المرأة والأمَّة
كلُّ مَن تعلَّم من المصريين، وساعده حسن الحظ على أن يستعرف أحوال أمته وحاجاتها ويحيط بها، يعلم أن الأمَّة المصريَّة دخلت اليوم في دور مهم بل في أهم دور من تاريخها.
إني لا أجد في ماضيها عصرًا انتشرت فيه المعارف، وظهر فيه الشعور بالروابط الوطنيَّة، وانبث الأمن والنظام في أنحاء البلاد، وتهيَّأت الأسباب للتقدُّم مثل العصر الذي نعيش فيه الآن، ولكنها من جهة أخرى لم يمرَّ عليها زمن صارت فيه حياتها معرَّضة للخطر مثل ما هي في هذا الزمان؛ فإن تمدُّن الأمم الغربيَّة يتقدَّم بسرعة البخار والكهرباء حتى فاض من منبعه إلى جميع أنحاء المسكونة، فلا يكاد يوجد منها شبر إلَّا وطئه بقدمه، وكلَّما دخل في مكان استولى على منابع الثروة فيه من زراعة وصناعة وتجارة، ولم يدع وسيلة من الوسائل إلَّا استعملها فيما يعود عليه بالمنفعة، وإن أضرَّ بجميع مَن حوله من سكان البقاع الأصليين.
فإنه إنما يسعى إلى السعادة في هذه الحياة الدُّنيا يطلبها أنى وجدها، وبأي طريقة يرى النجاح فيها، وهو في الغالب يستعمل قوَّة عقله، فإذا دعت الحال إلى العنف واستعمال القوَّة لجأ إليها، فهو لا يطلب الفخار والمجد فيما يمتلك أو يستعمر؛ لأنه يجد ذلك متوفرًا له في أعماله العقليَّة واختراعاته العلميَّة، وإنما الذي يحمل الإنكليزي على أن يسكن الهند، والفرنساوي الجزائر، والروسي الصين، والألماني زنجبار هو حبُّ المنفعة والرغبة في تحصيل الثروة من بلاد تحتوي على كنوز لا يعرف أهلها قيمتها وطرق الانتفاع بها.
فإن صادفوا أمَّة متوحِّشة مهما كان بأسها أبادوا أهلها وأهلكوهم أو أجلوهم عن أرضهم، كما حصل في أمريكا وأستراليا، وكما هو حاصل الآن في أفريقيا؛ حيث لا يُرَى أثر لأهالي البقاع التي احتلها الأوروباوي؛ لأنهم خرجوا منها طوعًا أو كرهًا، وإن صادفوا أمَّة كأمتنا دخل فيها نوع من المدنيَّة من قبل ولها ماضٍ ودين وشرائع وأخلاق وعوائد وشيء من النظامات الابتدائية خالطوا أهلها، وتعاملوا معهم، وعاشروهم بالمعروف، لكن لا يمضي زمن طويل إلَّا وترى هؤلاء القادمين قد وضعوا يدهم على أهمِّ أسباب الثروة؛ لأنهم أكثر مالًا وعقلًا وعرفانًا وقوَّة فيتقدَّمون كل يوم، وكلَّما تقدَّموا في البلاد تأخَّر ساكنوها. هذا ما سمَّاه داروين قانون التزاحم في الحياة: فطرة الله التي فطر عليها جميع الأنواع، وأودعها لها؛ لتُعِدَّها إلى الرقي في درجات الكمال. فما ضعف منها عند التزاحم عن مغالبة منازعة اضمحل ونبذه الوجود إلى خفاء العدم، وما قوي عند التغالب أظفره الله بالنصر المبين فيرجع من ساحات هذا القتال الدائم مبرهنًا بظفره على أنه أفضل بني نوعه وأكرمهم؛ فيعيش، ويبقى، ويتناسل، وينمو، ويظهر فيه كمال نوعه، وتخلد به آثاره.
فلا سبيل للنجاة من الاضمحلال والفناء إلَّا طريق واحدة لا مندوحة عنها؛ وهي أن تستعدَّ الأمَّة لهذا القتال، وتأخذ له أُهبَتَها، وتستجمع من القوَّة ما يساوي القوَّة التي تهاجمها من أي نوع كانت، خصوصًا تلك القوَّة المعنويَّة؛ وهي قوَّة العقل والعلم التي هي أساس كل قوَّة سواها.
