لغز الراديوم المفقود
أوقية واحدة من الراديوم! أمسَك البروفيسور ديكستر في راحَةِ يدِه المفتوحة احتياطيَّ المخزون العالمي من القوة الفريدة التي لا تنضب فيما يبدو؛ تلك القوة التي كانت — وما زالت — أعظمَ الألغاز العلمية. وبقدر ما هو معلوم، لا تتوافر إلا بضع حَفَنات منها في العالم كله — أربع منها في معمل كوري بباريس، واثنتان في برلين، واثنتان في سانت بطرسبرج، وواحدة في جامعة ليلاند ستانفورد، وواحدة في لندن — والباقي كلُّه موجود هنا، هنا في معمل يارفارد، كمية ضئيلة مُكدسة داخل قطعة صغيرة من الصُّلب.
وبينما كان يحدق في تلك الطاقة المُركزة بشدة، شعر البروفيسور ديكستر بقدرٍ من الرهبة والرعب تجاه المسئولية التي أُلقيت على عاتِقه فجأة، وكان هذا طبيعيًّا تمامًا مع اكتمال هذا المشروع الذي طالما بقِي في ذِهنه لشهور. باختصار، كان يتعين تجميع ذرَّات المادة النفيسة المتفرقة في مختلف أنحاء العالم في وحدة كاملة متسقة، بغرض التوسع في التجارب العلمية الخاصة بمدى التطبيق العملي للقوة المحرِّكة. وها هو الأمر قد تحقق.
ونظرًا إلى ندرة المخزون العالمي، كانت هذه المادة لا تُقدَّر بثمن؛ فملايين الدولارات لن تفيَها قدرَها. وعلى أي حال، أحضر مبعوثٌ خاصٌّ كمياتٍ بسيطةً من أرجاء العالم الأربعة، وقامت شركة لويدز بتأمين كل حَفْنَة على حِدَة بقسطٍ تأميني كبير جدًّا. ولم يمرَّ على عمَل البروفيسور ديكستر سوى أشهُر معدودة حتى استطاع أن يحقِّق هدفه، مدعومًا بنفوذ جامعة يارفارد العظيمة التي يشغَل فيها منصبَ رئيس قسم الفيزياء.
على الأقل اسم واحد شهير ارتبط بالتجارب المُزمعة، اسم عالم بارز واختصاصي في علم المنطق، البروفيسور أوجستس إس إف إكس فان دوسن، المُلقب بآلة التفكير. كان اهتمام هذه العقلية الفذة بالعمل انتصارًا للبروفيسور ديكستر، الذي كان شابًّا صغيرًا وغير معروف نسبيًّا. كان العالم الأكبر سنًّا — آلة التفكير — بمثابة مَحكمة الاستئناف في مجال العُلوم؛ ومنذ لحظةِ الإعلان عن ارتباطِ اسمه بخطط البروفيسور ديكستر، ورفاقه حول العالم ينتظرون أولَ تصريح له بفارغ الصبر.
بطبيعة الحال، لم تُنجَز مهمة جمع كمية كبيرة من الراديوم دون تعليقاتٍ صحفيةٍ شاملة — من جانب صحف الإثارة أحيانًا — من جميع أنحاء الولايات المتحدة وأوروبا. وليس من المستغرب أنَّ أخبار استلام يارفارد للكمية الأخيرة من الراديوم كانت مُعلنةً في الصحف اليومية، ومعها تصريح بأن البروفيسور فان دوسن والبروفيسور ديكستر سيبدآن على الفور تجاربَهما.
كان من المقرر أن يُنفَّذ المشروع في المعمل الضخم بيارفارد داخل غرفة عالية الأسقف ذات سطح زجاجي في بعض أجزائه، وذات نوافذ عالية على جدران بعيدة عن العيون المُتلصصة. اتُّخذَت الاستعدادات الكاملة؛ حيث كان من المقرَّر أن يتعاون الرجلان، وأن يوضَع حارس على الباب الوحيد. كان هذا الباب يقود إلى غرفةٍ أصغر، أشبه بقاعة استقبال، كانت بدورها مُتَّصلةً بالرواق الرئيسي للمبنى.
في تلك الأثناء، كان البروفيسور ديكستر وحدَه في المعمل، مترقِّبًا بفارغ الصبر لقاءَه بآلة التفكير ويفكِّر مليًّا في الخُطوات التمهيدية التي اتخذها في المعمل. كان كلُّ جهاز في مكانه المناسب، وكل شيء آخر وُضع جانبًا من أجل هذه التجارب، التي من شأنها إما أن تُحدِث ثورة في مَجال القوة المحركة، أو تُثبت عدم جدوى عنصر الراديوم كقوة عملية.
انقطع حبل أفكار البروفيسور ديكستر بظهور السيد بوين، أحد مدرسي الجامعة.
قال وهو يناوله بطاقة: «بروفيسور، هناك سيدة ترغب في مقابلتك، قالت: إنها مسألة ذات أهمية بالغة بالنسبة إليك.»
حدق البروفيسور ديكستر في البطاقة، بينما استدار السيد بوين وخرج من الغرفة الصغيرة متجهًا إلى الرواق الرئيسي. كان اسم مدام تيريز دو تشاستاني غير مألوف بالنسبة إليه. شاعرًا بالحيرة بعض الشيء وربما بالفضول كذلك، وضع البروفيسور ديكستر بحرصٍ اللوحَ الفولاذي بحمولته من عنصر الراديوم على الطاولة الطويلة، وهَمَّ بالخروج إلى قاعة الاستقبال. وعند الباب تقريبًا، تعثَّر في شيءٍ ما، ثم استعاد اتِّزانه بجهد وقام معتدلًا بحركةٍ سريعة خرقاء.
سَرَت الحُمرة في أذنيه الصغيرتين حين سمع ضِحكةً نسائية — ضحكة موسيقية مبحوحة وساحرة — كان من شأنها أن تكون سائغةً في ظلِّ ظروفٍ أخرى. في تلك الأثناء، انزَعج البروفيسور من كونه غارقًا في شعوره بالارتباك، وارتعد وجهه قليلًا بينما نهضَت سيدة طويلة القامة من جلستها واتجهت نحوه.
