حجاب النساء
سبق لي البحث في الحجاب بوجه إجمالي في كتاب نشرته باللغة الفرنساويَّة من أربع سنين مضت؛ ردًّا على الدوك داركور، وبيَّنت هناك أهم المزايا التي سمح لي المقام بذكرها، ولكن لم أتكلَّم فيما هو الحجاب، ولا في الحدِّ الذي يجب أن يكون عليه، وهنا أقصد أن أتكلَّم في ذلك.
ربما يتوهَّم ناظر أنني أرى الآن رفع الحجاب بالمرَّة، لكن الحقيقة غير ذلك؛ فإنني لا أزال أدافع عن الحجاب، وأعتبره أصلًا من أصول الأدب التي يلزم التمسُّك بها، غير أني أطلب أن يكون منطبقًا على ما جاء في الشريعة الإسلاميَّة، وهو على ما في تلك الشريعة يخالف ما تعارفه الناس عندنا؛ لما عرض عليهم من حب المغالاة في الاحتياط والمبالغة فيما يظنُّون عملًا بالأحكام حتى تجاوزوا حدود الشريعة، وأضرُّوا بمنافع الأمَّة.
والذي أراه في هذا الموضوع هو أن الغربيين قد غلوا في إباحة التكشُّف للنساء إلى درجة يصعب معها أن تتصوَّن المرأة من التعرُّض لمثارات الشهوة، ولا ترضاه عاطفة الحياة، وقد تغالينا نحن في طلب التحجُّب والتحرُّج من ظهور النساء لأعين الرجال حتى صيَّرنا المرأة أداة من الأدوات، أو متاعًا من المقتنيات وحرمناها من كلِّ المزايا العقليَّة والأدبيَّة التي أُعِدَّت لها بمقتضى الفطرة الإنسانيَّة، وبين هذين الطرفين وسط سنبيِّنه — هو الحجاب الشرعي — وهو الذي أدعو إليه.
إني أشعر أن القارئ الذي سار معي إلى هذه النقطة وتبعني فيما دعوته إليه من وجوب تربية النساء ربما يستجمع قواه لمقاومتي فيما أطلب من الرجوع بالحجاب إلى الحدِّ الشرعي، ويستنجد جميع الأوهام التي خزنتها في ذهنه أجيال طويلة ليدافع عن العادة الراسخة الآن، ولكن مهما استجمع من قوَّة الدفاع عنها، ومهما بذل من الجهد للمحافظة عليها فلا سبيل إلى أن تبقى زمنًا طويلًا.
ماذا تفيد الشجاعة والثبات في المحافظة على بناءٍ آل أمره إلى الخراب والتهدُّم، وقد انقضَّ أساسه، وانحلت مواده، ووصل حاله من الاضمحلال إلى أنك ترى في كل سنة تمرُّ جزءًا منه ينهار من نفسه؟ أليس هذا كله صحيحًا؟ أليس حقًّا أن الحجاب في هذه السنين الأخيرة ليس كما كان من عشرين سنة؟ أليس من المُشاهَدِ أن النساء في كثير من العائلات يخرجن لقضاء حاجاتهن ويتعاملن بأنفسهن مع الرجال فيما يتعلَّق بشئونهنَّ، ويطلبن ترويح النفس حيث يصفو الجوُّ ويطيب الهواء، ويصحبن أزواجهنَّ في أسفارهم، ونرى أن هذا التغيُّر حدث في عائلات كانت أشدَّ الطبقات تحرُّجًا من ظهور النساء؟ إذا قارنا بين ما نشاهد اليوم وبين ما كان عليه النساء من عهد ليس بالبعيد عنا حيث كان يشين المرأة أن تخرج من بيت زوجها، وأن يرى طولها أجنبي، وكان إذا عرض للمرأة سفر اتُّخذ كل احتياط ليكون سفرها ليلًا؛ حتى لا يراها أحد من الناس، وحيث كانت أمُّ الرجل أو أخته أو بنته تستحي أن تجلس معه على مائدة واحدة — إذا قارنا بين هذا وذاك نجد بلا شك أن هذه العادة آخذة في الزوال من نفسها.
وكلُّ مَن عرف التاريخ يعلم أن الحجاب دور من الأدوار التاريخية لحياة المرأة في العالم. قال لاروس تحت كلمة خِمار: «كانت نساء اليونان يستعملن الخِمار إذا خرجن ويخفين وجههنَّ بطرف منه، كما هو الآن عند الأمم الشرقية.» وقال: «ترك الدين المسيحي للنساء خِمارهن، وحافظ عليه عندما دخل في البلاد؛ فكنَّ يغطين رءوسهن إذا خرجن في الطريق وفي وقت الصلاة، وكانت النساء تستعمل الخمار في القرون الوسطى خصوصًا في القرن التاسع؛ فكان الخمار يحيط بأكتاف المرأة، ويجرُّ على الأرض تقريبًا. واستمرَّ كذلك إلى القرن الثالث عشر؛ حيث صارت النساء تخفِّف منه إلى أن صار كما هو الآن: نسيجًا خفيفًا يُستعمَلُ لحماية الوجه من التراب والبرد، ولكن بقي بعد ذلك بزمن في إسبانيا وفي بلاد أمريكا التي كانت تابعة لها.»
ومن هذا يرى القارئ أن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصًّا بنا، ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكنه كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريبًا، ثمَّ تلاشت طوعًا لمقتضيات الاجتماع، وجريًا على سُنَّة التقدُّم والترقِّي، وهذه المسألة المهمة يلزم البحث فيها من جهتيها الدينية والاجتماعيَّة.
(١) الجهة الدينية
لو أن في الشريعة الإسلاميَّة نصوصًا تقضي بالحجاب على ما هو معروف الآن عند بعض المسلمين لوجب عليَّ اجتناب البحث فيه، ولَمَا كتبت حرفًا يخالف تلك النصوص مهما كانت مضرَّة في ظاهر الأمر؛ لأن الأوامر الإلهيَّة يجب الإذعان لها بدون بحث ولا مناقشة، لكننا لا نجد نصًّا في الشريعة يوجب الحجاب على هذه الطريقة المعهودة. وإنما هي عادة عرضت عليهم من مخالطة بعض الأمم؛ فاستحسنوها، وأخذوا بها، وبالغوا فيها، وألبسوها لباس الدين كسائر العادات الضارة التي تمكَّنت في الناس باسم الدين والدين براء منها؛ ولذلك لا نرى مانعًا من البحث فيها، بل نرى من الواجب أن نُلمَّ بها ونبيِّن حكم الشريعة في شأنها وحاجة الناس إلى تغييرها.
جاء في الكتاب العزيز: قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ۚ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ۗ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا ۖ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ ۖ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ ۖ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ ۚ وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ.
أباحت الشريعة في هذه الآية للمرأة أن تظهر بعض أعضاء من جسمها أمام الأجنبي عنها، غير أنها لم تسمِّ تلك المواضع، وقد قال العلماء إنها وكلت فهمها وتعيينها إلى ما كان معروفًا في العادة وقت الخطاب، واتفق الأئمة على أن الوجه والكفين مما شمله الاستثناء في الآية، ووقع الخلاف بينهم في أعضاء أُخَر كالذراعين والقدمين.
خوَّلت الشريعة للمرأة ما للرجل من الحقوق، وألقت عليها تَبعة أعمالها المدنيَّة والجنائيَّة؛ فللمرأة الحقُّ في إدارة أموالها والتصرُّف فيها بنفسها. فكيف يمكن لرجل أن يتعاقد معها من غير أن يراها ويتحقَّق شخصيتها؟
ومن غريب وسائل التحقُّق أن تحضر المرأة مغلَّفة من رأسها إلى قدميها، أو تقف من وراء ستار أو باب، ويُقال للرجل ها هي فلانة التي تريد أن تبيعك دارَها أو تقيمك وكيلًا في زواجها مثلًا؛ فتقول المرأة بعت أو وكَّلت، ويكتفي بشهادة شاهدين من الأقارب أو الأجانب على أنها هي التي باعت أو وكَّلت، والحال أنه ليس في هذه الأعمال ضمانة يطمئن لها أحد، وكثيرًا ما أظهرت الوقائع القضائية سهولة استعمال الغشِّ والتزوير في مثل هذه الأحوال. فكم رأينا أن امرأة تزوَّجت بغير علمها، وأجَّرت أملاكها بدون شعورها، بل تجرَّدت من كل ما تملكه على جهل منها، وذلك كله ناشئ من تحجُّبها، وقيام الرجال دونها يحولون بينها وبين مَن يعاملها.