فإذا تعلَّمت الأمَّة كما يتعلَّم مزاحموها، وسلكت في التربية مسالكهم، وأخذت في الأعمال مآخذهم، وتدرَّعت للكفاح بمثل ما تدرَّعوا به؛ أمكنها أن تعيش بجانبهم، بل تيسَّر لها أن تسابقهم فتسبقهم فتستأثر بالخير دونهم؛ لأن البلاد بلادها وأرضها أبر بها منها بالغريب عنها، وأبناءها أقدر على المعيشة فيها، وهم السواد الأعظم فكيف إذا ظفروا من أنفسهم بتلك الحال الشريفة لا يفلحون.
وهذه الطريق — طريق النجاة — كما قدَّمت مفتوحة أمامنا، ولا يوجد عائق يعوقنا عن السير فيها إلَّا ما يكون من أنفسنا.
فإن كان للمصريين همٌّ وصدق عزيمة في طلب سعادتهم، والمحافظة على بقائهم، والسعي إلى خلاصهم ونجاتهم من التهلكة، فعليهم أن يسلكوا تلك الطريق، ويخلعوا عنهم كل عادة سيئة، وينزعوا من أنفسهم كل خليقة ممقوتة تعطِّل مسيرهم، وليعتمدوا على أنفسهم في إصلاح أنفسهم، ولا يضيِّعوا أوقاتهم في أماني باطلة يلتمسون تحقيقها من حكومتهم، فإن حكومتهم لا تستطيع من العمل لهم إلَّا قليلًا، أمَّا هم فإنهم يستطيعون أن يأتوا في إصلاح شئونهم بالجمِّ الكثير. ماذا يفيدهم أن يقولوا كل يوم إن الحكومة لم تقم بما يجب عليها؟ أهذا يمنعنا من أن نفعل ما يجب علينا لأنفسنا؟
نحن اليوم متمتِّعون بعدل وحرية لا أظنُّ أن مصر رأت ما يماثلهما في أي زمن من أزمانها، وهما الأمران اللذان تحتاج إليهما الأمَّة أشدَّ الاحتياج، ولا يتيسر بدونهما نجاح في عمل من الأعمال العظيمة التي يقوم بها إصلاحها. فما علينا إلَّا أن ننتهز فرصة ما وصلنا إليه، ونحرث أرضنا، ونسقي غراسها، وننتظر ما يأتي به من الثمرات فإذا نضجت اقتطفناها، وكما أن الزارع يجب عليه قبل أن يلقي البذور في الأرض أن يهتمَّ بمعرفة طبيعتها وما تحتاج إليه من الأعمال لتحضيرها وتهيئتها؛ حتى لا يضيع ماله وتعبه، كذلك يجب علينا أن نبحث في أسباب تأخرنا، فإذا عرفناها عمدنا إلى إزالتها وصنا أنفسنا من التخبُّط على غير هدى، وأرحنا أنفسنا من التجارب العقيمة.
وقبل الكلام فيما نريد البحث فيه نثبت هنا أمرًا لاحظه كلُّ مَن له إلمام بأحوال الشرق: وهو أن تأخُّر المسلمين عام فيه أين كانوا؛ فالسبب يجب أن يكون عامًّا أيضًا.
أمَّا اختلاف الشعوب والأقاليم فليس له تأثير كبير في انحطاط المسلمين؛ إذ لو كان له أثر لوُجِدَ اختلاف بين التركي والمصري والهندي والفارسي والبشناقي والصيني من حيث العمران والمدنيَّة، ولكنا لا نرى اختلافًا بينهم من هذه الجهة، وإنما الاختلاف محصور في بعض الصفات النفسانية وبعض العوائد، ذلك هو كل ما فعله اختلاف الشعوب والأقاليم، فالتركي مثلًا نظيف صادق شجاع، والمصري على ضد ذلك، إلَّا أنك تراهما رغمًا عن هذا الاختلاف متَّفقين في الجهل والكسل والانحطاط. إذًا لا بُدَّ أن يكون بينهما أمر جامع وعلَّة مشتركة هي السبب الذي أوقعهما معًا في حالة واحدة.