قالت في أسف، رغم بقاء ابتسامةٍ طفيفة على شفتَيها الحمراوين: «معذرة! كان هذا بسبب إهمالي. ما كان ينبغي لي أن أضع حقيبتي عند الباب.» ثم رفعتها بخفة وأعادتها إلى نفس الوضع، وأشارت متسائلة: «أم لعل شخصًا آخر يتعثر فيها أثناءَ خُروجه من الباب مِثلما تعثَّرتَ أنت؟»
أجاب البروفيسور، وهو يبتَسم قليلًا وسطَ شعوره بالخجل، قائلًا: «كلا، لا يوجَد أحدٌ بالداخل.»
فرَدَت مدام دو تشاستاني قامتها — مُصدرةً حفيفًا بتنورتها — لتصافح البروفيسور ديكستر، الذي تفاجأ بطول قامتها والخطوط الانسيابية المبهرة لقوامها. بدا أنها تبلغ من العمر ثلاثين عامًا، وبنظرة خاطفة بدا طولُها خمسةَ أقدام وتسع أو عشر بوصات. وبالإضافة إلى تمتعها بقدر من الجمال الأخَّاذ والغامض، كانت تتمتع أيضًا بقُوَّة بدنية استثنائية إذا كان مقدَّرًا للمرء أن يحكم عليها من رباطة جَأشها وسلوكها. حدق البروفيسور ديكستر بها، ثم بالبطاقة مستفسرًا.
أوضحت، وهي تُخرِج خطابًا من حقيبة صغيرة ذات سلاسل مجدولة قائلة: «لديَّ خطابُ تقديم لك من مدام كوري بفرنسا. ألا نذهبُ إلى هناك حيث الإضاءةُ أفضل؟»
سلمتْه الخطاب، وجلسا معًا تحت إحدى النوافذ بالقرب من الباب المؤدي إلى الرواق الخارجي. سحب البروفيسور ديكستر كرسيًّا خفيفَ الوزن قبالتها وفتح الخطاب، وألقى نظرةً سريعة عليه ثم رفع رأسه وفي عينيه نظرة متأججة بالاهتمام.
أوضحت مدام دو تشاستاني بسرور قائلة: «ما كان ينبغي لي أن أقاطعك، لولا أنني أعرف أن المسألة ذات قدر كبير من الاهتمام بالنسبة إليك.»
تساءلت: «أليس كذلك؟» أومأ البروفيسور ديكستر، فتابعت: «إنه عنصر الراديوم. لقد تصادَف أن بحوزتي أوقية راديوم لم يسمَع عنها مجتمع العلوم مطلقًا.»
كرر البروفيسور ديكستر قائلًا: «أوقية راديوم! حقًّا، سيدتي، أنت تذهلينني، تدهشينني. أوقية راديوم؟»
انحنى إلى الأمام في كرسيه وانتظر مترقبًا، بينما سعلت مدام دو تشاستاني بقوة. بعد هُنَيْهَة، انتهت نوبة السعال.
أوضحت له وهي تبتسم: «هذا عقابي على الضَّحك، أثق بأنك ستعذرني؛ فأنا أعاني من التهاب حلق — يا له من عقاب سريع!»
قال البروفيسور في لطف: «أجل، أجل. ولكن ذلك الموضوع … إنه مثير للاهتمام أكثر. ألا تخبرينني عن الأمر؟»
استراحت مدام دو تشاستاني على الكرسي وتنحنحت، ثم بدأت حديثها.
قالت معتذرة: «إنها بالأحرى قصة غير عادية، ولكن صار الراديوم في حوزتي بطريقة طبيعية تمامًا. أنا إنجليزية، ومن ثَمَّ أتحدث اللغة، ولكن زوجي فرنسي كما يتضح من اسمي، وهو مثلك عالم، وبصفةٍ عامة، هو غير معروف على المستوى العالمي؛ وهو غير مرتبط بالعمل مع أي منظمة. وكان يُجري تجاربه بغرض التسلية، وقاده ذلك بالتدريج إلى الاستغراق الكامل في اهتماماته. لسنا أثرياء من منظور الأمريكيين؛ ولكننا مَيْسُورُو الحال.
هذا قدرٌ كبير فيما يخُص أموري. أما بالنسبة للخطاب الذي سلمته لك من مدام كوري، فسيخبرك بالباقي فيما يخص من أكون. حين اكتشف السيد والسيدة كوري عنصر الراديوم، بدأ زوجي بعض الأبحاث على نفس المنوال وثبت أنها ناجحة على نحو لافتٍ للنظر. في البداية، وَجَّهَ جهوده نحو إنتاج الراديوم، ولم أكن مدركة للهدف من وراء هذا حينها، وفي غضون أشهر، أنتج حفنة تلو الأخرى عن طريق عملية تختلف عن تلك التي استخدمها العالِمان كوري، وفي هذه الأثناء كان قد صرف ثروتنا الصغيرة فعليًّا. وفي النهاية، أنتج أوقية تقريبًا.»
علق البروفيسور ديكستر قائلًا: «مثير جدًّا! واصلي حديثكِ من فضلك.»
أردفت مدام دو تشاستاني بعد التوقف لهُنَيْهَة وقد خَفَضت صوتها قائلة: «خلال إنتاج الربع الأخير من الأوقية، أُصيب زوجي بمرض ثبت فيما بعد أنه مميت. لم أكن أعرف الغرض من تجاربه؛ لم أكن أعرف إلا ما تدور حوله هذه التجارب وتكلفتها النسبية. وعلى فراش الموت، كشف لي عن هذا الغرض. والغريب في الأمر أن الغرض كان مماثلًا لغرضك كما أعلنت الصحف؛ أي مدى قابلية استخدام الراديوم قوةً محركة. كان بصدد العمل على خطط تسعى لاستغلال طاقة عنصر الراديوم حين وافته المنية، لكن لم تكتمل هذه الخطط، ولسوء الحظ خرجت في هذا الشكل لكي تكون غامضة للآخرين.»
توقفت عن الحديث لهُنَيْهَة، وجلستْ صامتة لدقيقة. راقب البروفيسور ديكستر وجهَها، ولاحظ عليه مِسحة من الحزن والأسى، ونبَتَ في قلبه الكبير شعورٌ بالتعاطف.