كيف يمكن لامرأة محجوبة أن تتَّخذ صناعة أو تجارة للتعيُّش منها إن كانت فقيرة؟ كيف يمكن لخادمة محجوبة أن تقوم بخدمة بمنزل فيه رجال؟ كيف يمكن لتاجرة محجوبة أن تدير تجارتها بين الرجال؟ كيف يتسنَّى لزارعة محجوبة أن تفلح أرضها وتحصد زرعها؟ كيف يمكن لعاملة محجوبة أن تباشر عملها إذا أجَّرت نفسها للعمل في بناء بيت أو نحوه؟
وبالجملة، فقد خلق الله هذا العالم، ومكَّن فيه النوع الإنساني؛ ليتمتَّع من منافعه بما تسمح له قواه في الوصول إليه، ووضع للتصرُّف فيه حدودًا تتبعها حقوق، وسوَّى في التزام الحدود والتمتُّع بالحقوق بين الرجل والمرأة من هذا النوع، ولم يقسِّم الكون بينهما قسمة إفراز، ولم يجعل جانبًا من الأرض للنساء يتمتَّعن بالمنافع فيه وحدهنَّ، وجانبًا للرجال يعملون فيه في عزلة عن النساء، بل جعل متاع الحياة مشتركًا بين الصنفين، شائعًا تحت سلطة قواهما بلا تمييز — فكيف يمكن مع هذا لامرأة أن تتمتَّع بما شاء الله أن تتمتَّع به مما هيَّأها له بالحياة ولواحقها من المشاعر والقوى، وما عرضه عليها لتعمل فيه من الكون المشترك بينها وبين الرجال إذا حُظِر عليها أن تقع تحت أعين الرجال إلَّا مَن كان من محارمها؟ لا ريب أن هذا مما لم يسمح به الشرع ولن يسمح به العقل؛ لهذا رأينا أن الضرورة أحالت الثبات على هذا الضرب من الحجاب عند أغلب الطبقات من المسلمين كما نشاهده في الخادمات والعاملات وسكان القرى حتى من أهل الطبقة الوسطى، بل وبعض أهل الطبقة العليا من أهل البادية والقرى، والكل مسلمون، بل قد يكون الدين أمكن فيهم منه في أهل المدن!
إذا وقفت المرأة في بعض مواقف القضاء خصمًا أو شاهدًا كيف أن يسوغ لها ستر وجهها؟ مضت سنون والخصوم وقضاة المحاكم أنفسهم غافلون عما يهمُّ في هذه المسألة، متساهلون في رعاية الواجب فيها؛ فهم يقبلون أن تحضر المرأة أمامهم مستترة الوجه وهي مدَّعية أو مدَّعى عليها أو شاهدة، وذلك منهم استسلامًا للعوائد، وليس بخافٍ ما في هذا التسامح من الضرر الذي يصعب استمراره فيما أظنُّ؛ ذلك لعدم الثقة بمعرفة الشخص المستتر؛ ولما في ذلك من سهولة الغشِّ، كلُّ رجل يقف مع امرأة موقف المخاصمة من همِّه أن يعرف تلك التي تخاصمه، وله في ذلك فوائد كثيرة، من أهمها صحَّة التمسُّك بقولها، ولا أظنُّ أنه يسوغ للقاضي أن يحكم على شخص مستتر الوجه، ولا أن يحكم له، ولا أظنُّ أنه يسوغ له أن يسمع شاهدًا كذلك، بل أقول إن أول واجب عليه أن يتعرَّف وجه الشاهد والخصم خصوصًا في الجنايات، وإلَّا فأي معنى لما أوجبه الشرع والقانون من السؤال عن اسم الشخص وسنِّه وصناعته ومولده؟ وماذا تفيد معرفة هذه الأمور كلها إذا لم يكن معروفًا بشخصه؟
والحكمة في أن الشريعة الغرَّاء كلَّفت المرأة بكشف وجهها عند تأدية الشهادة كما مرَّ ظاهرة؛ وهي تمكُّن القاضي من التفرُّس في الحركات التي تبدو على الوجه، والعلامات التي تظهر عليه، فيقدِّر الشهادة بذلك قدرها.
لا ريب أن ما ذكرنا من مضار التحجُّب يندرج في حكمة إباحة الشرع الإسلامي لكشف المرأة وجهها وكفيها — ونحن لا نريد أكثر من ذلك.
واتفق أئمة المذاهب أيضًا على أنه يجوز للخاطب أن ينظر إلى المرأة التي يريد أن يتزوَّجها، بل قالوا بندبه عملًا بما رُوِي عن النبي؛ حيث قال لأحد الأنصار — وكان قد خطب امرأة: «أنظرت إليها؟» قال: لا. قال: «انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما.»
هذه هي نصوص القرآن، وروايات الأحاديث، وأقوال أئمة الفقه كلها واضحة جليَّة في أن الله تعالى قد أباح للمرأة كشف وجهها وكفيها، وذلك للحِكَم التي لا يصعب إدراكها على كل مَن عقل.
هذا حكم الشريعة الإسلاميَّة كله يسر لا عسر فيه لا على النساء ولا على الرجال، ولا يُضرَب بين الفريقين بحجاب لا يخفى ما فيه من الحرج عليهما في المعاملات، والمشقة في أداء كل منهما ما كُلِّف به من الأعمال سواء كان تكليفًا شرعيًّا أو تكليفًا قضت به ضرورة المعاش.
أمَّا دعوى أن ذلك من آداب المرأة فلا إخالها صحيحة؛ لأنه لا أصل يمكن أن ترجع إليه هذه الدعوى، وأي علاقة بين الأدب وبين كشف الوجه وستره؟ وعلى أي قاعدة بُنِي الفرق بين الرجل والمرأة؟ أليس الأدب في الحقيقة واحدًا بالنسبة للرجال وللنساء وموضوعه الأعمال والمقاصد لا الأشكال والملابس؟
وأمَّا خوف الفتنة الذي نراه يطوف في كل سطر مما يُكتَبُ في هذه المسألة تقريبًا؛ فهو أمر يتعلَّق بقلوب الخائفين من الرجال، وليس على النساء تقديره، ولا هنَّ مطالبات بمعرفته، وعلى مَن يخاف الفتنة من الرجال أن يغضَّ بصره، كما أنه على مَن تخافها من النساء أن تغضَّ بصرها، والأوامر الواردة في الآية الكريمة موجَّهة إلى كلٍّ من الفريقين بغضِّ البصر على السواء؛ وفي هذا دلالة واضحة على أن المرأة ليست بأولى من الرجل بتغطية وجهها.
عجبًا! لِمَ لم تُؤمر الرجال بالتبرقع وستر وجوهِهم عن النساء إذا خافوا الفتنة عليهنَّ؟ هل اعتُبِرَت عزيمة الرجل أضعف من عزيمة المرأة، واعتُبِرَ الرجل أعجز من المرأة عن ضبط نفسه والحكم على هواه، واعتُبِرَت المرأة أقوى منه في كل ذلك حتى أُبيح للرجال أن يكشفوا وجوههم لأعين النساء مهما كان لهم من الحُسْنِ والجمال. ومُنِعَ النساء من كشف وجوههنَّ لأعين الرجال منعًا مطلقًا؛ خوف أن ينفلت زمام هوى النفس من سلطة عقل الرجل فيسقط في الفتنة بأية امرأة تعرَّضت له مهما بلغت من قبح الصورة وبشاعة الخَلق؟ إن زعم زاعم صحَّة هذا الاعتبار رأينا هذا اعترافًا منه بأن المرأة أكمل استعدادًا من الرجل — فلِمَ تُوضَعُ حينئذٍ تحت رقِّه في كل حال؟ فإن لم يكن هذا الاعتبار صحيحًا فلِمَ هذا التحكُّم المعروف؟
على أن البرقع والنقاب مما يزيد في خوف الفتنة؛ لأن هذا النقاب الأبيض الرقيق الذي تبدو من ورائه المحاسن وتختفي من خلفه العيوب، والبرقع الذي يختفي تحته طرف الأنف والفم والشدقان، ويظهر منه الجبين، والحواجب والعيون، والخدود، والأصداغ، وصفحات العنق — هذان الساتران يُعدَّان في الحقيقة من الزينة التي تحثُّ رغبة الناظر، وتحمله على اكتشاف قليل خفي بعد الافتتان بكثير ظهر، ولو أن المرأة كانت مكشوفة الوجه لكان في مجموع خلقها ما يردُّ في الغالب البصر عنها.