ولمَّا لم يكن هناك أمر يشمل المسلمين جميعًا إلَّا الدين ذهب جمهور الأوروباويين، وتبعهم قسم عظيم من نخبة المسلمين إلى أن الدين هو السبب الوحيد في انحطاط المسلمين وتأخُّرهم عن غيرهم حتى الذين يشاركونهم في الإقليم ويساكنونهم في البلد الواحد، ولم يقصد أحد منهم — خصوصًا أفاضل المسلمين المشتغلين بأحوال الأمم الإسلاميَّة — أن يتَّهم الدين الإسلامي الحقيقي بأنه السبب في انحطاط المسلمين، فإن كلَّ مَن عرف هذا الدين من الأجانب فضلًا عن أبنائه المنتسبين إليه يجلُّ قدره ويحترمه، ويعترف أن آثاره الماضية في الأمم التي انتشر بينها برهنت على أنه وسيلة من أفضل الوسائل، وعامل من أقوى العوامل التي تسوق الإنسان في طرق الترقِّي والتقدُّم إلى غايات السعادة، ولكنهم يرون أن ما يزعمه المسلمون اليوم دينًا، وتسميه عامتُهم — بل وأغلب علمائهم — بدين الإسلام، قد اشتمل على أمور كثيرة من عقائد، وعوائد، وآداب موهومة لا علاقة لها بالدين الحقيقي الطاهر وإنما هي بدع ومُحدَثات أُلصقت به؛ فهذا الخليط الذي سمَّاه الناس دينًا واعتبروه إسلامًا هو المانع من الترقِّي.
وليس في إمكان أحد أن ينكر أن الدين الإسلامي قد تحوَّل اليوم عن أصوله الأولى، وأن العلماء والفقهاء — إلَّا قليلًا ممن أنار الله قلوبهم — قد لعبوا به كما شاءت أهواؤهم حتى صيَّروه سخرية وهزوًا، وحقَّت عليهم كلمة الكتاب: اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا.
ولكني أعتقد أن هذا الانحطاط الذي طرأ على الدين ليس سببًا لما عليه المسلمون الآن، وإنما هو نتيجة لأمر هو: الجهل الفاشي في المسلمين عامَّة رجالًا ونساءً.
كان النبي وخلفاؤه وأصحابه كلهم يخدمون الدين ويشتغلون بالدُّنيا في آن واحد، وصرَّحت السُّنَّة كما أجمعت عليه الأئمة بأن لا قوام للدين إلَّا بسلطة تحفظه. فلم يمضِ إلَّا قرن واحد من عهد ظهور الإسلام حتى صار عَلَمُ المسلمين يخفق على أهم أقسام العالم، ولم يكن الغرض من هذه الفتوحات العجيبة إكراه الناس على الأخذ بهذا الدين، وإنما كانوا يفتحون البلاد؛ دفاعًا عن الحوز، وتوسيعًا لنطاق الملك والسلطة والانتفاع بالصناعة والتجارة؛ وهو المقصد الذي يعمل له الأوروباويون في بلاد الشرق الآن.
ثمَّ لم يمضِ على ظهور الإسلام جيلان إلَّا وقد أضاء الكون بنور العلوم التي نشرها المسلمون في كل أرض احتلُّوها وبلد أقاموا به، فلم يتركوا فرعًا من العلوم ولا فنًّا من الفنون إلَّا تعلَّموه وألَّفوا فيه وزادوا عليه حتى العرب — تلك الأمَّة الأميَّة التي ربما صحَّ فيها قول ابن خلدون إنها لا تصلح للمدنية أبدًا — اندفعت بقوَّة ذلك التيار وعامل تلك النهضة إلى منافسة مواطنيهم في خدمة العلم، وكانت هذه الحركة عامَّة في كل ما يجول فيه الفكر ويمتدُّ إليه النظر وتتناوله مدارك البشر، هذا يشتغل بعلوم الكلام، وآخر بالعلوم الطبيعيَّة، وثالث بالفلك والحساب، ورابع بالتاريخ والجغرافيا، وخامس بالفلسفة والأخلاق، ولم يهملوا الصناعة والتجارة فبنوا وشيَّدوا وامتلأت سفنهم بالبضائع تجري في البحار حول الأرض، واستمرَّ هذا الحال على ضرب من التفاوت بحسب الأزمان إلى أن رُزِئ المسلمون بوقائع التاتار في الشرق وانقراض الخلافة منه، وزالت دولة العرب من الأندلس، وانتقلت العلوم الإسلاميَّة إلى أوروبا، فرجع المسلمون إلى حالة الجاهلية الأولى.
ومن ذلك الحين انطفأ مصباح العلم من الشرق بأجمعه، واقتصر علماء الإسلام على النظر في شيء من علوم الكلام، وبعض شيء من قواعد اللغة العربية، وانصرفوا عن كل شيء سواها.
