تربية المرأة
المرأة وما أدراك ما المرأة! إنسان مثل الرجل، لا تختلف عنه في الأعضاء ووظائفها، ولا في الإحساس، ولا في الفكر، ولا في كل ما تقتضيه حقيقة الإنسان من حيث هو إنسان، اللهم إلَّا بقدر ما يستدعيه اختلافهما في الصنف.
فإذا فاق الرجل المرأة في القوَّة البدنيَّة والعقليَّة فذلك إنما؛ لأنه اشتغل بالعمل والفكر أجيالًا طويلة كانت المرأة فيها محرومة من استعمال القوَّتين المذكورتين، ومقهورة على لزوم حالة من الانحطاط تختلف في الشدَّة والضعف على حسب الأوقات والأماكن.
ولا يزال الناس عندنا يعتقدون أن تربية المرأة وتعليمها غير واجبين، بل إنهم يتساءلون هل تعليم المرأة القراءة والكتابة مما يجوز شرعًا أو هو محرم بمقتضى الشريعة؟!
وأتذكَّر أني أشرت يومًا على أب وقد رأيت معه بنتًا بلغت من العمر تسع سنوات أعجبني جمالها وذكاؤها بأن يعلِّمها، فأجابني: «وهل تريد أن تعطيها وظيفة في الحكومة؟» فاعترضت عليه قائلًا: «وهل في مذهبك لا يتعلَّم إلَّا الموظَّفون؟» فأجابني: «إني أعلِّمها جميع ما يلزم لإدارة منزلها ولا أفعل غير ذلك.» قال هذا على وجه يُشعِر أنه لا يحبُّ المناقشة في رأيه، ويعني هذا الأب العنيد بإدارة المنزل أن بنته تعرف شيئًا من صناعة الخياطة، وتجهيز الطعام، واستعمال المكوى وما أشبه ذلك من المعارف التي لا أنكر أنها مفيدة بل لازمة لكل امرأة، ولكني أقول — ولا أخشى نكيرًا — إنه مخطئ في توهُّمه أن المرأة التي لا يكون لها من البضاعة إلَّا هذه المعارف يوجد عندها من الكفاءة ما يؤهِّلها إلى إدارة منزلها.
ففي رأيي أن المرأة لا يمكنها أن تدير منزلها إلَّا بعد تحصيل مقدار معلوم من المعارف العقليَّة والأدبيَّة. فيجب أن نتعلَّم كل ما ينبغي أن يتعلَّمه الرجل من التعليم الابتدائي على الأقل حتى يكون لها إلمام بمبادئ العلوم يسمح لها بعد ذلك باختيار ما يوافق ذوقها منها، وإتقانه بالاشتغال به متى شاءت.
فإذا تعلَّمت المرأة القراءة والكتابة، واطلعت على أصول الحقائق العلميَّة، وعرفت مواقع البلاد، وأجالت النظر في تاريخ الأمم، ووقفت على شيء من علم الهيئة والعلوم الطبيعيَّة، وكانت حياة ذلك كله في نفسها عرفانها العقائد والآداب الدينية استعدَّ عقلها لقبول الآراء السليمة، وطرح الخرافات والأباطيل التي تفتك الآن بعقول النساء.
وعلى مَن يتولَّى تربية المرأة أن يبادرها من بداية صباها بتعويدها على حبِّ الفضائل التي تكمل بها النفس الإنسانيَّة في ذاتها، والفضائل التي لها أثر في معاملة الأهل وحفظ نظام القرابة، والفضائل التي يظهر أثرها في نظام الأمَّة حتى تكون تلك الفضائل جميعها ملكات راسخة في نفسها، ولا يتمُّ له ذلك إلَّا بالإرشاد القولي، والقدوة الصالحة.
هذه هي التربية التي أتمنى أن تُحمَل عليها المرأة المصرية ذكرتها بالإجمال، وهي مفصَّلة في المؤلَّفات المخصَّصة لها في كل اللغات، ولا أظنُّ أن المرأة بدون هذه التربية يمكنها أن تقوم بوظيفتها في الهيئة الاجتماعيَّة وفي العائلة.
(١) أمَّا بالنسبة للوظيفة الاجتماعيَّة
فلأن النساء في كل بلد يُقدَّرن بنصف سكانه على الأقل، فبقاؤهن في الجهل حرمان من الانتفاع بأعمال نصف عدد الأمَّة، وفيه من الضرر الجسيم ما لا يخفى.
ولا شيء يمنع المرأة المصريَّة من أن تشتغل مثل الغربيَّة بالعلوم والآداب والفنون الجميلة والتجارة والصناعة إلَّا جهلها وإهمال تربيتها، ولو أُخِذَ بيدها إلى مجتمع الأحياء، ووُجِّهت عزيمتها إلى مجاراتهم في الأعمال الحيويَّة واستعملت مداركها وقواها العقليَّة والجسميَّة لصارت نفسها حيَّة فعَّالة تنتج بقدر ما تستهلك، لا كما هي اليوم عالة لا تعيش إلَّا بعمل غيرها. ولكان ذلك خيرًا لوطنها لما ينتج عنه من ازدياد الثروة العامَّة والثمرات العقليَّة فيه.
وإنما مثلنا الآن مثل رجل يملك رأس مال عظيم فيدعه في الصندوق، ويكتفي بأن يفتح صندوقه كل يوم؛ ليتمتع برؤية الذهب، ولو عرف لاستعمله وانتفع منه وضاعفه في سنين قليلة.
من عوامل الضعف في كل مجتمع إنساني أن يكون العدد العظيم من أفراده كلًّا عليه لا عمل له فيما يحتاج إليه، وإن عمل كان كالآلة الصماء أو الدابة العجماء لا يدري ما يصدر منه.
المرأة محتاجة إلى التعليم لتكون إنسانًا يعقل ويريد، بلغ من أمر المرأة عندنا أننا إذا تصوَّرناها وجدنا من لوازم تصوُّرها أن يكون لها ولي يقوم بحاجاتها ويدير شئونها، كأن وجود هذا الولي أمر مضمون في جميع الأحوال، مع أن الوقائع أظهرت لنا أن كثيرًا من النساء لا يجدن من الرجال مَن يعولهن؛ فالبنت التي فقدت أقرباءها ولم تتزوَّج، والمرأة المطلَّقة، والأرملة التي تُوفِّي زوجها، والوالدة التي ليس لها أولاد ذكور أو لها أولاد قصر — كل هذه المذكورات يحتجن إلى التعليم ليمكنهنَّ القيام بما يسدُّ حاجتهن وحاجات أولادهنَّ إن كان لهنَّ أولاد، أمَّا تجرُّدهنَّ عن العلم فيلجئهن إلى طلب الرزق بالوسائل المخالفة للآداب، أو إلى التطفُّل على بعض العائلات الكريمة.
ويمكن أن يُقال إننا لو بحثنا عن السبب الذي قد يحمل تلك المرأة المسكينة التي تبذل نفسها في ظلام الليل لأوَّل طالب — وما أكبر هذه المذلَّة على المرأة — لوجدناه في الأغلب شدَّة الحاجة إلى زهيد من الذهب والفضة، وقلَّما كان الباعث على ذلك الميل إلى تحصيل اللذة.
ثمَّ إنه لا يكاد تخلو عائلة مصرية من تحمُّل نفقات عدد من النساء اللاتي وقعن في العوز، ولا قدرة لهنَّ على العمل للخروج منه، ويمكننا أن نعدَّ هذا من الأسباب المانعة للعائلات من السير على قواعد الاقتصاد.
لهذا السبب وغيره نرى الاختلال الجسيم في مالية العائلات؛ فإن الرجل المصري الذي يشتغل لكسب عيشه وعيش أولاده يرى شطرًا من المال الذي يجمعه يُنفَق على أشخاص من أقاربه أو معارفه أو ممن لا علاقة له بهم، ولكن تلزمه الرأفة الإنسانيَّة بأن يبذل لهم من كسبه ما يستطيع كي لا يموتوا جوعًا، وهم يرون أنه إنما يفعل ما يجب عليه، ومع ذلك هم قادرون على الكسب، ولكن يحول بينهم وبينه جهلهم باستعمال ما أوتوا من القوَّة؛ وذلك بسبب ما حُرِموا من التربية.
ولو فُرِض أن المرأة لا تخلو من زوج أو ولي ينفق عليها أفلا تكون التربية ضرورية لمساعدة ذلك العائل إن كان فقيرًا، أو تخفيف شيء من انتقال إدارة المال داخل البيت إن كان غنيًّا؟ فإن كانت المرأة غنيَّة بنفسها — وهو نادر — بأن كان لها إيراد من عقارات ونحوها أفلا يفيدها التعليم في تدبير ثروتها وإدارة شئونها؟!
