حرية التعبير
ليس الحق في حرية التعبير هو الحق في التعبير المجاني، ولا يعني الحق في حرية التعبير الحق في مشاهدة التليفزيون مجانًا، أو الحق في ألا يكرهك الآخرون لما تقوله. بالمعنى الضيق للعبارة — قانونًا — يعني الحق في حرية التعبير في الولايات المتحدة الحق في ألا يعاقب المرء من الحكومة نتيجة بعض، أو ربما معظم، ما يقوله؛ فلا يمكن إيداع أحد في السجن لانتقاد رئيس البلاد على الرغم من إمكانية اعتقال من يهدِّد الرئيس. لا يمكن تغريمك للحض على الفصل العنصري وإن كان هذا السلوك سيؤدي إلى تجنُّب الآخرين لك. لا يمكن منعك من التحدث في مكان عام، وإن كان يمكن منعك من التحدث من خلال جهاز إرسال إف إم. يتمتع التعبير في الولايات المتحدة بالحماية — بطريقة معقدة، وفي بعض الأوقات عسيرة الفهم — لكنها حماية دستورية، إنها حماية ضد الحكومة.
ومع ذلك، ليس التأويل الدستوري لحرية التعبير في مواجهة الحكومة فقط مكتملًا على الإطلاق. فربما يتوافر لدى مجتمعين «التعديل الأول» — أي ضمانات الحماية نفسها ضد تجاوزات الحكومة — لكن إذا جرى التسامح مع المعارضين في أحد هذين المجتمعين فيما جرى تجنبهم في المجتمع الآخر، فستختلف طبيعة هذين المجتمعين جذريًّا كمجتمعين تتوافر فيهما حرية التعبير؛ فليست الحكومة وحدها التي تقيِّد حرية التعبير، وليست الحكومة وحدها التي تحميها. يجب إذن أخذ جميع المسئوليات وضمانات الحماية في الاعتبار فيما يتعلق بهذا الحق حتى تصبح حماية حرية التعبير كاملة.
خذ، على سبيل المثال، «حقوق» ذوي الاحتياجات الخاصة في الحماية ضد التمييز مثلما تحميها الأنماط الأربعة المذكورة في الفصل السابع. يحمي القانون أصحاب الاحتياجات الخاصة، لكن الأعراف المجتمعية لا تحميها. يوفر السوق السلع التي تساعد أصحاب الاحتياجات الخاصة، لكن هؤلاء يتحملون جميع تكاليف هذه المساعدة. وحتى يتدخل القانون، لا يقدم المعمار مساعدة كبيرة لأصحاب الاحتياجات الخاصة في الاندماج في المجتمع (فكِّر في السلالم). تصف هذه الأنماط الأربعة معًا الحماية — أو «الحقوق» — التي يتمتع بها أصحاب الاحتياجات الخاصة في أي سياق. ربما يتدخل القانون لدعم حماية هؤلاء عن طريق تنظيم المعماريات على سبيل المثال، بحيث يندمج أصحاب الاحتياجات الخاصة بصورة أفضل في المجتمع، لكن بالنسبة لأي «حق» بعينه يمكن الاستعانة بهذا المزيج من الأنماط للحكم على مدى حماية هذا «الحق» جيدًا (أم لا).
باستخدام مصطلحات الفصل السابع، إذن، تتمثل هذه الأنماط في عمليتي التنظيم والحماية. بعبارة أخرى، يمكن الاستعانة بهذه الأنماط كقيود على السلوك، وضمانات للحماية ضد قيود أخرى. يبيِّن الشكل التالي هذه النقطة:
يقع في مركز هذا الشكل الشيء الذي يجري تنظيمه؛ تلك النقطة المثيرة للشفقة التي تعرضنا لها في الفصل السابع. يحيط بالفرد الآن درع من الحماية؛ شبكة القانون/الأعراف الاجتماعية/السوق/المعمار التي تحد من القيود التي تفرضها هذه الأنماط على الفرد. لم أقم بفصل الأنماط الأربعة في محيط دائرة الدرع؛ نظرًا لعدم وجود تطابق مباشر بين نمط القيد ونمط الحماية. عندما يتعارض القانون كحامٍ للحقوق مع القانون كمقيِّد لها، يَجُبُّ القانون الدستوري القانون العادي.
تعمل هذه الأنماط الأربعة معًا. ربما قد تقلل بعض هذه الأنماط من تأثير بعضها الآخر، بعبارة أخرى قد يبدو مجموع ضمانات الحماية المتوافرة أقل أهمية من ضمانات حماية الأجزاء. يعتبر «الحق» في عدم تجريم المواد المخدرة، في السياق الحالي، مثالًا على ذلك. يحمي القانون حق الأفراد في دعم عدم تجريم المواد المخدرة. لا تستطيع الدولة وضعك رهن الاعتقال إذا قمت مثل جورج سوروس بإطلاق حملة لعدم تجريم الماريجوانا، أو إذا قمت مثل الاقتصادي الحاصل على جائزة نوبل ملتون فريدمان، أو القاضي الفيدرالي ريتشارد بوزنر؛ بكتابة مقالات تشير إلى ذلك. إذا كان التعديل الأول يعني أي شيء، فهو يعني عدم قدرة الدولة على تجريم التعبير عن إصلاح القوانين.
أخيرًا، لن يحمي المعمار حريتي في التعبير أيضًا. في الولايات المتحدة على الأقل، يندر وجود أماكن يستطيع المرء الوقوف فيها أمام الناس ومخاطبتهم بشأن مسألة عامة دون أن يعتقد معظم الناس أن هذا الشخص مجنون أو مصدر للإزعاج. لا يوجد ركن للمتحدثين في جميع المدن. لا توجد اجتماعات مدينة في كثير من المدن. تشبه أمريكا، بهذا المعنى، شبكة أمريكا أون لاين في أن كليهما لا يعطي الفرصة للأفراد لمخاطبة جمهور واسع في أمور عامة. لا يمتلك إلا المحترفون — السياسيون، العلماء، المشاهير، الصحفيون، والنشطاء — الحق في مخاطبة الأمريكيين في أمور عامة، وهم في معظم الأحوال لا يتحدثون إلا في أمور محددة. أما الآخرون مثلنا، فيمتلكون خيار الإنصات أو النفي في سجن الجنون الاجتماعي.
من هنا، تعتبر الحماية الحقيقية للتعبير المثير للجدل مسألة مشروطة أكثر مما قد تحددها رؤية قانونية فقط. بعبارة أخرى، عند وضع أكثر من قانون في الاعتبار، يتمتع الحق في أن يكون المرء معارضًا بحماية أقل مما هو ممكن.
يعتبر القانون إذن وسيلة حماية غير كاملة. هل تسهم الأعراف الاجتماعية في حماية حرية التعبير؟ في ظل الجهالة النسبية في الفضاء الإلكتروني ونمو حجمه، لا تسهم الأعراف الاجتماعية في حماية حرية التعبير كثيرًا. وحتى إذا كان المستخدمون يعرفون بعضهم بعضًا جيدًا في الفضاء الإلكتروني، فإنهم يكونون أكثر تسامحًا مع الآراء المعارضة عندما يعلمون (أو يعتقدون، أو يأملون) أن هؤلاء المعارضين يعيشون على بُعد آلاف الأميال.
يوفِّر السوق أيضًا حماية كبيرة لحرية التعبير في الفضاء الإلكتروني. مقارنةً بالفضاء الواقعي، تعتبر قيود السوق على حرية التعبير في الفضاء الإلكتروني ضئيلة. تذكَّر كيف صار جيك بيكر ناشرًا بسهولة؛ حيث كانت قاعدة قرائه أكبر بكثير من قاعدة قراء جميع كتب القانون (مثل هذا الكتاب) التي نُشرت في العقد الأخير. انظر إلى المدونات التي تخطى عددها ٥٠ مليون مدونة، والتي تُمكِّن الملايين من التعبير عن آرائهم فيما يتعلق بأي شيء. تعني التكلفة المنخفضة للنشر أن النشر لم يعد عائقًا للتعبير عن الآراء. يتساءل إبين موجلن: «هل سيكون هناك شاعر لا تُنشر أعماله في القرن الحادي والعشرين؟»
فكِّر فيما يعنيه هذا. ظلت الولايات المتحدة لأكثر من ٦٠ عامًا مصدرةً لأيديولوجية سياسية محددة يقع في القلب منها تصوُّر لحرية التعبير. انتقد الكثيرون هذا التصور. رأى البعض في هذا التصور مبالغة شديدة، فيما رآه البعض غير كافٍ. رفضت الأنظمة القمعية — مثل الصين وكوريا الشمالية — هذا التصور مباشرةً. شكَت الأنظمة التي يغلب عليها التسامح — مثل فرنسا والمجر — من التحلل الثقافي، وتعجبت الأنظمة التي يغلب عليها المساواة — مثل الدول الاسكندنافية — من طريقة تصوُّرنا لأنفسنا نحن الأمريكيين على أننا أحرار، في الوقت الذي لا يملك إلا الأغنياءُ التعبيرَ عن أنفسهم، وتُمنع المواد الإباحية.
ظل هذا النقاش دائرًا على المستوى السياسي لفترة طويلة. على الرغم من ذلك، كما لو أن الأمر حدث في جنح الليل، قمنا بربط هذه الأمم بمعمار للاتصالات يؤسس داخل حدودهم تعديلًا أولًا أكثر قوة مما دعت إليه أيديولوجيتنا. استيقظت هذه الأمم لتجد خطوط هواتفها صارت أدوات للتعبير الحر، والبريد الإلكتروني صار حاملًا للأخبار عن القمع في بلادهم فيما يتجاوز حدودهم بكثير، ولم تعد الصور حكرًا على محطات التليفزيون الحكومية، بل صارت تنتقل عبر جهاز مودم بسيط. لقد صدَّرنا إلى العالم، من خلال معمار الإنترنت، تعديلًا أولًا أكثر تطرفًا في الكود من التعديل الأول في القانون.
يدور هذا الفصل حول تنظيم التعبير وحمايته في الفضاء الإلكتروني، ومن ثم تنظيمه وحمايته في الفضاء الواقعي أيضًا. أهدف إلى التركيز على العلاقة بين المعمار والحرية التي يجعلها هذا المعمار ممكنة، وإلى الحديث عن أهمية القانون في بناء هذا المعمار. أهدف إلى عرض كيفية بناء هذه الحرية؛ أي السياسة الدستورية في بناء معماريات الفضاء الإلكتروني.
أقول «سياسة» لأن عملية البناء لم تنته بعدُ. فمثلما ذكرت سابقًا (مرارًا وتكرارًا)، لا يوجد معمار واحد فقط للفضاء الإلكتروني، لا يوجد بناء محدد أو لازم في تصميم الفضاء الإلكتروني. كانت حوائط السيطرة في الجيل الأول للإنترنت مخترقة، لكن لا سبب يدعو للاعتقاد بأن هذا سيكون حال الجيل الثاني من الإنترنت، أو الاعتقاد بعدم إعادة بناء وسائل السيطرة في الجيل الثاني للإنترنت. بعبارة أخرى، لا يوجد ما يدعو إلى الاعتقاد بأن لمحة الحرية في الجيل الأول ستستمر طويلًا، وبالتأكيد لا يوجد مبرر للتصرف كما لو أن لمحة الحرية هذه ستستمر طويلًا.
نستطيع رؤية بدايات عمليات إعادة البناء بالفعل؛ إذ تجري إعادة تصميم المعمار لإعادة تنظيم ما جعله معمار الفضاء الواقعي قابلًا للتنظيم قبل ذلك، فالشبكة تتحول فعليًّا من فضاء حر إلى فضاء خاضع للسيطرة.
تعتبر بعض خطوات إعادة التنظيم هذه حتمية، مثلما يعتبر النكوص إلى إجراءات سابقة حتميًّا، لكن قبل أن تكتمل عملية التغيير، يجب أن نستوعب أنماط الحريات التي توفرها الشبكة، وتحديد أي منها نريد أن نحافظ عليه.
لكنني أستبق الأحداث هنا. أتناول فيما تبقى من هذا الفصل أربع مسائل تتعلق بحرية التعبير في الفضاء الإلكتروني، وفي كل مسألة من هذه المسائل أريد أن أتناول الطريقة التي تجري بها عملية تنظيم «حرية التعبير».
لا تحمل هذه المسائل الأربع الأهمية الدستورية نفسها، لكنها جميعها تبين الآلية التي تقع في القلب من طرح هذا الكتاب، وتحديدًا كيفية تفاعل التكنولوجيا مع القانون لوضع سياسة محددة.
(١) منظمو التعبير: النشر
حصلت صحيفة نيويورك تايمز على هذه الأوراق من شخص كان يعتقد أن الحرب في فيتنام خاسرة، شخص عمل في البنتاجون وساهم في كتابة هذا التقرير حول الحرب في فيتنام، شخص لم يكن ضد الحرب في البداية، لكن بمرور الوقت تكشَّف له مدى بشاعة الحرب في فيتنام وعدم جدواها.
كان دَفعُ الحكومة بسيطًا مفاده أن هذه الأوراق تحتوي على أسرار حكومية، وأن هذه الوثائق تمت سرقتها عندما كانت في حوزة الحكومة، وأن نشر هذه الوثائق يعرض العديد من الجنود الأمريكيين للخطر، ويضع الولايات المتحدة في حرج شديد في أعين العالم. لم يكن هذا الإحراج محض خيلاء مصطنع؛ حيث سيؤدي إحراج الحكومة، مثلما دفعت الحكومة بذلك في القضية، إلى إضعاف موقفها التفاوضي في جهودها لتحقيق السلام. ونظرًا للضرر الذي سيتسبب فيه نشر المزيد، يجب على المحكمة الدستورية العليا أن تتدخل لوقف عملية النشر.
تعتبر قضية «أوراق البنتاجون» مثالًا كلاسيكيًّا على أحد تطبيقات التعديل الأول، ومثالًا واضحًا على قوة الدستور، لكن حتى الأمثلة الكلاسيكية تصير قديمة. في حديث لآبرامز وقت نشر الطبعة الأولى من هذا الكتاب، وجه آبرامز سؤالًا مدهشًا: هل لهذه القضية أهمية الآن؟ أم هل جعلت التكنولوجيا حماية التعديل الأول هذه غير ضرورية؟
على عكس قضية أوراق البنتاجون، لم تجد هذه القضية طريقها إلى المحكمة الدستورية العليا سريعًا. بدلًا من ذلك، نضجت هذه القضية على مهل، وهو ما يرجع في جزء منه إلى إدراك القاضي، الذي نظر القضية، الخطر الهائل الذي تُمثِّله المقالة. أوقف القاضي نشر المقالة فيما كان لا يزال ينظر في القضية. ظل القاضي ينظر في القضية فترة شهرين ونصف الشهر. لجأ ناشرو المجلة إلى محكمة الاستئناف ثم إلى المحكمة الدستورية العليا طالبين سرعة الفصل في القضية، لكن لم تتدخل أي من المحكمتين.