ولمَّا ساد الجهل على عقولهم، وتراكمت ظلماته في أذهانهم لم يعد في استطاعتهم أن يفهموا حقيقة الدين؛ وشعروا أن ضعفهم لا يسمح لهم بأن يصعدوا إليه بعقولهم فأنزلوه من مكانه الرفيع، ووضعوه مع جهلهم في مستوى واحد، ثمَّ أخذوا يتصرَّفون فيه تصرُّف الغبي الأحمق؛ والجاهل كالطفل يغترُّ بنفسه، ويعجب بمعارفه، ويؤذي نفسه والناس معه.
انظر إلى الجاهل تجده دائمًا يختار من فكرين أقلَّهما صوابًا، ومن طريقين أصعبهما، ومن عملين أضرَّهما؛ ذلك لأن الحق سواء كان فضيلة أو مصلحة يلتبس بالباطل، ويخفى على الناظر فلا يراه إلَّا بعيد النظر نافذ البصيرة في مصائر الأمور وعواقبها، ثمَّ هو يحتاج في الوصول إليه إلى عناء يفرُّ منه الجاهل الكسول، وفيه حرمان من لذَّة حالية في سبيل منفعة مستقبله.
ومن رأي علمائنا اليوم أن الاشتغال بشئون العالم والعلوم العقليَّة والمصالح الدنيوية شيء لا يعنيهم، وصار منتهى علمهم أن يعرفوا في إعراب البسملة ما يزيد من غير مبالغة على ألف وجه على الأقل، وإن سألتهم عن شيء من الأشياء المتداولة في أيديهم كيف صُنِعَ أو عن حال الأمَّة التي هم منها أو أمَّة أخرى تجاورهم أو الأمَّة التي احتلَّت بلادهم أين موقعها الجغرافي وما منزلتها من القوَّة والضعف، بل لو سألت الواحد منهم عن وظيفة عضو من أعضائه ومكانه من بدنه، هزُّوا أكتافهم ازدراءً بالسائل والمسألة واحتقارًا لهما، وإن تكلَّمت معهم في نظام حكومتهم الداخلي وقوانينها وحالتها السياسية والاقتصادية وجدتهم لا يدرون منها شيئًا، وسواءٌ عاشوا في العزِّ أو في الذل فهم على كلِّ حال عائشون، وبما ينحطون إليه راضون، ويرون أن ليس للإنسان أن يعمل لمصلحة نفسه، وأن يختار لها أمرًا، ويزعمون أنهم وكَّلوا جميع أمورهم إلى ما يجري به القضاء، مع أنك تراهم أشدَّ الناس احتيالًا في طلب الرزق من غير وجهه وأحرصهم على حفظ ما يجمعون من الحطام ونيل ما يتوهَّمونه شرفًا ورفعة؛ ولذلك ضُرِبَ المثلُ بتحاسدهم فيما بينهم؛ فهم في الحقيقة يريدون التخلُّص من مشقة العمل وإنما يحتجُّون بالقَدَر تضليلًا للعامَّة وإقناعًا للسُّذَّج بأنهم في تقصيرهم في أداء ما فرضته عليهم الشريعة مقهورون بقوَّة القضاء.
ظنَّ هؤلاء المساكين أنهم متى عرفوا كيف تستقيم العبارات، وكيف تُعذَّب الألفاظ بالإعراب والصرف عرفوا ما في الدين والدُّنيا، والبعد بينهم وبين الدين الحقيقي عظيم.
قال الأستاذ الشيخ محمد عبده في بيان ما جاء به الإسلام كلامًا نأخذ منه ما يناسب المقام هنا؛ لأنه أحسن ما كُتِبَ في هذا الزمان لتنبيه أفكار المسلمين:
طالب الإسلام بالعمل كلَّ قادر عليه، وقرَّر أن لكل نفس ما كسبت، وعليها ما اكتسبت فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ، وَأَن لَّيْسَ لِلإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى وأباح لكل أحد أن يتناول من الطيبات ما شاء أكلًا وشربًا ولباسًا وزينةَ. ولم يحظر عليه إلَّا ما كان ضارًّا لنفسه أو بمَن يدخل في ولايته أو ما تعدَّى ضرره إلى غيره. وحدَّد له في ذلك الحدود العامَّة بما ينطبق على مصالح البشر كافة. فكفل الاستقلال لكل شخص في عمله، واتَّسع المجال لتسابق الهمم في السعي حتى لم يعد لها عقبة لتعثر بها اللهم إلَّا حقًّا محترمًا تصطدم به.
