خاتمة

تبيَّن للقارئ مما سبق أن ما نريد إدخاله من الإصلاح في حالة النساء ينقسم إلى قسمين: قسم يختصُّ بالعادات وطرق المعاملة والتربية، والقسم الثاني يتعلَّق بدعوة أهل النظر في الشريعة الإسلاميَّة والعارفين بأحكامها إلى مراعاة حاجات الأمَّة الإسلاميَّة وضروراتها فيما يختصُّ بالنساء، وألا يقفوا عند تطبيق الأحكام عند قول إمام واحد إنما كان اجتهاده موافقًا لمصلحة عصره، وأن يدقِّقوا البحث فيما تغيَّر من الأحوال والشئون فإن وجدوا في قول إمام ما تتعسَّر معه المحافظة على كرامة الشرع أقاموا مقامه قول إمام آخر يكون في مذهبه ما يسدُّ الحاجة بدون خروج عن أصول الشريعة العامَّة.

والعمل على تحقيق هذين النوعين من الإصلاح هو كغيره من سائر الأعمال النافعة إنما يتمُّ بالعلم، والعزيمة:

(١) أمَّا العلم

فهو وسيلة الأمَّة لمعرفة حاجاتها، وبه تتنبَّه أذهان أفرادها إلى ما هم فيه وما درجوا عليه من الأخلاق والعوائد والكمالات والنقائص، بحيث يكونون على شعور دائم بأحوالهم، وتكون تلك الأمور دائمًا موضوع بحثهم.

إن من الغفلة بل من أسباب الشقاء أن تكون شئوننا في حياتنا قائمة بعوائد لا نفهم أسبابها، ولا ندرك آثارها في أحوالنا بل إنما نتمسَّك بها؛ لأنها جاءت إلينا ممن سلفنا، وورثناها عمن تقدَّمنا، وذلك كل ما فيها من الحسن عندنا. مع أن هذا وحده لا يكفي لأن يكون سببًا في الأخذ بها، ولا في الثبات عليها، بل يجب أن نفهم أن لنا مصالح ولِمَن سبقنا مصالح، ولنا شئون ولهم شئون، ولنا حاجات لم تكن لهم، وكانت لهم حاجات ليست لنا اليوم، وذلك من البديهي الذي لا يختلف فيه اثنان.

فعلينا أن نأخذ من العوائد، وأن نكسب من الأخلاق ما يلتئم مع مصالحنا؛ فنكون مالكين لمصادر أعمالنا كما يطلب منا العقل والشرع، لا أن نكون عبيدًا لعاداتنا التي وجدنا عليها آباءنا، فيكون مثلنا مثل رجل وجد لباسه ضيقًا فرأى أن يجوع ليهزل ويضعف وينحل حتى يصغر جسمه فيسعه لباسه، لا أن يُصلِح لباسه بتوسعته حتى يتَّفق مع جسمه.

إنا لا نجد عقبة في طريقنا إلى السعادة أصعب اجتيازًا من شدَّة تمسُّكنا بعادات مَن سلفنا من غير أن نميِّز بين تلك العادات صالحها وطالحها، نعم إن الماضي لا يصحُّ أن يُطرَح جملة. لكن يجب أن يُنظَر فيه بالتبصُّر والرويَّة؛ لمعرفة ما أظهر من منافع ومضار.

لا أرى أعجب من حالنا: هل نعيش للماضي أو للمستقبل؟ هل نريد أن نتقدَّم أو نريد أن نتأخَّر؟ نرى العالم في تقلُّب مستمر وشئونه في تغيُّر دائم، ونحن ننظر إلى ما يقع فيه من تبدُّل الأحوال بعين شاخصة، وفكرة حائرة، ونفس ذاهلة لا ندري ماذا نصنع ثمَّ ننهزم إلى الماضي نلتمس فيه مخلِّصًا، ونطلب منه عونًا، فنرتد دائمًا خائبين.