لاحظ ما ينطوي عليه تداعي الأحداث. هناك حاجة إلى الحماية الدستورية مثلما هو الحال في قضية أوراق البنتاجون؛ نظرًا لأن هناك قيدًا حقيقيًّا على النشر. يتطلب النشر وجود ناشر، ويتعرض الناشرون للعقاب أحيانًا من الدولة. في المقابل، إذا نُشر فحوى أو حقائق الموضوع محل الجدل في مكان آخر، تتلاشى الحاجة إذن إلى الحماية الدستورية. بمجرد نشر الموضوع لا يعود هناك تبرير قانوني لمنع نشره في أماكن أخرى.
من هنا يسأل آبرامز: هل للقضية أهمية اليوم؟ هل لا تزال الحماية الدستورية في قضية أوراق البنتاجون ضرورية؟
من هنا يرى آبرامز أن معمار الشبكة يزيل الحاجة إلى الحماية الدستورية، بل أكثر من ذلك توفر الشبكة الحماية ضد المنع المسبق مثلما يوفر الدستور ذلك من خلال ضمان عدم تحقيق سيطرة قوية على المعلومات. تخدم الشبكة الهدف الذي كانت تخدمه عملية نشر أوراق البنتاجون؛ ألا وهو ضمان عدم إخفاء الحقيقة.
هناك، في المقابل، وجه آخر للموضوع.
صدَّق السكرتير الصحفي السابق للرئيس جون إف كنيدي هذا التقرير. وفي خطاب ألقاه في فرنسا، أعلن بيير سالنجر أن حكومته كانت تخفي حقائق القضية، وأن لديه الدليل على ذلك.
أتذكر هذه المناسبة جيدًا. كنت أتحدث إلى أحد الزملاء بعد سماع حديث سالنجر. أعدت حديث سالنجر على مسمع من زميل لي، وهو فقيه دستوري رائد ينتمي لإحدى أهم كليات القانون في أمريكا. كنا حائرين في أي شيء نصدق. كانت هناك إشارات متفرقة عن مصداقية رواية سالنجر. لم يكن سالنجر مجنونًا، لكن روايته كانت كذلك بالتأكيد.
يعتمد طرح آبرامز على إحدى خواص الشبكة التي لا نستطيع أن نتقبلها دون مساءلة. إذا كانت هناك مصداقية على الشبكة، فستتقلص أهمية قضية أوراق البنتاجون. في المقابل، إذا كان التعبير على الشبكة ينقصه المصداقية، تصبح ضمانات الحماية التي يكفلها الدستور مهمة مرة أخرى.
في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، كان يمكن الإجابة على هذا السؤال نظريًّا فقط. أما منذ ذلك الوقت حتى الآن، فبدأنا نرى إجابة تظهر على هذا السؤال. تقع كلمة واحدة في المركز من هذه الإجابة: المدونة.
حتى وقت كتابة هذه السطور، هناك ما يزيد عن ٥٠ مليون مدونة على الإنترنت. لا توجد طريقة واحدة لوصف طبيعة هذه المدونات. تختلف هذه المدونات بعضها عن بعض بصورة هائلة، وربما كان أكثر ما يُكتب فيها لا قيمة له. في المقابل، لا يعتبر أمرًا صائبًا أن نصدر حكمًا على آلية متغيرة من خلال لمحة واحدة سريعة. يعتبر بناء السلطة الذي تقوم هذه الآلية بإنشائه شيئًا جديدًا للغاية.
في أفضل صورها، تعتبر المدونات أمثلة على صحافة الهواة؛ حيث لا تشير لفظة «هواة» هنا مرة أخرى إلى تدني قيمتها، أو أنها لا تتمتع بالجودة الكافية، لكن تشير إلى الأشخاص الذين يقومون بذلك لحبهم فيه، لا من أجل المال. هؤلاء الصحفيون يكتبون عن أشياء كثيرة في هذا العالم، بعض هذه الأشياء من منظور سياسي، وبعضها من منظور اهتمام محدد. لكن إجمالًا، يرتبط هؤلاء الصحفيون مع كتاب آخرين، بحيث يؤدي ذلك إلى ظهور نقاش أو تقرير يضيف شيئًا جديدًا. يتمثل القانون الأخلاقي لهذا الفضاء في الربط، في الإشارة والتعليق. وبينما لا يعتبر هذا الربط «عادلًا ومتوازنًا»، فإنه يؤدي إلى تبادل نشط للفِكَر.
تتراتب هذه المدونات فيما بينها. تقوم خدمات مثل تكنوراتي، على سبيل المثال، بحساب مساحة المدونة، ومتابعة مَن يرتبط بمن، وأي المدونات تتمتع بالمصداقية الكبرى. تساهم هذه الترتيبات في ظهور اقتصاد للفِكَر ينشئ نظامًا حوله. يحصل المدونون على مصداقية من خلال ذكر الآخرين لهم أو لمدوناتهم. تجذب هذه المصداقية الانتباه. تعتبر هذه المصداقية نظام سمعة جديدًا لا يرسخه المحررون أو رؤساء الشركات أو شركات الإعلام، بل تؤسسه مجموعة غاية في التنوع من المساهمين.
يأتي هذا التعاون دون وجود ضمانات، فيما عدا ضمان العملية نفسها. تعتبر العملية الأكثر دلالة على التعاون الجماعي في سياق المحتوى موسوعة ويكيبيديا. تعتبر ويكيبيديا موسوعة حرة متاحة على الإنترنت قام بإنشائها متطوعون فقط. ومنذ إطلاقها في بداية عام ٢٠٠١، ألَّف هؤلاء المتطوعون (الآلاف حرفيًّا) أكثر من مليوني مقالة. هناك تسع نسخ من الموسوعة في تسع لغات (لا تضم نسخة بلغة كلينجون الخيالية)، وحوالي نصف المقالات مكتوبة باللغة الإنجليزية.
تهدف موسوعة ويكيبيديا إلى تحقيق الحياد. يحرر المساهمون ويعيدون تحرير المقالات لتحقيق الحيادية. تفشل هذه الجهود في بعض الأحيان، خاصة مع الموضوعات الخلافية التي تؤدي إلى ظهور صراع شرس في تحريرها. على وجه العموم، تعتبر الموسوعة عملًا ناجحًا للغاية. في ظل جهود المتطوعين فقط، يستخدم كثيرون ربما أكثر الموسوعات فائدة التي أُلفت من خلال ملايين الإسهامات غير المنسَّقة سلفًا.
في المقابل، تعتبر ويكيبيديا معرضة لنوع محدد من الخطر ليست الموسوعة البريطانية معرضة له؛ ألا وهو العبث. في مايو ٢٠٠٥، تعرضت مقالة عن جون سايجنثالر الأكبر للعبث من قبل أحد المشاغبين. نظرًا لعدم وجود أحد يتابع هذه المقالة، ظلت المقالة أربعة أشهر حتى جرى ملاحظتها وتصويبها. لم يكن سايجنثالر سعيدًا بذلك. شكا سايجنثالر من أن معمار ويكيبيديا هو الذي يجب إلقاء اللوم عليه.
قد يصبح معمار ويكيبيديا مختلفًا، لكن ليس الدرس المستفاد هنا هو فشل معمار ويكيبيديا، بل يتمثل الدرس في واقع الأمر في النجاح المفاجئ لها؛ فلا يوجد مثال سابق على تعاون أشخاص حول العالم يعملون معًا للوصول إلى الحقيقة من خلال طيف واسع من الموضوعات. هذا هو ما يقوم به العلم أيضًا. يستعين العلم بنوع مختلف من «مراجعة الأقران» للتحقق من النتائج. لا تعتبر «مراجعة الأقران» ضمانة أيضًا على صحة النتائج. على سبيل المثال، كان الكوريون الجنوبيون على قناعة تامة بأن أحد علمائهم البارزين، وانج وو سوك، اكتشف أسلوبًا لاستنساخ الخلايا الجذعية البشرية. صدَّق الكوريون ذلك لأن الدوريات العلمية التي يراجعها الأقران كانت تؤكد ذلك. على أي حال، سواء أكان صحيحًا تصديق ذلك أم لا، كانت الدوريات على خطأ. كان وانج وو سوك محتالًا؛ حيث لم يقم باستنساخ الخلايا الجذعية، بل لم يستنسخ أي شيء يستحق انتباه العالم.
هكذا تنشأ مصداقية، والتي حتى إن كانت غير مكتملة فإنها تقيَّد بصورة مختلفة. على شبكة إن بي سي نيوز أن تقلق بشأن أرباحها؛ حيث إن تقاريرها تؤثر عليها على نحو متزايد. أما المدونات فلا أرباح تُرجى من ورائها؛ حيث تعتبر بصورة عامة فضاءات هواة، لكن السمعة تعد عاملًا مقيِّدًا للاثنتين، وقد تسبَّب التنافس بين نمطي الصحافة في تحسين كليهما بصورة متزايدة. فنحن نحظى اليوم ببيئة أكثر ثراءً لحرية التعبير أكثر مما كان عليه الحال قبل خمس سنوات مضت، بيئة تقلل فيها المدونات من تجاوزات الصحافة التجارية وتنظمها (أي المدونات) تكنولوجيا سمعة تُرشد القارئ مثلما ترشد الكاتب.
(٢) وسائل تنظيم التعبير: البريد الإلكتروني المزعج والمواد الإباحية
على الرغم من كل هذا الحديث عن حب حرية التعبير، لا يمانع معظمنا من أعماقهم في تنظيم التعبير قليلًا بصورة صحية، على الأقل في بعض السياقات، أو على الأقل سيتحمس عدد أكبر منا اليوم في تنظيم التعبير أكثر مما كان عليه الحال في ١٩٩٦. يرجع هذا التغيير إلى فئتين من التعبير صارتا مصدرًا للإزعاج للكثيرين على الشبكة؛ ألا وهما: البريد الإلكتروني المزعج، والمواد الإباحية.
أعني ﺑ «البريد الإلكتروني المزعج» رسائل البريد الإلكتروني التجارية الإعلانية غير المرغوب فيها التي يجري إرسالها في حزم هائلة. يشير التعبير «غير المرغوب فيها» إلى عدم وجود علاقة بين المُرسل والمستقبل، وتشير كلمة «تجارية» إلى رسائل بريد إلكتروني لا تشمل الرسائل السياسية، ويشير التعبير «بريد إلكتروني» إلى جميع وسائط التفاعل في الفضاء الإلكتروني (بما في ذلك المدونات)؛ حيث لا يقتصر على رسائل البريد الإلكتروني بمعناها الضيق، وتشير «حزم» إلى العديد (عد ما شئت) من الرسائل التي يجري إرسالها دفعة واحدة.
يختلف هذان النوعان من التعبير؛ المواد الإباحية والبريد الإلكتروني المزعج، أحدهما عن الآخر، لكنهما متشابهان في بناء التنظيم الذي يتطلبه كل منهما. لا يجب منع أي من هذين النوعين من خلال التنظيم؛ إذ لا يمانع البعض في تلقي رسائل بريد إلكتروني غير مرغوب فيها، وهناك من هم مسموح لهم دستوريًّا بالاطلاع على المواد الإباحية. في المقابل، هناك فئة من الأفراد ممن يريدون توفير السلطة اللازمة لحجب كلا النوعين؛ وهما: معظمنا فيما يتعلق بالبريد الإلكتروني المزعج، والآباء فيما يتعلق بالمواد الإباحية. هذه رغبة لتحقيق نوع من «تنظيم التعبير». يبقى السؤال في كيفية دعم هذه الرغبة، أو فيما إذا كان القانون سيدعمها.
أؤيد تمامًا هذا الشكل من أشكال تنظيم التعبير في ظل وجود معمار مناسب، «لكن كيف تستطيع اعتناق فكرة التنظيم بهذه السهولة؟» ربما يتساءل من لا يؤيدون التنظيم: «هل نسيت أهمية قيم حرية التعبير؟»
إذا كان من يحبون هذا النمط من التنظيم يقرءون بعناية، فسيجدون إجابة سريعة على تهمة الرقابة هذه. يتضح عند التفكر قليلًا أن — وفق المعنى الذي طُرح في الفصل السابع — البريد الإلكتروني المزعج والمواد الإباحية كانا دومًا يخضعان للتنظيم في الفضاء الواقعي. يظل السؤال الأهم في الفضاء الإلكتروني هو ما إذا كان أثر عمليات التنظيم في الفضاء الواقعي يمكن تحقيقه في الفضاء الإلكتروني.
(٢-١) وسائل تنظيم الفضاء الواقعي: البريد الإعلاني المزعج والمواد الإباحية
فكِّر أولًا في الرسائل الإعلانية في الفضاء الواقعي. في ظل المعنى الذي طُرح في الفصل السابع، يُنظَّم البريد الإعلاني في الفضاء الواقعي تنظيمًا شديدًا. يمكن فهم وسيلة التنظيم هذه من خلال أنماط التقييد الأربعة التي ذكرناها سلفًا.
أولًا؛ القانون: تقيِّد الوسائل التنظيمية ضد عمليات الاحتيال والخداعِ الألاعيبَ التي يقوم بها مَن يرسلون الرسائل البريدية الإعلانية في الفضاء الواقعي. والمسابقات تخضع لتنظيم مكثف (ما عليك سوى قراءة إعلانات إخلاء المسئولية على موقع ببليشرز كليرنج هاوس سويبستيكس).
ثانيًا: تنظم الأعراف الاجتماعية رسائل البريد الإعلانية في الفضاء الواقعي. هناك شعور عام بما هو مناسب للإعلان عنه. أما الإعلان عن أشياء تقع خارج نطاق ما هو مسموح به؛ فهو شيء لا يدافع عنه أحد.
ثالثًا: تنظم الأسواق رسائل البريد الإعلانية في الفضاء الواقعي. تعتبر تكلفة الرسائل البريدية في الفضاء الواقعي مرتفعة، وهو ما يعني أن العائد منها يجب أن يكون مناسبًا قبل إرسالها. تؤدي هذه الآلية السوقية إلى تقليص حجم رسائل البريد الإعلانية التي يجري إرسالها في الفضاء الواقعي.
