القزم
زينب لا تحوِّل عينيها عنه منذ وضعوه في حجرة الصالون. كلما حانت لها فرصة تسلَّلت على أطراف قدميها الحافيتين، والنوم يكبس عليها، ودماغها يلفُّ من التعب ويدور، وجسدها الصغير ينتفض من الخوف. فتُوارب الباب، وتتطلع فيه بعينيها المملوءتين بالدهشة، وينفتح فمها من نفسه حتى يظهر ضبها، وتكاد تموت على نفسها من الضحك، لولا أنها تضع يديها على فمها؛ خشيةَ أن يسمعها سيدها الذي يعلو شخيره، أو تُقلق ستها ذات الوجه الكشِر، أو تُفزع سيدها كمال وستها سميرة فتصبح ليتلها أسود من وجهها.
كان يقف هناك فوق المائدة الرخامية التي تتوسط الحجرة، على يمينه مطفأة سجائر من البرونز الذي انطفأت لمعته، وعن شماله تمثالٌ صغير لنفرتيتي، انكسر أنفها، وتلطَّخ وجهها الأبيض النحيل ورقبتها الطويلة المسحوبة ببُقَع حمراء غامقة، كأنها جربانة لا تتوقف عن الهرش فيهما. هناك يقف منفوش الصدر، ممدود الذراعين إلى الأمام، رأسه الصغير يملؤه شعرٌ أسود مجعَّد يسقط على أذنيه المدفوستين في جانبَي وجهه، وأنفه ضئيلةٌ مدبَّبة ومشدودة إلى أعلى، ولسانه الأحمر الصغير طالع من فمه الضيق المُستهتر، وفي عينيه نظرة ولد عفريت يحب أن يعبث بخلق الله، وعلى جانبَي فمه وفوق جبينه تجعدات شيخ عجوز طيب مسامح. أما وجاهته فهي الأخرى تغيظ وتجنن، وكأنه نسي تمامًا أنه قزمٌ مفعوص لا هنا ولا هناك، فلبس سترةً زاهية مخطَّطة بخطوطٍ حمراء، تحتها قميصٌ أبيض منقوش وُضِع في رقبته كرافتةٌ طويلة على آخر مودة، مع أنه على بعضه لا يزيد طوله عن عقلة الإصبع، وسروالًا أسود فخمًا كالذي يلبسه السفرجية أو الدبلوماسيون العظام، حتى حذاؤه — وهو لا يزيد عن حجم الحمصة — لامعٌ ومحبوك ومربوط بعناية.
كان يومًا له العجب عندما أخرجته ستها سميرة من حقيبتها وقالت: هدية من المدرسة يا ماما. كانت جاءت إلى البلد لتُمضي الإجازة في الريف، وكان مدفوسًا بين الكتب والبيجامات والفانلات، راضيًا بحاله وكافيًا خيره شره. ولم يكد يخرج من الحقيبة وتراه أمها حتى صاحت وهي تحمله على يدها وتتجه إلى حجرة زوجها: شُف يا عبد العال، عامل رجل بحق وحقيق. لأ والمصيبة له نِفس يطلَّع لسانه! يا أخي جاءتك مصيبة، كفاية إنك لابس كرافتة وردنجوت وعامل في نفسك ما لا يُعمل! وانتقل القزم من يد إلى يد؛ كل واحد يأخذه على راحته، ويضربه بالقلم، ويُحاول أن يشدَّ لسانه وهو يقف أمام الجميع منفوش الصدر، مزهوًّا بنفسه ولا أبطال المصارعة، مُخرجًا طرف لسانه الأحمر المدبَّب لكل من يضحك عليه، فاتحًا عينيه المُستديرتين كفقَّاعتين لامعتين تفيضان بالنجوى والحنان والسخرية والطيبة.
وقد حاولت زينب أن تمدَّ يدها إليه لتلمسه، ولكن ستها نهرتها بتكشيرتها الخالدة، وسيدها جاء بنفسه ليرى الهيصة، واختطفه من أيديهم ووضعه على راحة يده التي راح يبعدها ويقربها من عينيه، ويعقد حاجبيه ويزوم قائلًا: حتى أنت يا قزم! حتى أنت يا قزم! حتى أنت لك نِفس تعمل ناصح؟
وبعد أن حبسوه في الصالون كادوا أن ينسوه، إلا إذا حضر ضيف وانتبه إليه، ومد يديه يتناوله ويضحك عليه. كانوا يحكون له أن سميرة أخذته هدية من المدرسة الإفرنجية، وكان أحدهم يتطوع فيضربه بالقلم على وجهه أو قفاه فيجد أنه ما يزال ينفش صدره، ويُخرج لسانه، ويمدُّ ذراعيه، فيزداد ضحكه عليه.