نرى النساء كل يوم في اضطرار إلى تسليم أموالهن إلى قريب أو أجنبي، ونرى وكلاءهن يشتغلون بشئون أنفسهم أكثر مما يشتغلون بشئون موكلاتهم فلا يمضي زمن قليل إلَّا وقد اغتنى الوكيل وافتقر الأصيل.
نرى النساء يضعن أختامهن على حساب، أو مستند، أو عقد يجهلن موضوعه أو قيمته وأهميته؛ لعدم إدراكهن كلَّ ما يحتوي عليه، أو عدم كفاءتهنَّ لفهم ما أودعه؛ فتُجرَّد الواحدة منهن عن حقوقها الثابتة بتزويرٍ أو غشٍّ أو اختلاسٍ يرتكبه زوجها أو أحد أقاربها أو وكيلها. فهل كان يقع ذلك لو كانت المرأة متعلِّمة؟
على أن التعليم في حدِّ ذاته هو في كل حال حاجة من حاجات الحياة الإنسانيَّة، وهو الآن من الحاجات الأولى في كل مجتمع دخلت فيه المدنيَّة، وأصبح العلم هو الغاية الشريفة التي يسعى إليها كل شخص يريد أن يحصِّل سعادته الماديَّة والروحيَّة.
ذلك لأن العلم هو الوسيلة الوحيدة التي يرتفع بها شأن الإنسان من منازل الضعة والانحطاط إلى مراقي الكرامة والشرف، ولكل نفس حق طبيعي في تنمية ملكاتها الغريزيَّة إلى أقصى حدٍّ ترمي إليه باستعدادها.
وقد جاءت الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة تخاطب النساء كما تخاطب الرجال، والفنون الجميلة والصنائع والمخترعات والفلسفة العالميَّة كل ذلك يستلفت من المرأة مثل ما استلفته من الرجل، فأي نفس شريفة لا تشتاق إلى مطالعتها والتمتَّع بكنوزها؛ طلبًا للحقيقة وللسعادة في الدُّنيا والآخرة؟ وأي فرق بين الرجل والمرأة في هذا الشوق ونحن نرى أن الصبيان من الذكور والإناث يستوون في الاستفهام عن كل شيء يعرض لهم وطلب العلم بأسباب ما يقع تحت أبصارهم من الحوادث؟ وربما كان الولع بذلك في الأنثى أشدَّ منه في الذكر.
أي نفس حسَّاسة ترضى بالمعيشة في قفص مقصوصة الجناح مطأطأة الرأس، مغمضة العينين، وهذا الفضاء الواسع الذي لا نهاية له أمامها، والسماء فوقها، والنجوم تلعب ببصرها، وأرواح الكون تناجيها وتوحي إليها الآمال والرغائب في فتح كنوز أسرارها؟
التكاليف الشرعية تدلُّنا على أن المرأة وُهِبت من العقل مثل ما وُهِبَ الرجل، أيظنُّ رجل لم يُعمِه الغرض أن الله قد وهبها من العقل ما وهبها عبثًا، وأنه آتاها من الحواس وآلات الإدراك ما أتاها لأجل أن تهملها ولا تستعملها؟!
يقول المسلمون إن النساء ربَّات الخدور يعمرن المنازل، وإن وظيفتهن تنتهي عند عتبة باب البيت، وهو قول مَن يعيش في عالم الخيال، وضُرِبَ بينه وبين الحقيقة بحجاب لا ينفذ بصره إلى ما ورائه.
ولو تبصَّر المسلمون لعلموا أن إعفاء المرأة من أول واجب عليها — وهو التأهل لكسب ضروريات هذه الحياة بنفسها — هو السبب الذي جرَّ ضياع حقوقها؛ فإن الرجل لما كان مسئولًا عن كل شيء استأثر بالحق في التمتُّع بكل حق، ولم يبقَ للمرأة حظ في نظره إلَّا كما يكون لحيوان لطيف يوفِّيه صاحبه ما يكفيه من لوازمه تفضُّلًا منه على أن يتسلَّى به.
مضت الأجيال عندنا والمرأة خاضعة لحكم القوَّة مغلوبة لسلطان الاستبداد من الرجل، وهو لم يشأ أن يتَّخذها إلَّا امرأً صالحًا لخدمته مسيرًا بإرادته، وأغلق في وجهها أبواب المعيشة والكسب؛ بحيث آل أمرها إلى العجز عن تناول وسيلة من وسائل العيش بنفسها، ولم يبقَ أمامها من طرقه إلَّا أن تعيش ببضعها إمَّا زوجة أو مفحشة.
ولمَّا لم يبقَ للعقل ولا للأعمال النافعة قيمة لديها وإنما بضاعتها أن تسلِّي الرجل وتمتِّعه من اللذة بجسمها بما شاء؛ وجَّهت جميع قواها إلى التفنُّن في طرق استمالته إليها، والاستيلاء على أهوائه وخواطر نفسه، مضت تلك الأزمان الطويلة على المرأة ولم يمس عقلها شيءٌ من التربية الصحيحة؛ فضعفت منها القوَّة العاقلة والمفكِّرة، وانفرد الحسُّ بالتصرُّف في إرادتها؛ فحسُّها هو المميِّز عندها بين الخير والشر، وهو الرائد لها في الاختيار بين النفع والضرر فهي تنفر أو تميل، فإن أحبت أخلصت لا عن عقل، وصدرت منها الأعمال الجميلة في ما تحبُّ ولمَن تحبُّ بمحض الهوى لا بأصالة الرأي، وإن نفرت ارتكبت أكبر الجرائم غير بصيرة بالعواقب ولا عارفة بالمصائر. فلو كانت أدركتها العناية بتربية عقلها وتنمية الملكات الفاضلة فيها لنمت فيها بذلك قوَّة الحكم على إحساسها، ولتصرَّفت في أعمالها على مقتضى الحكمة وقواعد الأدب.
أضلَّت المرأة عقلها في ظلمات الأجيال الماضية؛ ففقدت رشدها، وأدركها العجز عن تناول ما تشتهي من الطرق المسنونة؛ فاضطرت إلى استعمال الحيلة، وأخذت تعامل الرجل — وهو سيِّدها وولي أمرها — كما يعامل المسجون حارس سجنه والحفيظ عليه، ونمت فيها ملكة المكر إلى غاية ليس وراءها منزع؛ فأصبحت ممثِّلة ماهرة ومشخِّصة قادرة تظهر في المظاهر المتضادة والألوان المختلفة في كل حال بحسبها، كل ذلك لا عن عقل وحكمة وإنما هي حيل الثعالبة.
ولكن لا لوم عليها وعذرها أنها ليست حرَّة، وإنما فقدت الحرية؛ لأنها فقدت السلامة في قوَّة التمييز، بل اللوم كل اللوم على الرجال؛ أريد بهم مَن سبقنا ممن أهملوا تربية نسائنا.
(٢) وأمَّا بالنسبة للوظيفة العائليَّة
فيكفي لكل إنسان متفكِّر أن يتأمَّل في حالة عائلته ليتأكَّد أن استمرار الحال على ما هي عليه الآن صار مما لا يمكن احتماله.
إني أكتب هذه السطور وذهني مفعم بالحوادث التي وردت عليَّ بالتجربة، وأخذت بمجامع خواطري، ولا أريد أن أذكر شيئًا منها؛ لعلمي أنها ما تركت ذهنًا حتى طافت به، ولا خاطرًا حتى وردت عليه؛ فإن مثار هذه الحوادث جميعها هو شيء واحد وهو المرض الملم بجميع العائلات، لا فرق بين فقيرها وغنيها، ولا بين وضيعها ورفيعها، وهو جهل المرأة؛ فقد تساوت النساء عندنا في الجهل مساواة غير محبوبة، ولا يظهر اختلافهن إلَّا في الملبس والحلي. بل يمكن أن يُقال إنه كلَّما ارتفعت المرأة مرتبة في اليسر زاد جهلها، وإن آخر طبقة من نساء الأمَّة وهي التي تسكن الأرياف هي أكملهن عقلًا بنسبة حالها.