تساءل البروفيسور: «إذن، ما غرضكِ من المجيءِ لمقابلتي الآن؟»
تابعت مدام دو تشاستاني حديثها: «أعرفُ الجهودَ التي تبذلها في هذا الصدَد، والصعوبات التي تواجهها لجمع الكمية الكافية من الراديوم اللازمة للتجارب التي تفكِّر في إجرائِها. وخطَر على بالي أن ما أملكه، والذي لا يوجد من ورائه فائدةٌ محتمَلة بالنسبة إليَّ، يمكن أن يُباع إليك أو إلى الجامعة. وكما قلت، توجد أوقية منه تقريبًا، إنه موجود في مكان يمكنني بسهولة الوصول إليه، وبالتأكيد من المفترض بك أن تجري تجاربَ تُثبت أنه بالفعل ما ينبغي أن يكون.»
شهق البروفيسور ديكستر قائلًا: «يُباع؟ يا إلهي، هذا مستحيل، يا سيدتي. الموارد المالية للكلية ليست وفيرةً لدرجة يتعذر معها توافر المبالغ الطائلة اللازمة لشراء هذه الكمية.»
اختفى بصيص الأمل من وجه الشابَّة، وأنبأَتْ إشارة سريعة من يديها عن شُعورها بالإحباط.
في النهاية، قالت: «أنت تتحدثُ عن مبالغ طائلة. أنا، بالطبع، لا أصبو إلى الحصول على مبلغ قريبٍ من القيمة الفعلية للمادة؛ ربما مليون؟ أو ربما بضع مئات من الآلاف وحسب؟ شيء يمكن تحويله إلى أموال متاحة يُعوِّضني عن الثروة التي استُنزفَت.»
كان في صوتها العَذب جاذبية، وأخذ البروفيسور ديكستر يفكِّر في الأمر بعُمق لبضع دقائق، وهو يحدِّق خارج النافذة.
بعد هُنَيهة، هُرعَت السيدة نحوه قائلة: «أو ربما … لعلك تحتاج المزيد من الراديوم لإجراء التجارب التي بين يديك الآن، ولعلي أتلقَّى مبلغًا من المال لاستغلال ما أملِكه؟ نوع من حقوق الملكية؟ أنا على استعداد لفعل أيِّ شيءٍ في حدود المنطق.»
مرت فترة صمت طويلة مرةً أخرى. مع توافر هذه الكمية من الراديوم التي لم يسمع عنها من قبل، رأى البروفيسور ديكستر أمامه احتمالاتٍ وردية، سيطرت عليه الفكرة بقوةٍ أثناء التدبر فيها مليًّا. رأى فرصة ضعيفة للشراء — ولكن استخدام المادة أثناء إجراء تجاربه! يمكن ترتيب ذلك.
في النهاية، قال: «سيدتي، أود أن أشكركِ كثيرًا على مجيئكِ لمقابلتي. ورغم أنني لا أستطيع أن أعدَكِ بشيء، فأنا أستطيع أن أعدكِ بتوصيل الأمر إلى أشخاص معينين، ربما يكون في مقدورهم فعلُ شيء من أجلك. إنه أمر مذهل تمامًا. أجل، لعلي أقول: إنني سأفعل شيئًا، ولكنني قد أستغرق عدة أيام لطَرح الأمر. ألا تمهلينني هذه المدة؟»
ابتسمت مدام دو تشاستاني.
وقالت: «بالطبع، لا بد أن أفعل.» ومن جديد انتابتها نوبةُ سعال، نوبة سعال متقطِّع موجع بدت أنها تهزُّ جسدَها كله. وأردفت، حين انتهت النوبة، قائلة: «بالطبع، لا آمل سوى أن يكون بإمكانك أن تفعل شيئًا، إما بخصوص الشراء أو الاستغلال.»
سألها البروفيسور ديكستر: «هل بإمكانكِ تثبيت سِعرٍ محدد للكمية التي لديكِ — أي سعر البيع — وسعر آخر للاستعانة به؟»
«لا يمكنني الارتجال هنا، ولكن ها هو عنواني على البطاقة — فندق تيتونيك. أتوقع المكوث هناك لبضعة أيام ويمكنك الاتصال بي في أي وقت. أرجوك، من فضلك!» خيَّم على صوتِها نبرة توسل، وهي تضع يدها على ذراعه قائلة: «لا تتردَّد أن تَطرح عليَّ أي عرض، سأكون مسرورة للغاية بقبوله إن كان في مقدوري.»
ثم نهَضت، ووقف البروفيسور ديكستر إلى جوارها.
وتابعت حديثها: «لعلمك، سأوضح أنني وصلت توًّا إلى هذه البلدة أمس على متن باخرة قادمة من ليفربول، وأنا معوزة لدرجة أنني في غضون ستة أشهر سأعتمد بصورة مطلقة على ما قد أحقِّقُه من هذا الراديوم.»
عبرت إلى الجانب الآخر من الغرفة والتقطَت الحقيبة، ثم ابتسمت مجددًا فيما يبدو حين تذكرت تعثر البروفيسور ديكستر على نحو مُربك. استدارت بحمولتها لتخرج.
أشار البروفيسور ديكستر، وهو يتجه مسرعًا نحو الحقيبة قائلًا: «اسمحي لي، يا سيدتي.»
ردت بسلاسة قائلة: «أوه كلا، إنها خفيفةٌ للغاية.»
تبادلا عبارات قليلة معتادة، ثم خرجت. أخذ البروفيسور ديكستر يحدق فيها عبر النافذة، ولاحظ — بقدرٍ من الإعجاب في عينيه — الخطوط الرشيقة والمتينة لقوامها أثناء ركوبها العربة وتحركها بعيدًا. وقف مستغرقًا في تفكير عميق لمدة دقيقة، متدبرًا الاحتمالات المترتبة على إعلانها غير الرسمي عن وجود هذه الكمية من الراديوم المخفي.
ثم تمتم وهو يستدير ويدخل إلى غرفة عملِه مجدَّدًا قائلًا: «لو أنني أمتلك هذا أيضًا.»