أنحى الإسلام على التقليد، وحمل عليه حملة لم يردَّها عنه القدر؛ فبدَّد فيالقه المتغلِّبة على النفوس، واقتلع أصوله الراسخة في المدارك، ونسف ما كان له من دعائم وأركان في عقائد الأمم، وصاح بالعقل صيحة أزعجته من سباته، وهبَّت به من نومة طال عليه الغيب فيها كلَّما نفذ إليه شعاع من نور الحق خلصت إليه هيمنة من سدنة هياكل الوهم، نَمْ فإن الليل حالك، والطريق وعرة، والغاية بعيدة، والراحلة كليلة، والأزواد قليلة.
علا صوت الإسلام على وساوس الطغام، وجهر بأن الإنسان لم يُخلَق ليُقَاد بالزمام ولكنه فُطِرَ على أن يهتدي بالعلم والأعلام؛ أعلام الكون ودلائل الحوادث. وإنما المعلِّمون منبِّهون ومرشدون وإلى طرق البحث هادون.
صرَّح في وصف أهل الحق بأنهم الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ فوصفهم بالتمييز بين ما يُقال من غير فرق بين القائلين؛ ليأخذوا بما عرفوا حُسْنَه ويطرحوا ما لم يتبيَّنوا صحَّته ونفعه.
ومال على الرؤساء فأنزلهم من مستوى كانوا فيه يأمرون وينهون، ووضعهم تحت أنظار مرءوسيهم يخبرونهم كما يشاءون ويمتحنون مزاعمهم حسبما يحكمون، ويقضون فيها بما يعلمون ويتيقَّنون، لا بما يظنُّون ويتوهَّمون.
صرف القلوب عن التعلُّق بما كان عليه الآباء، وما توارثه عنهم الأبناء، وسجَّل الحمق والسفاهة على الآخذين بأقوال السابقين، ونبَّه على أن السبق في الزمان ليس آية من آيات العرفان، ولا مسميًا لعقول على عقول ولا لأذهان على أذهان، وإنما السابق واللاحق في التمييز والفطرة سيَّان، بل اللاحق من علم الأحوال الماضية واستعداده للنظر فيها والانتفاع بما وصل إليه من آثارها في الكون ما لم يكن لمَن تقدَّمه من أسلافه وآبائه، وقد يكون من تلك الآثار التي ينتفع بها أهل الجيل الحاضر ظهور العواقب السيئة لأعمال مَن سبقهم وطغيان الشرِّ الذي وصل إليهم بما اقترفه سلفهم قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ، وإن أبواب فضل الله لم تُغلَق دون طالب ورحمته التي وسعت كل شيء لن تضيق عن دائب.
عاب أرباب الأديان في اقتفائهم أثر آبائهم، ووقوفهم عند ما اختطته لهم سير أسلافهم وقولهم: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا. إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ومما يستحق أن نفرح له هو أن نفرًا من علماء عصرنا في مصر وفي غيرها من بلاد الإسلام شرقًا وغربًا يرون ما نرى، ويقولون ما نقول، ويعترفون بأن العلوم التي تُقرَأ الآن في الأزهر وفي غيره لا تفيد إن لم تُؤسس على الحقائق العلميَّة التي تهيئ العقول لقبولها والانتفاع بها.
وفي الحقيقة أن علوم التوحيد والفقه لا يمكن الانتفاع بها إذا لم يسبقها الإلمام بالمعارف العامَّة والمبادئ العلميَّة، أليس التوحيد هو خاتمة العلوم كلها وخلاصة مجموعها؟ أليس الفقه علم شريعة كل نفس في ارتباطها بخالقها، وفي معاملتها مع بقية البشر، وكلاهما يحتاج إلى معرفة علم النفس، وتشريح الجسم ووظائفه، والتاريخ، والرياضة، والعلوم الطبيعيَّة، وغيرها مما تسمو به الأفكار ويرتقي به العقل؟ أليس العلم في الحقيقة واحدًا يشبه شجرة ذات فروع وأفنان تتَّصل كلُّها بأصل واحد، وتتغذَّى من جذر واحد، وتخدم حياة واحدة، وتنتج ثمرة واحدة هي معرفة حقيقة كل شيء في الوجود؟
وما علينا إلَّا أن نصغي لمقال هؤلاء العلماء الأفاضل الذين هم أدرى منا بحاجات الدين، ولا يخفى عليهم شيء من حاجات الدُّنيا، وأن نعضدهم في مشروعاتهم الصالحة؛ ليستيقظ الدين من نومته الطويلة، ويذلل العقبات، ويتغلَّب على المصاعب التي أقامها أهله في طريقه.