رأينا في هذا القرن حادثة عجيبة أظنُّها وحيدة في التاريخ، رأينا أمَّة بتمامها خلعت عوائدها، وأبطلت رسومها وتخلَّت عن نظاماتها وقوانينها وطرحتها وراء ظهرها، فقطعت كل وصلة بينها وبين ماضيها إلَّا ما كان متعلِّقًا بجامعة شعبها، ثمَّ همَّت فبنت بناءً جديدًا مكان البناء القديم فلم يمضِ عليها نصف قرن إلَّا وقد شيَّدت هيكلًا جميلًا على آخر طرز أفاده التمدُّن، فهبَّت من نومها، ونشطت من عقالها، وشعرت بأن الحياة تدبُّ في بدنها، وتجري في عروقها دمًا حارًّا قويًّا فتيًّا، تلك هي الأمَّة اليابانيَّة صارت تُعدُّ اليوم في صف الأمم المتمدِّنة بعد أن قهرت في بضعة أيام دولة الصين الجسيمة التي لم يقتلها إلَّا إعجابها بماضيها. أليس في ذلك عبرة لكل متبصِّر؟

لو كانت عوائدنا فيما يتعلَّق بالنساء لها أساس في شريعتنا لكان في ميلنا إلى المحافظة عليها ما يشفع لنا. أما وقد برهنا على أن كل ما عرضناه من أوجه الإصلاح يتَّفق تمام الاتفاق مع أحكام الشريعة ومقاصدها فلم يبقَ لنا عذر في التمسُّك بها سوى أنها قد تقدَّست بمرور الزمان الطويل، وأننا غفلنا عن مصالحنا وتدبير شئوننا.

إذا توهَّم بعض القُرَّاء أن ما ورد في كتب الفقهاء من استحسان عدم كشف وجه المرأة، وعدم مخالطتها بالرجال دفعًا للفتنة هو من الأحكام الدينية التي لا يجوز تغييرها؛ فنقول إن هذا الاعتراض مردود بأن الأحكام الشرعية جاءت في الغالب مطلقة وجارية على ما تقتضيه العادات الحسنة ومكارم الأخلاق، ووكَّلت فهم الجزئيات إلى أنظار المكلَّفين، ووضعتها تحت تصرُّف اجتهادهم، وعلى هذا جرى العمل بعد وفاة النبي بين أصحابه وأتباعه.

ولمَّا اتسعت خطة الإسلام، وكثر اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم، وعرضت عليهم حاجات وضرورات اقتضت أحكامًا ومشروعات جديدة، قام المجتهدون بينهم، واستنبطوا لهم من أصول الشريعة العامَّة ما يناسب الوقائع الخاصة ففصَّلوا ما أجمله القرآن والسُّنَّة من الأحكام، وفرَّعوا منها ما يناسب الأحوال والأمصار والأعصار، فهم لم يضعوا بذلك شرعًا، ولم يضيفوا على الدين شيئًا، وإنما كان اجتهادهم قاصرًا على النظر في الجزئيات، وردِّها إلى كلياتها المقرَّرة في الكتاب والسُّنَّة.

ألا ترى أن القرآن لم يبيِّن أهم الفروض مثل أحكام الصلاة، ومواقيتها، وركوعها، وسجودها، ولا مقادير الزكاة وأوقاتها، ولا مناسك الحج، وأن السُّنَّة هي التي رسمت جميع تلك الأحكام مجملة، ثمَّ جاء المجتهدون ففصَّلوا أحكامها وقرَّروا فروعها؟

على هذا النمط تألَّفت شريعتنا: من فروع كلها راجعة إلى أصل واحد؛ فالشريعة الإسلاميَّة إنما هي كليات وحدود عامَّة، ولو كانت تعرَّضت إلى تقرير جزئيات الأحكام لما حُقَّ لها أن تكون شرعًا عامًّا يمكن أن يجد فيه كل زمان وكل أمَّة ما يوافق مصالحهما.