أما زينب فلا تنساه في اليقظة أو المنام، طول النهار طالعة نازلة على السلالم حتى ينقطع نفسها، طول النهار تلف وتدور كالنحلة في البيت الواسع. تكنس وتمسح، وتغسل الأطباق، وتنفِّض السجاجيد، وتقشِّر البصل والثوم، وتمسح حذاء البيه والست الكبيرة، وتعلف البط والفراخ، وتُحضِر العيش واللبن من السوق، طول النهار عمَّال على بطَّال، تجري وتخدم على الأكل، وتنظف الترابيزة، وتحضر الفرشة، وتونس العيال. زينب هاتي، زينب خذي، زينب سوي، زينب روحي السوق، زينب لمي الغسيل، زينب يا مقصوفة الرقبة، زينب يا أم عقل وسخ. وعندما ينام الجميع، وتسمع شخير البيه الكبير، ويتوقف لسان ستها الذي يُشبه الكرباج عن العمل، تتسلل على أطراف قدميها الحافيتين وتفتح باب الصالون، وتدخل وفي يدها الوناسة لتراه هناك، إلى جانب المطفأة وتمثال نفرتيتي الجربان، يمد لها طرف لسانه، ويفرد لها يديه، ويموت على نفسه من الضحك حتى يكاد أنفه الصغير ينفجر ويطير في السماء.
في ليلة قالت لها ستها: ادخلي مع ستك سميرة لحد ما تنام. ولكن ستها سميرة لم يجئ لها نوم. كانت معفرتة وشيطانة تضحك وترقص على السرير، وتريد لو تستطيع أن تنطَّ من الشباك وتلعب طول الليل. قالت لزينب: احكي لي حدوتة يا زينب. قالت زينب التي كانت تقعد على الأرض أمام السرير: وأنا أعرف حواديت يا ستي؟! احكي لي أنت حكاية القزم القاعد يضحك على الناس وعلى نفسه.
قالت سميرة: طيب عارفة يعني إيه قزم؟
قالت زينب بعد فترة صمت: أبدًا يا ستي.
ضحكت سميرة وهلَّلت وقالت: يعني زيك تمام. قزم يعني رجل صغير، قد عُقلة الصباع.
سألتها زينب: والقزم يطلع لسانه ويبرق عينيه؟
قالت سميرة: أصله نازل ضحك على الناس، إنما قلبه طيب.
قالت زينب مستفهمةً: قلبه طيب؟
فردَّت سميرة: يعني شاف نفسه في المرآة ضحك على نفسه.
شاف الناس ضحك أكثر صعبوا عليه راح يساعدهم.
سألت زينب: يساعدهم في إيه؟
قالت سميرة: يعني يعمل شغلهم بعد ما يناموا. أصل الحكاية إنه في يوم راح بيت واحد جزمجي، كان رجل فقير وغلبان هو وامرأته وعياله، ولا عنده جلد يعمل به الجزم ولا حاجة؛ قام القزم صعب عليه أنه فقير، راح اشترى له جلد من معه، وقعد على الكرسي وقعد طول الليل يشتغل لغاية ما عمل الجزمة بتاعة الرجل الجزمجي. الرجل باع الجزمة لواحد زبون واشترى جلد يعمل به جزمة ثانية. قطعه بالليل لأجل يعمل منه جزمة تاني يوم، وتركه على الترابيزة ودخل نام، جاء القزم وقعد يشتغل طول الليل. الصبح صحا الجزمجي من النوم لقى الجزمة جاهزة على الترابيزة، فرح خالص وباع الجزمة واشترى جلد يعمل به جزمتين، وقطعه وتركه على الترابيزة والصبح لقى الجزمتين جاهزتين. قال لامرأته لازم ملاك من السماء عرف أننا فقراء وطيبين جاء يساعدنا، لازم نصحى الليلة ونشوف من هو. وضع الجلد على الترابيزة بعد ما قطعه ووضبه وقعد هو وامرأته سهرانين علشان يشوفوا الملاك الطيب من غير ما يشوفهم. في عز الليل دخل القزم على أطراف أصابعه وقعد على الكرسي، وراح يخبط بالشاكوش ويدق المسامير لغاية ما عمل الجزمة وقام روح. الجزمجي قال لامرأته: شوفي القزم الغلبان؛ عريان وما عليه هدوم، لازم نفصل له بدلة لأنه ساعدنا وخلى الزبائن تكتر عندنا. ثاني ليلة جاء القزم لقى بدلة وكرافتة وجزمة صغيرة على قد رجليه على الترابيزة، لبسهم وقعد يتنطط ويرقص ويغني، ومن يومها وهو فرحان، وكل ما يلقى واحد مسكين يساعده.