رابعًا: ينظِّم المعمار رسائل البريد الإعلانية في الفضاء الواقعي. فنحن نتلقى رسائلنا مرة واحدة فقط يوميًّا، وهو ما يجعل من السهولة بمكانٍ فصل رسائل البريد العادية عن الرسائل الإعلانية، بل من السهولة بمكانٍ التخلص من رسائل البريد الإعلانية دون حتى الاطلاع عليها. لا تعتبر أعباء رسائل البريد الإعلانية في الفضاء الواقعي إذن كبيرة.
تؤثر هذه العوامل معًا على تقييد نشر رسائل البريد الإعلانية في الفضاء الواقعي. إن عدد هذه الرسائل أقل مما يرغب المرسلون، وفي الوقت عينه هو أكبر مما يحب المتلقون. تنظِّم هذه القيود الأربعة إذن ما يجري عمله.
ينطبق الأمر نفسه على المواد الإباحية.
تخضع المواد الإباحية إلى تنظيم شديد في الفضاء الواقعي، مرة أخرى لا نعني بالمواد الإباحية الفُحش أو المواد الإباحية التي تتعلق بالأطفال، بل ما تطلق عليه المحكمة الدستورية العليا في الولايات المتحدة تعبيرًا صريحًا جنسيًّا «يسبب الضرر للقُصَّر». يخضع الفُحش والمواد الإباحية التي تتعلق بالأطفال إلى التنظيم أيضًا، غير أن نمط تنظيمها مختلف. يُحظَر الفُحش والمواد الإباحية التي تتعلق بالأطفال على الجميع في الفضاء الواقعي (الولايات المتحدة). أما المواد الإباحية فلا تُحظر إلا على الأطفال.
يمكن أيضًا فهم عملية تنظيم المواد الإباحية من خلال الأنماط الأربعة للتنظيم. تتوجه هذه الأنماط الأربعة جميعها إلى هدف واحد؛ ألا وهو: إبعاد الأطفال عن المواد الإباحية مع ضمان إمكانية اطِّلاع الكبار عليها (أحيانًا).
لا تقتصر عملية التنظيم على القانون فقط. تنظم الأعراف الاجتماعية المواد الإباحية أيضًا. تقيِّد الأعراف الاجتماعية بيع المواد الإباحية بصورة عامة؛ حيث ينظر المجتمع بعين الازدراء إلى مستهلكي المواد الإباحية، وهذا الازدراء لا شك يؤدي إلى الحد من بيع المواد الإباحية. تشجع الأعراف الاجتماعية أيضًا سياسة إبعاد المواد الإباحية عن الأطفال. ولا يرغب المتعاملون في المواد الإباحية أن ينظر إليهم الآخرون على أنهم فئة تفسد المجتمع. يُنظر إلى بيع المواد الإباحية عمومًا على أنها مسألة تؤدي إلى فساد الأخلاق، وهو ما يعتبر قيدًا على المتعاملين مثلما هو قيد على الجميع.
يُبقي السوق أيضًا المواد الإباحية بعيدًا عن الأطفال. تُكلِّف المواد الإباحية أموالًا في الفضاء الواقعي. لا يمتلك الأطفال الكثير من الأموال. نظرًا لأن بائعي المواد الإباحية يميزون بين المشترين بناءً على هويتهم، بهذا يساهم البائعون في إثناء الأطفال عن شراء المواد الإباحية.
في المقابل، تفترض الوسائل التنظيمية للقانون، والسوق، والأعراف الاجتماعية وجود وسيلة تنظيمية أخرى تسمح بوجود الوسائل الثلاث الأخرى؛ ألا وهي: وسيلة التنظيم عن طريق المعمار. يصعب في الفضاء الواقعي إخفاء حقيقة كون أحد الأشخاص طفلًا. ربما يحاول هذا الطفل إخفاء هويته لكن دون أن ينجح في ذلك. من هنا، نظرًا لأن أي طفل لا يستطيع إخفاء عمره، ونظرًا لأن المواد الإباحية تُباع مباشرة وجهًا لوجه إلى المشترين، تجعل معماريات الفضاء الواقعي تكلفة الاستعانة بوسائل التنظيم عن طريق القانون والأعراف الاجتماعية أقل تكلفة، ومن ثم فعَّالة.
تؤثر هذه المجموعة من الوسائل التنظيمية في الفضاء الواقعي على السيطرة إلى درجة كبيرة على نشر المواد الإباحية بين الأطفال. لا تعتبر محصلة هذه الوسائل التنظيمية كاملة — حيث يستطيع أي طفل يريد الحصول على مواد إباحية أن يحصل عليها — لكن لا يشترط في الوسيلة التنظيمية أن تكون كاملة حتى تصبح فعَّالة. يكفي أن تجعل هذه الوسائل التنظيمية المواد الإباحية غير متوافرة بصورة عامة.
(٢-٢) وسائل تنظيم الفضاء الإلكتروني: البريد الإلكتروني المزعج والمواد الإباحية
يجري تنظيم البريد الإلكتروني المزعج والمواد الإباحية بصورة مختلفة في الفضاء الإلكتروني. بمعنًى آخر، الأنماط التنظيمية الأربعة نفسها تقيِّد البريد الإلكتروني المزعج والمواد الإباحية أو تمكِّنها بصورة مختلفة في الفضاء الإلكتروني.
لنبدأ بالمواد الإباحية هذه المرة: يتمثل الفرق الأول في السوق. تُكلِّف المواد الإباحية أموالًا في الفضاء الواقعي، لكنها لا تكلف أموالًا في الفضاء الإلكتروني، أو لا تكلف أموالًا كثيرة. إذا أردت توزيع مليون صورة ﻟ «فتاة لطيفة» في الفضاء الواقعي، فربما لا يكون من قبيل المبالغة أن يتكلف ذلك مليون دولار. لا يكلف توزيع هذه الصورة في الفضاء الإلكتروني شيئًا في واقع الأمر. فطالما توافَر لدى المستخدمين وسيلة للاتصال بالفضاء الإلكتروني وجهاز مسح وثائق، يستطيع المستخدمون مسح صورة الفتاة اللطيفة ثم توزيع الصورة الرقمية عبر شبكة يوزنت لأكثر من مليون شخص فيما لا يزيد عن تكلفة الاتصال بالإنترنت.
مع انخفاض تكلفة الإنتاج بهذه الصورة، يجري إصدار كميات أكبر من المواد الإباحية في الفضاء الإلكتروني أكثر مما في الفضاء الواقعي. بالإضافة إلى ذلك، توجد أنماط من المواد الإباحية في الفضاء الإلكتروني لا تتوافر في الفضاء الواقعي، مثل المواد الإباحية للهواة، والمواد الإباحية التي يجري إنتاجها لغير أغراض تجارية. لا يمكن أن يوجد هذا النمط من المواد الإباحية في الفضاء الواقعي.
ثم إن هناك بالإضافة إلى ذلك الطلب. يمكن الاطلاع على المواد الإباحية في الفضاء الإلكتروني — أحيانًا وفي أماكن كثيرة — دون مقابل. توفِّر الآلاف من المواقع التجارية المواد الإباحية دون مقابل كأحد أساليب جذب المستهلكين. توجد أيضًا مواد إباحية أكثر في السياقات غير التجارية، مثل يوزنت، أو في مواقع المواد الإباحية المجانية. مرة أخرى، يُترجَم هذا السعر المنخفض إلى طلب أكبر.
يوجد معظم هذا العرض والطلب في سوق يتمتع بالحماية الدستورية على الأقل في الولايات المتحدة. يتمتع الكبار بحق دستوري في الولايات المتحدة للاطلاع على المواد الإباحية، بمعنى عدم وجود ما يمكن أن تقوم به الحكومة لتعيق الأفراد (ربما دون أسباب معقولة) عن الاطلاع على مواد إباحية، لكن هناك في المقابل سوقًا آخر للمواد الإباحية لا يتمتع بالحماية الدستورية. وتمتلك الحكومة في الولايات المتحدة الحق في منع الأطفال من الاطلاع على المواد الإباحية.
مثلما رأينا في القسم السابق، حتى ينجح هذا النوع من التنظيم، يجب توافُر وسيلة بسيطة نسبيًّا لمعرفة من يكون طفلًا. مثلما رأينا خلال صفحات هذا الكتاب، هذا ملمح يتعلق بالمعمار لا يتوافر في الفضاء الإلكتروني. لا يعني ذلك أن الأطفال لا يستطيعون إخفاء هويتهم كأطفال في الفضاء الإلكتروني. ففي الفضاء الإلكتروني، لا توجد حقائق لإخفائها. يدخل المستخدمون إلى الفضاء الإلكتروني دون هوية، ويذكرون عن أنفسهم ما يريدونه فقط، وإن كان ذلك أيضًا لا يمكن التحقق منه تمامًا. من هنا، لا يحتاج الأطفال في الفضاء الإلكتروني إلى الكشف عن هوياتهم كأطفال، ومن ثم لا يتعرضون إلى إجراءات التمييز التي يتعرض لها الأطفال في الفضاء الواقعي. لا يريد أحد أن يعرف أن جون هو جوني القاصر، ومن ثم لا ينشأ عن المعمار المعلومات الأساسية اللازمة لإنجاح هذا النمط من التنظيم.
يتمثل الأثر المترتب على ذلك في أن الوسائل التنظيمية التي تسعى إلى منع الأطفال من الاطلاع على المواد الإباحية في الفضاء الإلكتروني انتقائيًّا، لا تنجح لأسباب تختلف عن أسباب عدم نجاحها في الفضاء الواقعي؛ ففي الفضاء الواقعي هناك بائعون يرغبون في تجاوز القانون، أو لا يشعرون بأي دافع في الالتزام به. أما في الفضاء الإلكتروني، حتى لو أراد البائع أن يلتزم بالقانون، فإن القانون لا يمكن الالتزام به. إذ لا يوفِّر معمار الفضاء الإلكتروني الأدوات اللازمة لتمكين الأفراد من الالتزام بالقانون.
ينطبق الأمر نفسه على الرسائل الإعلانية. تعتبر هذه الرسائل نشاطًا اقتصاديًّا. يقوم الناس بإرسال هذه الرسائل لكسب الأموال. تضيِّق عوامل التقييد في الفضاء الواقعي من رغبة جمع الأموال هذه. تعني تكاليف إرسال رسائل إعلانية أن الحملات التي تتوقع تحقيق عائد كبير من ورائها هي الحملات التي يجري إرسال مثل هذه الرسائل فقط عبرها. مثلما ذكرت، حتى في هذه الحالة، تضيف القوانين والأعراف الاجتماعية طبقة أخرى من القيود، لكن يظل أهم هذه القيود هو التكلفة.
في المقابل، تعني فعالية الاتصال في الفضاء الإلكتروني أن تكلفة إرسال الرسائل الإعلانية أقل بكثير، وهو ما يزيد بصورة هائلة من كمية هذه الرسائل التي يصبح من الطبيعي، وفق معادلة التكلفة هذه، إرسالها بهذه الكميات، وحتى لو كنت تحقق ربحًا لا يزيد عن ٠٫٠١٪، إذا كانت تكلفة إرسال الرسائل الإعلانية تقترب من الصفر، فلا يزال بمقدورك أن تكسب أموالًا.
وهكذا، مثلما هو الحال مع المواد الإباحية، يعني وضع أطرٍ عامة حاكمة مختلفة جذريًّا تطبيق وسائل تنظيمية مختلفة جذريًّا للسلوك. يجري تنظيم المواد الإباحية والرسائل الإعلانية بصورة جيدة في الفضاء الواقعي. أما في الفضاء الإلكتروني، فيعني هذا الاختلاف في المعمار أن كليهما لا يخضع إلى وسائل تنظيمية فعَّالة على الإطلاق.
وهكذا نصل إلى السؤال الذي استهللنا به هذا القسم: هل هناك طريقة «لتنظيم» الرسائل الإعلانية والمواد الإباحية وصولًا إلى المستوى التنظيمي الذي يخضعان له في الفضاء الواقعي؟
(٢-٣) تنظيم المواد الإباحية على الشبكة
من بين جميع صور تنظيم التعبير الممكنة على الشبكة (مع تنحية حقوق التأليف والنشر جانبًا لبرهة)، كان كونجرس الولايات المتحدة متحمسًا للغاية لتنظيم المواد الإباحية. لم تترجم هذه الحماسة على الرغم من ذلك إلى نجاح. مرر الكونجرس تشريعين مهمين. لم يتمكن التشريع الأول من الصمود طويلًا، فيما يواصل التشريع الثاني طريقًا شاقًّا في صراعه للنفاذ عبر القضاء.
تمثلت المشكلة الثانية في الغموض. كان شكل الدفاعات المسموح بها واضحًا؛ فما دام هناك وجود لمعمار إقصاء الأطفال، يُسمح بالتعبير غير المهذب، لكن المعماريات المتوافرة في ذلك الوقت لإقصاء الأطفال عن المواد الإباحية غير المهذبة كانت تتسم بالبدائية النسبية، وكانت مكلفة إلى حد كبير في حالات أخرى. لم يكن واضحًا لتلبية اشتراطات القانون ما إذا كان يجب أن تتسم المعماريات بالفعالية الشديدة أم بفعالية معقولة وحسب، بالنظر إلى حالة التكنولوجيا المتوافرة في ذلك الوقت. في الحالة الأولى: لا وجود للدفاعات؛ حيث يتكلف المنع الكامل للأطفال عن الاطلاع على مواد إباحية، أو المشاركة في محادثات غير مهذبة؛ أموالًا طائلة. وفي الثانية: لم تكن تكلفة تحقيق منع فعَّال معقول غير كامل مرتفعة للغاية.
تمثلت المشكلة الثالثة في رد فعل الحكومة ذاتها. في دفاعها عن موقفها أمام المحكمة الدستورية العليا في ١٩٩٧، لم تقم الحكومة بالكثير لتضييق نطاق التعبير الذي يجري تنظيمه، أو توسيع نطاق دفاعات المتفاعلين على الإنترنت للتفاعل بحرية في أي صورة شاءوا. الْتزمت الحكومة بالتعريف الهائم العريض للغاية الذي حدده الكونجرس للسلوك غير المهذب، كما أظهرت الحكومة فهمًا ضعيفًا للطريقة التي يمكن أن تمنع بها التكنولوجيا السلوك غير المهذب. وبينما كانت المحكمة الدستورية العليا تدرس القرار، لم يبدُ أن ثمة طريقة لوضع نظام يحدد تعريف السلوك المهذب بما يحقق اشتراطات القانون دون أن يؤدي ذلك إلى تقييد حرية المتفاعلين على الإنترنت.