فهذه القواعد الكلية التي تحدِّد أعمالنا بحدود يجب الانتهاء إليها على حسب ما ورد في الكتاب والسُّنَّة الصحيحة هي التي لا تقبل التغيير والتبديل، أمَّا الأحكام المبنيَّة على ما يجري من العوائد والمعاملات؛ فهي قابلة للتغيير على حسب الأحوال والأزمان، وكل ما تطلبه الشريعة فيها هو ألا يخلَّ هذا التغيير بأصل من أصولها العامَّة، فكشف الرأس مثلًا قبيح في البلاد الشرقية؛ لأنه كان معتبرًا في العادة مخلًّا بالمروءة؛ ولهذا السبب اعتُبِرَ عند أهل الشرق قادحًا في العدالة، ولكنه غير قبيح في البلاد الغربيَّة، فلا يكون عندهم قادحًا. فالحكم الشرعي يجب أن يختلف باختلاف ذلك، وجواز إثبات التصرُّفات الشرعية بالشهادة لم يكن الغرض منه معنى مخصوصًا في أشخاص الشهود، وإنما الغرض منه إثبات هذه التصرُّفات بالطريقة التي وقع الاصطلاح عليها ولم يكن غيرها مألوفًا، فإذا تغيَّرت الأحوال، وتبدَّل الاصطلاح، واعتاد الناس على التعامل فيما بينهم بالكتابة؛ تغيَّر كذلك الحكم الشرعي وتحوَّلت طريقة الإثبات من الشهادة إلى الكتابة، وإذا قيل باستحباب ستر المرأة وجهها عن الرجال؛ لخوف الفتنة، وعدم اقتضاء الحال لكشفه في زمان، كان هناك محل لخوف الفتنة، ولا تقضي ضرورات الحياة على المرأة بكشف وجهها فلا مانع من أن يتغيَّر هذا الاستحسان إلى ضده في زمان آخر؛ ذلك لأن اختلاف الأحكام باختلاف العوائد والمصالح ليس في الحقيقة اختلافًا في الشريعة، وإنما هو ردٌّ لأحكام الجزئيات إلى أصولها الكلية، ورجوع بها إلى مقاصدها الشرعية.

تبيَّن من ذلك أن لنا في مأكلنا وملبسنا ومشربنا وجميع شئون حياتنا العمومية والخصوصية الحق في أن نتخيَّر ما يليق بنا ويتَّفق مع مصالحنا بشرط ألا نخرج عن تلك الحدود العامَّة التي أشرنا إليها.

أمَّا التزامنا بما وجدنا عليه آباءنا، وعدم الخروج عن الدائرة التي رسموها لأنفسهم فهو القضاء على الأمَّة الإسلاميَّة بجمود القرائح، وتقييد الأرجل، وغلِّ الأيدي عن كل عمل تحفظ به كونها، وتدافع به عن وجودها، وتتقدَّم به في سبيل سعادتها. بل قد يكون قضاء عليها بالمحو والاضمحلال.

(٢) وأمَّا العزيمة

فهي حثُّ الإرادة إلى كل خير أرشدنا إليه العلم والعرفان والفرار بها من كل شرٍّ دلَّنا عليه البحث والتنقيب، العزيمة هي أشرف قوى الإنسان وأجلُّها وأعظمها أثرًا في أعماله؛ فالتعليم، والتهذيب، وسعة العقل، والأميال الحسنة، والغرائز الطيبة كلُّ ذلك لا يفيد فائدة تُذكَر عند شخص مجرَّد عن العزيمة؛ ولهذا كان ضعف الإرادة أكبر عيب في الإنسان.