ولا حاجة بنا إلى التطويل في شرح أمر صار معلومًا عند الكل؛ وهو انحطاط الدين اليوم في جميع مظاهره حتى في العبادات، وإنما أردنا أن نبيِّن أن انحطاط الدين تابع لانحطاط العقول، وأن العلَّة الأولى التي هي مصدر غيرها من العلل التي حالت بيننا وبين الترقي هي: إهمال التربية في الرجال وفي النساء معًا.
فإن استمرَّ ذلك السبب لم يصلح للأمَّة حال بل يستمرُّ كل أمر على حاله، والدين أيضًا، وإن زال ذلك السبب صلح حال الأمَّة في جميع مظاهر حياتها العقليَّة والأدبيَّة، وصلح معها الدين أيضًا.
أمَّا أن تربية الرجال تصلح شأن الأمَّة، وتقوِّم اعوجاجها فهذا مما صار معروفًا عند كل أحد، ومسلمًا عند الجميع، وأمَّا وجوب تربية المرأة أيضًا فلا يزال محتاجًا إلى البيان:
المرأة لا تكون خلقًا كاملًا إلَّا إذا تمَّت تربيتها الجسميَّة والعقليَّة، أمَّا تربيتها الجسميَّة فلأنها لازمة لها في استكمال صحَّتها وحفظ جمالها، فيجب أن تُربَّى كما يجب أن يُربَّى الرجال على تمرين الجسم بالحركة والرياضة؛ لأن الجسم الضعيف لا يسكنه إلَّا عقل ضعيف؛ ولأن ما يكثر عروضه للنساء من الاضطرابات العصبيَّة والمخيَّة إنما هو ناشئ عن عدم انتظام وظائف أعضاء الجسم.
فسلامة العقل في جميع مظاهره تابعة لسلامة الجسم؛ وهذا هو السرُّ في تقدُّم الجنس الإنكليزي السكسوني على غيره.
وأمَّا تربيتها العقليَّة فلأنها بدونها تكون المرأة فاقدة لقيمتها كما هي حالتها الآن عندنا. نعم إنها تلد ويُحفَظُ بها النوع الإنساني، لكنها في ذلك إما تؤدِّي وظيفة كل أنثى من سائر أنواع الحيوانات، وهي لا تمتاز في عملها هذا عن نحو هرَّة ولود.
وفي الحق أننا ضيَّقنا دائرة وظيفة المرأة وخصصناها بالنتاج ولم نطلب منها شيئًا غير ذلك؛ وسببه أننا توهَّمنا أن المرأة لا تصلح لعمل آخر، وأن الرجال غير محتاجين للنساء في القيام بشئون الحياة الخاصة والعامَّة، وغاب عنا أن الرجل إنما يكون في كبره كما هيَّأته والدته في صغره.
فهذا الارتباط التام بين الرجل وأمه هو الأمر المهمُّ الذي أريد أن يفهمه الرجال، وهو ثمرة كلِّ ما وضعته في هذا الكتاب.
إني أكرِّر ما قلته من أنه يستحيل تحصيل رجال ناجحين إن لم يكن لهم أمهات قادرات على أن يهيئنهم للنجاح؛ فتلك هي الوظيفة السامية التي عهد التمدُّن بها إلى المرأة في عصرنا هذا، وهي تقوم بأعبائها الثقيلة في كل البلاد المتمدنة؛ حيث نراها تلد الأطفال ثمَّ تصوغهم رجالًا.
وبديهي أن العمل الأول — وهو الولادة — هو عمل بسيط مادي تشترك فيه المرأة مع الحيوانات، فلا يحتاج إلَّا إلى بنية سليمة، أمَّا العمل الثاني — وهو التربية — فهو عمل عقلي امتاز به النوع الإنساني وهو محتاج في تأديته إلى تربية واسعة، واختبار عظيم، ومعارف مختلفة.
