أخيرًا … هذا هو «الشارع الأصفر»!
كان «أحمد» أول الذين استيقظوا. نظر في ساعة يده، كانت تُشير إلى السادسة. فَكَّر: هل استيقظ الشياطين؟ ولم يتمَّ السؤال حتى كان جرس التليفون يرن بجواره. ابتسم وهو يرفع السماعة، فجاءه صوت «زبيدة»:
صباح طيب، هل أنت مُستعد؟
رد بسرعة: خلال خمس دقائق، أكون مُستعدًّا، وإن كان الوقت لا يزال مبكرًا!
قالت «زبيدة»: لا تنسَ أن الطائرة تُقلع في العاشرة. وأمامنا سفر!
قال: أعرف، الوقت معنا على كل حال. إلى اللقاء هناك!
بسُرعة كان يلعب تمرينات الصباح، ثم أخذ حمَّامًا باردًا جعله أكثر نشاطًا. وفي دقائق، كان يأخذ طريقه إلى مطعم المقرِّ السرِّي، حيث كان الشياطين جميعًا حول منضدة الطعام. ألقى عليهم تحية الصباح، ثم جلس. انهمكوا جميعًا في تناول فطور خفيف، كعادة الشرقيِّين. وقبل أن تدق السابعة، كانت المجموعة، تُودِع باقي الشياطين، وتأخذ طريقها إلى حيث «جراج» المقر. في دقائق، كان «قيس» يجلس إلى عجلة القيادة، ويدير المحرِّك، ثم يتحرَّك في هدوء مغادرًا المكان. بينما كانت البوابات الصخرية، تُفتح، فتنطلق منها السيارة، ثم تُغلق من جديد، في صوت مكتوم، لا يكاد يُسمع.
كان الخلاء ممتدًّا بلا نهاية، وكان الصباح رائعًا … حتى إن الشياطين استغرقوا في تأملاتهم، دون أن يُفكِّر واحد منهم في الكلام. امتدَّ الصمت مع الطريق. نظر «قيس» إلى ساعة السيارة، التي كانت تقترب من الثامنة والنصف. قال في نفسه: يجب أن أرفع سرعة السيارة حتى أصل في وقتٍ مُناسب. وفعلًا ضغط قدم البنزين حتى إن الشياطين نظروا له، فقد انطلقت السيارة كالصاروخ. وفعلًا، عندما كانت الساعة تشير إلى التاسعة والربع، كانت السيارة، تدخل الساحة الخارجية للمطار.
قفز الشياطين بسرعة، واتجهوا إلى الداخل. كان الوقت لا يزال أمامهم ممتدًّا. وقفت «هدى» و«زبيدة» عند بائع الجرائد، وبدءوا يشترون بعض ما يمكن أن يقطعوا به الوقت. إن الجرائد لا يحتاجونها فقط للقراءة، إنها أيضًا مفتاح جيد للتعرُّف إلى زميل السفر. تَفَرَّق الشياطين في كل مكان، يرقبون حركة الصالة المزدحمة. كانت «زبيدة» تنقل عينيها وسط مجموعة من الركاب، يبدو أنهم في رحلة جماعية. كانت المجموعة تتكون من شباب في سن الشياطين، وكانت تثير صخبًا وضجيجًا، وسط الصالة الواسعة، حتى إن ذلك لفت نظر الموجودين. لكن أحدًا لم يعترض، فقد كان منظر الشباب مُفرحًا.
في نفس الوقت، كان «عثمان» يبحث بعينَيه وسط الركاب عن شيء ما. كانت ابتسامة رقيقة تغطي وجهه. فجأة، اتَّسعت ابتسامته، لقد وقعت عيناه على سيدة حامل قال في نفسه: هل تكون في طريقها إلى دكتور «جوتار»، لكنه نفى هذا السؤال، وهو يقول لنفسه: لا أظنُّ أن كل الأمهات يَذهبن إلى هناك!
تردَّدت في صالة المطار الفسيحة أصوات الميكروفونات تدعو الركاب إلى طائراتهم. ظلت عينا «عثمان» معلقة بالسيدة الحامل لكنَّه ضحك ضحكة مكتومة، عندما رأى السيدة وزوجها يأخذان طريقهما إلى حيث البوابة التي تؤدِّي إلى الطائرة، بعد أن أعلنت المذيعة الداخلية للمطار عن الرحلة المتَّجهة إلى «باريس».