نرى الكثير من أهل بلادنا يستحسنون فكرة أو عملًا ولكنهم لا يجدون من أنفسهم همَّة كافية لخدمة تلك الفكرة أو ذلك العمل، ويكفي أنهم يعلمون أن بعض الناس لا يتَّفق معهم في رأيهم لتلاشي إرادتهم وسقوطها، أمَّا إذا علموا أنه ربما يمسُّهم ضرر ما من ناحية ذلك العمل، رأيتهم يفرُّون منه فرارًا.

إن كان لنا أمل في نجاح ما نعدُّه صالحًا لنا فإنما يكون في الرجل الذي يجب أن يعرف ويبحث ليعرف ويعرف بالفعل ما تحتاج إليه بلاده، وله عزيمة تدفعه إلى العمل في جلب ما ينفعها، ودفع ما يضرُّها بالوسائل التي تؤدِّي إلى المطلوب بطبيعتها طال الزمان أو قصر.

فعلى مثل هذا الرجل الكامل نعرض طريقة للعمل فيما نحن بصدده بعد العلم بأن الخطوة الأولى في كل شيء هي من أصعب الأمور؛ لأن الانتقاد جميعه ينصبُّ على مَن يبتدئ في أي أمر خطير، ومن النادر أن يوجد شخص يحسُّ من نفسه قوَّة كافية لمقاومة تيار الانتقاد العام.

فأحسن طريقة أراها لتنفيذ ما عرضناه في هذا الكتاب هي أن تُؤسَّس جمعية يدخل فيها من الآباء مَن يريد تربية بناته على الطريقة التي شرحناها، وأن يُختَار لتلك الجمعية رئيس من كبار المصريين (ولا أظنُّ أن الطبقات العليا من أهل بلادنا تخلو من واحد منهم)، وأن يكون عمل هذه الجمعية في أمرين: الأول التعاون على تربية البنات على هذه القاعدة الجديدة، والثاني السعي لدى الحكومة في إصدار القوانين التي تضمن للمرأة حقوقها، بشرط ألا تخرج في شيء من ذلك عن الحدود الشرعية، ولكن بدون أن تتقيَّد بمذهب من المذاهب بل تأخذ عن كلٍّ منها ما هو موافق لحاجاتنا الحاضرة وضرورات عصرنا، كما حصل مثل ذلك في وضع المجلة العثمانية، وكما حصل عندنا مرارًا في بعض المسائل المتعلِّقة بالمحاكم الشرعيَّة. فإذا تشكَّلت هذه الجمعية يخفُّ اللوم عن كل واحد من أعضائها؛ فإن قوَّة الانتقاد تأتي متوزِّعة على جملة من الأفراد فيسهل احتمالها ومقاومتها فلا يكون في شدَّة الانتقاد ما يبعث على فتور الهمَّة، وضعف الإرادة عن العمل؛ لأن في قوَّة الجماعة من الاقتدار على المدافعة ما ليس في قوَّة الفرد الواحد، والاجتماع هو القوَّة الحقيقية التي بدونها لا ينجح شيء.

نرى حكومتنا تهتمُّ بمسألة صغيرة كمسألة الشفعة فتعيِّن لها لجنة شرعيَّة لتبحث في المذاهب، وتجمع ما تراه منها مناسبًا من الأحكام، ونرى كثيرًا من المصريين يدخلون في كثير من الجمعيات مثل جمعية الرفق بالحيوان، ومعارض الأزهار وغيرها، ولا يضنون بوقتهم ولا بمالهم في تعضيد مشروع من هذه المشروعات يعتقدون صلاحيته. ونرى الجرائد تنشر بين طبقات الأمَّة من المعارف ما يساعد على تربيتها وتهذيبها، وقد آن الوقت الذي يجب فيه على الحكومة، وعقلاء الأمَّة، وأرباب الأقلام أن يوجِّهوا التفاتهم إلى حال المرأة المصريَّة؛ فإني لا أرى مسألة تمسُّ بحياة الأمَّة أكثر منها ولا أحق منها بأن تكون موضوعًا لنظرهم ومجالًا لآرائهم وأفكارهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