والأمر الذي يلزم أن تلتفت إليه كل أمَّة لا تغفل عن مصالحها الحقيقية هو وجود النظام في العائلات التي يتكوَّن منها جسم الأمَّة؛ لأن العائلة هي أساس الأمَّة، ولمَّا كانت المرأة هي أساس العائلة كان تقدُّمها وتأخُّرها في المرتبة العقليَّة أوَّل مؤثِّر في تقدُّم الأمَّة وتأخُّرها. المرأة ميزان العائلة؛ فإن كانت منحطَّة احتقرها زوجها وأهلها وأولادها وعاشوا جميعًا منحلِّين لا يرتبط بعضهم ببعض، ولا يعرفون نظامًا ولا ترتيبًا في معيشتهم؛ فتفسد آدابهم وعوائدهم، أمَّا إن كانت المرأة على جانب من العقل والأدب هذَّبت جميع العائلة، واحترمها أفرادها، واحترموا أنفسهم وعاش الجميع في نظام تام تحت لواء محبَّتها متضامنين أقوياء باتحادهم، وهذه الصفات التي تُشَاهَدُ في العائلة هي الصفات التي تُشاهَدُ في الأمَّة؛ إذ كلٌّ منا يسلك في أمته مسلكه في عائلته، ومن المحال أن يكون للإنسان من الصفات والأخلاق في أمته ما ليس له نموذج في منزله، وأن يعامل مواطنيه بأخلاق غير التي يعامل بها أفراد عائلته، فإن كان حسن الأخلاق في عائلته كان كذلك في أمته، وإن كان سيئ الأخلاق في عائلته ساءت أخلاقه في أمته أيضًا؛ ومن هذا يتبيَّن مقدار عمل المرأة في تقدُّم الأمم وتأخُّرها.
وبالجملة فإن ارتقاء الأمم يحتاج إلى عوامل مختلفة متنوِّعة من أهمها ارتقاء المرأة، وانحطاط الأمم ينشأ من عوامل مختلفة متنوِّعة أيضًا من أهمها انحطاط المرأة.
فهذا الانحطاط في مرتبة المرأة عندنا هو أهمُّ مانع يقف في سبيلنا ليصدَّنا عن التقدُّم إلى ما فيه صلاحنا، وعلى هذا فليست تربية المرأة من الكماليات التي يُنتَظرُ بها مرور الأزمان، ويجوز الإبطاء في إعداد الوسائل لها كما يتوهَّمه كثير من الناس الذين يطنطنون بمزايا تربية الذكور ويقدِّمونها على تربية البنات، وإنما هي من الحاجيات — بل من الضروريات — التي يجب البدء بها والعناية بتوفير ما يلزم لها من المعدات، وهي الواجب الخطير الذي إن قمنا به سهل علينا كل إصلاح سواه، وإن أهملناه أفسد علينا كلَّ إصلاح سواه.
دلَّت التربية الجديدة التي مُنِحتها نساء أوروبا من نحو قرن على أن المرأة ليست تلك الآلة البسيطة التي وقفها أولئك الأسلاف الغافلون على التناسل، فبمجرَّد ما حلَّ العقل محلَّ القوَّة، وحلَّت الحريَّة محلَّ الاستبداد رأى العالم أن في المرأة أسرارًا لم تعرفها الجاهلية الأولى، وأنها تصلح لوظائف سامية مثل التي يصلح لها الرجال، وأن انحطاطها كان عارضًا لا طبيعيًّا، فلمَّا استيقظت من نومها، واستنار عقلها، واستقامت ملكاتها، وتحلَّت نفسها بالفكر والعلم، ومُرِّنت قواها على العمل؛ صعدت من العقل إلى درجة، وذهبت في رقَّة الشعور إلى غاية لم تكن تخطر في خيال أحد من أهل تلك العصور الخالية، وهي إلى الآن كلَّما تمتَّعت بحريتها زاد ارتقاؤها.
كلُّ مطَّلع على حركات النساء الغربيات وأعمالهن لا يشكُّ في أنهن يأتين من الأعمال العظيمة ما لا قوام للمدنيَّة بدونه: لا يوجد فرع من فروع الصناعة والتجارة، ولا علم من العلوم، ولا فن من الفنون إلَّا والمرأة عاملة فيه مع الرجل كتفًا لكتف، ولا يوجد عمل خيري إلَّا وهي في أوَّل العاملين فيه، ولا تقع حادثة سياسية إلَّا وللمرأة نصيب فيها، وليس بين الصنفين فرق إلَّا أن المرأة لم تنل الحقوق السياسية، فإذا مُنِحَتها كما هو المنتظر في بلاد أوروبا تمَّت المساواة بينهما، على أنها قد نالت منها الآن شيئًا كبيرًا؛ حيث خُوِّل لها حق الانتخاب في أمريكا، وفي إنكلترا في المجالس البلدية، وفي فرنسا في المحاكم التجارية، وفي بعض ممالك الولايات المتحدة تجلس المرأة في المجالس الشورية، ولا تخلو اليوم عاصمة من عواصم أوروبا وأمريكا من جمعية للنساء همُّها أن تطالب بحقوق المرأة والسعي في سبيل اكتسابها، وكلُّ سنة تمرُّ تترك في تاريخ أعمالهن أثرًا شريفًا، وتنتهي بفوز جديد.
