معًا ثلاثة قرون في كهفٍ واحد، أن أرفع الكلفة بيني وبينه، وأن أناديه باسمه مجردًا من الألقاب الجديرة به) يدخل من باب القصر مفزوعًا شاحب الوجه زائغ العينين. لم أكَد أسأله عما يشغله حتى وجدته يجري نحوي، ويُعانقني، ويُلقي برأسه على كتفي، ويُنهنه قائلًا: ماتوا يا يمليخا، كلهم ماتوا. سألته مُحاولًا أن أُعيده إلى العقل: من هم يا مرنوش؟ قال ونشيجه يزداد وصدره يرتفع وينخفض فوق صدري: ابني الوحيد يا يمليخا، ابني الوحيد وزوجتي. كل ما كان لي في هذا العالم انتهى. قلت في برود لا شك أنه كان قاسيًا وإن كنت قد تعمَّدته لأوقظه مرةً واحدة: وهل كنت تنتظر أن يظلوا أحياءً بعد ثلاثمائة سنة يا مرنوش؟ فرفع وجهه إليَّ، ورأيت عينيه الباكيتين المحمرَّتين بلون الدم وصرخ: يا لها من كلمة يا يمليخا! أنت أيضًا تقولها مثلهم! أيها الراعي الصالح، لم يبقَ لي شيء في هذا العالم. ابني الوحيد مات، زوجتي ماتت. قلت في صوتٍ تعمَّدت أن يكون غليظًا وقاطعًا: بالطبع يا مرنوش. لم يبقَ لنا شيء في هذا العالم. أنا نفسي كنت أعرف هذا قبل أن يقولوه لنا. رفع رأسه من على كتفي ووقف أمامي مذعورًا وهو يهتف: كنت تعرفه؟ كنت تعرف أن ابني الوحيد مات ولم تقُل لي. تركتني أتعرض لسخرية الناس في الشوارع. يا لك من فظٍّ متحجِّر! قلت في استخفاف: لا تنسَ أيها القديس أنك تُخاطب قديسًا مثلك! فعاد يصرخ: لم يبقَ لي شيء في هذا العالم. ابني الوحيد مات. أين ميشلينا؟ وجرى يقفز سلالم القصر وأنا في أثره. ودخلنا ردهة بعد ردهة والحراس ينحنون كلما مررنا بهم، وإن لم يُخفوا دهشتهم من أن يجري أمثالنا من القديسين على هذا النحو. وحين وصلنا إلى بهو الأعمدة، والوقت ليل والمكان مُضيء وجدناهما. وجدنا ميشلينا الذي حلق شعره وذقنه واستحم، ولبس ملابس جديدة، وبدا بثيابه الزاهية وجسده المُمتلئ كأنه عريس في ليلة الزفاف، وهي أمامه، هي بعينها الأميرة التي كنت قد رأيتها جالسة في عربتها التي تجرُّها الجياد ويسير حولها العبيد والحراس، هي بعينيها اللتين نظرت بهما إليَّ ففرحت وشعرت بذلك الشيء الذي لمع كالبرق في قلبي لحظةً واحدة، هي التي صفعني الحارس الغليظ (أين هو الآن؟) على قفاي بسببها فضحكت. يا لها من ضحكةٍ فاتنة لم تزَل ترنُّ في أذني وتُنسيني اللطمة الخشنة. كان ميشلينا هو الآخر يصرخ ويُناجي ويبوح ويكتم ويشرح ويثور ويتذكر ويذكر ويضحك ويبكي في نفس واحد. لم أكن في حاجة لأن أعرف أنه هو أيضًا قد أحبَّها — أو بالأحرى أحب جدة جدتها التي تُشبِهها كما تعلمون — وأحبَّته، ووعدها ووعدته، وأخلص لها وأخصلت له. لم أكن كذلك في حاجة لأن أعرف أن قلبي (لمَ أصرَّ على أن يُثبِت وجوده في تلك اللحظة؟) قد انتفض في صدري تمامًا كما انتفض في ذلك اليوم الذي حكيت لكم عنه. هب مذعورًا من رقدة ثلاثمائة عام، ثار وصرخ وأعلن سخطه، لا لأنه اكتشف أن ميشلينا كان يُحبها؛ فقد كان يعرف أنه بفخامته وجماله ومنصبه أولى بها منه، ولا يأس لأنه فشل في الوصول إليها وامتلاك حبها؛ فلم يكن قد تعب شيئًا في سبيل ذلك الحب، ولا فكَّر في أن يبذل أية شيء في سبيله، وإنما كان شيئًا كخيبة الأم؛ نوعًا غريبًا منها لا يدري كيف يصفه أو يفسِّره. عند ذلك صرخ، لنكُن أكثر قربًا من الواقع فنقول صرخت: أنا يمليخا، الراعي المسكين الذي يُسمونه الآن بالقديس ويُضايقونه بالتبركات، الذي لم تُفارق الابتسامة شفتيه. لم يكن لي الحق بالطبع في أن أنبِّهه إلى أنني أحببتها قبله، أو حتى معه في وقتٍ واحد، ولم يكن من المعقول أيضًا أن تتذكر هي شيئًا من ذلك الحب، وهل يتذكر الإنسان نظرةً عابرة لمست عينه في لحظةٍ عابرة؟ ثم إنها لم تكن هي نفسها الأميرة الجميلة التي نظرت إليَّ في ذلك اليوم من أيام عمري البعيد منذ مئات السنين، بل حفيدة حفيدتها، وإن لم يخفَ عليَّ بالطبع أنها كانت صورةً حقيقية منها، لها نفس عينيها ووجهها وشعرها الفاحم الطويل وقامتها الشامخة النبيلة. أقول إنني كنت أعرف هذا كله ومع ذلك بكيت. هل أقول: بكيت. لا، بل صرخت، نشجت، نبحت وأعولت وعويت، وأخرجت من صدري كل عذاب الخليقة وهي تُذبح، وتُقتل، وتُسلخ، وتُجلد، وتُداس بالأقدام. ليس مهمًّا بعد ذلك ماذا قلت. ربما قلت إن هذا العالم ليس عالمنا، ربما قلت إنه يُنكرنا، كل شيء فيه يُنكرنا. ربما قلت أيضًا إننا لا بد أن نعود إلى الكهف — مع أنني كنت أعلم أننا لا بد عائدون؛ لأن انهيار قُواي والرائحة العفنة التي كنت أشمُّها وهي تتصاعد من جسدي لم تكن تُخفي عني أننا أشباح مكفَّنون، قمنا من قبورنا لنمثِّل دورًا غبيًّا نعود بعده إلى توابيتنا من جديد — وأن الكهف هو مكاننا الوحيد، هو مأوانا وواحتنا وعزاؤنا الأخير. لا أدري إن كنت قد قلت هذا كله أو لا. المهم يا صاحبي أنني بكيت، وأعولت، ونبحت، وعويت، كما لم يبكِ أو يعول أو يعوي وحشٌ يُحس مَلمس السكين الناصعة تشقُّ لحمه وقلبه وهو مفتوح العينين.
ماذا أقول؟ ألم أقل بالفعل ما فيه الكفاية؟ ألم أعِدْكم ألا أُطيل عليكم أو آخذ ما لا أستحقه من وقتكم وصبركم وتسامحكم؟ ثم ماذا أقول وكل شيء تعرفونه عني؟ ومصيري أيضًا لا أستطيع أن أحتال عليكم بحيلةٍ روائية سخيفة لأزعم أنه اختلف عن المصير الذي تعرفون. لأختصِرْ إذن. لأصِلْ إلى النهاية التي سمعتم عنها جميعًا. لأقل لكم — وأنا ما زلت أعتذر إليكم وأطلب عفوكم — إننا جميعًا عُدنا إلى الكهف. عُدْنا بعد أن اقتنعنا، كلٌّ على طريقته، أنه لم يعُد لنا شيء في هذا العالم. دعوكم من الموكب الذي صاحَبنا إلى هناك، من الصياح والمشاعل والزحام والأيدي الباكية التي طالما ضايقتنا بلمساتها ودعواتها وتبركاتها، من الرهبان وصلواتهم المُملة التي كنت أضع أصابعي في أذني لكيلا أسمعها وهي تشيع جنازتي التي كنت أنا نفسي أسير فيها! سأريحكم من هذا كله فهو مكرَّر مُعاد. كل ما أريد أن أقوله هو أنني ضحكت على نفسي بعد أن خرجنا من القصر، ضحكت على الدموع، على البكاء الأخرس الموجوع، على الوهم الذي جعلني أتصور ما تصوَّرت، على اللحظة الواحدة المُخيفة السعيدة التي تخيَّلت أنها عبرت بي في ذلك اليوم الذي ذكرته لكم، على الثلاثمائة عام التي قالوا لنا — وشهد بذلك جسدي الذي كان ينهار من كل خطوة ويتساقط ويتعفن — إننا لبثناها في الكهف. ضحكت، أنا يمليخا، الراعي الذي لم تُفارق الابتسامة شفتيه، والذي يعرف الناس أنه كان عبيطًا وسعيدًا بعبطه، والذي يعرف هو نفسه ذلك ولا يُنكره.
ضحكت يا صاحبي، يا من تقرءون ذكرياتي المُضحكة على لسان رجل مُضحك لا أعرفه. وعندما سألوني كما سألوا ميشليا ومرنوش عما أريد قبل أن يُواروني التراب، وخيَّب أملهم أنني لا أطالب بما طالب به القديسون والشهداء، قلت لهم والابتسامة تلمع برغم ظلام الكهف الذي يخنق أنفاس المشاعل: قولوا عني مات وعلى شفتيه ابتسامة!