يستجيب القانونان إلى مسألة شرعية ومهمة. لا شك في أن للآباء الحق في حماية أبنائهم من هذا النمط من التعبير، ومن المفهوم تمامًا محاولة الكونجرس مساعدة الآباء على ضمان هذه الحماية للأبناء.
رغم ذلك، كان كلا القانونَينِ غير دستوريَّينِ؛ لا كما أشار البعض لعدم وجود طريقة يستطيع الكونجرس من خلالها مساعدة الآباء، لكن لأن الطريقة التي حددها الكونجرس لمساعدة الآباء تضع قيودًا غير ضرورية على التعبير المشروع (أي على حرية تعبير البالغين).
في رأيي، ثمة قانون دستوري يستطيع الكونجرس تمريره، وسيكون له أثر مهم على حماية الأطفال من المواد الإباحية.
حتى نرى كيف يبدو تشريع كهذا، علينا أن نبتعد قليلًا عن قانون آداب الاتصالات وقانون حماية الأطفال على الإنترنت؛ لتحديد الأهداف المشروعة لقانون تنظيم التعبير هذا.
- (١)
هل مقدم المحتوى يقدم محتوًى «قابلًا للتنظيم»؛ أي محتوًى «يسبب الضرر للقُصَّر»؟
- (٢)
هل المتلقي مسموح له بالاطلاع على هذا المحتوى؛ أي هل هو قاصر؟
فيما بين مقدم المحتوى ومتلقيه، من الجلي أن مقدم المحتوى هو الأقدر على الإجابة على السؤال الأول. لا يستطيع المتلقي معرفة ما إذا كان المحتوى ضارًّا بالقُصَّر حتى يصادف المحتوى المُقدَّم. وإذا كان هذا المتلقي شخصًا قاصرًا، فسيكون الأوان قد فات. فيما بين مقدم المحتوى ومتلقيه، يتضح أن المتلقي هو الأقدر على الإجابة على السؤال الثاني. على الإنترنت على وجه الخصوص، من الصعوبة البالغة بمكانٍ على مقدم المحتوى التحقق من عمر المتلقي؛ حيث يستطيع المتلقي وحده تحديد عمره بأقل الصور تكلفة.
وضع قانون آداب الاتصالات وقانون حماية الأطفال على الإنترنت عبء الإجابة عن السؤال الأول على مقدم المحتوى، فيما وضعا عبْءَ الإجابة على السؤال الثاني على مقدم المحتوى ومتلقيه معًا. كان على مقدم المحتوى تحديد ما إذا كان هذا التعبير قابلًا للتنظيم، وكان على مقدم المحتوى ومتلقيه التعاون معًا للتحقق من عمر المتلقي. إذا لم يتحقق مقدم المحتوى من عمر المتلقي، وكان المتلقي قاصرًا، يعتبر مقدم المحتوى مرتكبًا لجريمة.
يحدد قانون الفضاء الواقعي المسئولية بالطريقة نفسها تمامًا. إذا أردت مثلًا بيع منتج إباحي في نيويورك، فعليك تحديد ما إذا كان محتوى ما تبيعه «يسبب الضرر للقصر»، فضلًا عن تحديد ما إذا كان الشخص الذي تبيعه المحتوى شخصًا قاصرًا. في المقابل، يختلف الفضاء الواقعي بصورة جوهرية عن الفضاء الإلكتروني، على الأقل في التكلفة العالية التي تتطلبها الإجابة على السؤال الثاني. في الفضاء الواقعي، تعتبر الإجابة تلقائية تقريبًا (مرة أخرى، يصعب على الطفل إخفاء حقيقة كونه طفلًا). عندما لا تكون الإجابة تلقائية، يوجد نظام منخفض التكلفة لتحديد الهوية (رخصة القيادة، على سبيل المثال). في الفضاء الإلكتروني، في المقابل، يشكِّل أي نظام إجباري لتحديد الهوية عبئًا على مقدم المحتوى ومتلقيه. وحتى في ظل قانون حماية الأطفال على الإنترنت، على مقدم المحتوى أن يتحمل عبء إقامة نظام دفع باستخدام بطاقات الائتمان، وعلى المتلقي أن يثق في بائع المواد الإباحية ويمنحه بطاقة ائتمانه حتى يستطيع الاطلاع على مواد يحمي الدستور تداولها.
هناك جانب آخر في قانون آداب الاتصالات وقانون حماية الأطفال على الإنترنت يبدو ضروريًّا، لكنه في الواقع غير ذلك؛ ألا وهو: أن كلا القانونَينِ يُحمِّلان مسئولية تَبِعات هذين التشريعين على الجميع، بما في ذلك أولئك الذي يمتلكون حقًّا دستوريًّا للاستماع إلى هذه المواد الإباحية. بعبارة أخرى، يتطلب هذان القانونان أن يظهر الجميع إثباتات هوية، رغم أنه لا يُمنع دستوريًّا من ممارسة حق تداول مواد إباحية إلا الأطفالُ.
قارن إذن بين الأعباء التي يلقي بها القانونان المشار إليهما بإطار تنظيمي مختلف؛ نظام يضع عبء الإجابة على السؤال الأول (ما إذا كان المحتوى ضارًّا بالقُصَّر أو لا) على مقدم المحتوى، ويضع عبء الإجابة على السؤال الثاني (ما إذا كان المتلقي شخصًا قاصرًا أو لا) على المتلقي.
تعتبر إحدى صور هذا الإطار التنظيمي بسيطة، بل غير فعَّالة وغير عادلة بالنسبة إلى مقدم المحتوى، وتتمثل في الاشتراط بأن تحجب مواقعُ الإنترنت الاطلاع على المواد الإباحية وتداولها من خلال صفحة تَنص على الآتي: «يعتبر محتوى هذه الصفحة ضارًّا بالقُصَّر. اضغط هنا إذا كنت شخصًا قاصرًا.» يُحمِّل هذا التصور التنظيمي الطفل مسئولية تحديد العمر، لكن من الواضح أن هذا التصور لا يحقق أي أثر على الإطلاق في منع الأطفال من الاطلاع على المواد الإباحية وتداولها. بصورة أقل وضوحًا، يعتبر هذا التصور غير عادل بالنسبة إلى مقدمي المحتوى؛ حيث قد يتداول مقدمو المحتوى محتوًى «يسبب الضرر للقُصَّر»، في الوقت الذي لا يعتبر كل من يقدِّم هذه المحتويات شخصًا يبيع مواد إباحية. يعتبر هذا النمط من حجب المحتوى مميِّزا للمستخدمين بصورة سلبية للبعض، وفي حال توافر نظام لا يلقي بالمسئولية على المستخدمين بنفس هذا القدر، تجعل هذه الصورة السلبية التشريع القانوني الداعم لها غير دستوري.
ما هو إذن البديل القابل للتطبيق لهذا التصور التنظيمي؟
سأوضح هذا النظام من خلال مثال محدد. بمجرد ذكر المثال، سيصبح من السهولة بمكان إدراك الموضوع الأعم الذي أطرحه هنا.
يعرف الجميع أبل ماكنتوش. يسمح هذا النظام، مثل أي نظام تشغيل حديث آخر، للمستخدمين بإنشاء «حسابات» خاصة على جهاز محدد. وقد قمت بإنشاء حساب لابني ويليام (لا يتجاوز عمر ابني ثلاث سنوات، لكنني أريد أن أكون مستعدًّا). عندما قمت بإنشاء هذا الحساب، قمت بضبط إعدادات «أدوات تحكم الآباء»؛ وهو ما يعني أن أتحكم في تحديد أي البرامج الذي سيستخدمها تحديدًا، وأي نمط اتصال بالإنترنت يتميَّز اتصال ابني به. تجعل «أدوات تحكم الآباء» من المستحيل عمليًّا تغيير هذه الإعدادات؛ حيث يحتاج من يريد ذلك إلى معرفة كلمة المرور التي وضعها المتحكِّم في نظام الإعدادات، وإذا لم يجرِ الكشف عن كلمة المرور، فسيكون العالم الذي يلج الأطفال إليه من خلال جهاز الكمبيوتر هو ذلك العالم الذي حددته إعدادات الوصول التي اختارها الآباء.
هذا هو دور الحكومة. بعكس قانون آداب الاتصالات وقانون حماية الأطفال على الإنترنت، يتمثل التشريع اللازم لإنجاح هذا النظام — في حدود نجاح هذا النظام، وهو ما سنناقشه لاحقًا أكثر — في تمييز مقدمي المحتوى على الإنترنت للمحتوى الذي يقدمونه. لن يُشترط على المقدمين حجب المحتوى، ولن يُشترط التحقق من العمر. كل ما هو مطلوب من مقدمي المحتوى على الإنترنت هو تمييز المحتوى الذي يعتبر ضارًّا للقُصَّر عن طريق علامات التمييز المناسبة.
بمجرد تنفيذ الحكومة هذا القانون، ستُوفِّر لدى مصممي برامج التصفح الدافع اللازم لتضمين هذه التكنولوجيا (البسيطة للغاية) في برامجهم للتصفح. وبالنظر إلى تكنولوجيا برنامج تصفح شبكة الإنترنت موزيلا مفتوح المصدر — وهو البرنامج الذي يسمح لأي مستخدم بإضافة أي تطبيق يراه إليه — تعتبر تكلفة عملية بناء هذا المتصفح المعدل منخفضة للغاية. وبمجرد تنفيذ الحكومة هذا القانون، وبمجرد بناء مصممي برامج التصفح لأحد برامج التصفح التي تستطيع التعرف على هذه العلامة المميزة، سيتوافَر بناءً على ذلك دافع قوي لدى الآباء لاستخدام منصات مختلفة تُمكِّنهم من التحكُّم في الأماكن التي يزورها أطفالهم على الإنترنت.
«لكن ألا يعتبر هذا العبء الملقى على عاتق مقدم المحتوى غير دستوري؟» من الصعوبة القول بذلك، خاصة وأنه — في الفضاء الواقعي — من الدستوري إجبار مقدم المحتوى على إبعاد المحتوى الذي «يُسبِّب الضرر للقُصَّر» عن الأطفال. لا شك في أن ثمة عبئًا ملقًى على عاتق مقدم المحتوى، لكن يتمثل السؤال الدستوري فيما إذا كان هناك وسيلة أخرى لا تلقي بمثل هذا العبء على عاتق مقدم المحتوى بحيث تحقق هذه المنفعة المهمة.
«لكن ماذا عن المواقع الأجنبية؟» لا يستطيع الأمريكيون تنظيم ما يقع في روسيا. على عكس ما تظن، يعتبر ذلك غير صحيح تمامًا. ومثلما سنرى في الفصل التالي، هناك الكثير مما تستطيع الولايات المتحدة القيام به وما تقوم به بالفعل بغرض السيطرة على ما تقوم به الدول الأخرى.
«لكن لماذا لا نعتمد على أدوات ترشيح المحتوى التي يستخدمها الآباء والمكتبات في أجهزتهم؟ لا تتطلب أدوات ترشيح المحتوى الطوعية أي قوانين جديدة، ومن ثم لا تتطلب أي رقابة ترعاها الدولة لتحقيق أهدافها.»
هذه هي الرؤية التي أريد أن أزيحها جانبًا؛ حيث تجلب هذه الرؤية جميع أخطاء الفهم في مرحلة ما قبل قانون الفضاء الإلكتروني إلى الإجابة على سؤال التنظيم في الفضاء الإلكتروني.
أولًا: خذ لفظة «رقابة». يتمثل ما يقوم به هذا التشريع في منح الآباء الفرصة لممارسة عملية اختيار مهمة. تعتبر عملية تمكين الآباء من القيام بذلك مصلحة ضرورية للدولة. ربما يُطلِق الأطفال الذين لا يستطيعون الاطلاع على المحتوى الإباحي؛ نظرًا لأن آباءهم مارسوا عملية الاختيار هذه على ذلك اسم «رقابة»، لكن لا يُعد هذا استخدامًا مفيدًا للمصطلح. إذا كان هناك سبب مشروع لحجب هذا الشكل من أشكال الاطلاع على أحد أنواع المحتويات؛ فهو تنظيم التعبير. لا يوجد سبب آخر لإطلاق أسماء أخرى على ذلك.
لا يتمثل طرحي هنا في منع مرشحات المحتوى أو عدم السماح للآباء بحجب المزيد من نمط المحتوى الإباحي، إنما يتمثل طرحي في أننا إذا اعتمدنا على الإجراءات الفردية وحدها، فسيتم حجب صور تعبير أكثر مما لو قامت الحكومة باتخاذ إجراءات الحجب بصورة أكثر حكمة وفعالية.
يضع هذا الإطار العام للطرح النهائي الذي أُقدِّمه هنا. مثلما ذكرت من البداية يجب أن يكون تركيزنا على حرية التعبير لا على دور الحكومة فقط في تقييد حرية التعبير. من هنا، بين «حلين» لإحدى مشكلات التعبير — حلٌّ يتضمن الحكومة ويقمع حرية التعبير على نطاق محدود، وحلٌّ لا يتضمن الحكومة ويقمع حرية التعبير على نطاق واسع — يجب أن تنحاز بنا القيم الدستورية لتفضيل الحل الأول، يجب أن تقودنا قيم التعديل الأول (حتى لو لم يكن التعديل الأول مباشرة) إلى تفضيل نظام تنظيم للتعبير يتَّسم بالشفافية والقابلية للمحاسبة، نظام يؤدي فيه دور الحكومة أو حيادها إلى قمع صور للتعبير تمتلك الحكومة مصلحة مشروعة في قمعها. بعبارة أخرى، لا يعني تدخل الحكومة «بالضرورة» في الحل أن هذا الحل ليس مناسبًا ويوفر الحماية للحقوق.
تعتبر مرشحات المحتوى الخاصة التي تمخَّض عنها السوق حتى الآن مكلفة وشاملة لكل شيء؛ حيث تحجب هذه المرشحات محتوًى يقع خارج نطاق صلاحية الدولة في تنظيم التعبير. ويجري دعم مرشحات المحتوى هذه لغياب بديل آخر أقل تقييدًا لحرية التعبير.
استغرقت منظمات الحقوق المدنية الرئيسة طويلًا حتى تدرك هذا التهديد الذي يواجه قيم حرية التعبير. يركِّز تقليد الحقوق المدنية بصورة مباشرة على الإجراءات الحكومية وحدها. سأكون آخر من يقول بعدم وجود مخاطر جمَّة جراء سوء التصرفات الحكومية، لكن هناك في المقابل أيضًا مخاطر تتهدد حرية التعبير جراء سوء تصرف الشركات الخاصة. ولا يخدم الرفض القاطع لتدبر التهديد الذي يمثله سوء تصرف الحكومة في مقابل التهديد الذي يمثله سوء تصرف الشركاتِ الخاصةِ؛ القيمَ التي يسوقها التعديل الأول.