ولا يشكُّ أحد من الواقفين على هذه الحركة — التي أظهر فيها هذا الصنف الضعيف قوَّة عجيبة — أن المرأة لا بُدَّ أن تصل في زمن قريب إلى مستوى تبلغ فيه منتهى ما تطلب من مساواتها للرجال في جميع الحقوق، ولا يعلم ماذا يكون بعد ذلك إلَّا الله. وهل يقف النساء عند هذا الحدِّ أو يسبقن الرجال في ميدان التقدُّم والترقِّي.
ومن البديهي أن هذه القوى التي تصرفها النساء في التجارة والصناعة والفنون والعلوم — وإن كانت كل واحدة منها على حدتها — لا يظهر أثرها للناظر في أحوال الأمَّة ولكن لجميعها مجموع واحد يظهر أثره في أحوالها تمام الظهور، وهي رأس مال عظيم نحن مقصِّرون في العناية والانتفاع به.
وعندي أن من أعظم ما يُؤسف عليه حرمان بلادنا من أعمال النساء الخيرية؛ لأن الميل إلى الخير من غرائز المرأة الفطرية، ويقودها إليه رقَّة الإحساس، وحنوُّ القلب، ولها من الصبر على خدمة الفقراء والمرضى ما لا يتحمَّله أعظم الرجال جَلَدًا، ولها اعتناء جميل، واندفاع قلبي، وهذه الصفات توجد عند النساء في الغالب، غير أن المرأة الجاهلة لا تجد من نفسها مرشدًا يهديها إلى سبل الخير فتصرف ما أودعه قلبها من كنوز الرحمة في أصغر الأمور وأحقرها.
ويُروَى عن أم عطية أنها قالت: «وغزوت مع رسول الله سبع غزوات، وكنت أخلفهم في رحالهم، وأصنع لهم الطعام، وأداوي الجرحى، وأقوم على المرضى.»
والذي يقرأ هذه الأسطر يتخيَّل له أنه يرى امرأة غربيَّة من الممرضات اللاتي وهبن حياتهنَّ لخدمة الإنسانيَّة.
والناظر في الأحوال التي فضَّلت فيها شريعتنا الرجل على المرأة مثل الخلافة والإمامة والشهادة في بعض الأحوال لا يجد واحدة منها تتعلَّق بعيشتها الخصوصية وحريتها، وأن الشارع لم يراعِ في هذه المسائل القليلة إلَّا عدم الخروج بالمرأة عن وظيفتها في العائلة، وحصر الوظائف العمومية في الرجال؛ وهو تقسيم طبيعي جرى على مقتضاه إلى الآن التمدُّن في أوروبا، ولا يوجد فيه شيء يمنع من ترقية المرأة والوصول بها إلى أعلى مرتبة تستحقها، وما من عاقل يدرك الغرض الصحيح من تلك الحقوق العظيمة التي خوَّلتها الشريعة الإسلاميَّة إلى المرأة في جميع الأعمال المدنيَّة — ومنها أهليتها لأن تكون وصيَّة على رجل — يستحسن ما يخالفها من عوائدنا التي تؤدِّي إلى حرمان المرأة بالفعل من استعمال هذه الحقوق.
والقارئ الذي تتبع سلسلة القواعد الكلية التي سردتها بغاية الإيجاز لا بُدَّ أن يكون قد لاحظ أنها كلها تتلخَّص في عبارة واحدة هي: أنه لا بُدَّ لحسن حال الأمَّة من أن تحسن حال المرأة. فإذا أرسل الناظر فكره ليحيط بأطراف هذا الموضوع الواسع وبجميع ما يرتبط به من المسائل؛ انجلت له الحقيقة، وتجلَّت له بجميع أسرارها فيرى صورة لا تشابه الخيال الذي كان يظنُّه جسمًا، يرى المرأة التي يهيِّئها المستقبل تتلألأ في أنوار جمالها ظاهرة مظهرها الفطري، ولابسة حلَّة كمالها الثنائي: الجسم والعقل.