وبعد مرور لحظات، دوَّت صرخة — صرخة مدوية ومتعجبة — من المعمل، وخرَج البروفيسور ديكستر، بوجهٍ شاحبٍ، مُهرولًا عبر قاعة الاستقبال وفتح الباب على مصراعيه متوجهًا إلى الرواق الرئيسي. تجمَّع حوله ستة طلاب، ومن الجهة المقابلة من الرواق ظهر السيد بوين المدرس بعينين تَملؤهما الدهشة.
صاح البروفيسور ديكستر لاهثًا: «الراديوم اختفى — سُرق!»
حدق أفراد المجموعة الصغيرة بعضهم في بعض بوجوه خالية من التعبير، بينما أخذ البروفيسور ديكستر يهذي في وهن ويمرر أصابعَه عبر شعره. كان هناك تساؤلات وتخمينات؛ واحتدَمت موجةٌ من الثرثرة حولَه حين ظهرت على المشهد ملامح وجه جديد. كانت لرجل ضئيل البنية ذي رأس أشقر كبير وانحناءة حادة على جانِبَي فمه. كان قد استدار توًّا عند منعطف في الرواق.
صاح البروفيسور ديكستر، وقد أحكم قبضتَه على ذراع آلة التفكير الطويلة والنحيلة في اهتياج شديد، قائلًا: «أوه، بروفيسور فان دوسن.»
تذمر آلة التفكير، وهو يحاول تخليصَ ذراعِه من البراثن، قائلًا: «يا إلهي! يا إلهي! لا تفعل ذلك. ما الخطب؟»
أوضح البروفيسور ديكستر: «الراديوم اختفى — سُرق!»
تراجع آلة التفكير قليلًا ونظر شَزْرًا وبحزم في العينين المنتفختين لزميله العالم.
وأخيرًا قال: «يا إلهي، هذه حماقة. تفضَّل، أرجوك، أخبِرْني بما حدث.»
تبعه البروفيسور ديكستر إلى قاعة الاستقبال والعرق يتصبَّب من جبينه ويداه ترتجفان، استدار آلة التفكير وأغلق البابَ المؤدي إلى الرواق وأدار القُفل. ومن الخارج سمع السيد بوين والطلاب صوت المزلاج وانصرفوا لنشر الخبر العجيب بسرعة عبر الجامعة العريقة. وفي الداخل، غاص البروفيسور ديكستر في مقعده بعينين محدقتين وشفتين ترتَعشان بعصبيَّة.
تساءل آلةُ التفكير في انفعالٍ: «يا إلهي، هل جُننتَ يا ديكستر؟ تمالَك نفسك. ماذا حدَث؟ ماذا كانت ملابساتُ الاختفاء؟»
أشار البروفيسور ديكستر: «تعالَ، تعال إلى داخل المعمل، وانظر.»
قال الآخر بفارغ صبر: «أوه، دعك من ذلك الآن، أخبرني ماذا حدث؟»
ذرع البروفيسور ديكستر الغرفة الصغيرة جيئةً وذَهابًا مرَّتين، ثم جلس مرة أخرى محاولًا السيطرةَ على نفسه في جهد ملموس. ثم أخبره بقصة زيارة مدام دو تشاستاني، بنبرة متعثرة ولكن بالتفصيل؛ ليشمل كل الملابسات بدءًا من الوقت الذي وضع فيه الراديوم على الطاولة في المعمل، وحتى متابعة مغادرتها للمكان بالعربة. تراجع آلة التفكير في كرسيِّه، وهو يضيق عينيه ويضم أطراف أصابعه البيضاء والمستدقة معًا.
وتساءل في النهاية: «كم مكثَت هنا؟»
«عشر دقائق، على ما أظن.»
«أين جلسَت؟»
«حيث تجلس أنت، قبالة باب المعمل.»
نظر آلة التفكير نحو النافذة الموجودة وراءه.
تساءل: «وأنت؟»
«جلست هنا قبالتها.»
«أنت متأكد من أنها لم تدخل المعمل؟»
أجاب البروفيسور ديكستر فورًا: «متأكد، أجل. لم يدخل أحد هذا المعمل اليوم، باستثنائي أنا. لقد بذلت قصارى جهدي للتأكد من عدم دخول أحد. وعندما تحدث إليَّ السيد بوين، كنت أمسك الراديوم في يدي. لم يفعل شيئًا سوى أنه فتح الباب وأعطاني البطاقة وخرج، وبالتأكيد، مستحيل أن …»
فجأة، انفجر آلة التفكير في غضَب، قائلًا: «لا شيء مستحيل، سيد ديكستر. هل تركت مدام دو تشاستاني في هذه الغرفة وحدَها في أي لحظة؟»
أوضح ديكستر مؤكدًا: «كلا، كلا، كنت أنظر إليها خلال كل دقيقة مكثتها هنا؛ لم أترك الراديوم من يدي حتى خرج السيد بوين من هذه القاعة وتوجه إلى الرواق، ثم دخلت أنا هذه القاعة وقابلتها.»
جلس آلة التفكير في صمت تامٍّ لبضع دقائق ينظر شزرًا إلى أعلى، بينما أخذ البروفيسور ديكستر يحدق في الوجه الغامض في قلق.
وأخيرًا جازف البروفيسور قائلًا: «أتمنى ألَّا تظن أنه خطئي؟»
لم يعلق آلة التفكير.
وبدلًا من ذلك، تساءل: «أي نوع من الأصوات كان صوت مدام دو تشاستاني؟»
أجفل البروفيسور قليلًا في ارتباك.
رد قائلًا: «صوت عادي، صوت خفيض لامرأة متعلمة ومهذبة.»
«هل رفعت صوتها في أي وقت أثناء الحديث؟»
«كلا!»
«لعلها عطست أو سعلت أثناء الحديث معك؟»
ارتسمت الدهشةُ الخالصة على وجه البروفيسور ديكستر.
وأجاب: «سعلت، أجل، بشدة.»
هتف آلة التفكير ولمَعت في عينيه الزرقاوين الضيقتين ومضة إدراك عميق: «أها! مرتين، على ما أظن؟»
كان البروفيسور يحدق في العالم بوجه خالٍ من التعبير.
وأجاب: «أجل، مرتين!»
«أي شيء آخر؟»
«حسنًا، أظن أنها ضحكت.»