«ماذا إذن عن تكنولوجيات ترشيح المحتوى العامة مثل بي آي سي إس؟ ألا تعتبر تكنولوجيا بي آي سي إس بمنزلة حل يتجنب «مشكلة القائمة السرية» التي جرى تحديدها؟»
تشير بي آي سي إس اختصارًا إلى «مجموعة الشبكة العالمية لمنصة اختيار محتوى الإنترنت». رأينا قبل ذلك تكنولوجيا شبيهة بتكنولوجيا بي آي سي إس (هي في الواقع أحد أبناء تكنولوجيا بي آي سي إس) في الفصل عن الخصوصية؛ ألا وهي تكنولوجيا منصة تفضيلات الخصوصية. مثل تكنولوجيا بي آي سي إس، تعتبر تكنولوجيا منصة تفضيلات الخصوصية بروتوكولًا لتقييم وترشيح المحتوى على الشبكة. في سياق الخصوصية، كان المحتوى يتألف من مجموعة من التفضيلات تتعلق بممارسات الخصوصية، وكان يجري تصميم النظام العام بحيث يساعد الأفراد على الاختيار بين بدائل هذه الممارسات.
تنطبق الفكرة نفسها على صور التعبير على الإنترنت. تقسِّم تكنولوجيا بي آي سي إس مشكلة ترشيح المحتوى إلى قسمين؛ ألا وهما: قسم تمييز نوع المحتوى (تقييم المحتوى)، ثم قسم ترشيحه (من خلال حجب المحتوى بناء على هذا التقييم). كانت الفكرة قائمة على أساس أن مبتكري البرمجيات سيتنافسون لابتكار برامج تستطيع تنفيذ عمليات ترشيح وفق عمليات التقييم، وتتنافس شركات تقديم المحتوى ومؤسسات التقييم في تقييم المحتوى. يقوم المستخدمون بعد ذلك باختيار برامج الترشيح ونظم التقييم المناسبة؛ فإذا أراد المستخدمون، مثلًا، الحصول على نتائج تقييم محتوى اليمين المسيحي، فسيستخدمون نظام التقييم الخاص به، وإذا أراد المستخدمون الحصول على نتائج تقييم محتوى اليسار الملحد، يستطيعون استخدام نظام التقييم هذا. وعن طريق اختيار من يقيِّم المحتوى إذن نختار المحتوى الذي نرغب في أن يقوم برنامج الترشيح بترشيحه.
يتطلب هذا النظام بعض الافتراضات؛ أولًا: تقوم شركات ابتكار البرمجيات بكتابة الكود اللازم لترشيح المحتوى (جرى تنفيذ ذلك حقيقة في بعض برامج التصفح الرئيسة). ثانيًا: تقوم مؤسسات تقييم المحتوى بتقييم محتويات الشبكة. لا يعتبر هذا بطبيعة الحال جهدًا يسيرًا؛ حيث لم تنهض مؤسسات التقييم بعدُ لتنفيذ مهمة تقييم مليارات صفحات الإنترنت. ثالثًا: تمتلك المؤسسات، التي قامت بإجراء عمليات تقييم لمحتويات الشبكة بطريقة تسمح بسهولة ترجمتها من نظام تقييم إلى آخر، ميزة تنافسية تتفوق بها على مؤسسات التقييم الأخرى. تستطيع هذه المؤسسات، على سبيل المثال، بيع أحد نظم التقييم إلى حكومة تايوان، ثم تطوير نظام تقييم آخر مختلف قليلًا وبيعه إلى حكومة «آي بي إم».
تبدو الحيادية شيئًا طيبًا، وهي تبدو مثل فكرة يجب على صانعي السياسات اعتناقها؛ فأسلوب تعبيري عن آرائي يختلف عن أسلوب تعبيرك عن آرائك. كلانا حرٌّ في التحدُّث والاستماع كما نشاء. يجب أن نؤسس نظمًا تحمي هذه الحرية، وتبدو تكنولوجيا بي آي سي إس هي هذا النظام عينه الذي نرغب فيه.
يجب أن يطلق هذا صافرات التحذير لكل من هم حريصون على حماية قيم التعديل الأول، حتى لو كان البروتوكول خاصًّا في مجمله. (ربما) يتمثل أحد الآثار المترتبة غير المقصودة في أن نظام بي آي سي إس لا يوفِّر فقط طريقة لترشيح المحتوى لا تتسم بالشفافية، بل إنه — من خلال خلق سوق لتكنولوجيا ترشيح المحتوى — ينتج مرشحات لما هو أكثر بكثير مما أثير في قضية جنسبرج ضد نيويورك. هذه، بالطبع، كانت الشكوى المشروعة للاتحاد الأمريكي للحريات المدنية ضد قانون آداب الاتصالات الأصلي. في المقابل، يُيسر السوق، الذي يتطابق ذوقه مع ذوق المجتمع، من عملية ترشيح المحتوى؛ فالأعراف المجتمعية لأي مجتمع تقع في صلب برامج ترشيح المحتوى، وهي مرشحات تمتاز باتساع نطاقها كثيرًا عن المرشح الضيق مثلما كان الحال في قضية جنسبرج ضد نيويورك. يمكن أن يتسع نظام ترشيح المحتوى كثيرًا وفق رغبة المستخدمين، أو يتخصص أكثر فأكثر حسبما ترغب مصادر ترشيح المحتوى.
يتمثل الفرق إذن بين هذين الحلين في قابلية النظام في كل منهما للتعميم. قد يؤسس نظام ترشيح المحتوى معمارًا يمكن استخدامه لترشيح أي نوع من صور التعبير؛ وهكذا قد تتخطى الرغبة في ترشيح المحتوى الحد الأدنى المسموح به في الدستور. وقد يؤسس نظام تقسيم المحتويات وفق الهويات معمارًا لحجب المحتوى لم يكن يهدف في الأساس إلى تحقيق عملية حجب تتسم بهذه الشمولية.
أي النظامين نفضِّل؟
هذا على الأقل من ناحية المبدأ. على الرغم من ذلك، يجب أن نسأل عن طبيعة الدوافع لتطبيق الحل فيما يتجاوز المشكلة المطروحة، وما هي معوقات تطبيق الحل في سياقات أخرى؟
أما نظام الترشيح فهو مختلف؛ فإذا لم يستطِع المستخدم الاطلاع على المحتوى، فلا يعرف طبيعة ما جرى حجبه. ربما يجري ترشيح المحتوى عبر تكنولوجيا بي آي سي إس في مكان ما من المنبع بحيث لا يعرف المستخدم بحدوث ذلك. لا يوجد أي شيء في تصميم تكنولوجيا بي آي سي إس يتطلب الكشف عن حقيقة ما يجري حجبه مثلما هو الحال في نظام التقسيم. من هنا، تصبح عملية ترشيح المحتوى من المنبع أيسر، وأقل شفافية، وأقل تكلفة من خلال تكنولوجيا بي آي سي إس.
يتضح هذا الأثر أكثر إذا قمنا بعملية تفكيك لمكونات عملية ترشيح المحتوى. تذكر عنصري حلول ترشيح المحتوى؛ تمييز المحتوى، ثم حجبه بناءً على عملية التمييز هذه. ربما نرى في عملية تمييز المحتوى خطورة أكبر مما في عملية الحجب. إذا جرى تمييز المحتوى، يصبح من الممكن متابعة من يحصل على ماذا دون أن يجري حتى حجب الاطلاع على المحتوى. ربما يؤدي ذلك إلى إثارة مخاوف أكبر مما في حالة حجب المحتوى؛ إذ تتضمن عملية حجب المحتوى إخطار المستخدم بذلك على الأقل.
يجب أن تُزعجنا هذه الاحتمالات فقط في حال توافر الأسباب للتشكيك في القيمة التي تتضمنها عملية ترشيح المحتوى بصورة عامة، وترشيح محتوى المصدر بصورة خاصة. أعتقد أننا نملك هذه الأسباب، لكنني يجب أن أقرَّ بأن قلقي ينبع من مصدر آخر للغموض الكامن في ماضينا الدستوري.
توجد قيمة لا سبيل إلى إنكارها في عملية ترشيح المحتوى؛ فنحن جميعًا نرشح ونستبعد من المحتوى أكثر مما نعالج. وبصورة عامة، نحن نفضل أن نختار أدواتنا لترشيح المحتوى بدلًا أن يختارها الآخرون لنا. إذا قرأت صحيفة نيويورك تايمز بدلًا من صحيفة وول ستريت جورنال، أقوم في واقع الأمر باختيار أداة ترشيح محتوًى تتوافق مع فهمي لقيم كل صحيفة. ومن الواضح أنه في أي حالة من هذه الحالات، لا يجب أن تكون هناك مشكلة في ذلك.
في الفضاء الواقعي، لا نقلق كثيرًا حيال هذه المشكلة؛ حيث إن عملية الترشيح تتسم بعدم الكمال، فمهما حاولت أن أتجاهل موضوع الأشخاص المشردين، فلن أمضي إلى مصرفي دون المرور ببعض الأشخاص المشردين في الشارع، ومهما حاولت أن أتجاهل موضوع عدم المساواة، فلن أقود السيارة إلى المطار دون أن أمر بأحياء تذكرني بكيف أن الولايات المتحدة أمة لا تتحقق فيها المساواة. تفرض جميع أنواع الموضوعات التي لا أفضل التفكير فيها نفسها عليَّ. تجذب هذه الموضوعات انتباهي في الفضاء الواقعي بقطع النظر عن خياراتي الخاصة في عملية الترشيح.
بطبيعة الحال، لا ينطبق هذا الأمر على الجميع؛ حيث يستطيع الأثرياء ثراء فاحشًا عزل أنفسهم عما لا يرغبون في رؤيته. خذ مثلًا بمدير المنزل في إحدى الضيعات الإنجليزية في القرن التاسع عشر؛ حيث يجيب مدير المنزل على السائلين ولا يسمح بدخول من يظن أنهم سيسببون إزعاجًا لسيده. يعيش هؤلاء الأشخاص حياة معزولة تمامًا عن الآخرين، مثلما هو الحال مع بعض الأشخاص في الوقت الراهن.
ماذا يحدث إذن إذا جرى التخلص من عورات نظام ترشيح المحتوى؟ ماذا يحدث لو استطاع الجميع استخدام مدير منزل؟ هل يتوافق هذا العالم مع قيم التعديل الأول؟
يكشف هذا الخلاف بين أساتذة القانون النابغين في جامعة شيكاجو عن لبس كامن آخر، ومثلما هو الحال مع حالات أخرى للبس الكامن، لا أظن أننا سنحل المشكلة إذا التمسنا الحل في الطرح الماديسوني. وباستخدام حجة سَنستاين نفسها لدحض طرح سَنستاين، يمكن القول بأن التعديل الأول الذي وضعه واضعو الدستور كان اتفاقًا نظريًّا غير مكتمل، ومن السهولة بمكانٍ الإقرار بأن التعديل الأول لم يُغطِّ حالة عملية الترشيح الكاملة للمحتوى. لم يستطع واضعو التعديل الأول تخيُّل عالم يجري فيه استخدام تكنولوجيا بي آي سي إس، ولم يتفقوا بكل تأكيد على نطاق تطبيق التعديل الأول في مثل هذا العالم. إذا كان لنا أن نفضل أحد النظامين على الآخر، يجب أن نقوم بذلك من خلال دعم القيم التي نريد تبنيها بدلًا من الادعاء بأن هذه القيم جرى تبنيها من قبل واضعي الدستور.
من هنا، أصوت لصالح نظام لا يؤدي إلى تغيير القيم العامة المهمة تغييرًا جذريًّا. يعتبر نظام التقسيم الذي يجعل الأطفال يحددون هوياتهم ذاتيًّا أقل جذرية في تغيير القيم العامة من نظام ترشيح المحتوى الذي يشترط في واقع الأمر تمييز جميع صور التعبير. لا يعتبر نظام التقسيم أقل جذرية فحسب، بل أقل تمكينًا (من الأشكال التنظيمية الأخرى)؛ حيث يتطلب أقل قدر من التغيير في معمار الشبكة، ولا يمكن تعميم نطاق تنظيمه بسهولة بحيث يصير شكلًا تنظيميًّا أكثر شمولًا.
سأختار نظام التقسيم حتى لو كان ذلك يتطلب قانونًا فيما لا يتطلَّب نظام ترشيح المحتوى شيئًا سوى الاختيار الشخصي فقط. إذا كانت الدولة تدفع في اتجاه إجراء تغيير في المزيج بين القانون والمعمار، فلا أعبأ إذا كانت تدفع إلى هذا التغيير عن طريق القانون في سياق، وعن طريق الأعراف الاجتماعية في سياق آخر. من وجهة نظري، تكمن المسألة في النتيجة لا في طريقة تحقيق الهدف. هل يحمي النظام الذي ينشأ عن هذه التغييرات قيم حرية التعبير؟
ينتاب البعض هوس بشأن التمييز بين القانون والفعل الخاص؛ حيث يرى هؤلاء أن التنظيم عن طريق الدولة هي مسألة محل شك دائم في مقابل التنظيم عن طريق الأفراد، الذي يرونه كمسألة تقع حتى خارج نطاق المراجعة الدستورية. لحسن الحظ، يقف القانون الدستوري في معظمه في صفهم.
مثلما ألمحت سابقًا — ومثلما أدافع أكثر عن وجهة النظر هذه لاحقًا — لا أعتقد أننا يجب أن نتقيَّد بالحدود التي يخطُّها لنا المحامون. يجب أن يدور سؤالنا الرئيس حول القيم التي نريد للفضاء الإلكتروني أن يحميها. سيعرف المحامون طريقة تحقيق ذلك.
ربما يود الشخص المتشكك المزعج الذي يتابع عن كثب أمثلة عدم اتساق الرأي أن يزعجني مرة أخرى هنا. في الفصل السابق، تبنيت معمارًا للخصوصية هو في جوهره معمار تكنولوجيا بي آي سي إس. تسمح تكنولوجيا منصة تفضيلات الخصوصية، شأنها شأن تكنولوجيا بي آي سي إس، بإجراء عملية ترشيح للمحتوى بين الأجهزة. يتمثل المحتوى في حالة تكنولوجيا منصة تفضيلات الخصوصية في قواعد تدور حول ممارسات الخصوصية، وفي حالة تكنولوجيا بي آي سي إس هي قواعد تدور حول المحتوى. ربما يسأل المتشككون: كيف أعارض استخدام وسيلة تكنولوجية فيما أُفضِّل الأخرى؟
الإجابة كما هي من قبل. تعتبر قيم التعبير مختلفة عن قيم الخصوصية. تعتبر السيطرة التي نريد أن نحققها على التعبير أقل من السيطرة التي نريدها في حالة الخصوصية. وللأسباب نفسها التي تجعلنا نتخلى عن شيء من السيطرة على الملكية الفكرية، يجب أن نتخلى عن شيء من السيطرة في حالة التعبير. يعتبر وجود القليل من الفوضى أو عوامل عدم السيطرة في سياق حماية أشكال التعبير قيمة لا تكلفة.