ليست أسباب الفتنة ما يبدو من أعضاء المرأة الظاهرة، بل من أهم أسبابها ما يصدر عنها من الحركات في أثناء مشيها، وما يبدو من الأفاعيل التي ترشد عما في نفسها، والنقاب والبرقع من أشدِّ أعوان المرأة على إظهار ما تظهر وعمل ما تعمل لتحريك الرغبة؛ لأنهما يخفيان شخصيتها فلا تخاف أن يعرفها قريب أو بعيد فيقول فلانة أو بنت فلان أو زوجة فلان كانت تفعل كذا؛ فهي تأتي كلَّ ما تشتهيه من ذلك تحت حماية ذاك البرقع وهذا النقاب، أمَّا لو كان وجهها مكشوفًا فإن نسبتها إلى عائلتها أو شرفها في نفسها يشعرانها الحياء والخجل، ويمنعانها من إبداء حركة أو عمل يتوهَّم منه أدنى رغبة منها في استلفات النظر إليها.
والحق أن الانتقاب والتبرقُع ليسا من المشروعات الإسلاميَّة لا للتعبُّد ولا للأدب، بل هما من العادات القديمة السابقة على الإسلام والباقية بعده، ويدلُّنا على ذلك أن هذه العادة ليست معروفة في كثير من البلاد الإسلاميَّة، وأنها لم تزل معروفة عند أغلب الأمم الشرقية التي لم تتدين بدين الإسلام.
إنما من مشروعات الإسلام ضرب الخُمُر على الجيوب، كما هو صريح الآية، وليس في ذلك شيء من التبرقُع والانتقاب.
هذا ما يتعلَّق بكشف الوجه واليدين، أمَّا ما يتعلَّق بالحجاب بمعنى قصر المرأة في بيتها، والحظر عليها أن تخالط الرجال؛ فالكلام فيه ينقسم إلى قسمين: ما يختصُّ بنساء النبي، وما يتعلَّق بغيرهن من نساء المسلمين، ولا أثر في الشريعة لغير هذين القسمين.
أمَّا القسم الأول فقد ورد فيه ما يأتي من الآيات:
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَن تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا.
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاءِ ۚ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَّعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى.
(٢) الجهة الاجتماعيَّة
إنا نطلب تخفيف الحجاب، وردَّه إلى أحكام الشريعة الإسلاميَّة لا لأننا نميل إلى تقليد الأُمم الغربيَّة في جميع أطوارها وعوائدها لمجرَّد التقليد، أو للتعلُّق بالجديد لأنه جديد؛ فإننا نتمسَّك بعوائدنا الإسلاميَّة ونحترمها، ونرى أنها مزاج الأمَّة التي تتماسك به أعضاؤها، ولسنا ممن ينظر إليها نظره إلى الملابس يخلع ثوبًا كل يوم ليلبس غيره. وإنما نطلب ذلك؛ لأننا نعتقد أن لردَّ الحجاب إلى أصله الشرعي مدخلًا عظيمًا في حياتنا المعاشية. لسنا في مقام استحسان أمر واستقباح آخر لما فيه من موافقة الذوق أو منافرته، وإنما نحن بصدد ما به قوام حياة المرأة، أو ما به قوام حياتنا.
كلَامُنا الآن في هل يلزمنا أن نعيش ونحيا أو نقضي على أنفسنا بأن نموت ونفنى؟ هل علينا أن نهتزَّ مكاننا ونرضى بما وجدنا عليه آباءنا والناس من حولنا يتسابقون إلى منابع السعادة وموارد الرفاهية ومعاهد القوَّة، ويمرُّون علينا سراعًا ونحن شاخصون إليهم إمَّا غير شاعرين بموقفنا وإمَّا شاعرين ولكنا حيارى ذاهلون؟ أو من الواجب علينا أن ننظر كيف تقدَّم الناس وتأخَّرنا. كيف تقوَّوا وضعفنا، كيف سعدوا وشقينا، ثمَّ نرجع أبصارنا كرَّة ثانية في ديننا وما كان عليه أسلافنا الصالحون، ثمَّ نقتدي بهم في استماع القول واتباع أحسنه، وانتقاد الفعل والأخذ بأفضله، ونسير في طرق السعادة والارتقاء والقوَّة مع السائرين؟ ذلك هو الأمر الخطير الذي وجَّهنا إليه نظرنا.
ها هي مسألة الحجاب مسألة من أهم المسائل، ولها مكان عظيم في شئون الأمَّة. إذا ترك القارئ نفسه لعواطفه واستسلم إلى عوائده ظهر له الحجاب في مظهر حسن؛ لأنه ألِفه في صغره ونشأ بين المحجبات، وعاش معهنَّ حتى صار ذلك عادة مألوفة له، ثمَّ إنه ورثه عن آبائه وأجداده فلا يستغربه بل يميل إليه ميلًا غريزيًّا ليس للعقل فيه مدخل وإنما هو حركة ميكانيكية ليس إلَّا. وأمَّا إذا نزع من نفسه العوامل التي أحدثت فيه تلك العواطف، وخلع ما ألبسه إيَّاه أسلافه من أردية الوراثة، وبحث في المسألة من جميع جهاتها بحث مَن لم يتأثر إلَّا بالتجربة التي تجري في الوقائع الصحيحة، وحصَّل لنفسه رأيًا من ملاحظاته الشخصية. وكان ممن تنجذب نفسه إلى الحق، وتنبعث إلى السعي للوقوف عليه وتأييده لما له عندها من المنزلة العليَّة والمكان الرفيع، وكان لا يغشُّ نفسه بالتزويق والتزيين الوهميين، وإنما يسمع صوت وجدانه السليم، ويرجِّحه على كل هوى سواه مهما كانت درجته من التمكُّن فيمَن حوله من الناس، فعند ذلك يرى أن المرأة لا تكوِّن — ولا يمكن أن تكوِّن — وجودًا تامًّا إلَّا إذا ملكت نفسها، وتمتَّعت بحريتها الممنوحة لها بمقتضى الشرع والفطرة معًا، ونمت ملكاتها إلى أقصى درجة يمكنها أن تبلغها، ويرى أن الحجاب على ما ألفناه مانع عظيم يحول بين المرأة وارتقائها؛ وبذلك يحول بين الأمَّة وتقدُّمها.
بيَّنا عند الكلام على تربية المرأة ما لها من المزايا الجليلة والآثار الحسنة التي تترتَّب عليها في شئونها نفسها وشئون بيتها، وفي الاجتماع الذي هي فيه، وذكرنا أن من أكبر أسباب ضعف الأمَّة حرمانها من أعمال النساء، وأن تربية الطفل لا تصلح إلَّا إذا كانت أمُّه مرباة، وقرَّرنا أن الولد ذكرًا كان أو أنثى لا يملك صحَّة، ولا خلة، ولا ملكة، ولا عقلًا، ولا عاطفة إلَّا من طريقين: الوراثة والتربية، واستدللنا على أن الولد يرث من أمه قدر ما يرث من والده على الأقل، وأن تأثير الأم في تربية الطفل بعد ولادته أعظم من تأثير أبيه، ونريد أن نبرهن هنا على أن تربية الأم نفسها لا يمكن أن تتمَّ إذا استمرَّ حجاب النساء على ما هو عليه الآن حتى إذا انتهى القارئ من تلاوة هذا الباب رأى كيف ترتبط المسائل بعضها ببعض، وكيف أن أصغرها يتوقَّف عليه أعظمها.
إذا أخذنا بنتًا وعلَّمناها كل ما يتعلَّمه الصبي في المدارس الابتدائية، وربَّيناها على أخلاق حميدة، ثمَّ قصرناها في البيت ومنعناها عن مخالطة الرجال فلا شكَّ أنها تنسى بالتدريج ما تعلَّمته وتتغيَّر أخلاقها على غير شعور منها، وفي زمن قليل لا نجد فرقًا بينها وبين أخرى لم تتعلَّم أصلًا؛ ذلك لأن المعارف التي يكسبها الإنسان وهو في سن الصبا لا يحيط بدقائقها ومناشئها؛ ولذلك لا يكون علمه فيها علمًا تامًّا كاملًا.