«ماذا كانت مناسبة ضحكتها؟»
«تعثرتُ في حقيبة كانت قد وضعَتْها بجوار باب المعمل هناك.»
استوعب آلة التفكير هذه المعلومة دون أن يُبدي أيَّ انفعالات، ثم أمسك خطابَ التقديم الذي أعطته مدام دو تشاستاني إلى البروفيسور ديكستر، والذي كان يمسكه في يده مجعدًا. كانت مذكرة قصيرة، فقط بضعة أسطر بالفرنسية توضح رغبةَ مدام دو تشاستاني في مقابلة البروفيسور ديكستر لمسألة هامة.
تساءل آلة التفكير بعد أن ألقى نظرةً خاطفة: «هل تعرف خط مدام كوري؟ بالطبع، لديك بعض المراسلات معها حولَ هذا العمل؟»
رد البروفيسور: «أجل، أعرف خطَّها. أظن أن هذا أصلي، إذا كان هذا ما تقصِده.»
علق آلة التفكير: «سنرى ذلك بعد قليل.»
ثم وقف وشق طريقه إلى المعمل. وهناك أشار إليه البروفيسور ديكستر بالضبط إلى المكان الذي ترك عنده الراديوم فوق الطاولة. وحين وقف إلى جوار المكان، أجرى بعض العمليات الحسابية في ذهنه وهو يحدِّق بعينيه في الغرفة، في النوافذ المرتفعة، والسقف الزجاجي بالأعلى، والباب الوحيد. ثم تزايدت التجاعيدُ حول حاجبَيه الطويلين.
«أفترض أن جميع النوافذ على الحوائط مغلَقة بإحكام؟»
«أجل، دومًا.»
«وتلك الموجودة على السَّقف الزجاجي؟»
«أجل.»
«إذن، أحضِر لي سلمًا نقالًا من فضلك!»
بعد بضع دقائق، جاء السلم. راقب البروفيسور ديكستر الموقفَ في فضول وبقدر من التفهُّم، بينما تفحص آلة التفكير كلَّ مزلاج موجود على النوافذ ونقر الألواح الزجاجية باستخدام مُدْيَة. وعندما فحص النافذة الأخيرة ووجد أن جميعها موصدة، نزل السلم.
صاح بفظاظةٍ قائلًا: «يا إلهي! هذا غريب تمامًا — الأكثر غرابة. إن كان الراديوم قد سُرق عبر قاعة الاستقبال، إذن … إذن …» ثم ألقى نظرة سريعة حول القاعة مرة أخرى.
هز البروفيسور ديكستر رأسه. كان قد استعاد تمالُكَ نفسه بعض الشيء، إلا أن ارتباكه أشعره بالعجز.
أخيرًا سأله آلة التفكير في برود: «هل أنت متأكد، بروفيسور ديكستر، هل أنت متأكد من أنك وضعت الراديوم حيثما أشرت؟»
كان في صوته نبرة اتهام، احمرت وجنتا البروفيسور ديكستر.
وأجاب قائلًا: «أجل، أنا متأكد.»
«وأنت واثق تمامًا أن السيد بوين لم يدخل هذه الغرفة، وكذلك مدام دو تشاستاني أيضًا؟»
«أنا متأكد تمامًا.»
أخذ آلة التفكير يجول حول الطاولة الطويلة دون أن يبدي أيَّ اهتمام، ممسكًا الأدوات المألوفة والأجهزة اللامعة ببراعة خَبير.
وفي النهاية، طرح سؤالًا غير ذي صلة بالموضوع: «هل ذكرت مدام دو تشاستاني، عَرَضًا، وجودَ أي أطفال؟»
أجفل البروفيسور ثانيةً.
وأجاب: «كلا.»
«أطفال بالتبنِّي أو أي شكل آخر؟»
«كلا.»
«إذن، ما نوع الحقيبة التي كانت تحملها؟»
أجاب البروفيسور ديكستر: «أوه، لا أعرف. لم ألاحظ على وجه الخصوص. بدت النوعية المعتادة من الحقائب — حقيبة جلدية على ما أظن.»
«قلت إنها وصلت إلى هذه البلدة أمس؟»
«أجل.»
تذمر آلة التفكير قائلًا: «هذا غريب للغاية.» ثم كتَب في عُجَالة سطرًا أو سطرين على قصاصة ورق، وأعطاها إلى البروفيسور ديكستر.
«أرسلْ هذا بالتلغراف على الفور.»
مدام كوري، باريس
هل أعطيتِ مدام دو تشاستاني خطاب تقديم للسيد ديكستر؟ برجاء سرعة الرد
حدق البروفيسور ديكستر في الرسالة بعينين مفتوحتين قليلًا.
أردف قائلًا: «أنت لا تعتقد أن مدام دو تشاستاني قد تكون …»
قاطعه الآخر على نحو مباغت: «أعتقد أنني أعرف ماذا ستكون إجابة مدام كوري.»
«وماذا ستكون؟»
جاء الرد تأكيدًا: «ستكون كلا، وحينئذٍ …» سكت للحظة.
«حينئذٍ …؟»
«ربما تكون مصداقيتُك محل شك.»
رأى البروفيسور ديكستر، بوجه متأجج وأسنان مطبقة بإحكام ودون أن يتفوه ببنت شفة، آلة التفكير وهو يفتح الباب ويخرج منه. ثم سقَط على الكرسي ودفن وجهَه بين يديه. وهناك وجده السيد بوين بعد مُرور بضع دقائق.
قال البروفيسور وهو يرفع بصره: «أوه، السيد بوين، من فضلك أرسل هذه البرقية فورًا.»
وما إن وصل آلة التفكير إلى غرفته، حتى اتصل بالصحفي هاتشينسون هاتش في مكتب صحيفته. بدا على ذلك الشاب الطويل القامة، النحيل القوام، الشغوف المظهر انفعالات مكبوتة حين توجَّه مسرعًا إلى حجيرة الهاتف للرد عليه، وجعلت فورة الحماس الخالص صوته يهتز حين تحدَّث. تفهَّم آلة التفكير الأمر على الفور.
قال: «أود التحدث معك بخصوص سرقة الراديوم في يارفارد.»