المرأة الفلاحة تعرف كلَّ ما يعرفه الرجل الفلاح، مداركهما في مستوى واحد لا يزيد أحدهما عن الآخر تقريبًا، مع أننا نرى أن المرأة في الطبقة العالية أو الوسطى متأخِّرة عن الرجل بمسافات شاسعة؛ ذلك لأن الرجال في هذه الطبقات تربَّت عقولهم واستنارت بالعلوم، ولم تتبعهنَّ نساؤهم في هذه الحركة، بل وقفن في الطريق، وهذا الاختلاف هو أكبر سبب في شقاء الرجل والمرأة معًا.
فالرجل المتعلِّم يحبُّ النظام والتنسيق في منزله، وله ذوق مهذَّب يميل إلى الأشكال اللطيفة، والإحساسات الدقيقة، والالتفاتات الرقيقة، ويبلغ الاهتمام بها عند بعض الأفراد حدًّا ينتهي إلى إهمال الأمور الماديَّة، يفهم بكلمة ويودُّ لو يفهم بالإشارة، يسكت في أوقات، ويتكلَّم في أخرى، ويضحك في غيرها، له أفكار يحبُّها، ومذهب يشغله، وجمعية يخدمها ووطن يعزُّه، له لذائذ، وآلام معنوية؛ فيبكي مع الفقير، ويحزن مع المظلوم، ويفرح بالخير للناس، وفي كل فكرة تتولَّد في ذهنه أو إحساس يؤثِّر على أعصابه يودُّ أن يجد بجانبه إنسانًا آخر فيشرح له ما يشعر به ويتسامر معه، وهذا ميل طبيعي يجده كل شخص من نفسه.
فإذا كانت امرأته جاهلة؛ كتم أفراحه وأحزانه عنها، ولم يلبث أن يرى نفسه في عالم وحده، وامرأته في عالم آخر؛ إذ هي تعتبر أن الرجل ما خُلِقَ في هذه الدُّنيا إلَّا ليشتري لها الأقمشة الغالية والجواهر النفيسة، وليصرف أوقاته في ملاعبتها، كأنه صورة أكبر من الصور التي كان يشتريها لها والدها في صغرها لتلهو بها.
ومتى رأى الرجل امرأته بهذه المنزلة من الجهل؛ بادر إلى نفسه احتقارها، واعتبرها من الأعدام التي لا أثر لها في شئونه، وهي متى رأته أهمل وأغضى ضاق صدرها، وظنَّت أنه يظلمها، وبكت سوء حظها الذي ساقها إلى رجل لا يقدِّرها قدرها، ونبتت البغضاء في قلبها، ومن ثمَّ تبتدئ عيشة لا أظنُّ أن الجحيم أشدُّ نكالًا منها، عيشة يرى كلُّ منهما فيها أن صاحبه هو العدوُّ الذي يحول بينه وبين السعادة.
ولا يُظنُّ أن هذا يختصُّ بذوي الأخلاق الفاسدة من الرجال والنساء؛ فقد تكون المرأة طيبة صالحة، والرجل شريف الإحساس ولكن العيشة بينهما خصام مستمر، ولا ذنب على أحدهما؛ بل الذنب على اختلافهما في التربية كما تقدَّم، ومنتهى هذه الحالة — إن استمرَّ الاقتران بينهما — أن يميت أحدهما حقَّه في سبيل راحة الآخر، أو يجرَّ كلاهما قيده الثقيل إلى آخر العمر، ولكن مهما كان حال الزوجين — وهما على ما ذكرنا من الوصف — فلا سبيل إلى ارتباطهما برابطة المحبَّة إذا أُخِذَت بمعناها الخاص؛ ولا خسران في الدنيا يبلغ فقد لذَّة الحب بين الرجل والمرأة.
جاء في القصص الدينية المسطورة في الكتب السماوية أن الله خلق حواء من ضلع آدم، وفيه على ما أظنُّ رمز لطيف إلى أن الرجل والمرأة يكوِّنان مجموعًا واحدًا لا يتمُّ إلَّا باتحادهما، ومن هذا المعنى أخذ الغربيون تسميتهم المرأة بنصف الرجل، وهو تعبير فصيح يدلُّ دلالة واضحة على أن المرأة والرجل هما شقان لجسم واحد مفتقر بعضه إلى بعض ليتمَّ له الكمال بالاجتماع.
وهذا الانجذاب الغريزي الذي أوجده الله في كل المخلوقات الحيَّة — حتى في النباتات التي يُشاهَدُ في بعضها حركة محسوسة بين الذكر والأنثى إذا آن وقت التلقيح على طريقة حار في تفسيرها علماء الطبيعة — هو أهم عنصر يدخل في تركيب الحبِّ، وهو يكفي لحدوث الميل بين الرجل والمرأة، ولا يختلف في الإنسان عن الحيوان، أمَّا أصل هذا الانجذاب وطبيعته وسببه فهو أمر لا يزال غامضًا كأصول كل الأشياء تقريبًا، وإنما يرجِّح قسم من العلماء أنه سيَّال يتولَّد في المراكز العصبية، فمتى وُجِدَ هذا الانجذاب بين رجل وامرأةٍ، شعرا بضرورة اقترابهما، فإذا تلاقيا أخذت كلًّا منهما هزَّة الفرح، تتكلَّم عيونهما، وتترجم عن الاضطرابات التي تهيِّج قلوبهما قبل أن ينطق اللسان، كأن روحيهما صديقتان افترقتا في عالم قبل هذا العالم وأخذت كل واحدة منهما تبحث عن الأخرى حتى إذا التقتا؛ وجدتْ كل منهما ضالتها التي كانت تنشدها؛ وتنشأ فيهما بعد اللقاء آمال وأمانٍ أكبر من مجرَّد التلاقي فتختلطان ويحدث بينهما شبه العهد على ألا تفترقا. ترى كل واحدة منهما أن لا سعادة لها إلَّا باتصالها بالأخرى.
لكن هذا الانجذاب المادي لا يلبث مدَّة حتى يأخذ في التلاشي ويتناقص شيئًا فشيئًا. فمهما كانت شدَّة الرغبة عند أول التلاقي فهي صائرة إلى الزوال في زمن يختلف طوله وقصره باختلاف الأمزجة، وتضمحل تلك الآمال وتتساقط تلك الأماني، ويكاد التقاطع يحلُّ محلَّ التواصل لولا ما اختصَّ الله به الإنسان من القدرة على استدامة تلك العاطفة، والاستزادة من لذَّة الوصال بما يستجلي من بهاء الأرواح وسناء العقول، فهو يضمُّ إلى المنظر البديع الجسماني منظرًا آخر قد يكون أبدع في اعتباره، وهو المنظر الروحاني العقلي، وكثيرًا ما يستبدل لذَّة الحسِّ التي لا بقاء لها بلذَّة العقل والوجدان التي لا تنتهي أطوارها، ولا تفنى مظاهرها، يستهويه الحبُّ لمشهد الوجه الجميل وسواد العيون ورشاقة القدِّ وطول الشعر، ولكن يمتزج العشق بروحه حتى يكون كأنه طبْع لها إذا وُجِدَ بجانب ذلك الجمال لطف الشمائل، ورقة الذوق، وبهاء الفطنة، ونفاذ العقل، وسعة العرفان، وحسن التدبير، والحذق في العمل، مع المحافظة على النظام فيه، ونظافة الباطن والظاهر، وحنو القلب، وصدق اللسان، وطهارة الذمَّة، وعظم الأمانة، والإخلاص في الولاء ونحو ذلك من الفضائل المعنويَّة التي تُرجَّح عند العقلاء على جميع المحاسن الجسمانية، ووجدان اللذَّة بهذه المعاني عنصر آخر يدخل في تركيب الحب أيضًا؛ ومن هذين العنصرين يتركَّب الحبُّ التام.
وأمَّا ما يُروَى من أن رجلًا عشق امرأة عشقًا روحانيًّا محضًا أو أن آخر عشق أخرى للذة الماديَّة ليس إلَّا بدون اعتبار تلك الصفات الأدبيَّة؛ فقد يكون لأن الأول رجل خيالي، والثاني رجل جاهل شهوي، على أن التجارب دلَّت على أن هذه الشهوات البتراء ليس لها حظ من البقاء؛ فهي كالنار ذات اللهب تهبُّ وتنطفي بسرعة.
اللذة الجسمانية المتَّحدة في النوع مهما تخالفت في الأفراد فهي دائمًا واحدة؛ فإن أفراد اللذة المتَّحدة في النوع تتشابه إلى حدٍّ تكاد لا تتميَّز إلَّا باختلاف الزمان أو المكان مثلًا، فما يحصل منها أولًا هو ما يحصل ثانيًا وثالثًا ورابعًا وهكذا.
