بابا وماما
تروح الأيام وتأتي الأيام وزينب تعمل في بيت الحاج محمود. من ثلاث سنين، عندما جاءت بها أمُّها من العزبة، كانت كالبِلية الصغيرة، لولا أنها كانت تنطُّ وتجري، وتعرف الكلام أيضًا، لقالوا إنها لم تُفطَم بعدُ؛ كتلة من اللحم، في خِرقٍ مُهمَلة، تحتاج لمن يُرضعها ويُطعمها ويسقيها. ومن عنده طول البال؟ قالت الحاجة بسيمة — التي زارت سيدنا النبي ووضعت يدها على شباكه — بعد أن خرجت من الصلاة: باسم الله ما شاء الله. يا شيخة، البنت صغيرة. قالت أمها بعد أن لطعت يد الحاجة: خادمتك يا ست الحاجة. قالت الحاجة وهي تلمس رأس البنت وتكاد تقبِّلها لولا رائحة التراب والعفونة التي تُطالعها منها: والنبي إنها محتاجة لمن يخدمها. قالت أمها: ما هي بنتك وخادمتك يا حاجة، تتربى في عزكم أنت وسيدي الحاج، ربنا يخليكم لنا، بطن وانزاحت عنا يا حاجة، والنبي ما هي راجعة ولا آخذها من عندكم إلا وهي عروسة. الحاجة ضربت كفًّا بكف وضحكت: اللهم صلِّ عليك يا نبي. طيب يا ستي، رزقنا ورزقها على الله. روحي أنت بالسلامة.
وتروح أمها بالسلامة، بعد أن تتغدى وتأخذ ما فيه القسمة، وترفع كفَّيها بالدعاء أن يعمِّر الله البيت ويُطيل في عمر الحاج، ولا يحرمها منه أبدًا.
تروح الأيام وتأتي الأيام وتأخذ زينب على البيت وأهله. سميرة بنت الحاجة، التي تكبرها بعامٍ واحد، تصبح صاحبتها الروح بالروح؛ إن لعبت أمام البيت لعبت معها، إن ذهبت للسوق رجلها على رجلها، إن جلست تقرأ الحواديت وتجمع وتطرح في البيض والملاليم جلست بوزها في بوزها. وسميرة تموت فيها ولا تتصور الحياة بدونها. صحيحٌ أنها تنام على السرير وزينب على الأرض، ربما أيضًا من غير غطاء، وصحيحٌ أنها تأكل مع أمها وأبيها على السفرة، بينما تلقط لقمة من هنا ولقمة من هناك، وياما باتت من غير عشاء لأنهم نسوها، أو لأن النوم كبس عليها، لكن ماذا يهمُّ كل هذا؟ ماذا يهمُّ أن تمشي حافيةً طول النهار، أن تدوخ كالنحلة بين المطبخ والسفرة وعشة الفراخ على السطوح ودكان البقَّال والجزَّار في السوق، ما دامت تستطيع في النهاية أن تلعب مع سميرة، وتسمع ما حدث للخروف المسكين مع الذئب الطمَّاع، وتطمئن على أن الشاطر حسن قد تزوَّج ست الحسن والجمال، والعصفور ضحك على ذقن الثعلب المكَّار؟
الحاجَّة لا تملُّ من سيرتها أمام الستات. شوفوا والنبي؛ البنت أخذت علينا خلاص، نسيت أمها، وأبوها كأن عمرها ما شافته. أي والله يا علية هانم ويا ست زينات. البنت فاكرة إني أمها!
– يا زينب.
– نعم يا ماما.
– هاتي لي أشرب.
– حاضر يا ماما.
– يا بنت عيب قدَّام الضيوف.
– أقول إيه يا ماما؟
– عيب تقولي لي يا ماما.
– أقول إيه يا ماما.
– قولي يا ستي.
– حاضر يا ستي ماما.
الله يخيبك يا زينب، كسفتيني أمام الضيوف. والنبي إن دمها شربات. يلَّا يا حاجة. كلنا أولاد آدم وحواء. وسيدنا النبي — اللهم صلِّ وبارك عليه — وصَّى على اليتيم والغريب. أبوها موجود وأمها؟ على كل حال بنتكم، لأجل خاطر سميرة، وربنا يخليكم وتتربى في عزكم. والحاج أيضًا فرحان بها، في كل مجلس سيرتها على لسانه. البعيد والقريب في البلد عرفوها؛ الباشا والبيه، الدكتور ومأمور المركز سمعوا عنها، حتى أصحاب الدكاكين والعيال التي تلعب في الشارع كلما رأوها قالوا لها: سلِّمي يا زينب على بابا الحاج، قولي يا زينب لبابا الحاج، نادي يا زينب على بابا الحاج.
– يا بنت يا زينب!
– نعم يا بابا.
– قولي لستك تعمل شاي.
– حاضر يا بابا.
– يا بنت يا زينب.
– نعم يا بابا.
– هاتي لي علبة الدخان.
– حاضر يا بابا.
– بو يلهفك! يا بنت قولي يا سيدي.