أجاب هاتش قائلًا: «أجل، لقد سمعت الخبر توًّا؛ جاءت نشرة من مقر الشرطة، كنت على وشك الخروج للتحقق من الأمر.»
طلب آلة التفكير منه: «أرجوك، افعل من أجلي شيئًا أولًا. اذهب على الفور إلى فندق تيتونيك، وتحقَّق مما إذا كانت مدام دو تشاستاني، التي تنزل هناك، تصطحب طفلًا معها أم لا.»
رد هاتش: «طبعًا، بالتأكيد، ولكن القصة …»
قاطعه آلة التفكير بحدة قائلًا: «هذه هي القصة. إذا لم تستطع معرفة شيء بخصوص الطفل من الفندق، توجه إلى الباخرة التي جاءت على متنها أمس من ليفربول واسأل هناك. لا بد أن أحصل على دليل قاطع ودامغ ومؤكد.»
أجاب هاتش: «أنا ذاهب.»
ثم وضع سماعة الهاتف وأسرع إلى الخارج. تصادف أنه كان على معرفة مهنية بكبير موظفي فندق تيتونيك، رجل مهذب قليل الكلام ممتلئ القوام كان يمثِّل مصدرًا للمعلومات الخاصة أحيانًا، قضى حياته يضع الأرقام في خانات.
حيَّاه هاتش قائلًا: «أهلًا، تشارلي. هل مدام دو تشاستاني تنزل هنا؟»
أجاب تشارلي: «أجل!»
«معها زوجها؟»
«كلا!»
«جاءت وحدها؟»
«أجل!»
«ليس معها طفل؟»
«كلا!»
«كيف تبدو؟»
قال تشارلي: «رائعة!»
بدت الثرثرة الأخيرة تروي تعطُّش الصحفي للمعلومات، ثم خرج مسرعًا إلى الرصيف البحري حيث تقف الباخرة غرناطة القادمة من ليفربول. وعلى متن الباخرة، بحث عن أمين حسابات الباخرة، وسأله الأسئلة نفسها وتوصِّل إلى النتيجة نفسها. لا يوجد أي أثر لطفل. ثم توجَّه هاتش إلى منزل آلة التفكير.
تساءل العالم: «حسنًا؟»
هزَّ الصحفي رأسه.
وأوضح قائلًا: «لم تُرَ أو تتحدثْ إلى أي طفل منذ أن غادرت ليفربول بحسب ما تأكدت منه.»
لم تظهر المفاجأة على آلة التفكير، وإنما سرَى اضطراب يسير في سلوكه وحسب. وقد ظهر هذا على حركة يده السريعة والتجاعيد حول حاجبيه وتضييق عينيه. تراجع في كرسيه، وظل صامتًا ومستغرقًا في التفكير لفترة طويلة.
وأخيرًا، انفجر العالم قائلًا: «من المستحيل، من المستحيل، من المستحيل أن يكون الأمر كذلك.»
ونظرًا لعدم معرفته الشخصية بالموضوع، أيًّا ما كان، ظل هاتش صامتًا في حذر. وبعد هُنَيْهَة، نبه آلة التفكير نفسه بحركة سريعة، وحكى للصحفي قصة الراديوم المفقود حسبما هو معروف حتى الآن.
وأوضح قائلًا: «خطاب التقديم من مدام كوري مهَّد الطريق أمام مدام دو تشاستاني. بصراحة أعتقد أن الخطاب مزور، لقد أرسلت برقية لأسأل مدام كوري، والرد بالنفي منها سيعني أن تخميني في محله، والرد بالإيجاب سيعني … ولكنَّ هذا ليس جديرًا بالوضع في الاعتبار. الآن، يبقى السؤال: ما الطريقة المستخدمة لجعل الراديوم يختَفي من الغرفة؟»
فُتح الباب وظهرت مارثا، سلمت آلة التفكير برقية، فتحها بأصابعه في عُجالة. وألقى نظرة خاطفة على الورقة، ثم هبَّ واقفًا فجأة وجلس مرة أخرى بنفس القدر من المفاجأة أيضًا.
غامر هاتش بالسؤال، قائلًا: «ما الخطب؟»
جاءت إجابتها: «الرد هو «نعم»!»
في عزلة معمله الصغير، كان آلة التفكير يُجري بعضًا من التجارب الكيميائية في حوالي الساعة الثامنة من تلك الليلة. كان يرفع قارورة مُدرجة تحتوي على سائل مبهم مائل إلى اللون الأرجواني كي ينفذ ضوء المصباح خلالها، حين ومضت فكرة في ذهنه، ترك القارورة تسقط على الأرض وتتهشَّم.
تمتم، وهو ينعطف نحو الغرفة المجاورة دون أن يلقي نظرة على الزجاج المُهشَّم، قائلًا: «يا لغبائي!» وبعد دقيقة، كان يتحدث إلى هاتشينسون هاتش على الهاتف.
قال له آمرًا: «تعالَ فورًا!»
أجبرت نبرة صوته هاتش على التحرك سريعًا. أمسك بقبعته وخرج مسرعًا من مكتبه، وعندما وصل إلى غرفة آلة التفكير، كان الرجل قد خرج توًّا من الغرفة التي يوجد فيها الهاتف.
أخبره العالم مُحبِطًا أي أسئلة لدى الصحفي: «عرفت. هو أمر بسيط على نحو سخيف، لا أتخيل كيف فاتني هذا الأمر بسبب غبائي.»
ابتسم هاتش وهو يغطي فمه بيده. بالتأكيد، الغباء تهمة بعيدة كل البعد عن آلة التفكير.
سأله العالم: «هل جئت بسيارة أجرة؟»
«أجل، تنتظرني في الخارج.»
«إذن، هيا بنا!»
خرجا معًا. أعطى العالم سائق السيارة بعض التعليمات ثم انطلقوا.
أوضح آلة التفكير قائلًا: «ستلتقي بشخصٍ استثنائي للغاية، ربما يسبب متاعب وربما لا يفعل — على أي حالٍ احترس منه؛ فهو مخادع.»
كان هذا كل شيء. وصلت السيارة الأجرة أمام مبنًى كبير، من الواضح أنه نُزُل للطبقة الوسطى. قفز آلة التفكير خارج السيارة، تبعه هاتش، وصعدا معًا درجات السلم. أجابت خادمة على جرس الباب.