ومن البديهي أن تكرار لذَّة بعينها مهما كانت سواء كانت لذَّة نظر، أو لذَّة سمع، أو لذَّة ذوق، أو لذَّة لمس يفضي في الغالب إلى فقد الرغبة فيها، فيأتي زمن لا تتنبه الأعصاب لها لكثرة تعوُّدها عليها، والأمر بخلاف ذلك بالنسبة للذَّة المعنويَّة، هذه اللذَّة في طبيعتها أنه يمكن تجدُّدها في كلِّ آن، تأمل في مسامرة صديقين تجد أنها كنز سرور لا يفنى، متى تلاقيا يفرغ كل منهما روحه في روح الآخر، فيسري عقلاهما من موضوع لموضوع، وينتقلان من الجزئيات إلى الكليات، ويمرَّان على الآلام والآمال والقبيح والحسن والناقص والكامل، كل عمل أو فكر أو حادث أو اختراع يكسب عقليهما غذاءً جديدًا، ويفيد نفسيهما لذَّة جديدة. كل مظهر من مظاهر حياة أحدهما العقليَّة والوجدانية، وكلُّ ما تحلَّت به نفسه من علم وأدب وذوق وعاطفة تنعكس منه على نفس الآخر لذَّة جديدة، ويزيد في رابطة الألفة بينهما عقدة جديدة.
ومن هنا يُعلَمُ مقدار سلطان الحب الحقيقي على الإنسان، وكيف أن العارف يعتبر العثور على ذلك الحب الشريف من أكبر السعادات في هذه الدنيا، فإن كان المال زينة الحياة؛ فالحب هو الحياة بعينها.
فهذا الحبُّ لا يمكن أن يوجد بين رجل وامرأة إذا لم يوجد بينهما تناسب في التربية والتعليم، ولا يجب أن يُفهَمَ أن الرجل المتعلِّم إذا لم يحب زوجته فهي يمكنها أن تحبَّه، فإن توهُّم ذلك يُعدُّ من الخطأ الجسيم؛ لأن الحب الحقيقي الذي عرفت عنصريه المادي والمعنوي لا يبقى إلَّا بالاحترام، والاحترام يتوقَّف على المعرفة بمقدار مَن تحترمه، والمرأة الجاهلة لا تعرف مقدار زوجها.
سل جمهور المتزوِّجين هل هم محبوبون من نسائهم يجيبونك نعم، لكن الحقيقة غير ما يظنون — إني بحثت كثيرًا في عائلات مما يُقال إنها في اتفاق تام، فما وجدت إلى الآن لا زوجًا يحبُّ امرأته، ولا امرأة تحبُّ زوجها، أمَّا هذا الاتفاق الظاهري الذي يُشاهَدُ في كثير من العائلات فمعناه أنه لا يوجد شقاق بين الزوجين، إمَّا لأن الزوج تعب وترك، وإمَّا لأن المرأة تركت زوجها يتصرَّف فيها كما يتصرَّف المالك في ملكه، وإما لأنهما الاثنان جاهلان لا يدركان قيمة الحياة، وهذه الحال الأخيرة هي حال أغلب الأزواج المصريين، ولا أرى ما يقرب من السعادة إلَّا في هذا النوع الأخير، وإن كانت سعادة سلبية لا قيمة لها.
أمَّا في النوعين الأوَّلين فقد اشتُرِي الوفاق بثمن غالٍ، وهو فناء أحد الزوجين في سبيل إبقاء الآخر، وغاية ما يمكن أن أسلِّم به هو أنه قد يُشاهَدُ في عدد قليل من الأزواج شيء يقرِّب من المودة يظهر في بعض الأحيان ثمَّ يختفي، وهو استثناء يؤيِّد القاعدة وهي عدم الحب: عدم الحب من طرف الزوج؛ لأن امرأته متأخرة عنه في العقل والتربية تأخُّرًا فاحشًا بحيث لا يكاد توجد مسألة يمكن أن يتحدَّثا فيها لحظة بسرور متبادل، ولا يكاد يوجد أمر يتَّفقان في الحكم عليه برأي واحد، ولأنها بعيدة عن العواطف والمعاني والأشغال التي يميل إليها، ومغمورة في شئون ليس لها من ميله نصيب، حتى إنها في الأمور التي هي من عملها وترى أنها خُلِقَت لأجلها لا يرى منها زوجها ما يروق نظره، فأكثر النساء لم يتعوَّدن على تسريح شعرهن كل يوم، ولا على الاستحمام أكثر من مرَّة في الأسبوع، ولا يعرفن استعمال السواك، ولا يعتنين بما يلي البدن من الملابس مع أن جودتها ونظافتها لها أعظم تأثير في استمالة الرجل. ولا يعرفن كيف تتولَّد الرغبة عند الزوج وكيف يُحَافَظُ عليها، وكيف يمكن تنميتها، وكيف تكون موافاتها؛ ذلك لأن المرأة الجاهلة تجهل حركات النفس الباطنة، وتغيب عنها معرفة أسباب الميل والنفور، فإذا أرادت أن تستميل الرجل جاءت في الغالب بعكس ذلك.
وأمَّا عدم الحب من طرف المرأة؛ فلأنها لا تذوق معنى الحب، ولو أردنا أن نحلِّل إحساسها بالنسبة لزوجها نجد أنه يتركَّب من أمرين: ميل إليه من حيث هو رجل أُبِيح لها أن تقضي معه شهواتها، وشعور بأن هذا الرجل نافع لها للقيام بحاجات معيشتها، أمَّا ذلك الامتزاج بين روحين اختارت كل منهما الأخرى من بين آلاف من سواهما امتزاجًا تامًّا يؤلِّف منهما موجودًا واحدًا، كأن كلًّا منهما صوت والآخر صداه، ذلك الإخلاص التام الذي يُنسِي الإنسان نفسه ولا يدع له فكرًا إلَّا في صاحبه؛ ذلك الإخلاص الذي لا نجد له مثالًا أظهر من حب الوالدة لوالدها — فهي بعيدة عنه بُعدَ السماء عن الأرض؛ لأن الحب بهذه الدرجة إن لم يكن طبيعيًّا كحب الأم لولدها فهو ثمرة عزيزة لا تُطلَبُ إلَّا عند النفوس العالية التي تغلَّبت فيها العواطف الكريمة على الاستئثار.
والزوجة المصريَّة مهما كانت لا تعرف من زوجها سوى أنه طويل أو قصير، أبيض أو أسود، أمَّا قيمة زوجها العقليَّة والأدبية، وسيرته، وطهارة ذمَّته، ودقَّة إحساسه ومعارفه وأعماله ومقاصده في الوجود، وكل ما تُصاغ منه شخصية الرجل منا ويصير به إلى أن يكون محترمًا محبوبًا ممدوحًا في أمته — فهذا لا يصل إلى عقلها شيء منه، وإن وصل فلا يؤثِّر على منزلته في نفسها، وعلى هذا يكون أول مَن يجهل الرجل زوجته. فكيف يظنُّ أنها تحبه؟
نرى نساءنا يمدحن رجالًا لا يقبل رجل شريف أن يمدَّ لهم يده ليصافحهم، ويكرهن آخرين ممن نعتبر وجودهم شرفًا لنا؛ ذلك لأن المرأة الجاهلة تحكم على الرجل بقدر عقلها، فأحسن رجل عندها هو مَن يلاعبها طول النهار وطول الليل، ويكون عنده مال لا يفنى لقضاء ما تشتهيه من الملابس والحلي والحلوى، وأبغض الرجال عندها مَن يقضي أوقاته في الاشتغال في مكتبه، كلَّما رأته جالسًا منحني الظهر مشغولًا بمطالعة كتاب؛ غضبت منه ولعنت الكتب والعلوم التي تسلب منها هذه الساعات، وتختلس الحقوق التي اكتسبتها على زوجها، ومن هذا يتولَّد على الدوام نزاع لا ينتهي إلَّا بنزاع جديد، ولا يدري الزوج المسكين ماذا يصنع إذا أراد أن يجمع بين هذين العدوين: الزوجة، والعلم. أراه في حيرة أشدَّ من الرجل الذي جمع بين زوجتين؛ فقد رأينا أحيانًا كثيرة مظاهر الوفاق بين زوجتين لرجل واحد. وما سُمِعَ قط أن امرأة مصرية ممن نعني رضيت بمباشرة العلم.
ومن البديهي أن الرجل الذي يكون هذا حاله ينتهي بفقد كل استعداد للعمل؛ لأن العلم لا يثمر إلَّا إذا كان العقل متمتعًا بالهدوء والسكون، خاليًا من الاضطراب والتشويش؛ ولأن الرجل يطلب راحته وهي في يد امرأته ولكنها تبخل بها عليه.
