يا عم يحيى
كانت زوجتي قد أوت إلى الفراش وتركت باب حجرة النوم مُواربًا. وكنت أسمع أنفاسها تتردد وأنا جالس في الصالة أتصفح جريدة، وأنتظر حتى تسقط من يدي كما هي عادتي كل ليلة فأعرف أن موعد نومي قد جاء، أنهض لأغلق النافذة وأندسَّ في الفراش. ولم أكن مُستغرقًا في الجريدة التي كنت أبحث فيها عبثًا عن شيء يسلِّيني حين سمعت الصوت. انشق فجأةً في سكون الليل كالسكين اللامعة فانتفضت وطار النوم من عيني: يا عم يحيى! يا عم يحيى!
نفس الصوت الذي أسمعه منذ ليلتين، مبحوح ومُرتعش ومُفاجئ وملسوع، يتلوَّى ويستنجد ويبكي ويستغيث، كأنه جرحٌ غائرٌ مشقوق في مكانٍ مُظلمٍ عميق، جرح أصبح له لسان ينزف بالعويل والصراخ كما لو كانت آلاف السياط تنهش جسد صاحبه، آلاف الأيدي والأقدام تضربه وتلكمه وتركله، وآلاف الطيور والوحوش تمزِّق لحمه وتلغ في دمه، وتحاول أن تبتلع صراخه فيفلت منها ليسترحم الخليقة كلها.
– يا عم يحيى! يا عم يحيى!
لم يكن صوتًا؛ فالصوت الإنساني مهما ارتفعت درجته نُحس نحوه بنوع من الألفة. إنه لا يُفاجئنا، ولا يروِّعنا ولا يُذهلنا كما فعل. كان حشرجة مخلوق تنهار السماء فوقه، يرتجُّ الزلزال تحت قدميه، يحزُّ السيف على رقبته، يمرُّ جسده على كل آلات التعذيب التي عرفتها العصور المُظلمة، يُسحَق تحت طاحونة ثقيلة جبَّارة.
سقطت الجريدة من يدي ولكن النوم طار من عيني إلى الأبد. وقفت في الصالة ودقات قلبي ترتفع وترتفع. خُيِّل إليَّ أن أفضل وسيلة للهروب من هذا الصوت أن أخلع ملابسي وأخرج عاريًا من البيت، وأجري في الشوارع وأنا أضع يدي على أذني. كان يأتي في البداية مُنخفضًا ممدودًا، مميَّز الحروف، ممطوطًا في نهاية كل كلمة. إن الياء في يحيى تمتدُّ كاليد المُستعطفة الذليلة الباكية، تُعاتب وتشكو وتنتظر. إنه صوتٌ طيب، مُستغيث ولكنه لا يزال يرجو، يُنادي ولكنه يتوقع أن يسمع من يردُّ عليه، يتوسل ويبكي ولكنه ينتظر ولم ييأس بعد. ثم يزداد حدةً، وتُسرع مقاطعه فتصطدم ببعضها كعربات القطار، وترتفع درجته وتزداد نحولًا وتوترًا وسخطًا وعصبية فتأكل الحروف بعضها، وتقفز قفزةً واحدة وراء كل دلالة بشرية لتصبح صيحةً حادَّة جارحة مبتورة كسيفٍ يُغمَد في الصدر ثم يُستلُّ فجأةً، ومع كل صيحة تزداد الضربات على باب العمارة التي أسكن فيها، وتصبح الضربات هي نفسها صيحاتُ ملهوفة ملسوعة مُستغيثة، والصيحات ضرباتٌ ثقيلة وخائفة ومدوِّية ترجُّ الأبواب والشبابيك.