في نفس الوقت كان «أحمد» قد جلس وحده، مُستغرقًا في التفكير، بينما كان «قيس» يتنقل من مكان إلى مكان في غير استقرار. فجأةً، تردَّد صوت المذيعة يعلن عن الرحلة المتَّجهة إلى «أنقرة». في لحظة التقَت أعيُن الشياطين، إنَّ هذه هي رحلتهم. اتجهوا إلى بوابة الدخول إلى أرض المطار، وانتهَت الإجراءات في دقائق، ثم أخذوا طريقهم إلى الطائرة. كانت طائرة الخطوط الجوية التركية. استقبلتْهم المُضيفة عند باب الطائرة ورحَّبت بهم، ثم أخذوا أماكنهم. كانوا كعادتهم في السفر، يجلس كل منهم في مكان؛ فالقاعدة هي إن السفر خير طريق لجمع المعلومات.
كان «أحمد» يجلس في مُنتصَف الطائرة. في الوقت الذي جلس فيه «عثمان» و«هدى» في المقدمة، وجلس «قيس» و«زبيدة» عند المؤخِّرة. مضت ربع ساعة ثم بدأت الطائرة تُدير محرِّكاتها. لحظات ثم أخذت طريقها في الممر، استعدادًا للانطلاق. وعندما استوَت في مجالها الجوي، فكَّ الجميع الأحزمة، وبدأت مغامرة الشياطين …
كانت «زبيدة» تجلس بجوار رجل متقدِّم في السن تبدو عليه الطيبة. وكان «قيس» يجلس بجوار رجل في حوالي الأربعين. في نفس الوقت الذي جلس فيه «أحمد» بجوار رجل يَلبس نظارة طبية، ويبدو عليه الجد، وكانت «هدى» تجلس بجوار سيدة متوسِّطة العمر، وكان «عثمان» يجلس بجوار شابة في أول سن الشباب. انقضى وقتٌ طويل، وكأنَّ ركاب الطائرة كانوا في حاجة إلى الصمت، فقد كان كلٌّ منهم إما محاولًا النوم أو مستغرقًا في شيء ما، حتى عندما حاولت «هدى» أن تتحدَّث إلى جارتها في المقعد، فإنَّ جارتها ردَّت في اقتضابٍ جعل «هدى» تصمُت هي الأُخرى.
إنَّ الوقت لم يكن طويلًا حتى يُمكن أن يحاول الشياطين فتح ثَغرة للحديث؛ فقد انقضت الساعتان بسرعة، وسمعوا صوت مذيعة الطائرة تطلب ربط الأحزمة؛ فإن الطائرة وصلت الآن، فوق مطار «أنقرة». بعد نصف ساعة، كانوا يقفون على رصيف المطار، يُراقبون حركة السيارات الآتية إلى المطار، أو المُغادَرة له. في لحظات كانت سيارة رمادية، تقف أمام الشياطين، عرَفُوها بسرعة، إثر إشارة صدَرَت منها. قفَزُوا فيها، فانطلقت بهم إلى داخل المدينة.
همس «عثمان» في أُذن «أحمد»: إن علينا أن نغادر «أنقرة» اليوم، فلا يزال السفر طويلًا!
رد «أحمد»: إننا في الطريق الآن فعلًا إلى مطار داخلي لنستقلَّ طائرة إلى مدينة «الإسكندرونة» …
مضت نصف ساعة، توقَّفَت بعدها السيارة أمام مطار صغير. وفي دقائق كان الشياطين يركبون طائرة صغيرة الحجم، انطلقت بهم إلى مدينة «الإسكندرونة». استغرق الوصول إلى المدينة خمسة وثلاثين دقيقة. وعندما نزلوا في المطار، كانت خطتهم هي الانتقال عبر مضيق «البسفور» إلى مدينة «إستنبول».
كانت الساعة قد تجاوَزَت الواحد بقليل.
فقال «أحمد» عندما غادروا المطار: إنَّ رحلة عبر المَضيق سوف تكون شيئًا طيبًا، خصوصًا وأن لدينا لانشًا سريعًا … نظر الشياطين له في دهشة لكنه ابتسم وهو يقول: إنه فعلًا في انتظارنا!