وإنما يتمُّ له شيء من ذلك إذا بلغ سن الرجولية، واستمرَّ على مزاولة العمل والاشتغال؛ فالصبي يحفظ أسماء الأشياء أكثر مما يفهم معانيها، وأكبر فائدة يستفيدها في هذا الطور من التعليم إنما هي التعوُّد على العمل، وحب استطلاع الحقائق، والاستعداد للدراسة. فإن وقف سير التعليم في هذا السنِ اضمحلت المعلومات المستفادة، وانتثرت من الذهن شيئًا فشيئًا، وكان ما مضى من الوقت في التعلم زمنًا ضائعًا.
ولمَّا كان السنُّ الذي تُحجَّب فيه المرأة — وهو ما بين الثانية عشرة والرابعة عشرة من عمرها — هو السنُّ الذي يبتدئ فيه الانتقال من الصبا إلى الرجولية، وتظهر فيه حاجة المرأة كما تظهر حاجة الرجل إلى اختبار العالم والبحث في الحياة وما تستدعيه، وهو السنُّ الذي تزهر فيه المَلَكات وتظهر الميول والوجدانات، وهو السنُّ الذي يتعلَّم فيه الإنسان نوعًا آخر من العلم أنفس مما تعلمه في المدارس وهو علم الحياة، وطريق تحصيل ذلك العلم إنما هو بالاختلاط مع الناس واختبارهم واستعراف أخلاقهم. وفي هذا السنِّ يبتدئ الإنسان يعرف شعبه وملَّته ووطنه ودينه وحكومته. وفي هذا السنِّ يبتدئ استعداد كلِّ شخص وميله وكفاءته في الظهور؛ فيندفع إلى الأعمال اندفاع الماء في المنحدرات، وهو سنُّ الآمال والرغائب والنشاط، فإن حُجِّبت فيه الفتاة، وانقطعت عن هذا العالم بعد أن كانت المواصلة بينه وبينها مستمرَّة؛ وقف نموها بل رجعت القهقرى، وفقدت كل ما كان يزيِّن نفسها، ونسيت كل معارفها، وخابت كل مساعيها، وضاعت آمالها وآمال الناس فيها، ولا ذنب عليها في ذلك؛ فهي عاجزة مسكينة قضت عليها عادة سخيفة بالحرمان المؤبَّد من الترقِّي والكمال.
ربما يُقال إن في طوع المرأة وإمكانها أن تستكمل تربيتها وتتمَّ دراستها في بيتها، وهو وهم باطل؛ فإن الرغبة في اكتساب العلم والتشوُّف لاستطلاع ما عليه الناس في أحوالهم وأعمالهم، وحب استكشاف الحقائق، وكل ما يستميل النفس إلى المطالعة والدرس لا يتوفر للمرأة مع حجابها؛ ذلك لأن الحجاب يحبس المرأة في دائرة ضيِّقة فلا ترى، ولا تسمع، ولا تعرف إلَّا ما يقع فيها من سفاسف الحوادث، ويحول بينها وبين العالم الحي؛ وهو عالم الفكر والحركة والعمل فلا يصل إليها منه شيء، وإن وصل إليها بعضه فلا يصل إلَّا محرَّفًا مقلوبًا، أمَّا إذا استمرَّت المواصلات بينها وبين العالم الخارجي؛ فإنها تكتسب بالنظر في حوادثه وتجربة ما يقع فيه معارف غزيرة تنبث فيها من المخالطات والمعاشرات والمشاهدة والسماع ومشاركة العالم في جميع مظاهر الحياة، وقد يكفي في إعانتها على كسب ذلك كله، والانتفاع منه ما حصَّلته بالتعلُّم من المعارف الأولى، وربما يمكنها أن تستغني عن تعلُّم تلك المعارف الأولى إذا حسنت الفطرة وجادت القريحة.
وعلى فرض أن المرأة يمكنها في احتجابها أن تستكمل ما نقص منها علمًا وأدبًا بقراءة الكتب، فمن البديهي أن كلَّ ما تحصِّله من الكتب يُعدُّ من قبيل الخيالات إن لم تمكِّنه التجربة ويؤكِّده العمل، ولو عاملنا أخوتها الصبيان كما نعاملها وحجبناهم في البيوت حتى بلغوا سنَّ الخامسة عشرة لكانت النتيجة واحدة، بل لو أخذنا رجلًا بلغ الأربعين من عمره، وحجبناه عن العالم، وألزمناه أن يعيش بين أربعة جدران وسط النساء والأطفال والخدم لشعر بانحطاط تدريجي في قواه العقليَّة والأدبيَّة، ولا بُدَّ أن يأتي يوم يجد فيه نفسه مساويًا لهم؛ فإذًا يكون من الخطأ أن نتصوَّر أننا متى علَّمنا بناتنا جاز لنا أن نحجِّبهنَّ متى بلغن سنًّا مخصوصًا، وأن مجرَّد ذلك التعليم الأول يكفي في التوقِّي من الضرر؛ لأن الضرر في الحجاب عظيم، وهو ضياع ما كسبنه بالتعلُّم وحرمانهنَّ من الترقِّي في مستقبل العمر، والأمر في ذلك واضح لا يحتاج إلى دليل، ويكفينا أن نرجع إلى أنفسنا ونخطر ببالنا ما كنا عليه في الخامسة عشرة من عمرنا، فيتبيَّن لنا أننا كنا أشبه بالأطفال لا نكاد نعلم شيئًا من العالم، ولا نعرف للحياة قيمة، ولا نميِّز كمال التمييز بين ما لنا وما علينا، ولا تمتاز لدينا حقوقنا وواجباتنا، وليس لنا عزيمة ثابتة في مجاهدة أنفسنا، وأن أكبر عامل له أثر في تكميلنا هو استمرار تعلُّمنا، وتربية عقولنا ونفوسنا استمرارًا لا انقطاع معه، وأن ذلك لم يتمَّ لنا بقراءة الكتب بل بالمشاهدة، والممارسة، والمخالطة، وتجربة الناس والحوادث.
وفي الحقيقة أن تربية الإنسان ليس لها سنٌّ معيَّن تنقطع بعده ولا حدٌّ معروف تنتهي عنده؛ فهي لا تُنَال بحفظ مقدار من العلوم والمعارف يجهد الإنسان نفسه في اكتسابه في سنين معدودة ثمَّ يقضي حياته بعد ذلك في الراحة.
التربية ليست ذلك الشيء البسيط الذي يفهمه عامَّة الناس حيث يتصوَّرون أنها عبارة عن تخزين كمِّيَّة من المعارف المقرَّرة في بروجرامات المدارس ثمَّ امتحان ثمَّ شهادة ليس بعدها إلَّا البطالة والجمود، وإنما التربية هي العمل المستمرُّ الذي تتوسَّل به النفس إلى طلب الكمال من كل وجوهه، وهذا العمل لا بُدَّ منه في جميع أدوار الحياة حيث يبتدئ من يوم الولادة، ولا ينتهي إلَّا بالموت.
وإذا أراد القارئ أن يتبيَّن صحَّة ما أسلفته من مضار الحجاب على وجه لا يبقى للريب معه مجال فما عليه إلَّا أن يقارن بين امرأة من أهله تعلَّمت، وبين أُخرى من أهل القرى أو من المُتجِرَات في المدن لم يسبق لها تعليم؛ فإنه يجد الأولى تُحسِنُ القراءة والكتابة، وتتكلَّم بلغة أجنبية، وتلعب البيانو ولكنها جاهلة بأطوار الحياة بحيث لو استقلَّت بنفسها لعجزت عن تدبير أمرها وتقويم حياتها، وأن الثانية مع جهلها قد أحرزت معارف كثيرة اكتسبتها من المعاملات والاختبار وممارسة الأعمال والدعاوى والحوادث التي مرَّت عليها، وأن كلَّ ذلك قد أفادها اختبارًا عظيمًا؛ فإذا تعاملتا غلبت الثانية الأولى.
ومن هذا نرى أغلب نساء نصارى الشرق وإن لم يتعلَّمن في المدارس أكثر مما يتعلَّمه بعض بناتنا الآن فهنَّ يعرفن لوازم الحياة؛ لكثرة ما رأين وسمعن باختلاطهنَّ بالرجال؛ فقد ورد على عقولهنَّ معانٍ وأفكار وصور وخواطر غير ما استفدنه من الكتب، فارتفعن بفضل هذا الاختلاط إلى مرتبة أعلى من المرأة المسلمة المواطنة لهنَّ مع أنهنَّ من جنس واحد وإقليم واحد.