منذ ليلتين وأنا أسمع هذا الصوت يُحشرج وسط الظلام والسكون، والضربات تهزُّ باب العمارة كأن صاحبها يدقُّ على باب مقبرة ليُوقظ أصحابها. كان في الليلتين السابقتين ينطلق فجأةً ليستمرَّ لحظات ثم يختفي فجأةً كما جاء. لا نكاد نُفيق من الذهول حتى يذهب. لا بد أن السكان قد ظنوا مثلي أنه أحد أقارب البواب، جاء مُتأخرًا في عز الليل فأراد أن يُوقظه من نومه الثقيل، أو كأن صاحبه يُعاني من مغصٍ هائل أو يطلب نجدةً عاجلة، فأفاقوا لحظةً من نومهم ثم نسوا الحكاية، أو لا بد أنهم — حين تكرَّر هذا الصوت في الليلة التالية — قد عزوه إلى كابوسٍ ثقيل كتم أنفاسهم بعد أكلةٍ دسمة، كابوس ضخم أسود كثيف الشعر اشتركوا فيه جميعًا، وحين صحوا منه كان الصوت قد راح لحاله، ولكنه حين تكرَّر هذه الليلة على هذه الصورة الذبيحة كحشرجة مقتول، الملهوفة كأجراس عربات الحريق أو الإسعاف، الصارخة كبكاء شحَّاذ تنهشه وحوش الجوع، المُستنجدة كصياح مُجرم تُوشك أيدي العساكر أن تقبض عليه؛ لعله حين تكرَّر هذه الليلة على هذه الصورة بدأ ينبِّهنا إلى أنه لا بد برغم وحشيته وغربته عن عالم الأرض أن يكون مع ذلك صوتًا إنسانيًّا؛ صوت بشر مثلنا من واجبنا على كل حال أن نرى ماذا يريد صاحبه ولماذا يعكِّر نومنا.
كنت لا أزال أقف في الصالة حين سمعت جاري الأستاذ عادل همام يفتح باب شرفته في غضبٍ هائل وهو يسبُّ ويلعن ويُبرطم، وأسرعت أغلق باب غرفة النوم على زوجتي حتى لا تفزع من نومها، وفتحت أنا أيضًا شباك حجرة الصالون المُطلة على الشارع العمومي. كان الصوت لا يزال يرنُّ في الآذان وعلى الأسفلت كأنه أوانٍ نحاسية ترتطم، وتظل الموجات المُنبعثة منها تتسع وتتسع صاخبةً مدوِّيةً خرساء. وسمعت جاري الأستاذ عادل همام — الذي كان يبدو في روبه الأحمر وشعره المنفوش وجسده المكور كأنه بصلة إفرنجية — يشخط قائلًا في صوت كالرعد: يا جدع انت! يا جدع انت! دوشتنا الله يدوشك!
ولم يكفَّ الصوت عن رنينه الجارح المُعتِم الرتيب، بل ارتفع وعلت درجته وزاد إلحاحه، كأن سياطًا نارية تُهلبه وتُغذيه بعذابٍ جديد: يا عم يحيى! يا عم يحيى! يا عم يحيى! والياء الأخيرة طويلةٌ طويلة تنتهي مقطوعة كأنها تقف في الحلق، ثم تبدأ «يا عم يحيى» من جديدٍ أقرب إلى النشيج اليائس اليتيم المهجور. وزعق جاري، بعد أن سمع صوت نوافذ أخرى تفتح في العمارة، وأنوارًا توقد، وهمسات تعلو وتتساءل وتتشابك: عم يحيى من؟ عم يحيى من يا جدع انت!
ويظهر أن صاحب الصوت سمع جاري أو تنبَّه إلى أنه يقصده بالسؤال، فأوقف ضرباته الهائلة على البوابة وإن لم يوقف نداءه المتكرِّر المُستغيث: عم يحيى يا بواب! يا عم يحيى يا بواب!
فزار جاري — ويظهر أنه تلفَّت حوله ورفع رأسه، فلمح الجيران ينظرون من الشبابيك، وشعر أنه موكَّل عنهم في إخماد هذا الصوت: البواب اسمه سالم، ليس هنا أحدٌ اسمه يحيى، ثم إن البواب مسافر عند أهله في الصعيد.