استقلُّوا تاكسيًا، طلب منه «أحمد» الذهاب إلى منطقة المضيق. وهناك غادروا التاكسي، ووقفوا أمام المضيق الأزرق الهادئ.
أشار «أحمد» بيده إلى بداية الشاطئ وقال: ما رأيكم في هذا اللانش؟ وهناك يقف لانش أبيض اللون، متوسِّط الحجم.
قالت «هدى»: إنه رائع! …
وقالت «زبيدة»: إنها رحلة رائعة!
أسرع الشياطين إلى اللانش، فقفزوا فيه. جلَس «أحمد» إلى عجلة القيادة. وفي لحظات كان اللانش يشقُّ الماء، في طريقه إلى الشاطئ الآخر، حيث تقع مدينة إستنبول … وحيث يوجد «الشارع الأصفر»، ومُستشفى الدكتور «جوتار». كانت مياه المضيق هادئةً تمامًا، ولذلك فقد كان اللانش يندفع بلا أي عوائق. وكانت زُرقة المياه تُؤثِّر تأثيرًا قويًّا في الشياطين، فاستسلموا للمنظر الرائع. كان «أحمد» يَرقبهم في بعض الأحيان، بنظرة سريعة، فيرى مدى استمتاعهم بالرحلة، وتَرتسِم على وجهِه ابتسامة. انقضت ساعة ونصف ثم بدأت ملامح الشاطئ الآخر في الظهور.
هتفت «هدى»: ما أمتع اللوحة التي أمامنا!
وقال «قيس» في هدوء: إنها شيء رائع فعلًا. وصمت لحظة ثم قال: لا أدري كيف لا يؤثر ذلك في نفس الدكتور «جوتار»، إنه منظر يجعل الصخر ينطق.
أبطأ «أحمد» … سرعة اللانش، فقد اقتربوا فعلًا من الشاطئ. أوقف «أحمد» المحرِّك، وظل اللانش مندفعًا بقوة الاندفاع الأول، وما كاد يلامس الشاطئ، حتى كان «عثمان» قد أسرع بالقفز إلى الرصيف، وتلقى اللانش بقدمه، حتى لا يصطدم بالرصيف. في دقائق كان اللانش قد رُبِط إلى أحد الأوتاد الحديدية. ووقف الشياطين يَرقبون الشارع الطويل، الذي كان يتعرج مع الشاطئ في شكل عدة أقواس صغيرة مُتتالية.
قال «قيس»: هذا إذن هو «الشارع الأصفر»!
ظل الشياطين في مكانهم. كانوا يتنفَّسون بعمقٍ هواء المضيق النقي.
قال «أحمد» بهدوء: هيا بنا، إنَّ رحلة على الأقدام سوف تجعلنا أكثر نشاطًا!
ابتسمت «زبيدة» وقالت: إن رحلة البحر جعلتنا لا نحتاج إلى نشاط زائد!
ابتسم «أحمد»، وتقدَّموا، كانوا يسيرون، وكأنهم يقومون بنزهة. وكأنه ليست أمامهم مهمة صعبة. فإنَّ أحدًا منهم لا يستطيع دخول المستشفى. بجوار أنَّ النهار لا يُعطي فرصة كاملة للعمل. تقدموا بمحاذاة الشاطئ، وبعيدًا عن المباني التي تُطل على المضيق. كانت المباني كلها في ارتفاع واحد تقريبًا، لا تزيد على أربعة أدوار، وتكاد تكون كلها من طرازٍ واحد، وكأنها ملِك رجل واحد أيضًا … من بعيد، ظهرت بقعة خضراء وسط المباني، التي يميل لونها إلى الاصفرار.
همست «هدى»: لعلها مستشفى الدكتور «جوتار»!
قالت «زبيدة»: هذا صحيح؛ فهي المبنى الوحيد في الشارع، الذي تُخفيه الأشجار!
وصلوا إلى هناك، ثم توقفوا. لم يكن هناك شيء لافت للنظر. مجرد فيلا من ثلاثة أدوار، تُخفيها الأشجار العالية وحارس يقف عند الباب الحديدي. مرَّت لحظة، ثم ظهرت سيارة خارجة من المستشفى. أخذت طريقها، ثم اختفت كان زجاج السيارة أسود اللون، حتى لم يَظهر من يجلس بداخلها، ولا حتى سائقها. لم يكن هناك صوت إلا صوت ارتطام الأمواج الهادئة برصيف الشارع. فجأة، ظهرت سيارة أخرى استطاع الشياطين أن يروا من بداخلها.