«هل السيد … السيد … أوه، ما اسمه؟» طقطق آلة التفكير إصبعيه كما لو أنه يحاول تذكُّر شيءٍ ما. «السيد … الرجل النبيل الضئيل البنية الذي جاء من ليفربول أمس …»
ابتسمت الخادمة ابتسامة واسعة قائلة: «أوه، تقصد السيد بيركرستورم؟»
صاح العالم قائلًا: «أجل، هذا هو الاسم. هل هو موجود بالداخل، من فضلكِ؟»
قالت الخادمة: «أظن ذلك، يا سيدي. ألا آخذ بطاقتك؟»
رد آلة التفكير قائلًا: «كلا، ليس ضروريًّا. نحن من المسرح، وهو يتوقع قدومنا.»
قالت الخادمة: «الطابق الثاني، بالخلف.»
صعدا السلم وتوقَّفا أمام أحد الأبواب. حاول آلة التفكير فتحه برفق. لم يكن موصدًا، فدفع الباب لينفتح. توهج ضوء ساطع منبعث من مصباح كيروسين؛ ولكن لم يكن يوجد أحد على مرمى البصر. وبينما كانا يقفان في صمت، سمعا خشخشة أوراق صحيفة فنظرا في الاتجاه الذي جاء منه الصوت.
ومع ذلك، لم يظهر أحد. رفع آلة التفكير إصبعًا ومشى على أطراف أصابعه إلى كرسيٍّ مُغطًّى بستار ويواجه الناحية الأخرى. اختفت يد نحيلة على الجانب الآخر لترفع الستار فورًا. وتلوَّى في قبضته رجل — رجل دمية — قزم صغير يرتدي سترة قطنية وخُفًّا، يسبُّ بطلاقةٍ باللغة الألمانية. انفجر هاتش في الضحك، نوبة جنونية من الضحك جعلت أنفاسه تتقطَّع.
قال آلة التفكير في جدية: «السيد بيركرستورم، السيد هاتش. هذا هو الرجل النبيل، يا سيد هاتش، الذي سرق الراديوم. قبل أن تبدأ الحديث، سيد بيركرستورم، سأخبرك بأنه أُلقي القبض على مدام دو تشاستاني وقد اعترفت.»
قال الرجل الألماني الضئيل البنية في غضب: «أوه، ربَّاه! دعني أنزل عن الكرسي، أرجوك!»
أنزل آلة التفكير الرجل الضئيل البنية المتملص على الكرسي، بينما ذهب هاتش ليغلق الباب ويوصده. وعندما عاد الصحفي وألقى نظرة، اختفى الضحك. الوجه المجعد للقزم، الجسد الطفولي، ملابس الدمية، بالإضافة إلى العجز المثير للشفقة للبنية الضئيلة. ربما كان في الخامسة عشرة من عمره أو الخمسين، ووزنه لا يتعدى بالتأكيد أكثر من خمسة وعشرين رطلًا، وطوله لا يكاد يصل إلى ثلاثين بوصة.
شرع السيد بيركرستورم يوضح في تخبُّط: «لقد كان مثلما فعلنا في المسرح، و…»
تساءل آلة التفكير في فضول كما لو أن سؤالًا في مخيلته قد حُسم أمره: «أوه، أهكذا كان الأمر؟ ما اسم مدام دو تشاستاني الحقيقي؟»
أعلن السيد بيركرستورم في فخر وبأسلوب الإعلانات المسرحية: «إنها الآنسة فاشون، وأنا القزم المدهش، الكونت فون فريتز.»
خطر على بال هاتش فكرة بخصوص ما حدث؛ فذهل من الوقاحة المطلقة التي سهَّلت وقوع الأمر. نهض آلة التفكير وفتح باب الخزانة الذي كان يحدق به. سحب من تجويف مظلم حقيبة ومنها أخرج صندوقًا فولاذيًّا صغيرًا.
قال وهو يفتح الصندوق: «أوه، ها هو الراديوم. فكر في الأمر، سيد هاتش. شيء قيمته الفعلية ملايين موجودٌ في ذلك الصندوق الصغير.»
أخذ هاتش يفكِّر في الأمر، فكر في عدة أمور مختلفة؛ بينما كان يستنبط في مخيَّلته الفقرة الافتتاحية لهذه الحكاية الكبيرة المتشابكة. أخذ يفكر فيها بينما كان يصطحب هو وآلةُ التفكير القزمَ طوعًا إلى السيارة الأجرة؛ ليعودوا أدراجهم إلى منزل العالم.
بعد مرور ساعة، استُدْعِيَتْ مدام دو تشاستاني. تخيلت أن زيارتها لها علاقة بشراء أوقية الراديوم، راقبها المحقق مالوري بطرف عينه الخبيرة، وخطر على باله أنها تصورت ذلك. كان المدعو التالي هو البروفيسور ديكستر. كان الغضب الجمُّ ينهش قلبه، ولكنه لبى الاستدعاء الهاتفي. اكتملت الحفلة بحضور آلة التفكير وهاتش.
قال آلة التفكير في هدوء: «الآن، من فضلك سيدة دو تشاستاني، ألا تخبرينني ما إذا كان لديكِ أوقية أخرى من الراديوم بالإضافة إلى ما سرقتِه من معمل يارفارد.»
هبت مدام دو تشاستاني لتقف على قدميها؛ بينما حدَّق آلة التفكير إلى أعلى وهو يضيق عينيه ويطبق أطراف أصابعه معًا. لم يغير من وضعه ولو قليلًا بسبب حركتها المفاجئة، غير أن المحقق مالوري فعل ذلك.
صرخت مدام دو تشاستاني قائلة: «سرقته؟ سرقته؟»
قال آلة التفكير بسرور: «تلك الكلمة التي استخدمتُها.»
تقافزت في عينَي السيدة نظرةٌ وحشية ضارية. تورَّد وجهها، ثم اختفت الحمرة وجلست مرة أخرى في شحوب تام.