نرى في المرأة عندنا من الاستعداد الطبيعي ما يؤهِّلها لأن تكون مساوية لغيرها من الأمم الأُخرى لكنها اليوم في حالة انحطاط شديد؛ وليس لذلك سبب آخر غير كوننا جرَّدناها من العقل والشعور، وهضمنا حقوقها المقرَّرة لها، وبخسناها قيمتها.
وقد جرَّنا حبُّنا لحجاب النساء إلى إفساد صحَّتهنَّ؛ فألزمناهنَّ القعود في المساكن، وحرمناهنَّ الهواء والشمس وسائر أنواع الرياضة البدنيَّة والعقليَّة.
ليس فينا مَن لا يعرف أن من النساء مَن لا يفارقن بيوتهنَّ لا ليلًا ولا نهارًا، بل يلازمنها ولا يرين لهنَّ شريكًا في الوجود إلا جارية، أو خادمة، أو زائرة تجيئها لحظات من الزمن وتنصرف عنها، ولا يرَين أزواجهنَّ إلَّا عند النوم؛ لأنهم يقضون نهارهم في أشغالهم، ويقضون الجزء العظيم من ليلهم عند جيرانهم أو في الأماكن العمومية.
ليس فينا مَن لا يعرف أن نساءً كثيرة فقدن صحَّتهنَّ في هذه المعيشة المنحطَّة، وفي هذا السجن المؤبَّد، وأنهنَّ عشن عليلات الجسم والروح ولم يذقن شيئًا من لذَّة هذه الحياة الدُّنيا.
لذلك كان أغلب نسائنا مصابًا بالتشحُّم، وفقر الدم، ومتى وَلَدت المرأة مرَّة تداعت بنيتها، وذبل جسمها، وظهرت عجوزًا وهي في ريعان شبابها، كل ذلك منشؤه خوف الرجال من الإخلال بالعفَّة!
على أن القول بأن الحجاب موجب العفَّة وعدمه مجلبة الفساد قول لا يمكن الاستدلال عليه؛ لأنه لم يقم أحد إلى الآن بإحصاءٍ عام يمكن أن نعرف به عدد وقائع الفحش بالضبط والدقَّة في البلاد التي تعيش فيها النساء تحت الحجاب، وفي البلاد الأخرى التي تتمتَّع فيها بحريتهنَّ، ولو فُرِضَ وقوع مثل ذلك الإحصاء لما قام دليلًا على الإثبات أو النفي في المسألة؛ لأن ازدياد الفساد في البلاد ونقصه مما يرتبط بأمور كثيرة ليس الحجاب أهمها.
ومن المعروف أن لطرق معيشة الأمَّة، ومزاجها، وإقليمها، وآدابها، وتربيتها دخلًا عظيمًا في فساد أخلاقها وصلاحها؛ ولهذا نرى الفساد يختلف في بلاد أوروبا بين بلد وآخر اختلافًا ظاهرًا، ونرى أيضًا مثل هذا الاختلاف بين البلاد التي لا تزال فيها عادة الحجاب باقية، بل نرى اختلافًا كبيرًا بين زمن وزمن في بلد واحد، والتجارب ترشد إلى أمر يمكن أخذه دليلًا على أن الإطلاق أدنى بالنساء إلى العفَّة من الحجاب؛ فمن المُشَاهَد الذي لا جدال فيه أن نساء أمريكا هنَّ أكثر نساء الأرض تمتُّعًا بالحرية، وهنَّ أكثرهنَّ اختلاطًا بالرجال حتى إن البنات في صباهنَّ يتعلَّمن مع الصبيان في مدرسة واحدة، فتقعد البنت بجانب الصبي لتلقِّي العلوم، ومع هذا يقول المطَّلعون على أحوال أمريكا إن نساءها أحفظ للأعراض، وأقوم أخلاقًا من غيرهنَّ، وينسبون صلاحهنَّ إلى شدَّة الاختلاط بين الصنفين من الرجال والنساء في جميع أدوار الحياة، ومن المُشَاهَد الذي لا نزاع فيه أيضًا أن نساء العرب ونساء القرى المصريَّة مع اختلاطهنَّ بالرجال على ما يشبه الاختلاط في أوروبا تقريبًا أقلُّ ميلًا للفساد من ساكنات المدن اللائي لم يمنعهنَّ الحجاب من مطاوعة الشهوات والانغماس في المفاسد.
وهذا مما يحمل على الاعتقاد بأن المرأة التي تخالط الرجال تكون أبعد عن الأفكار السيئة من المرأة المحجوبة؛ والسبب في ذلك أن الأولى تعودَّت رؤية الرجال وسماع كلامهم؛ فإذا رأت رجلًا أيًّا كان لم يحرِّك منظره فيها شيئًا من الشهوة، بل لو عرض عليها شيء من هذا فإنما يكون بعد مصاحبة طويلة وقضاء أوقات في خلوات كثيرة يحدث فيها ما قد يُشْعِرُ كلَّ واحد منهما بانجذاب إلى الآخر؛ وهذا هو ما منعته الشريعة وبيَّنا امتناعه فيما سبق، أمَّا الثانية فمجرَّد وقوع نظرها على رجل يحدث في نفسها خاطر اختلاف الصنف من غير شعور، ولا تعمُّد ولا نيَّة سيئة، وإنما هو أثر منظر الرجل الأجنبي؛ لأنه قد وقَر في نفسها أن لا تراه ولا يراها، فمجرَّد النظر إليه كافٍ في إثارة هذا الخاطر.
وقد شاهدت مرارًا كما شاهد غيري هذا الأثر عينه في الرجال؛ فرأيت أن الرجل الذي لم يتعوَّد الاختلاط بالنساء إن لم يغلبه سلطان التهذيب القوي لا يملك نفسه إذا جلس بينهنَّ، فلا تشبع عينه من النظر إليهن ومن التأمُّل في محاسنهن، وينسى في ذلك كل أدب ولياقة، وربما طلب الوسائل لملامستهنَّ بيدهِ أو مماستهنَّ بكتفه، ويندفع إلى أقوال وأعمال تشمئز منها نفوس الحاضرين، كأنه يظنُّ — بل هو يظنُّ بالفعل — أنه لا معنى لاجتماع الرجل مع المرأة في مكان واحد إلَّا أن يتمتَّع كل منهما بشهوته مع الآخر. بخلاف الرجل الذي اعتاد على مخالطة النساء فإنه لا يكاد يجد في نفسه أثرًا من رؤيتهن أكثر مما يجده عند رؤية الرجال، ولا يشعر بأدنى اضطراب في حواسه، ولا في مشاعره، فمن ألزم لوازم الحجاب أنه يهيئ الذهن في الرجال وفي النساء معًا لتخيُّل الشهوة بمجرَّد النظر أو سماع الصوت، وهذا يوضح لنا السبب فيما نشاهده كلَّ يوم من أن المرأة إذا رأت رجلًا في الطريق أودعتها الضرورة لمخاطبته تتصنَّع في حركاتها وصوتها ما تظنُّ أنه يروق في عين الرجل — والرجل كذلك.
وقد شاهدت وشاهد كل إنسان ما يخالف ذلك في بلاد أوروبا وفي الآستانة وفي القرى المصريَّة وبين الأعراب في البادية، حيث يمرُّ الرجال والنساء بعضهم بجانب بعض وكتفًا لكتف لا يلتفت أحدهم إلى الآخر: ولا ريب أن استلفات الذهن دائمًا إلى اختلاف الصنف من أشدِّ العوامل في إثارة الشهوة.