قالت زينب: ويساعدني يا ستي؟
قالت سميرة وهي تتثاءب: طبعًا، ويتزوجك كمان.
وتسلَّلت زينب إلى الصالون وجلست تنتظره. كانت رأسها تلفُّ وتدور كالنحلة، وجسمها مفكَّكًا من التعب والجري والطلوع والنزول طول النهار، وعندما دقَّت الساعة المعلَّقة على الحائط في الصالة كل دقاتها وجدته يفتح عليها باب الصالون ويدخل، كأنه نزل من السماء أو طلع من بطن الأرض. اقترب منها وهمس في أذنها: زينب، زينب، أنا جئت.
قالت: حضرتك القزم؟ قال وهو يضحك ويُخرج لها لسانه: أي خدمة؟ قالت: عندي العجين اعجنه، والغسيل اغسله، والفرش وضبه، واكنس وامسح ونظف وهات الحاجة من السوق. فوجدته يجري كالبِلية إلى المطبخ وهات يا شغل. الأطباق في دقيقة كانت نظيفة كالفل، الحوض أبيض من المرآة، الغسيل غسله وراح نشره في البلكونة، الدقيق وضعه في حلة، ورش عليه ماء وهات يا شغل. بعد ما انعجن العجين راح يجري على الفرن، شمَّر هدومه وحمَّاه وراح يلقمه رغيفًا برغيف. بعدما انتهى من العجين والخبيز راح يمسح ويكنس وينفض التراب ويحضر الإفطار ويصحي العيال، وكل ما ينتهي من حاجة يفرك يديه ويرقص ويغني ويطلع لسانه، وبعدما الشقة أصبحت تشف وترف مثل العروسة هزها وقال: زينب، بنت يا زينب!
قالت: من؟ من؟
قال: أنا القزم، جئت أساعدك، أصلك صعبتِ علي.
قالت وهي تُغالب النوم: من؟
قال: أنا القزم.
قالت زينب: ماذا تريد مني؟
قال القزم: جئت أساعدك.
قالت زينب: تساعدني؟ لماذا تساعدني؟
قال القزم وهو يطرق برأسه خجلًا وتكاد الدمعة تفر من عينيه: أصلك صعبتِ علي.
قالت زينب وهي تتفرس فيه: يقولوا عنك إنك دائمًا عريان، إنما أنت لابس.
قال وهو يداري كسوفه: أصل قلت لنفسي عيب تروح عريان للعروسة.
قالت زينب: عروسة؟ من؟
قال القزم وهو يؤكد بيده ويخبط على الترابيزة بكل يديه: قلت لك إنت طبعًا.
قالت تعانده: لأ؛ ستي تعرف، ثم إني …
قال القزم بعصبية: ثم إنك إيه؟
قالت زينب: هنا يعني، لا أم ولا أب وغريبة هنا.
قال القزم: لاتخافي، أنا معك.
قالت وهي تعود إلى التفرج عليه: قلت لك لأ يعني لأ.
غضب القزم، ولكنه كتم غضبه وعاد يقول لها: نتزوج يا زينب وأعمل لك كل شيء.
قالت زينب: لأ، خائفة من ستي.
عاد القزم يُلح: نتزوج في الحلال يا زينب.
فردَّت قائلةً وهي تُحكِم الغطاء على نفسها: لأ، لأ، لأ!
فغضب القزم. اختفت ملامح الضحك والفرفشة من على وجهه، عقد حاجبيه ومد بوزه شبرين، ورآها تمد يدها فتُحكِم اللحاف على نفسها، فتقدَّم ونزع اللحاف من عليها، ثم صفعها على وجهها صفعةً صرخت معها، وحين فتحت عينيها المحمرتين رأت ستها محنية الظهر فوقها ويدها الخشنة علمت على صدغها وصياحها يفزعها من سابع نومة: قومي يا بنت قامت قيامتك! يعني تنامي للظهر؟