ورفع رأسه من جديد إلى الأدوار العليا وكأنه يتأكد بنفسه أنه ليس هناك بالفعل أحد من سكان العمارة بهذا الاسم. وسمع الصوت من جديد يتأوَّه ويئنُّ في استسلام وضراعة، وكأن صاحبه — الذي بدا الآن واضحًا أمام الباب بجلبابه الأبيض الطويل وقامته النحيلة ورأسه الصغيرة — يسترحم اليد التي تطعنه الطعنة الأخيرة: اصحَ يا عم يحيى يا بواب! أنا سايق عليك النبي تصحى يا عم يحيى. وصاح الأستاذ عادل بعد أن لاحظ وجودي في النافذة في صوتٍ أقل حدة وأقرب إلى الإقناع منه إلى الغضب: يا أخي قلت لك البواب اسمه عم سالم. الله! كل ليلة تطير النوم من دماغنا؟ كل ليلة هوسة وزعيق وخبط على الأبواب؟
فاقترب الرجل ناحيته، ورفع رأسه التي كانت الآن تحت شرفته تمامًا، وقال في صوت كأنه دموع تسقط من الحنجرة: والنبي تنادي لي على عم يحيى يا سعادة البيه. الله يخليك نادي لي على عم يحيى!
فسأل الأستاذ عادل وهو يستند بكلتا يديه على سور الشرفة ويمد رأسه ليتحقق من صاحب الصوت الذي يخاطبه: عم يحيى من يا جدع انت؟
فأجاب صاحب الصوت: عم يحيى يا سعادة البيه. عم يحيى الرجل الطيب. سعادتك لا تعرفه؟
فصرخ الأستاذ عادل نافد الصبر: لا أعرفه ولا عمري شفته!
فعاد الصوت كأنه يجفِّف دموعه ويقول مُتعجبًا: عم يحيى يا ناس! من لا يعرفه يا عالم؟
فصاح الأستاذ عادل وقد رأى أن المناقشة طالت أكثر مما ينبغي: قلت لك لا أعرفه ولا عمري شفته. يا الله روح نام وخلي الناس في حالها.
فقال الرجل في هدوء لا يخلو من العتاب: أروح يا سعادة البيه، الله يسامحك! أروح من غير عم يحيى! يعني يرضيك والنبي؟ بذمتك يرضيك؟
أحسست أنني لا بد أن أساهم بشيء في الموضوع، فسعلت أولًا ثم قلت لجاري: يظهر إنه مجنون يا عادل بك. فقال الأستاذ عادل وكأنه يحييني: معك حق يا أستاذ سامي، الظاهر إنه مجنون. ومن بختنا إن جنانه لا يظهر إلا نصف الليل. (ثم موجهًا الكلام إلى الرجل) اسمع يا جدع، إذا لم تمشِ ناديت على العسكري!
فقال الرجل وهو يداري وجهه بذراعه في حركةٍ أقرب إلى السخرية منها إلى الخوف: العسكري؟! ويرضيك البهدلة يا بيه؟ طيب والله وحياة سعادتك إنه رجل طيب، رجل طيب ابن ناس طيبين، رجل لا يستحق إلا كل خير. العسكري مرة واحدة؟ طيب والله أنا حفيت لأجل ألاقيه؛ خبطت على الأبواب، ناديت في عز الليل، جعت وعطشت وشفت المر، تركت أهلي وطلقت امرأتي لأجل خاطره، ومستعد أبيع هدومي بس ألاقيه.
فقال الأستاذ عادل وقد لاحظ أن المناقشة قد طالت، وأن معظم الشبابيك قد أغلقها أصحابها، ومعظم الأنوار قد انطفأت، قال وقد ظهر في صوته أنه بدأ يهتم بمعرفة الجواب: طيب لماذا تريده، عم يحيى بتاعك؟ فقال الرجل: لماذا أريده؟ طيب اسأل الدنيا عليه. عم يحيى يا بيه رجل طيب، رجل صحيح وربنا ساترها معه.