لكن هل هذه القيم مختلفة فقط لأنني أقول ذلك؟ لا. تعتبر هذه القيم مختلفة فقط إذا قلنا «نحن» إنها مختلفة. يتمثل طرحي الرئيس في أننا من يختار كيف نتعامل مع هذه القيم في الفضاء الإلكتروني.
(٢-٤) تنظيم البريد الإعلاني المزعج
تعتبر رسائل البريد الإلكتروني أكثر المسائل التي جرى التنظير لها على الشبكة؛ فهناك عشرات الكتب التي تتناول أفضل الطرق للتعامل مع البريد الإلكتروني المزعج. تمتلئ هذه الكتب بالفِكَر الفنية المبتكرة لإقصاء رسائل البريد الإلكتروني المزعج، من وسائل الترشيح إلى إعادة التصميم الشاملة لنظام البريد الإلكتروني.
في المقابل، يعتبر أكثر الأشياء إدهاشًا لي كمحامٍ (ومحبط في الآن عينه كمؤلف لهذا الكتاب) هو أن جميع هذه الأعمال تتجاهل عمليًّا أداة مهمة لا تجري معالجة مسألة رسائل البريد الإلكتروني إلا من خلالها؛ ألا وهي القانون. ليست المشكلة أن هذه الأعمال تقارن قيمة القانون في مقابل قيمة مرشحات بيزيَن على سبيل المثال، ثم تخلص إلى أن القانون أقل قيمة في تحقيق عملية التنظيم من هذه الأدوات، بل المشكلة أن هذه الأعمال لا تأخذ القانون في الاعتبار من الأساس، كما لو أن رسائل البريد المزعج مجرد نوع من مرض أنفلونزا الطيور يعيش حياته مستقلًّا تمامًا عما يريده البشر أو يفكرون فيه.
وفي هذا إغفال كبير لاستراتيجية أساسية من استراتيجيات التنظيم. مثلما قلت عبر صفحات الكتاب، يتمثل المدخل إلى سياسة جيدة في الفضاء الإلكتروني في توفير مزيج مناسب من أنماط التنظيم، لا حل واحد سريع. تعتبر فكرة أن الكود وحده يستطيع إصلاح مشكلة البريد الإلكتروني المزعج فكرة سخيفة؛ حيث يمكن دائمًا الالتفاف على الكود، وفي حال توافر الدافع للالتفاف على الكود، سيحدث ذلك الالتفاف. يعتبر القانون أداة لتغيير الدوافع، ويجب أن يجري استخدامه كأداة هنا أيضًا.
يرى معظم المهتمين أن القانون لا يستطيع أن يلعب دورًا في هذا السياق؛ حيث إن مرسلي البريد الإلكتروني المزعج، وفق وجهة نظر هؤلاء، سيتمكنون بصورة أفضل من تفادي القانون عن تفادي مرشحات البريد الإلكتروني المزعج، أو على الأقل عندما أتحدث عن «البريد الإلكتروني المزعج»؛ فإنني لا أتحدث عن فيروسات. هدفي في هذا الجزء هو عملية الاتصال التي تهدف إلى تيسير إجراء معاملة تجارية. كثير من هذه المعاملات مثير للسخرية؛ مثل تلك التي تتعلق بأدوية تمنع التقدم في العمر، وأقراص الإنقاص الفوري للوزن. في المقابل، تعتبر بعض هذه المعاملات مشروعة؛ مثل البيع بأسعار خاصة للبضائع المتكدسة في المخازن، أو عروض الحصول على بطاقات ائتمانية. تسعى هذه المعاملات جميعها إلى الحصول على شيء منك؛ المال. بطبيعة الحال، إذا كانت هذه المعاملات تهدف إلى الحصول على المال منك، فيجب إذن أن يكون ثمة من تعطي المال له، ويجب أن تكون هذه الجهة هدف عملية التنظيم.
ما الذي ينبغي أن يكون عليه هذا الشكل التنظيمي؟
يجب أن يكون الهدف هنا، مثلما هو الحال مع المواد الإباحية، هو التنظيم بغرض تحقيق ما يمكن أن نطلق عليه «الاتصال الرضائي». بعبارة أخرى، يجب أن يكون الهدف الوحيد لعملية التنظيم في حالة البريد الإلكتروني المزعج هو حجب عمليات الاتصال غير الرضائية، وتمكين عمليات الاتصال الرضائية. لا أعتقد أن هذا الهدف ينسحب على جميع سياقات التعبير. في هذا السياق — أي في حالة رسائل البريد الإلكتروني الخاصة أو المدونات ذات سعات الإنترنت المحدودة، فضلًا عن تحمُّل المستمع تكاليف صور التعبير في هذه الوسائط — يبدو من المناسب تمامًا تنفيذ عمليات تنظيمية بغرض تمكين الأفراد من حجب الاتصالات التجارية التي لا يرغبون في تلقيها.
كيف يمكن إذن القيام بذلك؟
في الوقت الحالي، يعتبر نمط التنظيم الوحيد الذي يؤثِّر بصورة فعالة على تداول البريد الإلكتروني المزعج هو الكود. أظهر أصحاب الكفاءات التكنولوجية مهارة فائقة في ابتكار أساليب لحجب البريد الإلكتروني المزعج. تتمثل هذه الأساليب في نوعين: نوع يعمل وفق محتوى الرسائل، ونوع آخر يعمل وفق سلوك المُرسِل.
يركِّز الأسلوب الثاني القائم على استخدام الكود في حجب رسائل البريد الإلكتروني المزعج على ممارسات تبادل الرسائل الإلكترونية للمُرسِل؛ وهو ما لا يعني الشخص الذي يقوم بإرسال الرسائل، بل «الخادم» الذي تنتقل عبره الرسائل إلى المستقبل. قام عدد كبير من مراقبي الشبكات — وأعني بهم الأشخاص الذين يعملون لصالح الأهداف الخيِّرة في العالم دون وجود تنظيم قانوني لعملهم — بإعداد قوائم بخوادم البريد الإلكتروني الجيدة والسيئة. يجري تأليف هذه القوائم السوداء من خلال فحص القواعد الظاهرة التي يستخدمها خادم البريد الإلكتروني في إرسال الرسائل. ينتهي المطاف بالخوادم التي لا تلتزم بهذه القواعد الظاهرة في القائمة السوداء، ويقوم من يشتركون في هذه القوائم السوداء بحجب أي رسائل بريد إلكتروني تأتي عبر هذه الخوادم.
لو كان أيٌّ من هاتين التكنولوجيتين، أو كلاهما، ينجح بالفعل في وقف البريد الإلكتروني المزعج فسأقبلهما، لكنني منزعج بشدة من عملية الحجب التي تفتقد إلى إجراءات تسلسلية تتبناها تكنولوجيا القوائم السوداء. وقد تعرضتُ شخصيًّا إلى حالات جد محرجة كلفتني الكثير عندما يجري التعامل مع بعض رسائل البريد الإلكتروني التي تلقيتها كرسائل إعلانية فيما هي غير ذلك. في المقابل، لا مانع من تحمُّل هذه التكاليف إذا كان النظام ناجحًا إجمالًا.
من هنا، نظرًا لأن التنظيم عن طريق الكود لا ينجح وحده، ولأن عملية التنظيم عن طريق الكود تتسبب في الإضرار بقيمة واحدة مهمة على الأقل وفرتها الشبكة في البداية، يجب أن نبحث عن بدائل أخرى للتنظيم عن طريق الكود وحده. مرة أخرى، يظل السؤال هو: أي مزيج من أنماط التنظيم يحقق بأفضل صورة الغاية التنظيمية المشروعة؟
لنبدأ بالمشكلة: لماذا يعتبر من الصعوبة بمكانٍ السيطرة على الرسائل الإعلانية؟ يتمثل السبب الرئيس في ذلك في أن هذه الرسائل تأتي غير مميَّزة؛ فلا توجد طريقة سهلة لمعرفة ما إذا كانت رسالة بريد هي رسالة إعلانية أم لا دون فتحها.
لا يعتبر هذا من قبيل المصادفة. يعلم مرسلو الرسائل الإعلانية أن معرفة المستخدمين بأن رسالة ما هي رسالة إعلانية سيجعلهم يحجمون عن فتحها؛ لذا يقوم هؤلاء بكل ما هو ممكن حتى يعتقد المستخدمون أن الرسائل التي يتلقونها هي رسائل غير إعلانية.
- (١)
يمكن للمرسلين أن يوفروا للمستقبلين خاصية استقبال هذه الرسائل. ستؤدي هذه الخاصية إلى تغيير صفة الرسائل من رسائل غير مرغوب فيها إلى رسائل مقبولة، ومن ثم لن تصبح رسائل إعلانية.
- (٢) يمكن للمرسلين إضافة علامات مميزة إلى خانة عنوان الرسالة. على سبيل المثال، إذا كانت الرسائل الإعلانية رسائل عن سفر ورحلات، يمكن أن تكون العلامة المميزة [Travel] [ADV]. سيتمكن مستقبلو الرسائل حينئذ من تعديل برامج الترشيح بحيث تقوم بحجب جميع الرسائل الإعلانية فيما عدا رسائل السفر والرحلات.
- (٣) يمكن للمرسلين دفع مقابل لمستقبلي الرسائل نظير إرسالها. مثلما اقترح البعض، قد تأتي رسالة يصاحبها مستند مرفق قيمته بنس أو ربما أكثر. سيتمكن مستقبلو الرسائل حينئذ من حجب جميع الرسائل الإعلانية التي تحتوي على العلامة المميزة [ADV] فيما عدا تلك الرسائل التي تَعِدُ بمردود مادي.
يتمثل العامل المشترك في كل من هذه النتائج المعدلة في أن مستقبل الرسائل التجارية لم يعد يتلقاها عن طريق الحيلة، بل الاختيار. يشجِّع هذا التطور من الشكل الأصلي للتنظيم إلى زيادة تبادل الاتصال، لكن فقط من خلال تشجيع عملية الاتصال الرضائي. أما عمليات الاتصال غير الرضائية — بافتراض الالتزام بشروط عملية التنظيم — فسيجري التخلص منها (إلى درجة كبيرة).
وهكذا استطعتُ في صفحة واحدة حل مشكلة الرسائل الإعلانية بافتراض الالتزام بقاعدة تمييز الرسائل، إلا أن هذا يعتبر في واقع الأمر افتراضًا مستحيلًا. فلماذا يلتزم مرسلو الرسائل الإعلانية بهذا الإجراء التنظيمي على الرغم من أن الغرض الأساسي له هو تقليص سوق هؤلاء؟
للإجابة على هذا السؤال، سنعود إلى النقطة البديهية عن الرسائل الإعلانية في مقابل الفيروسات والبرامج الضارة الأخرى. إن سبب وجود مرسلي الرسائل الإعلانية هو جني الأموال. ومن المعروف للكثيرين أنه من السهل إخضاع من يسعون لكسب المال إلى قواعد التنظيم. إذا كان المستهدف من عملية التنظيم يسعى إلى جني الأموال، يمكن السيطرة على سلوكه من خلال تغيير دوافعه. إذا كان تجاهل أحد الإجراءات التنظيمية يكلِّف أكثر من الالتزام بها، سيلتزم المرسلون (بصورة عامة) بهذا الإجراء التنظيمي. قد يعني الالتزام بالإجراء التنظيمي تغيير سلوك إرسال الرسائل الإعلانية، أو قد يعني الحصول على وظيفة أخرى. أيما كان أسلوب التنظيم، يؤدي تغيير الدوافع الاقتصادية إلى تغيير سلوك المُرسلين.
إذن، كيف يمكن تغيير دوافع مُرسلي الرسائل الإعلانية من خلال القانون؟ ما السبب الذي يجعلنا نعتقد أن مُرسلي هذه الرسائل سيعيرون انتباهًا إلى القانون؟
يسأل الناس هذا السؤال لأنهم يدركون جيدًا أن الحكومات لا تقضي وقتًا طويلًا في مقاضاة مرسلي الرسائل الإعلانية. توجد لدى الحكومات أشياء أخرى أفضل تقوم بها (أو هكذا يظنون)؛ لذا لن يجدي القانون الذي يجرِّم الرسائل الإعلانية في إخافة العديد من مُرسلي هذه الرسائل.
نحتاج هنا إلى نوع من الإبداع في تكييف القانون يشبه الإبداع الذي يستعين به كاتبو الشفرات عند بنائهم مرشحات رسائل إعلانية معقدة بصورة مدهشة، وإذا لم يفلح القانون مثلما هو مطبَّق من قبل الحكومة في تغيير دوافع مُرسلي الرسائل الإعلانية، فيجب أن نسعى إلى وضع قانون يُطبَّق بطريقة يخشاها أولئك.
يتمثل أحد نماذج الابتكار هذه في قانون مكافآت حسن التنظيم. سيشترط هذا القانون تمييز الرسائل الإعلانية من خلال علامات مميزة؛ حيث سيكون هذا هو الاشتراط الوحيد. في المقابل، تتمثل عقوبة عدم الالتزام بذلك في توجيه تهمة رسمية ضد المخالفين، أو معاقبة المخالفين من خلال نظام مكافآت. ستضع لجنة التجارة الفيدرالية مكافأة معقولة ترى أنها ستجذب عددًا مناسبًا من صائدي المكافآت. سيستحق صائدو المكافآت هؤلاء المكافآت المرصودة إذا كانوا أول، أو ضمن أول خمسة أشخاص يحددون الطرف المسئول عن إرسال رسائل بريد إعلانية.
كيف سيقوم صائد المكافآت بتحقيق ذلك؟ أول ما سيقوم به صائد المكافآت هو ضمان الالتزام بالإجراء التنظيمي. يعتبر جزء من هذه الإجابة بسيطًا، فيما يعتبر الجزء الآخر معقدًا. يعتبر تحديد ما إذا كانت هناك علامة مميزة مرافقة للرسالة أم لا أمرًا سهلًا. أما تحديد ما إذا كانت الرسالة الإلكترونية رسالة تجارية أم لا؛ فهو أكثر تعقيدًا.