وبديهي أن المرأة التي تحافظ على شرفها وعفَّتها، وتصون نفسها عما يوجب العار وهي مطلقة غير محجوبة لها من الفضل والأجر أضعاف ما يكون للمرأة المحجوبة. فإن عفَّة هذه قهرية أمَّا عفَّة الأُخرى فهي اختيارية؛ والفرق كبير بينهما، ولا أدري كيف نفتخر بعفَّة نسائنا ونحن نعتقد أنهنَّ مصونات بقوَّة الحرَّاس، واستحكام الأقفال، وارتفاع الجدران؟
أيُقبَلُ من مسجون دعواه أنه رجل طاهر لأنه لم يرتكب جريمة وهو في الحبس؟ فإذا كانت نساؤنا محبوسات محجوبات فكيف يمكنهنَّ أن يتمتَّعن بفضيلة العفَّة؟ وما معنى أن يُقال إنهنَّ عفيفات؟ إن العفَّة هي خلق للنفس تمتنع به من مقارفة الشهوة مع القدرة عليها، ولعل التكليف الإلهي إنما يتعلَّق بما يقع تحت الاختيار لا بما يُستكره عليه من الأعمال؛ فالعفَّة التي تُكلَّف بها النساء يجب أن تكون من كسبهنَّ ومما يقع تحت اختيارهنَّ لا أن يكنَّ مستكرهات عليها، وإلَّا فلا ثواب لهنَّ في مجرَّد الكفِّ عن المنكر؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: «مَن عشق فعفَّ فكتم فمات فهو شهيد.»
والحقيقة أننا نعمل عمل مَن يعتقد أن النساء عندنا لسن أهلًا للعفَّة، أليس من الغريب ألا يوجد رجل فينا يثق بامرأة أبدًا مهما اختبرها ومهما عاشت معه؟ أليس من العار أن نتصوَّر أن أمهاتنا وبناتنا وزوجاتنا لا يعرفن صيانة أنفسهن؟ أيليق ألا نثق بهؤلاء العزيزات المحبوبات الطاهرات وأن نسيء الظنَّ بهنَّ إلى هذا الحدِّ.
إني أسأل كل إنسان خالي الغرض: هل هذه المعاملة يليق أن يُعامل بها إنسان له من خاصة الإنسان ما لنا؟ فهو مثلنا له روح ووجدان وقلب وعقل وحواس. وهل سوء الظنِّ في المرأة إلى هذا الحد يتَّفق مع اعتبارنا لأنفسنا واعتبار المرأة لنفسها؟
والعاقل يرى أن الاحتياط الذي يتَّخذه الرجال لصيانة النساء عندنا مهما بلغ من الدقَّة لا يفيد شيئًا إن لم يصل الرجل إلى امتلاك قلب امرأة، فإن ملكه ملك كل شيء منها، وإن لم يملكه لم يملك منها شيئًا؛ ذلك لأنه ليس في استطاعة رجل أن يراقب حركات امرأته وسيرها في كل دقيقة تمرُّ من الليل والنهار.
متى خرج أحدنا من منزله أو سمح لامرأته أن تخرج بسبب من الأسباب فعلى مَن يتَّكل إن لم يكن على صيانتها وحفظها نفسها بنفسها؟ ثمَّ ماذا يفيد الرجل أن يملك جسم امرأته وحده إذا غاب عنه قلبها؟ أيستطيع أن يمنعها أن تتصرَّف فيه وتبذله لأي شخص تريد؟ فإذا رأت امرأة من الشباك رجلًا فأعجبها ومالت إليه بقلبها وودَّت أن تواصله لحظة أفلا يُعدُّ هذا في الحقيقة من الزنا؟ ألم يتمزَّق حجاب العفَّة في هذه اللحظة؟ وهل بُعْدُ المسافة بينها وبين الرجل وعدم تمكُّنها من مواصلته يُسمَّى عفَّة؟ نعم إن الشرائع لا تعاقب ولا تقيم الحدَّ على زنا العين والقلب؛ لأن العقوبات والحدود لا سلطان لها على الخواطر والقلوب، ولكن في نظر أهل الأدب والتقوى لا عبرة للبعد بين الأجساد إذا تواصلت الأرواح واجتمعت القلوب.
ومع ذلك ما الذي فعل الحجاب؟ ألم نسمع بما يجري في داخل البيوت مما ينافي العفَّة ويخلُّ بالشرف؟ هل منع البرقع وقصر النساء وراء الحجاب والأقفال سريان الفساد إلى ما وراء تلك الحجب؟ كلَّا.
ربما يقول قائل إن ما نسمعه اليوم عن كثير من النساء أكثر مما كنا نسمعه سابقًا، وإن الإشاعات عن الفساد أشدُّ انتشارًا، بل ربما كان الفساد في الواقع أوسع دائرة مما كان عليه قبل ثلاثين سنة مثلًا، ولا منشأ لذلك إلَّا رقَّة الحجاب. فالحالة القديمة على ما فيها كانت أصون للأعراض، وأحفظ لشرف المرأة من تلك الحالة التي طرأت على النساء؛ فنجيب عن ذلك بأننا لا ننكر أن بعض الطباع الفاسدة من الرجال والنساء معًا وجدت سبيلًا من تخفيف الحجاب إلى تعارف بعضها ببعض، وإتيان ما تميل إليه من المنكر، بل نزيد عليه أنه لو استمرَّ تخفيف الحجاب يتقدَّم بالسرعة التي سار بها إلى الآن — والنفوس على ما هي عليه — لعمَّت البلوى وازداد الفساد انتشارًا.
غير أن السبب في ذلك ليس هو تخفيف الحجاب، بل هو راجع إلى أمور كثيرة يجمعها الجهل وسوء التربية.
فسوء التربية هو علَّة الخفَّة والطيش، وهو الذي يسهِّل على امرأة ذات مكانة في بيتها وقومها أن تطيل نظرها إلى شاب يمرُّ في طريقها، وسوء التربية هو الذي يخفف عندها تبعة تحريك يدها لإجابة ذلك الشاب فيما يشير به إليها، وسوء التربية هو الذي يدفع بها إلى الاتفاق معه على التلاقي بل والتواصل قبل أن يدور كلام بينه وبينها، وإنما أركان عقد ذلك الاتفاق هي نظرات وإشارات لا تفصح عن خلق من الأخلاق، ولا عن ملكة من الملكات، ولا عن درجة من العرفان، ولا تدلُّ على حالة نفسية، ولا عقلية ولا جسمية يمكن الارتباط بها بين شخصين.
سوء التربية هو الذي يخرق كل حجاب ويفتح على المرأة من الفساد كلَّ باب، وهو الذي يُخشَى معه أن تسري العدوى من امرأة إلى امرأة، ومن طبقة إلى طبقة، فقد نرى أن المحجَّبات مهما بالغن في التحجُّب لا يستنكفن أن يختلطن بنساء أحطَّ منهنَّ في الدرجة، وأبعد عن التصوُّن والعفَّة؛ فسيدة المنزل لا ترى بأسًا في مخالطة زوجة خادمها بل قد تأنس بالحديث معها وسماع ما تنقله إليها من غير مبالاة بما يلائم الحشمة وما لا يلائمها، ولا تأنف التفتُّح في القول مع الدلالات وبائعات الأقمشة. بل قد يطوِّحها الجهل إلى الاختلاط بنسوة لا تعرف شيئًا من حالهنَّ، ولا من أي مكان أتين، ولا بأي خلق من الأخلاق تخلَّقن، وأشنع من هذا كله وأشدُّ منه فعلًا في إفساد الأخلاق أن نساء من المومسات اللاتي يحملن تذكرة رسمية يُدعين في الأفراح، ويرقصن تحت أعين الأمهات والبنات والكبار والصغار!
هذا ما يأتي من سوء التربية، وهو من أشدِّ العوامل في تمزيق ستار الأدب، وليست رقَّة الحجاب بشيء في جانب هذا كله.
طرقت ديارنا حوادث وداخلنا ضرب من الاختلاط مع أمم كثيرة من الغربيين، ووُجِدَت علائق بيننا وبينهم علَّمتنا أنهم أرقى منَّا وأشدُّ قوَّة، ومال ذلك بالجمهور الأغلب منا إلى تقليدهم في ظواهر عوائدهم خصوصًا إن كان ذلك إرضاءً لشهوة أو إطلاقًا من قيد؛ فكان من ذلك أن كثيرًا من أعليائنا تساهلوا لزوجاتهم ومَن يتَّصل بهنَّ من النساء وتسامحوا لهنَّ في الخروج إلى المنتزهات وحضور التياترات ونحو ذلك، وقلدهنَّ في ذلك كثير ممن يليهنَّ؛ وعرض من هذه الحالة بعض فساد في الأخلاق.
تلك حالة طرأت للأسباب التي تقدَّمت وتبعها من العواقب ما بيَّناه، ولكن ليس من مصلحتنا — بل ولا من المستطاع لنا — محو هذه الحالة والرجوع إلى تغليظ الحجاب، بل صار من متممات شئوننا أن نحافظ عليها، ونتقي تلك المضار التي نشأت عنه؛ وذلك هو ما نستطيعه أيضًا.