رأينا مما تقدَّم أن المرأة المصريَّة لا تجد ذوق الحبِّ خصوصًا إذا كان زوجها متعلِّمًا يصرف وقته في الأعمال النافعة.
قد يُقَال إن الحب الذي تكلَّمت عنه هو من كمال السعادة وليس من الأمور الضرورية التي لا يُستغنَى عنها في الزواج، وأنه عند فقده يمكن أن يُعوَّض بصفات أخرى عند الزوجة، ويكفي أن المرأة تكون رفيقة لزوجها شريكة له في المنافع والمضار؛ ولذلك فهي تساعده على حاجات الحياة ليتمَّ له بعض السعادة — هذا يمكن أن يكون، ولكن كيف الوصول إليه أيضًا مع جهل المرأة؟
قلت إن المرأة الفلاحة مع جهلها هي زميلة الرجل في كل أعماله، وهي قائمة بخدمة منزلها، ومساعدة زوجها. ذلك سهل؛ لأن العيشة في الأرياف ساذجة بدوية تقريبًا، وحاجات العائلة قليلة، أمَّا في المدن التي ترقَّت فيها المعيشة، وكثرت الحاجات، وتشعَّبت طرق المنافع، وبلغت فيها إدارة المنزل إلى درجة إدارة مصلحة من كبار المصالح، فالمرأة التي يُسلَّمُ إليها زمامها لا يمكنها أن تديرها إلَّا بالتعليم والتربية.
والحقيقة أن إدارة المنزل صارت فناءً واسعًا يحتاج إلى معارف كثيرة مختلفة؛ فعلى الزوجة وضع ميزانية الإيراد والمصرف بقدر ما يمكن من التدبير؛ حتى لا يوجد خلل في مالية العائلة، وعليها مراقبة الخدم بحيث لا يفُلتون لحظة من مراقبتها، وبغير هذا يستحيل أن يؤدُّوا خدمتهم كما ينبغي، وعليها أن تجعل بيتها محبوبًا إلى زوجها؛ فيجد فيه راحته ومسرته إذا آوى إليه، فتحلو له الإقامة فيه، ويلذُّ له المطعم والمشرب والمنام فلا يطلب المفرَّ منه ليمضي أوقاته عند الجيران أو في المحلات العمومية، وعليها — وهو أول الواجبات وأهمها — تربية الأولاد جسمًا وعقلًا وأدبًا.
وظاهر أن تطبيق هذه الواجبات التي ذكرتها بالإجمال على العيشة الجارية بالتفصيل يستدعي عقلًا واسعًا ومعلومات متنوعة وذوقًا سليمًا، ولا يتأتى وجود ذلك في المرأة الجاهلة، وخصوصًا ما يتعلَّق منها بتربية الأطفال.
بالغنا في نسيان أن الأولاد هم صناعة الوالدين، وأن الأمهات لهنَّ النصيب الأوفر في هذه الصناعة، بالغنا في اعتقاد أن الله يُخرِج الفاسد من الصالح، ويُخرِج الصالح من الفاسد، وأنه يوزِّع العقول ويهب الصفات كما يشاء، وهو اعتقاد صحيح إذا أُخِذَ من جهة أن الله قادر على كل شيء، ومن متناول قدرته أن يفعل مثل ذلك، فإن كان المقصود أن الله يمكنه أن يفعل مثل هذا فلا شكَّ في قدرته سبحانه وتعالى، وليس مَن ينازع في أنه لو شاء فعل ذلك، كما أنه لو شاء لجعل الناس أمَّة واحدة ولأنبت الحيوان من الأرض، لكن الله وضع للعالم سُنَّة، وللحياة نظامًا، وللمخلوقات نواميس تجري عليها أحكامها.
فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ.
وتاريخ الإنسانيَّة من عهد وجودها على الأرض إلى الآن أيَّد ثبات هذه السنن واستمرارها.
من أكبر مظاهر حكمته — جلَّ شأنه — هذه الحقيقة التي كشفها لنا العلم، وهي أن كلَّ فرد من الأنواع الحيَّة — وفيها النوع الإنساني — ليس إلَّا نسخة مطابقة للأصل المتولِّد منه؛ ففيه صورة نوعه الكلي، وفيه صورة والديه خصوصًا، بمعنى أن هذا الفرد يحتوي أولًا على الخواص المميِّزة لنوعه، وعلى الصفات الخاصة بأبويه.
ودلَّت الاكتشافات الحديثة أيضًا على أن كل المَلَكات العقليَّة والأدبيَّة في الإنسان إنما هي مظاهر من وظائف المخ، كما أن الصفراء من عمل وظيفة الكبد، وما يُسمَّى عقلًا أو عاطفة فلا عمل له إلَّا عمل تلك الوظائف، وعملها تابع لحالة الأعصاب والمخ، وإنما مادة تلك الأعضاء منتزعة من الأصل الذي تولَّدت منه، فلا ريب أن يكون لها تبعية عظمى لذلك الأصل، ثمَّ من الظاهر أن الجسم لا يستغني في نموه وبقائه بما دخل فيه من تلك المادة الأولى، بل لا بُدَّ في النمو والبقاء من التربية والغذاء، فكذلك حال العقل والمَلَكات لا يستغني بما أودعته المدارك والقوى من الاستعداد الأول بل لا بُدَّ في ظهور أثرها وسيرها فيما أُعِدَّت له من الغذاء الذي يوافقها، والتربية التي تلائمها. فالوراثة والتربية هما الأصلان اللذان ترجع إليهما شخصية الطفل ذكرًا كان أو أنثى، وليس هناك شيء وراء ذلك.
فبالوراثة يُكسَبُ الطفل استعدادًا لكل ميل كان عليه الوالدان صالحًا كان أو فاسدًا، ويرتكز فيه ذلك الاستعداد وهو في بطن أمه؛ فصفات الطفل مرتبطة بما كان عليه أسلافه من جهة الأم ومن جهة الأب، وبالتربية يمتلئ ذهن الطفل بالصور الواردة عليه من الإحساس، وبأثرها في نفسه ألمًا كان أو لذَّة، وتعرُّض حسُّه لقبول هذه الصور موكول إلى إرادة مربيه؛ فهو الذي يريه ويُسمعه ويذيقه ويفيده كل معلوم، وهو الذي يعرض على وجدانه من العواطف ما يراه لائقًا به، فإن لم يرد عليه من صور المحسوسات إلَّا ما هو قليل غير متبوع بما ينشأ عنه من العواقب البعيدة، أو لم يشعر من العواطف إلَّا بما يظهر أثره في أقرب الأشياء من لذَّته الجسمانية كان سريع الاندفاع مع أول خاطر يبدو له كما يفعل الطفل والمتوحِّش والمجنون، وإن كانت معلوماته كثيرة تحتوي على صور الأشياء وصور ما يحدث عنها لأول التصوُّر وما ينشأ عنها فيما بعد ذلك، وكان وجدانه رقيقًا لطيفًا كان الناشئ كثير التأمُّل، شديد التبصُّر، بطيء الاندفاع مع أوَّل انفعال يتأثَّر به من الحسِّ والشعور؛ فينشأ وبيده ميزان يزن به أعماله، ويقدِّر به حركاته، ويشاهد فيه وهو في صباه الميل إلى النافع والنفرة من الضار.
لا نقول إن الطفل يكون في ذلك كما يكون الرجل البالغ الرشيد، ولكنها أوائل وجراثيم من الكمال العقلي والأدبي تصل بالتنمية والتربية إلى تلك الغايات الشريفة التي يسعى إليها كلُّ مَن عرف معنى الإنسانيَّة، وذاق لذَّة الفضيلة. فسلامة العقل لا تتمُّ إلَّا بحسن الوراثة، وحسن التربية؛ وهذا ما جعل العلماء ينسبون اليوم كلَّ فساد في الأخلاق إلى مرض في المخ أو في الأعصاب موروث أو مكتسب. وإن شُوهد أن الولد لا يشابه أبويه في بعض الأحوال؛ فذلك إنما لأن قانون الوراثة قد يرجعه إلى أحد أسلافه القريبين.