أردف آلة التفكير قائلًا: «حكى لي الكونت فون فريتز الجزءَ الذي يخصه من الموضوع.» مال إلى الأمام والتقط لفافة من فوق الطاولة. «ها هو الراديوم. الآن، هل لديك أي كمية أخرى بالإضافة إلى هذه الكمية؟»
«الراديوم!» لهث البروفيسور في ارتياب.
علق آلة التفكير قائلًا: «ما دمتِ لم تنكري الأمر، فلنأذن للكونت فون فريتز بالدخول، سيد هاتش.»
فتح هاتش الباب. قفز القزم إلى داخل الغرفة بأسلوب مَسرحي صِرف.
تساءل العالم قائلًا: «هل هذا يكفي، آنسة فاشون؟» كان هناك نبرة سخرية في صوته.
أومأت مدام دو تشاستاني في خمول.
أردف آلة التفكير قائلًا: «بالتأكيد، سيثير اهتمامك معرفة كيف اكتُشف الأمر. أظن أن مصدر إلهامك للسرقة هو مقال صحفي، وبالتأكيد أنت تعرفين على الأرجح أنني مهتم للغاية بالتجارب المزمع إجراؤها. زرتُ المعمل على الفور بعد أن غادرتِ بالراديوم. وأخبرني البروفيسور ديكستر بقصتك. كانت بارعة، بارعة، ولكن هناك الكثير جدًّا من الراديوم، ومن ثَمَّ، غير معقول. إن كان هذا غير صحيح، فإذن لماذا كُنتِ هناك؟ الإجابة واضحة.
لم تدخلي أنتِ أو أي أحد آخر ذلك المعمل باستثناء السيد ديكستر. ورغم ذلك، اختفى الراديوم. كيف؟ كان انطباعي الأول هو أن دورك في السرقة اقتصر على شغل السيد ديكستر أثناء دخول أحدهم المعمل للبحث عن الراديوم، عبر نافذة موجودة في السطح الزجاجي، بواسطة أداة ما مبتكرة. سألت السيد ديكستر عن تصرفاتك بالتفصيل، وتوصلت إلى الرأي بأنك إما سعلتِ أو عطستِ. لقد سعلتِ مرتين — وهي إشارة واضحة — ومنْ ثَمَّ تعززَتْ وجهة النظر تلك.
بعد ذلك، فحصتُ أقفال النوافذ والسطح — جميعها كان موصدًا. ثم نقرتُ فوق الزجاج لأرى ما إذا حدث تلاعب فيه. لم يحدث. من الواضح أن الراديوم لم يختفِ عبر قاعة الاستقبال؛ وبالتأكيد لم يختفِ بأي طريقةٍ أخرى — ورغم ذلك فقد اختفى. كانت معضلة بارعة حتى تذكرت أن السيد ديكستر ذكر وجود حقيبة. لماذا تحمل امرأة، في مهمة عمل، حقيبة؟ أو لماذا تتكبد سيدة عناء حمل الحقيبة إلى قاعة الاستقبال بدلًا من أن تتركها في العربة، ما لم يكن لديها سبب وجيه لذلك؟
الآن، لا أظن أن لديك أي كمية من الراديوم؛ أعرف أنكِ أرسلتِ إشارة إلى السارق الحقيقي من خلال السعال. ومن ثم، كنت على استعداد لتصديق أن الحقيبة هي حل للغز السرقة. كيف؟ من الواضح أن شيئًا ما مُخبَّأ فيها. ما هو؟ قرد؟ استبعدت هذا؛ لأن السارق لا بد أن يتمتع بالقدرة على التفكير المنطقي. لو لم يكن قردًا، إذن ماذا يكون؟ طفل؟ هذا يبدو أكثر ترجيحًا، رغم أنه مستبعد. ورغم ذلك، مضيت قدمًا بهذه الفرضية أن السارق الحقيقي طفل تم إرشاده بعناية لتأدية المهمة.»
اتسعت العيون المفتوحة أكثر فأكثر. تابعت مدام دو تشاستاني، وهي في حالة قلق عارمة، الحجة السليمة والجلية كما لو كانت مسحورة. ضبط الكونت فون فريتز ربطة عنقه وابتسم.
«أرسلتُ برقية إلى مدام كوري لأسألها عما إذا كان خطاب التقديم حقيقيًّا، وأرسلتُ السيدَ هاتش ليتعقَّب أثر وجود طفل معكِ. أبلغني أنه لا يوجد معكِ أي أطفال في الوقت الذي جاء منه رد مدام كوري بأن الخطاب غير مزيف. عاد اللغز على الفور إلى نقطة البداية. أخذت أفكر في الموضوع مرارًا وتكرارًا، وبالطريقة نفسها دومًا، جاء الحل في النهاية. إن لم يكن السارق قردًا أو طفلًا، إذن من يكون؟ قزمًا! بالتأكيد، كان غباءً مني لأنني لم أرَ هذه الاحتمالية من البداية.
حينئذٍ تبقى لي مهمة العثور عليه. على الأرجح جاء على متن السفينة نفسها مع السيدة، وفكرت في خطة للعثور عليه. كان هذا من خلال سائق العربة التي استقلَّتْها مدام دو تشاستاني. حصلت على رقمه من خلال الاتصال بفندق تيتونيك حيث تركت مدام دو تشاستاني الحقيبة، وأعطاني العنوان، وذهبت إلى هناك.
لن أحاول توضيح كيف حصلت السيدة على الخطاب من مدام كوري. سأقول فقط: إن امرأة تأخذ على عاتقها بيع أوقية من الراديوم إلى الرجل الذي تنوي سرقتَه، هي امرأة بارعة بالدرجة الكافية لفعل أي شيء. ولعلي أضيف أنها هي والقزم ممثلان مسرحيان، وأن فكرة تخبئة شخص داخل حقيبة جاءت من فقرة استعراضية يقدمانها على خشبة المسرح. وبالتأكيد، الحقيبة مجهزة لكي يستطيع القزم أن يفتحها ويغلقها من الداخل.»
قاطعه القزم قائلًا في رضًا: «وتجعل الجمهور يضحك دومًا.»
بعد هُنَيْهَة، اقتِيدَ السجينان. وخلال اليوم الأول هرب الكونت فون فريتز ثلاث مرات بأسلوب بسيطٍ؛ ألا وهو التملص من بين قُضبان زنزانته.