… سيدة تبكي، وبجوارها رجل.
قال «عثمان»: لعلها واحدة من الضحايا! …
توالى عدد من السيارات، لم تكن تخلو واحدة من سيدة. فقال «قيس»: يبدو أننا سوف نبدأ الليلة. وربما … أنهينا مغامرتنا الليلة أيضًا! …
نظر له «أحمد» نظرة سريعة ثم قال: لا أظن، إن المسألة تحتاج إلى وقت! …
صمت لحظة، ثم قال: لاحِظ أننا لا بد أن نتأكد أولًا قبل أن نقدم على تنفيذ مغامرتنا!
هز «قيس» رأسه، وهو يقول: هذا صحيح، لكن كثرة العمل تُعطينا فرصة أكبر …
رد «أحمد»: هذا حقيقي! …
تردَّدَت في الجو دقات ساعة. دقت دقة واحدة، ثم أخرى، وثالثة. كان هذا يعني أن الساعة تشير إلى الثالثة تمامًا.
قال «أحمد»: ينبغي أن نتجه إلى فندق الشاطئ، إننا في حاجة لرسم خطة الليلة …
نظر حوله بسرعة، ثم نظر إلى المستشفى نظرة طويلة وقال: ينبغي أن يقوم «قيس» و«هدى» بجولة حول المستشفى، لنعرف إمكانياته.
اتجه «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» في نفس الاتجاه، وهم يتركون المستشفى خلفهم، في نفس الوقت اتجه «قيس» و«هدى» في اتجاه المستشفى، ثم انحرفوا قليلًا، حيث كان أحد الشوارع الضيقة، يمر بجواره. كان عرض الشارع لا يزيد على أربعة أمتار. فعلق «قيس»: هذه طبيعة المدن الساحلية، إنَّ الشوارع العرضية تكون ضيقة، حتى لا تُعطيَ فرصةَ تأثير للرياح. بعكس الشوارع الطويلة، فإنها تكون متسعة، تمامًا مثل «الشارع الأصفر».
قطَعَا مسافة طويلة، كان يبدو أن المستشفى يحوطُه حديقة واسعة، وعندما وصلا إلى نهاية سور المُستشفى، أصبح واضحًا أمامهما، أنَّ المستشفى يُمثِّل مُربَّعًا كاملًا. وأنه لا يَلتصِق بأيٍّ من المباني المُجاورة له. حاذَيا الضلع الثاني من المستشفى، وهو الذي يوازي باب المستشفى الرئيسي على الشاطئ … تقدَّما مسافة مناسبة، ثم ظهر باب تُخفيه النباتات الخضراء قليلًا، غير أنه لم يكن أمامه من يحرسه. نظر «قيس» يمينًا وشمالًا، ثم اتجه إلى الباب ونظر من خلال قضبانه الحديدية. كانت سيارة تَقترب من الباب، فارتدَّ بسرعة، ثم مشى في هدوء هو و«هدى». لحظات، ثم سمعا صوت السيارة تَنطلِق، فنظَرا خلفهما، كانت السيارة تأخُذ طريقها في اتجاه البحر.
نظر «قيس» إلى «هدى» وقال: «هذه نقطة جديدة ومفيدة! …»
استمرا في سيرهما حتى قطعا سور الحديقة، فانحرَفا في اتجاه البحر، حيث كان الهواء يأتي في قوة بسبب ضيق الشارع. استمَرَّا في سيرهما حتى وقفا عند نهاية السور. كان «أحمد» و«عثمان» و«زبيدة» يَظهرون بعيدًا بعض الشيء.
أخَذا طريقهما إليهم. وعندما انضمَّا للشياطين، قال «قيس»: إنه مبنًى يدعو للشكِّ فعلًا. فهناك بابٌ سرِّي في الخلف!
قال «أحمد» بعد لحظة: إذن، سوف يبدأ عملنا الليلة لكنه عمل محدود! …
سأل «عثمان»: هل لديك خطة ما! …
أجاب «أحمد»: نعم، وسوف نوزِّع أدوارنا في الفندق! …
تحرَّكوا في اتجاه الفندق، الذي لم يكن بعيدًا؛ فقد كانت هناك لافتة مرتفعة مكتوب عليها: فندق الشاطئ!