متى حسنت التربية على الوجه الذي ذكرناه ضعف الاستعداد الذي كسبه الطفل من والديه إن كان رديئًا، وتأصَّل فيه استعداد جديد يرثه عنه مَن يتولَّد منه، ويقوى فيه ذلك الاستعداد إن كان حسنًا؛ فيبلغ غاية ما يُرجَى لإنسان فاضل من أبوين فاضلين، ويظهر أثر ذلك أيضًا في أولاده وأعقابه إن استمرَّ نظام التربية فيهم على الوجه الذي صار به هذا الوالد رجلًا صالحا، أمَّا إن كانت التربية فاسدة، وكلُّ ما يرد على الطفل إنما يثير فيه أهواء باطلة؛ فالاستعداد الخبيث يقوى، والاستعداد الطيب يضمحل ويموت؛ ويجني على أولاده تلك الجناية التي جناها عليه والداه.
قال الغزالي في التربية عبارة جميلة مختصرة اشتهيت أن أوردها هنا وهي: «الصبي أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة خالية عن كل نقش وصورة، وهو قابل لكلِّ ما يُنقَش، ومائل إلى كل ما يُمَال إليه، فإن عُوِّد الخير وعُلِّمه وعَلِمه؛ نشأ عليه وسعد في الدُّنيا والآخرة، وشاركه في ثوابه أبواه وكلُّ معلِّم له ومؤدِّب، وإن عُوِّد الشرَّ، وأُهمِلَ إهمال البهائم؛ شقي وهلك، وكان الوزر في رقبة القيِّم عليه والوالي له. وقد قال الله عزَّ وجلَّ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا.»
والتربية تنحصر في أمر واحد، هو تعويد الطفل على حُسْنِ الفعل، وتحلية نفسه بجميل الخصال، والوسيلة إلى ذلك واحدة: هي أن يشاهد الطفل آثار هذه الأخلاق حوله؛ لأن التقليد في غريزة الطفل يكتسب به كل ما تلزم معرفته، فإن كانت الأم جاهلة تركت ولدها لنفسه يفعل ما يزيِّنه له عقله الصغير وشهواته الكبيرة، ويرى من الأعمال ما لا ينطبق على محاسن الأدب؛ فيتخلَّق بالأخلاق القبيحة، ويعتاد العوائد الفاسدة.
ويرى الأسوة السيئة في بيته وفي الخارج، وكلَّما تقدَّم في السنِّ رسخت فيه هذه الأخلاق، وكبرت معه بكبره، فإذا وصل إلى سنِّ الرجولية؛ رأى نفسه أو رآه الناس رجلًا سيئ التربية، ولا سبيل له بعد ذلك إلى إصلاح نفسه مهما كانت إرادته ومعارفه وعقله، ويندر جدًّا أن يوجد شخص يبتدئ بعد بلوغه سنَّ الرجولية في إصلاح ما فسد من مَلَكاته ثمَّ ينجح في ذلك، اللهم إلَّا إلى حدٍّ محدود.
ومن المعلوم أن الطفل لا يعيش من طفوليته إلى سنِّ التمييز إلَّا بين النساء؛ فهو دائمًا محاط بأمه وأخواته وعماته وخالاته وخادماتهن وصواحباتهن، ويرى أباه في أوقات قليلة، فإذا كان هذا الوسط الذي ينشأ فيه طيبًا، كانت تربيته طيبة، وإن كان سيئًا، ساءت تربيته، والأم الجاهلة ليس في استطاعتها أن تصبغ نفس ولدها بصبغة الصفات الجميلة؛ لأنها لا تعرفها، وغاية ما تستطيع هو أنها تدعه يلتقط الخلال الرديئة بما يعرض له إن لم تبذر بيدها حبوبها في نفسه، وتغرس فيها الملكات السيئة.
أليس من جهل الأم بقوانين الصحة أن تهمل ولدها من النظافة؛ فيعلوه الوسخ، وتتركه متشرِّدًا في الطرق والأزقة يتمرَّغ في الأتربة كما تتمرَّغ صغار الحيوانات؟ أليس من جهلها أن تدعه كسلان يفرُّ من العمل، ويضيع وقته — الذي هو رأس ماله — مضطجعًا أو نائمًا أو لاهيًا مع أن سنَّ الطفولية لا يعرف الكسل؛ وهو سنُّ النشاط والعمل والحركة؟ أليس من أثر جهلها أننا جميعًا مصابون بشلل في أعصابنا حتى صرنا لا نتأثَّر من شيء مهما بلغ في الحسن والقبح. فإذا رأينا عملًا جميلًا مدحناه من طرف اللسان، وإذا شاهدنا فعلًا قبيحًا استهجناه بهزِّ الرءوس، وظاهر من القول، بدون أن نشعر بانبعاث باطني يقهرنا على الاندفاع إلى الأول، ولا على الابتعاد على الثاني؟ أليس من جهلها أن تسلك في تأديب ولدها طريق الإخافة بالجنِّ والعفاريت، وأن تأخذ من وسائل صيانته ووقايته من المُضرَّات تعليق التعاويذ والطواف به حول القبور وفي زوايا الأضرحة وغير ذلك مما لا يبالي به الجاهلون بأصول الدين وفضائل الأعمال وله من الأثر السيئ في أنفس الناشئين بل وفي أرواح الرجال ما يجرُّ إلى كل شرٍّ ويبعد عن كل خير؟
قد صار من المقرَّر عندنا أن الأمهات لا يفلحن في تربية الأولاد حتى صار من المثل في الحطة ورداءة السير أن يُقال فلان تربية امرأة — على أننا نرى أن تربية المرأة في البلاد الغربيَّة تفوق تربية الرجل، وأن أحسن الناس تربية هم مَن ساعدهم الدَّهر في أن تتولَّى تربيتهم امرأة، وليس هذا بغريب؛ فإن المرأة تمتاز على الرجل بغرائز طبيعية هي بها أقوى استعدادًا للنجاح في التربية؛ ذلك أنها أصبر من الرجل فيما تحبُّ، وأنها ألطف منه في المعاملة، وأرق منه في العواطف والإحساسات، ويفتخر الغربيون بتأثير النساء في أحوالهم حتى بعد بلوغ رشدهم؛ فقد قرأت في أحد كتب رونان الفيلسوف الشهير ما محصِّله: «إن أجمل ما وضعه في مؤلفاته كان إلهامًا من أخته.» وقال ألفونس دوديه الكاتب المجيد في بعض ما كتبه: «إن كنتُ أستحق فخرًا فلامرأتي نصفه.» وأمثال هذه الشواهد كثيرة يعلمها كلُّ مَن اطلع على أحوال الأوروباويين، وكلُّها تدلُّ على أن تربية المرأة أمر لا يُستغنَى عنه، وأن القسم الأعظم منها منوط بالمرأة.
وقد نجد في هدي نبينا ما يشير إلى ذلك، بل كان يجب أن يُعدَّ أصلًا من الأصول التي نركن إليها في بناء أمورنا الملِّيَّة؛ حيث قال في شأن عائشة — رضي الله عنها: «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء.» وعائشة امرأة لم تؤيَّد بوحي ولا بمعجزة وإنما سمعت فوعت، وعلمت فتعلَّمت.
أودُّ أن كلَّ مصري يرى أن مسألة التربية عندنا هي أمُّ سائر المسائل، وأن كل مسألة غيرها مهما كانت أهميتها داخلة فيها.
عُرِفَ المصريون بعوائد وأخلاق استفادوها من حوادث تاريخية ليس هذا محلُّ ذكرها، تلك العوائد والأخلاق ليست معروفة في الدين، ولا هي موافقة لما يستحسنه العقلاء حتى من المصريين أنفسهم، وقلَّ ما يُشاهَدُ مثلها عند غيرهم.
وقد آن الوقت — على ما أظن — لتربية نفوسنا تربية صحيحة متينة علمية، تربية تنشئ رجالًا أولي علم، وأصالة رأي يجمعون بين المعارف، والأخلاق، والعلم والعمل، تربية تنقذنا من جميع العيوب التي يقذفنا بها الأجنبي في كل يوم وبكل لسان، وكلُّها ترجع مهما اختلفت في الاسم إلى سبب واحد؛ وهو النقص في تربية نفوسنا، وقد اتفق جميع أهل النظر في مصر على أن التربية هي الدواء الوحيد لذلك الداء، وانتشر هذا الرأي الصائب في الكتب والجرائد وأحاديث المجالس حتى صحَّ أن يُقال إنه أصبح رأيًا عامًّا، وتولَّد عن ذلك شعور بأن مستقبل الأمَّة تابع لتربيتها.
ولكن أرى همم الناس موجَّهة إلى التعليم، ولا أرى أحدًا يلتفت إلى تربية النفوس، وأرى أن الحرص على التعليم منحصر في تعليم الذكور، مع أن تهذيب الأخلاق مُقدَّم على التعليم، وتعليم البنات مُقدَّم على تعليم الذكور.