بمجرد اقتناع صائد المكافآت بأن المرسل لم يلتزم بالإجراء التنظيمي، يجب عليه إذن تحديد الطرف المسئول. يتمثل مدخل الوصول إلى ذلك في اتباع فكرة اقترحها السناتور جون ماكين في إطار التشريع الوحيد الذي مرره الكونجرس والمتعلق بالرسائل الإعلانية حتى الآن، قانون السيطرة على رسائل البريد الإلكترونية التسويقية والإباحية. تتمثل الفكرة في إلقاء مسئولية الرسائل الإعلانية على الشخص المرسل لها، أو الجهة التي تعلن عنها هذه الرسائل.
لكن يختلف الأمر في حالة الجهات التي تعلن عنها هذه الرسائل. مرة أخرى، حتى تنجح الرسائل الإعلانية، يجب وجود شخص يتلقى المال. إذا كان من الصعوبة بمكان إرسال مال إلى أحد، فلن تعود الرسائل الإعلانية بالمال المطلوب.
كيف يمكن إذن تتبع الجهة التي يعلن عنها هذا النوع من الرسائل الإعلانية؟
هنا يأتي دور سوق بطاقات الائتمان. تخيل بطاقة ائتمان — سمِّها «بطاقة ائتمان صائدي المكافآت» — يجري رفضها دومًا عند التحقق من صحتها. عند استخدام هذه البطاقة الائتمانية يظهر علم خاص مرفق بالمعاملة؛ حيث يتلقى حامل البطاقة تحذيرًا عن الجهة التي حاولت خصم مبالغ من بطاقته. يتمثل الغرض الوحيد من هذه البطاقة في اكتشاف وتحديد السلوك غير العادي. ربما تخصم شركات البطاقات الائتمانية أموالًا عند استخدام البطاقات في معاملات خاصة أو عند كل استخدام. لا شك في أن شركات البطاقات الائتمانية تخصم أموالًا من البطاقات حتى تجعلها ذات عائد مادي مُجزٍ لها. في المقابل، عند توافُر هذه البطاقات يستطيع صائدو المكافآت إنشاء سجلات قابلة للاستخدام عن الجهة التي تتلقى الأموال في نهاية المطاف. في ضوء هذه البيانات، يستطيع صائد المكافآت الحصول على المكافأة.
لكن ما الذي يمنع تنفيذ خدعة شريرة للإيقاع بأحد؟ دعنا نقول إنني أكره منافسي آجاكس كلينرز. أقوم باستخدام أحد محترفي إرسال الرسائل الإعلانية لإرسال رسائل إلى جميع سكان كاليفورنيا؛ حيث يجري الإعلان في الرسائل عن عروض خاصة لدى آجاكس كلينرز، ثم أنشيء حسابًا بحيث تتلقى شركة آجاكس المال، ثم أستخدم بطاقة ائتمان صائدي المكافآت للكشف عن ذلك. أذهب بعد ذلك إلى لجنة التجارة الفيدرالية للحصول على مكافأتي. تفرض لجنة التجارة الفيدرالية غرامة كبيرة على شركة آجاكس، ومن ثم يتوقف نشاطها.
هذا مصدر كبير للقلق في أي نظام للمكافآت. يمكن في المقابل التعامل مع مصدر القلق هذا من خلال التفكير مليًّا في الدوافع؛ أولًا، وبصورة بديهية: يجب أن يتضمن الإجراء التنظيمي عقوبة مثل هذا النوع من الاحتيال بالإعدام. (حسنًا، ربما ليس الإعدام، لكن عقوبة أخرى كبيرة). ثانيًا: يجب على أي شخص أو شركة جرى اتهامها بمخالفة هذا الإجراء التنظيمي فيما يتعلق بإرسال الرسائل الإعلانية أن تُقرَّ، تحت القسم، أنها لم تستخدم أو توجِّه أي جهة لإرسال رسائل إعلانية نيابة عنها. إذا قامت الشركة بإقرار ذلك، فلن تتحمل أي عقوبة. في المقابل، يتضمن هذا الإقرار عقوبة كبيرة حال ثبوت عدم صحته، عقوبة تشمل غرامات تُفرَض على الأصول الشخصية والمؤسسية. تُمنح أي شركة توقع هذا الإقرار مرة واحدة فائدة الشك. في المقابل، ستعتبر أي شركة أو شخص يوقع هذا الإقرار أكثر من مرة هدفًا للتحقيقات الحكومية. عند بلوغ هذه المرحلة، سيصبح الانكشاف الذي يتعرض له مرسلو الرسائل الإعلانية كافيًا لأن يجعل مهنة إرسال الرسائل الإعلانية غير مجزية.
مرة أخرى، إذن، يتمثل الحل في استراتيجية تجمع بين عدد من الأساليب التنظيمية. يخلق «قانون» دافعًا لإجراء تغيير محدد في «كود» الرسائل الإعلانية (حيث تتميز هذه الرسائل بعلامات خاصة). يجري تنفيذ هذا القانون من خلال مجموعة معقدة من دوافع «السوق» و«الأعراف الاجتماعية»، دوافع أن يكون المرء صائد مكافآت — وهي مسألة لها عائدها المادي والمجتمعي (حيث يعتقد الناس أن مُرسلي البريد الإلكتروني المزعج يتصرفون بصورة ضارة) — ودوافع إصدار بطاقات ائتمان صائدي المكافآت. إذا تم تنفيذ ذلك بصورة صحيحة، فسيغير هذا المزيج من الأساليب التنظيمية من الدوافع التي يواجهها مرسلو الرسائل الإعلانية، وسيدفع هذا بالكثير من هؤلاء خارج هذا المجال إلى مجالات أخرى.
هناك بطبيعة الحال حدود لهذه الاستراتيجية. لن تعمل هذه الاستراتيجية جيدًا في المواقع الأجنبية، مثلما لن تفلح مع مرسلي الرسائل الإعلانية الذين يمتلكون مصالح أيديولوجية (أو مَرَضية). في المقابل، ربما يكون هذا النوع من مرسلي الرسائل هدفًا للحلول القائمة على الكود التي أشرت إليها في البداية. فبمجرد التخلص من الغالبية العظمى من الرسائل التجارية، يمكن التعامل مع الحالات الأخرى الخارجية بصورة أكثر مباشرة.
•••
كان هذا قسمًا طويلًا، لكنه يعرض نقطتين مهمتين؛ تدور النقطة الأولى حول منظورنا للأمور؛ فلكي نحدد ما إذا كان أحد الإجراءات التنظيمية «يحد من حرية التعبير أو الصحافة» أم لا، فإننا نحتاج إلى خط أساسي للمقارنة. صُممت الإجراءات التنظيمية التي أصفها في هذا القسم بحيث تستعيد عملية التنظيم الفعَّال في الفضاء الواقعي. في ضوء هذا المعنى، وفي رأيي، لا تحد هذه الإجراءات التنظيمية من التعبير.
ثالثًا: تبيِّن هذه الأمثلة استراتيجية مزيج الأنماط التنظيمية، وهي الاستراتيجية التي كانت ولا تزال تحدد طبيعة التنظيم في الفضاء الإلكتروني. لا يوجد حل سحري أوحد، سواء أكان كود الساحل الشرقي أم كود الساحل الغربي. بدلًا من ذلك، هناك مزيج من الأساليب، أنماط يجب عقد التوازن بينها بحيث تحقق هدفًا تنظيميًّا محددًا. يجب أن يأخذ هذا المزيج في الاعتبار العلاقات التفاعلية بين صور التنظيم المختلفة. يكمن جوهر الأمر فيما يتعلق باستراتيجية مزيج الأنماط التنظيمية في تحقيق التوازن، مثلما يرى بولك واجنر ذلك. في المقابل، يلعب القانون دورًا مهمًّا في توجيه هذا المزيج لضمان تحقيق التوازن الذي يحقق سياسة محددة.
نستطيع من خلال التنظيم بذكاءٍ تفادي عملية التنظيم المدمرة القائمة على الكود التي من شأنها أن تسد الفجوة التنظيمية، وهو ما سيؤدي بدوره إلى دعم حقوق حرية التعبير.
(٣) الأشكال التنظيمية للتعبير: الثقافة الحرة
يتولد السياق الثالث الذي نتدبر فيه العلاقة الخاصة بين الفضاء الإلكتروني وحرية التعبير مباشرةً من الفصل العاشر. مثلما أشير في هذا الفصل، يؤدي التفاعل بين معمار قانون حقوق التأليف والنشر ومعمار الشبكات الرقمية إلى تفجُّر حالات إبداعية في نطاق حقوق التأليف والنشر لم ينظر فيها قط أي مجلس تشريعي.
تعتبر عناصر هذا التغيير بسيطة. ينظِّم قانون حقوق التأليف والنشر، بحد أدنى، «النسخ». تعمل الشبكات الرقمية من خلال إصدار «نسخ». لا توجد طريقة لاستخدام أي عمل في بيئة رقمية دون إصدار نسخة من هذا العمل. من هنا، يثير أي استخدام لعمل إبداعي في أي بيئة رقمية، من الناحية النظرية على الأقل، قضية حقوق التأليف والنشر.
يعتبر هذا اختلافًا جذريًّا عن الحياة في الفضاء الواقعي. في الفضاء الواقعي، هناك عدد من الطرق «لاستخدام» عمل إبداعي دون إثارة مسألة حقوق التأليف والنشر. عندما يعيد المرء إلقاء مزحة على أصدقائه، لا يجري استدعاء قانون حقوق التأليف والنشر في هذا السياق؛ إذ لم يجرِ إصدار «نسخة»، وبالنسبة إلى الأصدقاء، لا تعتبر هذه الواقعة أداء علنيًّا (يخضع لحقوق التأليف والنشر). بالمثل، عند إقراضك أحد الأصدقاء كتابًا تملكه، لا يجري استدعاء قانون حقوق التأليف والنشر. عندما تقرأ كتابًا، لن ينتبه قانون حقوق التأليف والنشر إلى ذلك مطلقًا. عمليًّا، لا يخضع أي استخدام عادي مفرد للثقافة في الفضاء الواقعي إلى الإجراءات التنظيمية لحقوق التأليف والنشر. تستهدف حقوق التأليف والنشر الحالات غير العادية؛ مثل «النشر» أو الأداء العلني.
بدأت الفجوة بين الاستخدامات العادية وغير العادية تضيق مع انتشار تكنولوجيات «النسخ». أخذت زيروكس الخطوة الأولى في تضييق هذه الفجوة، ثم سارت في إثرها أجهزة تسجيل الكاسيت. في المقابل، تعتبر هذه التكنولوجيات استثناء لا قاعدة. أثارت هذه التكنولوجيات أسئلة تتعلق بحقوق التأليف والنشر، لكنها لم تسهم في الدفع بثقافة حقوق التأليف والنشر إلى قلب الحياة العادية.
في مقابل ذلك، ساهمت التكنولوجيات الرقمية في الدفع بحقوق التأليف والنشر إلى قلب الحياة العادية. فمع انتقال الحياة العادية أكثر فأكثر إلى الإنترنت، صارت الحياة العادية أكثر خضوعًا إلى حقوق التأليف والنشر. يخضع المكافئ الوظيفي لأنشطة الفضاء الواقعي — التي كانت غير خاضعة لأي صورة تنظيمية بصورة كبيرة — لقواعد حقوق التأليف والنشر في الفضاء الإلكتروني. حاليًّا، يجب لكي يصبح النشاط الإبداعي، الذي لم يحتج قط إلى الالتزام بالإجراءات التنظيمية لحقوق التأليف والنشر، قانونيًّا أن يجتاز عقبات كثيرة بعضها مستحيل من الناحية الفنية؛ وذلك نظرًا لنظام الملكية لحقوق التأليف والنشر غير الفعَّال على الإطلاق. انتقل الآن جزء كبير من النشاط الإبداعي من نطاق الثقافة الحرة إلى ثقافة الترخيص. والسؤال الآن فيما يتعلق بقيم حرية التعبير هو ما إذا كان يجب السماح باتساع نطاق عملية التنظيم هذه دون توافُر رقابة كافية.
مرة أخرى لأسباب تتعلق بالطرح هنا، يجب أن نلاحظ لبسًا كامنًا في تقليدنا الدستوري؛ فمثلما فصلت المحكمة الدستورية العليا في قرارها، يفرض التعديل الأول من الدستور قيودًا مهمة على نطاق حقوق التأليف والنشر. تشمل هذه القيود اشتراطات: ألَّا تُخضع حقوق التأليف والنشر «الأفكار» للقواعد التنظيمية، وأن تَخضع حقوق التأليف والنشر إلى «الاستخدام العادل».
على أن هذه «الضمانات التقليدية في التعديل الأول» جرت صياغتها في سياق كانت حقوق التأليف والنشر فيه هي الاستثناء لا القاعدة. لا نمتلك بعدُ تقليدًا يخضع فيه كل استخدام للأعمال الإبداعية إلى حقوق التأليف والنشر. في مقابل ذلك، أدت التكنولوجيات الرقمية إلى ظهور هذا العالم، لكن يبدو أن معظم العالم لم ينتبه إلى ذلك بعدُ.
ما قيم التعديل الأول إذن في هذا العالم؟ تتمثل إحدى وجهات النظر في ألا يلعب التعديل الأول أي دور في هذا العالم بخلاف توفير الضمانات الدنيا لاختلاف «الأفكار/التعبير»، واشتراطات «الاستخدام العادل». وفق هذه الرؤية، يعتبر نطاق تنظيم الكونجرس للأنشطة الإبداعية كاملًا في ضوء خضوعه إلى الاشتراطات الدنيا هذه. يمكن أن يخضع أي نشاط إبداعي اختُزل إلى صورة مادية إلى احتكار حق التأليف والنشر. وبما أن جميع الأنشطة الإبداعية اختُزلت إلى صورة مادية، تعني هذه الرؤية أن كل شيء في العالم الرقمي يمكن أن يخضع إلى حقوق التأليف والنشر.
ترفض وجهة النظر المقابلة هذا النطاق غير المحدود لحقوق التأليف والنشر. فبينما يعتبر احتكار حق التأليف والنشر منطقيًّا في سياقات تجارية محددة، أو بصورة أكثر عمومية، يصبح منطقيًّا عندما يكون من الضروري «دعم … التقدم»، لا يوجد سبب مشروع لتحميل معظم أشكال التعبير الإبداعية بأعباء قانون حقوق التأليف والنشر. إن إلزام طفل يقوم بعمل تقرير فيديو مصور عن كتاب بالحصول على التصريح اللازم من مؤلف الكتاب الأصلي، أو إلزام مجموعة من الأصدقاء يقومون بصناعة فيديو مجمع لفنانهم المفضل بالحصول على التصاريح اللازمة من شركة ترويج وتسويق حقوق الفنان؛ إنما يوسِّع من نطاق حقوق التأليف والنشر فيما يتجاوز أي غرض مشروع.