أمَّا أنه ليس من مصلحتنا أن نمحو هذه الحالة؛ فلما قدَّمناه في مضار الحجاب على الوجه المعروف، وأمَّا أننا لا نستطيع ذلك؛ فلأن أسباب هذه الحالة مما فصَّلناه سابقًا لا تزال موجودة، وهي تزداد بمرور الزمان رغمًا عنا؛ ولأننا قد وجدنا من أنفسنا ميلًا إلى حسن المعاملة في معاشرة النساء، وزُيِّن في أنفس الكثير منا حبُّ المجاملة في مرضاتهنَّ، ونشأت لهنَّ في قلوب الرجال منزلة من الاعتبار لم تكن لهنَّ من قبل، وأحسَّت النساء بذلك من رجالهن؛ فعددن ما وصلن إليه من الحرية والإطلاق حقًّا من الحقوق، وضروريًّا من ضروريات المعيشة، فلا يسهل على الرجل أن يقضي على امرأته اليوم بما كان يقضي به من قبل أربعين سنة.
والذي يجب علينا هو معالجة المضار التي يُظَنُّ أنها تنشأ عن تخفيف الحجاب، ولا توجد طريقة أنجع في ذلك العلاج إلَّا التربية التي تكون هي الحجاب المنيع والحصن الحصين بين المرأة وبين كل فساد يُتوهَّم في أية درجة وصلت إليها من الحرية والإطلاق.
سيقول معترض إن التربية والتعليم يصلحان أخلاق المرأة، وأمَّا الإطلاق فربما زاد في فساد، فنجيب أن الإطلاق الذي نطالب به هو محدود بحظر الخلوة مع أجنبي، وفي هذا الحظر ما يكفي لاتقاء المفاسد التي لا تتولَّد إلَّا من الخلوة. أمَّا الإطلاق في نفسه فلا يمكن أن يكون ضارًّا أبدًا متى كان مصحوبًا بتربية صحيحة؛ لأن التربية الصحيحة تكوِّن أفرادًا أقوياء بأنفسهم يعتمدون على أنفسهم، ويسيرون بأنفسهم، فمَن كملت تربيته استقلَّ بنفسه واستغنى عن غيره، ومَن نقصت تربيته احتاج إلى الغير في كل أموره؛ فالاستقلال في النساء كالاستقلال في الرجال يرفع الأنفس من الدنايا ويبعد بها عن الخسائس؛ لذلك يجب أن يكون هو الغاية التي نطلبها من تربية النساء، حسن التربية واستقلال الإرادة هما العاملان في تقدُّم الرجال في كل زمان ومكان، وهما مطمح آمال كلِّ أمَّة تسعى إلى سعادتها، وهما من أشرف الوسائل لإبلاغها من الكمال ما أعدَّت له. فكيف يمكن لعاقل أن يدَّعي أن لهذين العاملين أثرًا آخر سيئًا في أنفس النساء؟ ومَن زعم أن التربية واستقلال الإرادة مما يساعد على فساد الأخلاق في المرأة فقد قصر نظره على بعض الاعتبارات التي لا يخلو عنها أمر من الأمور النافعة في العالم؛ فإن لكل نافع ضررًا إذا أُسِيء استعماله.
هذا تعليم الرجال لا يخلو من العيوب الكثيرة، وكثير منهم يستعمل علمه واختياره فيما يضرُّ بنفسه أو بغيره. فهل ذلك يحمل أحدًا من الناس على أن يقول إن من الصواب ألا يعلم الرجال شيئًا؛ خوف استعمال ما يتعلَّمون فيما يسوءهم أو يسوء غيرهم، وإن من الواجب أن يُترَكُوا في الجهل تحت حجاب الغفلة؟ لا أظنُّ أن عاقلًا يخطر هذا الخاطر بباله. فإذا كان إجماعنا قد انعقد على أن لا خير للرجال في الجهل والاستعباد، وأن لا سبيل لهم إلى بلوغ درجات الفضل إلَّا بالعلم وحرية الفكر والعمل، فما لنا نختلف في هذه القضية نفسها إذا عُرض ذكر المرأة؟ وأي فرق بين الصنفين في الفطرة والخلقة؟
والحق أنا غالينا في اعتبار صفة العفَّة في النساء، وفي الحرص عليها، وفي ابتداع الوسائل لحفظ ما ظهر منها، وتفخيم صورتها حتى جعلنا كل شيء فداءها، وطلبنا أن يتضاءل ويضمحل كل خلق وكل ملكة دونها. نعم العفَّة أجمل شيء في المرأة وأبهى حلية تتحلَّى بها. ولكن العفَّة لا تغني شيئًا عن بقية الصفات والملكات التي يجب أن تتحلَّى نفس المرأة بها من كمال العقل، وحسن التدبير، والخبرة بتربية الأولاد، وحفظ نظام المعيشة في البيت، والقيام على كل ما يُعهَدُ إليها من الشئون الخاصة بها، بل نقول إن لهذه الصفات دخلًا كبيرًا في كمال العفَّة، وفقدان المرأة خصلة من هذه الخصال لا ينقص في ضرره وفي الحط من شأنها عن فقدان العفَّة نفسها.
اتفقت الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة على أن عقد الزواج وحده هو الذي يحلِّل الاجتماع بين الرجل والمرأة وأن اجتماعهما بدون ذلك العقد المقدَّس ممنوع وممقوت؛ ذلك أمر اقتضاه نظام العشيرة، وكمال النفس الإنسانيَّة، فالعمل على ما يخالفه قبيح مذموم بلا ريب، غير أن تلك الشرائع الإلهيَّة والقوانين الوضعيَّة قد حظرت أعمالًا أخرى، وأنزلتها من الشناعة منزلة لا تنحطُّ عن منزلة الزنا. ووضعت عليها عقوبات أشدَّ من العقوبة عليه؛ لأنها اعتبرت أن لتلك الأعمال من الضرر بالنظام ما هو أشدُّ من ضرر الزنا، ولنضرب مثلًا بجريمة القتل؛ فإنها أعظم من جريمة الزنا في نظر الدين والقانون، فلمَ لم نتَّخذ للوقاية منها من الوسائل الضارة ما اتَّخذناه للوقاية من الزنا؟
إنا معرَّضون في كل ساعة تمرُّ من حياتنا إلى مصائب لا تُحصَى، وهذا لم يمنعنا من أن نتحرَّك ونسعى ونقتحم الأخطار في الأسفار لنحصِّل من رزق الله ما نحتاج إليه، إنا نشعر بأنواع الجرائم تُرتَكَبُ من حولنا فالقتل والنهب والنصب والتزوير والقذف وغيرها من الجرائم تزعج الساكن، وتقلق المطمئن، ومع ذلك فإنا نحتمل مصائبها، ونسلم الحكم للقدر فيها، ونجتهد في تطهير المجتمع منها بالوسائل المشروعة من التربية، أو إيقاع العقوبة على مرتكب الجريمة. فلِمَ لا يكون ارتكاب الفحش من المرأة جريمة من هذه الجرائم التي لا يخلو منها مجتمع إنساني؟ ولِمَ نتخيَّل أنها أشنع وأفظع من سواها حتى اتَّخذنا لمنعها ما لم نتَّخذه لمنع غيرها؟
وعلى أي حال فليس من الجائز أن نأتي ما فيه ضرر محقق لنتَّقي به ضررًا وهميًّا. فوقوع الفحش من المرأة أمر محتمل الوقوع قد يكون وربما لا يكون، أمَّا حجابها ومنعها من التمتُّع بقواها الغريزيَّة فهو ضرر محقَّق لاحق بها حتمًا، ويا ليته اقتصر عليها ولكنه يتعدَّاها إلى كل ما يقع تحت رعايتها.
يتوهَّم أحدنا أن امرأته ربما تميل إلى غيره إن رُفع الحجاب عنها؛ فلذلك يزجُّ بها وراء الأبواب، ويغلق عليها الأقفال، ويظنُّ بذلك أنه قد استراح من الوساوس، وهو لا يدري ما ربما يأتيه من … حيث لا يدري، فلم يُفِده حرصه شيئًا في الحقيقة، ومع هذا فهو بعمله قد قتل نفسًا حيَّة وأفسد نفوسًا كثيرة ممن تتولاهم زوجته في بيته في سبيل ما يظنُّه راحة لنفسه.