ولست ممن يطلب المساواة بين المرأة والرجل في التعليم؛ فذلك غير ضروري، وإنما أطلب الآن — ولا أتردَّد في الطلب — أن توجد هذه المساواة في التعليم الابتدائي على الأقل، وأن يُعتنَى بتعليمهن إلى هذا الحدِّ مثل ما يُعتنَى بتعليم البنين.
أمَّا ما يتعلَّمه بعض البنات الآن فأراه غير كافٍ؛ لأنهنَّ يتعلَّمن القراءة والكتابة بالعربية وبلغة أجنبية، وشيئًا من الخياطة والتطريز والموسيقى ولا يتعلَّمن من العلوم ما يستفدن منه فائدة يُلتفَتُ إليها، وربما زادتهن تلك المعارف غرورًا بأنفسهنَّ؛ فتظنُّ الواحدة منهن أنها متى عرفت أن تقول نهارك سعيد باللغة الفرنساويَّة فقد فاقت أترابها وارتفع شأنها وسما عقلها، ولا تتنازل بعد ذلك لأن تشتغل بعمل من الأعمال المنزلية؛ فتقضي حياتها في تلاوة أقاصيص وحكايات قلَّ ما تفيد إلَّا في إثارة صور من الخيالات تطوف بها وتتمثَّل لها عالمًا لطيفًا تسرِّح فيه طرفها وهي شاخصة إلى دخان السجارة التي تقبض عليها.
أكثر ما تعرفه المرأة التي يُقال الآن إنها متعلِّمة هو القراءة والكتابة، وهذه واسطة من وسائط التعليم وليست غاية ينتهي إليها، وما بقي من معارفها فهي قشور تجمعها الحافظة في ريعان العمر ثمَّ تنفلت منها واحدة بعد واحدة حتى لا يبقى شيء. أين هذه القشور من الحقائق العلميَّة التي يتغذى منها العقل ويتقوى بها على مطاردة الوهم — لا شيء ينفع الإنسان مثل اكتسابه ما يُسمَّى عقلًا عمليًّا، أريد بذلك ما يقابل التخيُّل — الذي يعيش به صاحبه في أوهام وهواجس لا ترجع إلى حق ثابت؛ فإن كل مصائب الإنسان تأتي له من باب واحد وهو الخيال، كلَّما تجرَّد الإنسان عن الأوهام والخيالات قرب من السعادة، ويبعد عنها بقدر ما يبعد عن الحقيقة.
الحقيقة هي ضالة الإنسان في العالم، ويجب عليه أن يسعى وراءها بلا قصور ولا تعب، الحقيقة هي الكنز الذي أودع الله فيه كل آمال الإنسان لا يجدها إلَّا مَن رغب فيها ومال عن سواها، الحقيقة هي مشرق السعادة؛ لأنها الوسيلة وحدها لوصول الإنسان إلى كمال العقل والنفس، والنساء مثل الرجال في الحاجة إلى معرفة الحقيقة، وإلى اكتساب عقل سليم يحكم على نفوسهنَّ ويرشدهنَّ في الحياة إلى الأعمال الطيبة النافعة.
انظر إلى الطفل تجده يشتهي وينفر، ويحبُّ ويكره، ويفرح ويحزن، ويضحك ويبكي، ويسكن ويغضب، وهو في كل ذلك إنما ينفعل بحسٍّ، وينبعث بوهم، وينقاد إلى خيال، وإذا أراد شيئًا فمُنِعَ عنه لم يستعمل للوصول إلى غرضه إلَّا شيئًا من الغشِّ والمكر والكذب. لِمَ ذلك؟ لأن عقله ضعيف ومعارفه قليلة، ولم تصل قواه العقليَّة إلى درجة تتمكَّن فيها من المقياس والموازنة بين الأعمال والرغائب والآلام حتى تحمله على الصبر أحيانًا، وطلب المرغوب من أبوابه ووسائله الصحيحة أحيانًا أخرى، والمرأة الجاهلة مثلها مثل الطفل فيما ذكرنا.
سلب الرجال ثقتهم من النساء، واعتقدوا أنهنَّ أعوان إبليس، فلا تسمع إلَّا ذمًّا لخصالهنَّ، وتنقيصًا لعقلهنَّ، وتحذيرًا من مكرهنَّ، وأنا لا أبرئ النساء الآن من هذه الصفات، ولكن أرى أن التبعة ليست عليهن بل على الرجال.
هل صنعنا شيئًا لتحسين حال المرأة؟ هل قمنا بما فرضه علينا العقل والشرع من تربية نفسها وتهذيب أخلاقها وتثقيف عقلها؟ أيجوز أن نترك نساءنا في حالة لا تمتاز عن حالة الأنعام؟ أيصحُّ أن يعيش النصف من أمتنا في ظلمات من الجهل بعضها فوق بعض لا يعرفن فيها شيئًا مما يمرُّ حولهنَّ كما في الكتاب صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون؟ أليس بينهن أمهاتنا وبناتنا وأخواتنا وزوجاتنا، وهنَّ زينة حياتنا الدُّنيا والجزء الذي لا يمكن فصله منا دمنا من دمهنَّ ولحمنا من لحمهنَّ؟ أليس الرجال من النساء والنساء من الرجال وهنَّ نحن ونحن هنَّ؟ أيتمُّ كمال الرجل إذا كانت المرأة ناقصة؟ وهل يسعد الرجال إلَّا بالنساء؟
نحن حرمنا أنفسنا من أكبر لذَّة في الدُّنيا؛ وهي التمتُّع بمحبة ذوي القربى من النساء.
كلٌّ منا يذوق حلاوة الساعات التي تمرُّ به بدون أن يشعر بها حينما يطول الحديث بينه وبين صديق له، وتختلط نفساهما بعضها ببعض حتى يذهل كلٌّ عن أيهما يتكلَّم وأيهما يسمع؛ فهذا السرور يتضاعف بلا شكٍّ إذا وُجِدَ هذا التوافق بين رجل وأمه أو أخته أو زوجته، ولكن يحول الآن بيننا وبينهنَّ عدم التوافق بين عقولنا وعقولهنَّ ونفوسنا ونفوسهنَّ؛ ولهذا فإنا نشفق عليهنَّ ونحنُّ إليهنَّ ونعذرهنَّ، ولكن لا تكمل محبتنا لهنَّ؛ لأن الحبَّ التام هو ذلك التوافق، وهو معدوم.
والإنسان محتاج إلى أن يكون محبًّا، وأن يكون محبوبًا، ومن فضل الله عليه أن وضع بجانبه أمهات وزوجات وغرس في قلوبهنَّ محبته، وفي قلبه محبتهنَّ، وهذه أكبر نعمة منَّ الله علينا بها؛ لأن هذه المحبَّة النقيَّة الطاهرة الكاملة إذا صُرِفَت فيما وُضِعَت له كانت المسليَّة لنا في سجن الحياة، وهوَّنت علينا الآلام والمصائب التي لولا هذه التسلية لأفضت في بعض الأوقات بأقوى رجل منا إلى اليأس؛ فعدم تقديرها قدرها وانصراف العناية عن تنميتها وتكميلها كفران بنعم الله وتقصيرٌ في شكره.
بقي علينا أن ندفع اعتراضًا لا يمكننا السكوت عنه؛ لأنه في الحقيقة هو المانع الوحيد الذي اتَّفقت أغلب العقول على وضعه حاجزًا يحول بين المرأة والتعليم، وهو الخوف من أن التعليم يفسد أخلاقها.
رسخ في أذهان الرجال أن تعليم المرأة وعفتها لا يجتمعان، وقال الأقدمون في ذلك أقوالًا طويلة، وحكايات غريبة، ونوادر سخيفة استدلُّوا بها على نقصان عقل المرأة واستعدادها للغشِّ والحيلة، فلو تعلَّمت لم يزدها التعليم إلَّا براعة في الاحتيال والخدعة، واسترسالًا مع الشهوة. فحذونا مثالهم واعتقدنا أن التعليم يزيد تفنُّنها في المكر، ويعطيها سلاحًا جديدًا تتقوَّى به طبيعتها الخبيثة على ارتكاب المفاسد.