قال الأستاذ عادل وقد بدأ يُلاحظ أن الرجل يهذي، وأن من المُخجِل له أن يستمر في الاستماع إليه: طيب يعني ضاقت الدنيا في وجهك؟ يعني لا تبحث عنه إلا في شارعنا؟ وعلى باب عمارتنا؟ قال الرجل في استسلام: وحياتك عندي يا بيه أنا دُخت عليه. من الشرق للغرب ومن الغرب للشرق قلبت الدنيا عليه. خبطت على الأبواب طردوني، ناديت ما أحد رد عليَّ، قلت لهم عم يحيى قالوا لي مات من زمان. قلت يا ناس عم يحيى؟ هو عم يحيى طول عمره رجل طيب ويحب المعروف ولازم ألاقيه. صرخت ضربوني. جريت جروا ورائي. سُقْت عليهم النبي ما حد حن عليَّ. بُسْت رجلهم قلعوني هدومي وألبسوني القميص. هربت منهم وقلت مصيري ألاقيه. عم يحيى موجود وربنا موجود. قلت يا ولد إن ما لاقيته في السكك والحواري يمكن تلاقيه عند العمارات والشوارع النظيفة، ربنا كريم ولازم …
التفت الأستاذ عادل إليَّ وقال: الرجل يخرف. أحسن طريقة ندخل ننام، تصبح على خير يا أستاذ سامي. قلت تصبح على خير، وأغلقت ورائي شباك النافذة وتهيَّأت للنوم. ولم تمضِ لحظة حتى عاد الصوت من جديد، مُتوسلًا في هذه المرة ومبحوحًا، باكيًا أكثر منه مستغيثًا، يائسًا أكثر منه مُلحًّا أو عنيدًا. وتوالت الضربات الثقيلة ترجُّ البيت كأنها تهزُّ شجرةً قديمة من جذورها: يا عم يحيى! حرام عليك يا عم يحيى! أنا في عرضك يا عم يحيى!
وفتح شباب الشرفة المُجاورة فجأةً فارتطم بالجدران في غضب وجنون. وسمعت صوت الأستاذ عادل الجهوري يزعق ويسبُّ ويلعن الدنيا ومن فيها: يا شاويش! يا شاويش!
وفتحت أنا أيضًا نافذتي ووقفت أنظر ما يحدث. وما هي إلا لحظات حتى لمحنا الشرطي يتدحرج على أرض الشارع؛ تلمع أزرار سترته على ضوء المصابيح الخافتة على الجانبين، ويختلط كعب حذائه بزعيق الأستاذ عادل بالصرخات الممدودة التائهة بالضربات التي تنهال على البوابة الحديدية بوحشة الليل وعتمة الظلام وأصوات الزجاج والنوافذ التي تُفتح واحدةً بعد الأخرى، بنداءات الغضب والاستفسار والسخرية التي تنبعث منها في نفسٍ واحد. وأقبل الشرطي فأمسك بالرجل من رقبته، ولم يكن في حاجة إلى أن يسأل؛ فالجريمة واضحة، وإزعاج الناس في عز الليل لا يحتاج إلى دليل. قال الأستاذ عادل: يا شاويش! أنا عادل همام القاضي، وزميلي الأستاذ سامي عبد المولى مدرس ثانوي، هذه ثالث ليلة يُزعجنا فيها. ناقص يوقع العمارة على رءوسنا. الأولاد فُزعت من النوم، سمعنا الخبط قلنا القيامة قامت. أرجوك يا شاويش تعمل اللازم.
قال الشاويش وهو يحيينا في تكاسل: حاضر يا سعادة البيه إنت وهو. على القسم قدامي يا بوز القرد، أي خدمة يا بهوات، والله يا بيه من ليلتين سحبته بنفسي على القسم. الشاويش النوبتجي قعد يسأله طول الليل. خطرف ولخبط، باس تراب الأرض وقال بس كله ولا الحبس يا سعادة الشاويش، كله ولا سراية المجاذيب؛ صعب علينا رميناه في الشارع وقلنا رزقه على الله. هو حر مع عم يحيى بتاعه. رجعت للنكد يا بوز القرد؟!
قال الأستاذ عادل في لهجةٍ قاطعة: المهم تعمل اللازم يا شاويش! ثم وهو ما يزال يوجه كلامه إلى الشاويش: تصبح على خير يا أستاذ سامي!
صفع باب الشرفة وراءه، وبقيت أنظر إلى الشاويش الذي أمسكت يده برقبة الرجل وراح يدفعه أمامه ويتثاءب بصوت عالٍ. واضطرَّ أن يوسع من خطواته ليلحق بالرجل الذي كان يهبع أمامه كالجمل المُسرع في طريقه إلى السلخانة. ولم تمضِ لحظات حتى اختفى شبحهما في الظلام.