– أقول يا سيدي بابا؟
تروح الأيام وتأتي الأيام والبنت لا تتعلم. كلمة بابا وماما على لسانها، الكلام معها لا ينفع، السياسة لا تنفع، الضرب لا ينفع. لو كانت الحكاية على قد البيت كانت هانت، لكن البيت لا يخلو من الضيوف، والضيوف لا يخلون من الأغراب، والأغراب لسانهم طويل. وأين يا حاج تداري وجهك من الكسوف؟ وماذا تفعلين يا حاجة في زعل الحاج، والحاج لا يقدر على زعله أحد؟
الحكاية زادت عن الحد، وفي يوم من ذات الأيام والضيوف معزومون عنده — تُجار من آخر الدنيا؛ شيخ البلد وحكيم الصحة — هاج الحاج وطلعت عفاريته. جرى على المطبخ وزعق: يا شيخة شوفي لك طريقة.
– خير إن شاء الله يا حاج.
– البنت خرجت دماغي قدام الناس. بابا بابا.
– غلب حماري معها يا حاج.
– ابعتي لأمها تأخذها. اضربيها. شوفي لك أي طريقة.
– حاضر يا حاج.
وكما تأتي القطط على السيرة جاءت أمها من نفسها. لطعت يد الحاجة وحمدت ربنا على سلامتها هي والحاج وقالت: أنا جئت آخذ البنت.
قالت الحاجة: والنبي فيك الخير، كنت ناوية أبعت لك.
قالت المرأة: أبوها طلب يشوفها؛ أصله بعيد عنك.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين.
تنهَّدت المرأة: حكم ربنا. الرجل بقى في ربع حاله.
قالت الحاجة: ربنا معه يا نبوية؛ يشفيه ويشفي جميع المسلمين!
بكت المرأة وقالت: ما عاد إلا منه، من ثلاثة أيام وهو يطالع في الروح. الحاجة نادت على زينب. قالت لها سلِّمي على أمك. البنت وقفت قدامها لا عرفت سلام ولا كلام. يا بنت سلِّمي على أمك. أمي يا ماما؟!
– خلِّيها عندكم يومين يا نبوية.
– بس أبوها يشوفها وترجع على طول يا حاجة.
– خليها لغاية ما تعلميها.
– أعلمها بعدك يا حاجة؟
– ولو تميز أمها وأبوها، بدل ما طول النهار يا بابا ويا ماما.
– بابا وماما في عينيك قليلة الحياء. قدامي يا بنت!
البنت راحت مع أمها على العزبة. مشت في الوحل، وأكلت العيش والملح، وعاشت في وسط البهائم والفلاحين. وفي أول ليلة باتت مع أبيها على السرير؛ السرير الأسود أبو عمدان. وأبوها طول الليل يقول آه يا جنبي، آه يا ظهري، آه يا غلبك يا محمد. وفي عز الليل تقوم مفزوعة من النوم وتنادي عليه وتسقيه. حاضر يا آبه، أنا جنبك يا آبه، عاوز حاجة يا آبه. ولما طلع السر الإلهي، والشيخ علي لتم عينيه، وشاله في الطشت وغسله مع بقية الناس؛ عرفت أنه أبوها. ولما صوَّتت أمها وعدَّدت عليه، والرجال جاءوا وشالوا النعش على أكتافهم؛ صرخت مع أمها وقالت هاتولي أبويه؛ عرفت أكثر وأكثر. ولما جاءت النسوان وطبطبوا على ظهرها، وقالوا لها البركة فيك، وربنا قادر على كل شيء؛ عرفت أنها محتاجة لأمها وأمها محتاجة إليها.
وتمرُّ الأيام والمأتم ينفضُّ، وهذا حال الدنيا، وتعود زينب مع أمها إلى بيت الحاج. طول السكة وأمها توصِّيها، طول السكة وهي تهزُّ رأسها وتضغط على يد أمها. ياما تعبت من الشيل والحط والخبيز والعجين. ياما انجرحت وتشققت وشفت المر.
– سميرة تقولي لها يا ست سميرة.
– لكنني سألعب معها يا أمي، أليس كذلك؟
– الحاجة إذا نادت عليك في حاجة أو محتاجة تقولي لها يا ستي الحاجة. والحاج ربنا يرزقه بطول العمر ولا يحرمنا منه تكوني تحت يديه ورجليه. نعم يا سيدي الحاج، حاضر يا سيدي الحاج.
فتحت لهما الحاجة الباب، فظهر وجهها الهادئ المستدير يتلفَّع في شال أبيض نقي. الله يسلم عمرك يا ستي الحاجة. زينب تقدَّمت هي الأخرى وباست يد الحاجة، ورفعتها على جبينها كما فعلت أمها، وخفضت عينيها إلى الأرض، وعندما رنَّ في أذنيها صوت سميرة تُنادي عليها وكانت تلعب على السلالم الرخامية، تهلَّل وجهها عن ابتسامة واسعة، وجرت نحوها في سرعة الريح وهي تهتف: حاضر يا ستي.