أمَّا أن المرأة الآن ناقصة العقل شديدة الحيلة فهذا مما لا يختلف فيه اثنان، وقد بيَّنا أن هذه الحالة هي أثر من آثار الجهل والانحطاط اللذين عاشت فيهما أجيالًا طويلة، وأنه متى زال السبب فلا شكَّ أن المسبِّب يتبعه، وأمَّا كون التعليم يفسد أخلاقها فهذا ننكره ونشدد النكير عليه؛ فإن التعليم — خصوصًا إذا كان مصحوبًا بتهذيب الأخلاق — يرفع المرأة، ويردُّ إليها مرتبتها واعتبارها، ويكمل عقلها، ويسمح لها أن تفتكر وتتأمَّل وتتبصَّر في أعمالها، وإن وقع أن امرأة تعرف القراءة والكتابة حادت عن الطريق المستقيم، وخاطبت حبيبها بالرسائل الغرامية فقد وقع أن ألوفًا من النساء الجاهلات دنَّسنَ عروضهنَّ، وكان الرسول بينهنَّ وبين رفيقهنَّ خادم، أو خادمة، أو دلالة، أو جارة عجوز.
والحقيقة أن طهارة القلب في الغرائز والطبائع، فإن كانت المرأة صالحة زادها علمها صلاحًا وتقوى، وإن كانت فاجرة لم يزدها العلم فجورًا، وهكذا الحال في الرجال، وضلال فريق من الناس بضرب من ضروب التعليم لا يمنع من تعاطيه؛ فقد قال الله في شأن كتابه: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ.
فأثر التعليم لا يمكن أن يكون ضررًا محضًا، ولا يمكن أن يكون منشئًا حقيقيًّا لضرر، والمرأة المتعلِّمة تخشى عواقب الأمور أكثر مما تخشاه الجاهلة، ولا تقدم بسهولة على ما يضرُّ بحُسْنِ سمعتها، بخلاف الجاهلة فإن من أخلاقها الطيش والخفة، وأذكر ملاحظة واحدة تؤيِّد ما قدَّمته وهو أن نساء الإفرنج على العموم مهما كان حالهنَّ في الباطن يحافظن على الظواهر، فيعيش الواحد بين رجل وامرأة يحبُّ بعضهما بعضًا أيامًا وأشهرًا ولا يكاد تقع منهما هفوة تظهر ما كان خافيًا بينهما، وتراهنَّ في الطريق سائرات مرتديات بجلابيب الجِدِّ والسكينة والوقار يغضضن أبصارهنَّ عن الرجال، وإن نظرن إليهم فمن طرف خفي. أمَّا نساؤنا العفيفات فيغلب فيهنَّ أن يكون باطنهنَّ خيرًا من ظاهرهنَّ، ومتى رأت الواحدة منهنَّ رجلًا نظرت إليه وتأمَّلته والتفتت نحوه ولوت عنقها إليه، ولا شعور لها بأن مثل هذه الحركات التي تصدر منها من غير تمييز تخلُّ بشأنها وتحطُّ من قيمتها واعتبارها، أمَّا الفريق الآخر من النساء في بلادنا ممن طرحن العفة وجرين مع الشهوة فلا تسل عما يصدر منهنَّ في الطرق والمجتمعات العامَّة من الأمور المخلَّة بالأدب التي يستحي القلم عن أن يجري برسمها، هذا الفريق من الأجانب يصعب تمييزه عن الحرائر إلَّا ببعض أمور يعرفها أهل الخلاعة.
ثمَّ إن البطالة التي ألفتها نفوس النساء عندنا وصارت كأنها من لوازم حياتهن هي أمُّ الرذائل، إن كان نساؤنا لا يعملن شيئًا في المنازل، ولا يحترفن بصنعة، ولا يعرفن فنًّا، ولا يشتغلن بعلم، ولا يقرأن كتابًا، ولا يعبدن الله فبماذا يشتغلن حينئذٍ؟ أقول لك وأنت تعلم مثلي أن ما يشغل امرأة الغني والفقير والعالم والجاهل والسيد والخادم هو أمر واحد يتفرَّع إلى ما لا نهاية له، ويتشكَّل في كل آنٍ بشكل جديد، وهو ينبوع رضاها أو سخطها على حسب الأحوال — ذلك الأمر هو علاقتها مع زوجها؛ فتارة تتخيَّل أنه يكرهها، وتارة تظنُّ أنه يحبُّها، وأحيانًا تقارنه بأزواج جاراتها، فيخرج من هذا الامتحان الصعب كاسبًا أو خاسرًا، وأحيانًا تجرِّب ميله لتعلم هل تغيَّر أو هو باقٍ، وأحيانًا تدبِّر طريقة لتغيير قلبه على ذوي قرابته؛ لتنزع منه محبتهم إن كان ودودًا لهم، ولا تغفل عن مراقبة سلوكه مع الخادمات، وتراقب لحظاته عند دخول الزائرات، وتجعله دائمًا موضوع الشكِّ، ومن وسائل الاحتياط ألا تقبل الخادمة إلَّا إذا كانت من شناعة الصورة، وقبح المنظر، وبشاعة الهيئة بحيث يطمئن قلبها، وتأمن ميل زوجها إليها، ولا تستريح من هذا الشاغل إلَّا إذا أفرغته في أذن أخرى من أمثالها، فإذا فرغت من تصويره في العبارات رجعت إلى تمثيله في الخيالات وهكذا؛ لهذا ترى إذا اجتمعت مع جاراتها وصواحباتها تصاعدت مع دخان السجاير وبخار القهوة زفراتها، وارتفع صوتها، فنقص ما بينها وبين زوجها وأقارب زوجها وأصحاب زوجها وحزنها وفرحها وهمَّها وسرورها، وتفرغ كل ما في صدرها حتى لا يبقى سرٌّ من أسرارها — ولو كان متعلِّقًا بالفراش — إلَّا وقد أخبرت به.
هذا إذا كانت المرأة محبَّة لزوجها. أمَّا إذا كانت لا تميل لزوجها، أو كانت غير متزوجة فأكرِّر سؤالي بماذا تشتغل حينئذٍ؟ أمَّا الأولى فإنها تفتكر في طريقة للخلاص من زوجها والبحث عن سواه، أمَّا الثانية فأعظم همها أن تشتغل كذلك بالبحث عن زوج أيًّا كان، ولا تضيع وقتها في حسن انتقاء الرجل الذي يصحُّ أن يكون لها زوجًا؛ فإنها إنما تطلب رجلًا، ومن البديهي أن المرأة التي يكون هذا حالها إن كانت فاسدة الأخلاق ووجدت فرصة لا تتأخر عن انتهازها، ولا تكلِّف نفسها عناء البحث عن صفات الرجل الذي تريد أن تقدِّم له أفضل شيء لديها، وهو نفسها.
وعلى خلاف ذلك يكون أمر النساء المتعلِّمات، إذا جرى القدر عليهنَّ بأمر مما لا يحلُّ لهنَّ لم يكن ذلك إلَّا بعد محبة شديدة يسبقها علم تام بأحوال المحبوب وشمائله وصفاته، فتختاره من بين مئات وألوف ممن تراهم في كل وقت، وهي تحاذر أن تضع ثقتها في شخص لا يكون أهلًا لها، ولا تسلِّم نفسها إلَّا بعد مناضلة يختلف زمنها وقوَّة الدفاع فيها على حسب الأمزجة، وهي في كل حال تستتر بظاهر من التعفُّف، وتخفي ما في نفسها عن أخصِّ الناس بها.
والمعوِّل في كل ذلك هو — كما ذكرته فيما مضى — على الأخلاق التي نشأت عليها المرأة في تربيتها الابتدائية، فإن اعتادت على أن تشغل أوقاتها بالمطالعة، ومزاولة الأعمال المنزلية، وتربَّت بين أهل وعشيرة رأت فيهم أسوة الجد والاستقامة، وغاب من بينهم كل ما يؤثِّر في مشاعرها أثرًا غير صالح، أو يهيِّج حسَّها إلى أمر غير لائق، وتعوَّدت على أن تقيم من عقلها حاكمًا على قواها الحسيَّة، كان من النادر أن تحيد عن الطريق المستقيم، وأن تلقي بنفسها في غمرات الشهوات التي لا تسلم مهما كانت من الخطر والعذاب والندم.
وبالجملة فإنا نرى أن تربية العقل والأخلاق تصون المرأة ولا يصونها الجهل، بل هي الوسيلة العظمى لأن يكون في الأمَّة نساء يعرفن قيمة الشرف وطرق المحافظة عليه، وأرى أن مَن يعتمد على جهل امرأته مثله كمثل أعمى يقود أعمى مصيرهما أن يتردَّيا في أول حفرة تصادفهما في الطريق.