توهَّم كثير ممن سبقنا مثل ما توهَّمنا وحجبوا نساءهم كما نحجب نساءنا، بل فاقونا في التفنُّن واتِّخاذ الطرق لاطمئنان أنفسهم من ناحية زوجاتهم، وإنني أذكر الآن أغرب طريقة كانت مُستعمَلة عند أعيان أوروبا في القرون الوسطى وهي ما كان يُسمَّى عندهم بنطاق العفَّة، وهو نطاق من حديد يتَّصل به حفَّاظ، ولذلك النطاق قفل يكون مفتاحه في جيب الرجل دائمًا، ولكن هذا لم يمنع النساء من أن يمنحن عشاقهنَّ مفتاحًا مصطنعًا! ثمَّ ما لبث هؤلاء الأمم أن أدركوا خطأهم وعرفوا أن ضرر تلك الأوهام أكثر من نفعها، ولمَّا أخذت المعارف تنتشر بينهم شرعوا في قياس أعمالهم المعاشية بمقياس العقل السليم والعلم الصحيح الخالص من شائبة الوهم، وأدركوا أن سعادتهم لا تتمُّ بما ينالون من ثمار ذلك إلَّا إذا شاركتهم نساؤهم في مساعيهم وعاونَّهم في لَمِّ شعثهم وتكميل نقصهم؛ فأعدوهنَّ بالتربية والعلم إلى ما أملوا منهنَّ. فافتككن من أسرهنَّ، وتمتَّعن بحريتهنَّ، وسرن مع رجالهنَّ يعاونَّهم في الحياة، ويمددنهم بالرأي في كل أمر، ولست مبالغًا إن قلت إن ما أقامه التمدُّن الحديث من البناء الشامخ وما وضعه من الأصول الثابتة إنما شُيِّد على حجر أساسي واحد هو المرأة.
لم يكن ما استفاده الغربيون من تربية نسائهم والتساهل لهنَّ في مخالطتهم قاصرًا على المزايا التي أشرنا إليها بل كان لهم مع ذلك فوائد جمَّة في تدبير المعيشة وتَيسُّر طرق الاقتصاد.
تدخل بيت الغربي من أهل الطبقة الوسطى فتجده أتمَّ نظامًا، وأكمل ترتيبًا، وأجمل أثاثًا من بيت الشرقي من أهل طبقته؛ ومع ذلك تجد نفقة الغربي أقلَّ من نفقة الشرقي بكثير.
انظر إلى الواحد منا تجد مسكنه لا بُدَّ أن يكون إلى قسمين: قسم للرجال، وآخر للنساء، فإن أراد أن يبني بيتًا فعليه أن يهيئ ما يكفي لبناء بيتين في الحقيقة، وإذا استأجر بيتًا فهو إنما يستأجر في الواقع بيتين؛ ويتبع ذلك ما يلزم لكل منهما من الأثاث والفرش، ولا بُدَّ له من فريقين من الخدم: فريق يخدم الرجال في القسم المختصِّ به، والآخر يختصُّ بخدمة النساء داخل البيت، ثمَّ لا بُدَّ له من عربة للنساء وعربة للرجال؛ لأنه ليس من الجائز في عرفنا أن يركب الرجل مع زوجته أو مع والدته في عربة واحدة. وهو مضطر لأن يزيد في النفقة للطعام وما يتبعه؛ لأنه إذا أتى ضيف واحد رجلًا كان أو امرأة وجب تحضير مائدتين بدل واحدة كانت تكفي؛ وهكذا ترى نفقات ضائعة، وثمرات كسب مستهلكة ولا سبب لها إلَّا تشديد الحجاب على النساء.
هل يظنُّ المصريون أن رجال أوروبا مع أنهم بلغوا من كمال العقل والشعور مبلغًا مكَّنهم من اكتشاف قوَّة البخار والكهرباء واستخدامها على ما نشاهده بأعيننا، وأن تلك النفوس التي تخاطر في كل يوم بحياتها في طلب العلم والمعالي وتفضِّل الشرف على لذَّة الحياة، هل يظنون أن تلك العقول وتلك النفوس التي نعجب بآثارها يمكن أن يغيب عنها معرفة الوسائل لصيانة المرأة وحفظ عفَّتها؟ هل يظنون أن أولئك القوم يتركون الحجاب بعد تمكُّنه عندهم لو رأوا خيرًا فيه؟ — كلَّا. وإنما الإفراط في الحجاب من الوسائل التي تبادر عقول السُّذَّج وتركن إليها نفوسهم ولكنها يمجُّها كلُّ عقل مهذب وكلُّ شعور رقيق.
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور؛ أدرك الرجل أن المرأة إنسان من نوعه لها ما له وعليها ما عليه، وأن لا حقَّ لأحدهما على الآخر بعد توفية ما فرضته الشريعة على كلٍّ منهما لصاحبه إلَّا ما يعطيه كلٌّ من نفسه بمحض إرادته، وحسن اختياره.
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل عرف أن حجاب المرأة إعدام لشخصها فلا تسمح له ذمَّته بعد ذلك أن يرتكب هذه الجريمة توسُّلًا إلى ما يظنُّه راحة بال واطمئنان قلب.
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الزوج؛ وجد من نفسه أن لا سبيل إلى اطمئنان قلبه في عشرة امرأة جاهلة مهما كان الحائل بينها وبين الرجال.
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل أدرك أن الذي تشتاق إليه نفسه هو حبٌّ يصل بينه وبين إنسان مثله بحسن اختيار وسلامة ذوق، لا بمجرَّد نزعات الهوى ونزوات الشهوة؛ فيسعى جهده فيما يقويه ويشدُّ عراه، ويبذل ما في وسعه للمحافظة عليه.
متى تهذَّب العقل ورقَّ الشعور في الرجل والمرأة لا تقتنع نفاسهما بالاختلاط الجسماني وحده بل يصير أعظم همِّهما طلب الائتلاف العقلي والوحدة الروحيَّة.
إن طبيعة العصر الذي نحن فيه منافرة للاستبداد، معادية للاستعباد، ميالة إلى سوق القوى الإنسانيَّة في طريق واحد وغاية واحدة. فهذا الطائف الرحماني الذي طاف على نفوس البشر فنبَّه منها ما كان غافلًا لا بُدَّ أن ينال منه النساء نصيبهنَّ؛ فمن الواجب علينا أن نمدَّ إليهنَّ يد المساعدة، ونعمل بقول النبي: «اتقوا الله في الضعيفين المرأة واليتيم»، ولا شيء أدخل في باب التقوى من تهذيب العقل، وتكميل النفس، وإعدادها بالتعليم والتربية إلى مدافعة الرذائل ومقاومة الشهوات، ولا من حسن المعاملة واللطف في المعاشرة؛ فعلينا أن نجعل الصلة بيننا وبينهنَّ صلة محبَّة ورحمة لا صلة إكراه وقسوة، هذا ما تفرضه علينا الإنسانيَّة، وتطالبنا به الشريعة، وهو مع ذلك فريضة وطنيَّة يجب علينا أداؤها؛ حتى تكون جميع أعضاء المجتمع عندنا حيَّة عاملة قائمة بوظائفها.
وقبل أن أختم الكلام في هذا الباب أرى من الواجب عليَّ أن أنبِّه القارئ إلى أني لا أقصد رفع الحجاب الآن دفعة واحدة والنساء على ما هنَّ عليه اليوم؛ فإن هذا الانقلاب ربما ينشأ عنه مفاسد جمَّة لا يتأمَّل معها الوصول إلى الغرض المطلوب كما هو الشأن في كل انقلاب فجائي، وإنما الذي أميل إليه هو إعداد نفوس البنات في زمن الصبا إلى هذا التغيير.
فيُعوَّدن بالتدريج على الاستقلال ويُودَع فيهنَّ الاعتقاد بأن العفة ملكة في النفس لا ثوب يختفي دونه الجسم، ثمَّ يُعوَّدن على معاملة الرجال من أقارب وأجانب مع المحافظة على الحدود الشرعية وأصول الأدب تحت ملاحظة أوليائهنَّ؛ عند ذلك يسهل عليهن الاستمرار في معاملة الرجال بدون أدنى خطر يترتَّب على ذلك اللهم إلَّا في أحوال مستثناة لا تخلو منها محجَّبة ولا بادية.