بين هاتين الرؤيتين، يبدو من الواضح أن واضعي الدستور لم يتخذوا أي قرار بشأن ذلك. لم يجابه واضعو الدستور خيار أن تؤدي حقوق التأليف والنشر إلى السيطرة على كل صور الاستخدام الفردية لأحد الأعمال الإبداعية. كان أي شكل من أشكال السيطرة الممكنة في عام ١٧٩٠ يُعد عبئًا كبيرًا لا ضرورة له. بينما أحتفظ بتخميناتي بشأن كيفية تصويت واضعي الدستور، بالنظر إلى نفورهم من الاحتكارات والفقرة المتشددة المتعلقة بالملكية الفكرية التي مرروها، فهذا لا يعدو أكثر من تخمين على أي حال. إذا كان ثمة أي خيار هنا، فهو خيار لم يتخذه واضعو الدستور. في المقابل، يعتبر الخيار هنا خيارًا يجب أن نتخذه نحن، وهو خيار يتعلق بما إذا كانت قيم حرية التعبير تُقيِّد هذا الازدياد الكبير في نطاق تنظيم حقوق التأليف والنشر.
(٤) الأشكال التنظيمية للتعبير: التوزيع
حتى الآن، لا تزال أطروحاتي عن المعمار تنحصر في معمار الفضاء الإلكتروني. في هذا المثال الأخير، تغيم الحدود قليلًا بين الأمور. أريد أن أستخدم معمار الفضاء الإلكتروني لإظهار شيء مهم عن تنظيم البث.
تعتمد الإجابة على فرضية راسخة تقع في القلب من النظام القضائي الذي يحكم تكنولوجيات البث؛ ألا وهي توفير «طيف» ثابت فقط للبث. وتتمثل الطريقة الوحيدة لتيسير استخدام هذا الطيف في توزيع شرائح منه على المستخدمين، وهم وحدهم المسموح لهم باستخدام هذا الطيف المخصص لهم في نطاق جغرافي محدد. دون توزيع الطيف، ستكون هناك فوضى. هذا ما تذهب إليه هذه الفرضية. ومن شأن الفوضى أن تقتل عملية البث.
وفق أي من هذين السيناريوهين — سواء عندما تقوم هيئة الاتصالات الفيدرالية بتوزيع موجات البث أو عندما توزِّع حقوق ملكية البث — هناك دور تلعبه الحكومة، وهو دور شامل خاصة عندما تقوم الهيئة بتوزيع موجات البث؛ حيث تقرر الهيئة من يحصل على ماذا. عندما تصير موجات البث ملكيةً، يقتصر دور هيئة الاتصالات الفيدرالية على الحفاظ على حدود حقوق ملكية موجات البث. بصورة ما، يعتبر ذلك أحد أشكال التدخل الحكومي الأقل إزعاجًا من الطريقة التي تقرر من خلالها الحكومةُ أيَّ المحطات تُفضِّلها أكثر من غيرها.
في ظل التعديل الأول سيكون من المستحيل تصوُّر ترخيص الحكومة للصحف (على الأقل إذا كانت تكلفة إصدار هذه الرخصة مرتفعة وموجهة إلى الصحافة). يرجع ذلك إلى أن لدينا رغبة قوية في أن تحدد المنافسة أي الصحف تستطيع الاستمرار، لا أن يحدد ذلك الحواجز الحكومية المصطنعة. وجميعنا نعرف بالبداهة عدم وجود حاجة إلى «ترشيد» الحكومة لسوق الصحف. يستطيع الناس الاختيار بين عدد من الصحف المتنافسة دون أي تدخل حكومي.
ماذا إذن لو كان الأمر نفسه ينطبق على موجات البث؟ ليس لدى معظمنا فكرة عما نطلق عليه «طيفًا». إن الأصوات العجيبة والتلقي غير المنتظم لموجات أجهزة راديو إف إم وإيه إم تجعلنا نعتقد بوقوع نوع من السحر بين محطة البث وأجهزة الاستقبال. دون وجود هذا السحر، «ستتداخل» موجات الراديو بعضها مع بعض. يعتقد البعض في ضرورة وجود نوع من التنسيق الخاص لتفادي مثل هذا «الصدام» بين الموجات وحدوث فوضى. وفق هذه الرؤية، تعتبر موجات الراديو بمنزلة طائرات رقيقة غير مرئية تحتاج إلى مراقبين جويين حَذِرينَ لضمان عدم وقوع كوارث.
يعتبر معظم ما نعتقده بشأن الراديو أمورًا غير صحيحة. ليست موجات الراديو فراشات، ولا تحتاج موجات الراديو إلى حماية من البيروقراطيين الفيدراليين حتى تؤدي عملها. ومثلما تبيِّن التكنولوجيا المألوفة للغاية لكل مَن يستخدم الإنترنت، لا يوجد سبب حقيقي في وجود «إما» رخصة بث «أو» ملكية بث. تستطيع اليد الخفية القيام بالمهمة هنا على أكمل وجه.
للتعرف على كيفية عمل موجات البث، خذ هذين المثالين، أحدهما مألوف للجميع. لا شك في أن موجات الراديو تختلف عن الموجات الصوتية، لكن التشبيه التالي سيفي بالغرض.
تخيَّل أنك في حفلة. هناك خمسون شخصًا في القاعة، جميعهم يتحدث. يصدر كل واحد منهم إذن موجات صوتية. على الرغم من أن هؤلاء المتحدثين يصدرون موجات صوتية مختلفة، لا نجد أي صعوبة في الاستماع إلى شخص يتحدث إلى جوارنا. طالما لم يبدأ أحد في الصياح، نستطيع أن نميِّز الأصوات جيدًا. بصورة أكثر عمومية، تتألف أي حفلة (خاصة في وقت مبكر من المساء) من متحدثين ومستمعين أذكياء ينسقون عمليات تحدثهم، بحيث يستطيع كل فرد تقريبًا التواصل مع الآخر دون أي صعوبة حقيقية.
تعمل أجهزة الراديو بصورة مشابهة إذا كان جهازا الإرسال والاستقبال على القدر نفسه من الذكاء. بدلًا من المستقبلات الغبية التي تعتمد عليها أجهزة راديو إف إم أو إيه إم العادية، تستطيع أجهزة الراديو الذكية تحديد ما تستمع إليه والتواصل معه، مثلما يتعلم الأشخاص في حفلةٍ التركيز على المحادثة التي يُجرونها.
يتمثل أفضل دليل على هذا في النموذج الثاني الذي أسوقه بغرض حلحلة الفهم الشائع عن طريقة عمل طيف موجات البث. يطلق على هذا المثال «واي فاي». يشير مصطلح واي فاي إلى الاسم الشائع لمجموعة محددة من البروتوكولات التي تمكِّن معًا أجهزة الكمبيوتر من «مشاركة» أطياف حزم البث غير المرخَّص بها. تعتبر أكثر هذه الحزم شيوعًا هي الحزم التي تقع في نطاق ترددي ٢٫٥ جيجا هرتز و٥ جيجا هرتز. تمكِّن تكنولوجيا واي فاي عددًا كبيرًا من أجهزة الكمبيوتر من استخدام هذه الحزم للاتصال بعضها ببعض.
لا شك في أن معظم قرَّاء هذا الكتاب صادفوا تكنولوجيا واي فاي. أرى هذه التكنولوجيا كل يوم أقوم فيه بالتدريس. أجدني في قاعة مليئة بالطلاب، كل بحوزته جهاز كمبيوتر محمول، ومعظمهم متصل بالإنترنت، يعلم الله ما يقومون به. تمكِّن البروتوكولات كل جهاز من الأجهزة من «مشاركة» حزمة ضيقة من موجات البث. لا توجد حكومة أو جهة تشريعية تملي على الماكينات متى تتحدث، مثلما هو الحال تمامًا عندما لا نحتاج الحكومة لضمان تواصل الناس بعضهم مع بعض في حفلات الكوكتيل.
تعتبر هذه الأمثلة بطبيعة الحال صغيرة ومحدودة. هناك في المقابل صناعة كاملة بالمعنى الحرفي للكلمة مُكرَّسة لنشر هذه التكنولوجيا قدر الإمكان. يعتقد بعض المُنظِّرين أن الاستخدام الأكثر كفاءة لموجات البث يجب أن يقوم على أساس نماذج البث هذه، باستخدام تكنولوجيات بث شديدة الاتساع؛ لتعظيم قدرة موجات بث الراديو. في المقابل، حتى مَن يتشككون في يوتوبيا الموجات هذه بدءوا يدركون أن افتراضاتنا حول كيفية توزيع موجات البث يحركها الجهل بطريقة عمل موجات البث في الأساس.
يتجسد المثال الأكثر وضوحًا على هذا الافتراض الخاطئ في مجموعة الفِكَر البديهية التي نمتلكها عن القيود الضرورية في استخدام موجات البث. تتعزز هذه الافتراضات المغلوطة بسبب فكرة ملكية موجات البث. تتمثل الصورة التي من المحتمل أن نحملها في أذهاننا في صورة مورد قابل للنضوب جراء الاستهلاك؛ حيث يمكن لكثير من المستخدمين سد القنوات، مثلما تأتي قطعان الماشية الكثيرة على حقل عن بكرة أبيه.
يعتبر المدخل الرئيس في جعل هذا النظام ممكنًا هو أن يصبح كل مُستقبِل نقطةَ ارتكاز في المعمار لطيف البث. لن يكون المستخدمون مجرد مستهلكين فقط للمواد التي يبثها شخص آخر، بل سيصبح المستقبلون مصدرًا لمواد البث أيضًا. مثلما تدعم تكنولوجيات اتصال الند بالند — مثل تكنولوجيا بت تورنت — سعة البث للمستخدمين بغرض اقتسام تكلفة توزيع المحتوى، يستطيع المستخدمون في معمار موجات البث الخاصة بإحدى الشبكات التشاركية زيادة سعة طيف بث الشبكة. وفق هذا التصميم، إذن، كلما زاد عدد مستخدمي طيف الشبكة، زاد طيف الموجات المتاح للآخرين لاستخدامه، وهو ما لا يؤدي إلى مأساة، بل إلى عموم الفائدة على الجميع.
لا نحتاج إلى الغوص عميقًا في التكنولوجيا لإدراك السؤال الذي أطرحه في هذا القسم؛ ألا وهو: إذا كانت التكنولوجيا تجعل أجهزة الراديو تتشارك طيف موجات البث — دون الحاجة إلى الحصول على رخصة للبث أو ملكية بث — فما السبب إذن لدى الحكومة كي تفرض أيًّا من هذين القيديْنِ على استخدام موجات البث؟ أو لنطرح السؤال بصورة أخرى تتصل ببداية هذا القسم: إذا كان مستخدمو موجات البث يتشاركونها دون أي تنسيق من الحكومة، فلماذا يصبح فرض نظام ملكية على موجات البث مُبررًا أكثر من فرض الحكومة رسومًا على الصحف لمنحها ترخيص النشر؟
لا شك في أن المعمار الذي يسمح بعملية المشاركة لا يسلم تمامًا من الخضوع للتنظيم الحكومي. ربما تشترط الحكومة استخدام الأجهزة المعتمدة فقط في هذه الشبكة (مثلما تفعل هيئة الاتصالات الفيدرالية مع أي جهاز يصدر موجات في نطاق محدد من موجات البث). ربما تدفع الحكومة في اتجاه زيادة سعة الشبكات، وهو ما يدعم معمار الشبكات التشاركية. ربما تفرض الحكومة قيودًا تشبه قيود تداخل الموجات على قدرة أجهزة الإرسال. لكن بخلاف هذه الأدوات التنظيمية البسيطة، لن تسعى الحكومة إلى فرض قيود على من يريد استخدام موجات البث. لن تحظر الحكومة استخدام موجات البث على أشخاص لم يدفعوا رسوم الترخيص، أو لم يتم الترخيص لهم من الأساس.
لذا يتوافر لدينا الآن معماران لموجات البث: معمار يجري من خلاله توزيع موجات البث، ومعمار يجري من خلاله مشاركة موجات البث (مثل سوق الصحف). أي من هذين المعمارين أكثر توافقًا مع منظور التعديل الأول من الدستور؟
أخيرًا، لدينا هنا مثال على ترجمة عملية للدستور، لدينا خيار بين معمار يعتبر هو المكافئ الوظيفي لمعمار المنظور الأمريكي في وضع الدستور، ومعمار هو المكافئ الوظيفي لمعمار المنظور السوفييتي في وضع الدستور. يجري توزيع السلطة وتيسير التعبير في الدستور الأمريكي، فيما يجري تركيز السلطة ورفع كلفة التعبير في الدستور السوفييتي. بين هذين المنظورين، قام واضعو الدستور الأمريكي بعملية اختيار بحيث لا تنخرط الدولة في عملية ترخيص أشكال التعبير، سواء بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ومع ذلك، فهذا هو بالضبط وظيفة القاعدة الحالية التي تنظِّم عملية توزيع موجات البث.
(٥) دروس التعبير
في هذا الفصل، أعدتُ وصف أنماط التنظيم التي ذكرتها في بداية هذا الكتاب بأنها أنماط الحماية. فبينما يمكن استخدام أنماط التنظيم كأسلحة ضد (سلطات) الأفراد، يمكن استخدام أنماط الحماية كدروع (تحمي حقوقهم).
من ناحية المبدأ، ربما نفكر في الطريقة التي تحمي بها الأنماط التنظيمية الأربعة التعبير، لكنني أركِّز هنا على المعماريات الحاكمة. أيُّ المعماريات تحمي أيَّ أنواع من التعبير؟ كيف يؤدي تغيير إحدى المعماريات إلى تغيير نوع التعبير الذي تجري حمايته؟
لم أحاول أن يكون عرضي شاملًا، لكنني دفعت في اتجاه رؤية تتناول العلاقة بين المعماريات والتعبير على المستوى العالمي، وتستعين بالقيم الدستورية للتفكير لا فقط بشأن ما هو مسموح به في معمار محدد، بل أيضًا بشأن أي المعماريات مسموح به. يجب أن تسترشد قيم دستور فضائنا الإلكتروني بقيم دستور عالمنا الواقعي. على الأقل، يجب أن تقيِّد هذه الرؤيةُ الدولةَ في جهودها لتصميم معمار للفضاء الإلكتروني بطرق لا تتوافق مع هذه القيم.