التنافس بين الجهات السيادية
(١) صراعات
فيما يلي قصتان عن سلطة الجهات السيادية، ربما تكون سمعت عن إحداهما، ولم تسمع عن الأخرى.
(أ) حماية الفرنسيين
لا يحب الفرنسيون النازيين (حاول أن تقاوم رغبتك في السخرية من الفرنسيين وإضافة «بل لم يعودوا كذلك»، وتذكر أنه لولا الفرنسيون لما نشأت أمتنا على الأرجح). لا يمنح القانون الفرنسي للنازيين أي مساحة. ومثلما هو الحال في ألمانيا، تعتبر الدعاية للحزب النازي وبيع الهدايا التذكارية النازية جريمة في فرنسا. لا يغفل للفرنسيين جفن حيال هذا الفيروس الأيديولوجي لئلا يعاود الظهور مرة أخرى في أوروبا.
يختلف القانون الفرنسي عن القانون الأمريكي في هذا الصدد. في الولايات المتحدة يمنع التعديل الأول وجود أي قيد على الدعاية السياسية في التعبير عن وجهة نظر؛ فلا تستطيع الدولة منع بيع الهدايا التذكارية النازية تمامًا مثلما لا تستطيع منع بيع الأزرار التي يضعها السياسيون والمؤيدون للحزب الجمهوري على ستراتهم. تعني حرية التعبير أن حمل التذكار المعبر عن توجه سياسي لا يحدد ما إذا كان يمكن إقناع الناس بهذا التوجه أم لا.
(ب) حماية هوليوود
بعد فترة قصيرة من إطلاق الخدمة، اكتشف كريج أن الجميع لم تعجبهم فكرته. لم يتحمس حاملو حقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة كثيرًا لفكرة التليفزيون المجاني التي ابتدعها كريج. بينما كانت لا توجد أي قيود في كندا على إعادة بث البرامج التليفزيونية عبر الإنترنت، لم يكن الأمر كذلك في الولايات المتحدة. ينظِّم قانون حقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة حق إعادة البث تنظيمًا شديدًا، وهو ما لم يلتزم به كريج.
اتُّخذت بعض الخطوات في خدمة آي كريف تي في لإبقاء المستخدمين المقيمين في الولايات المتحدة بعيدًا عن استخدامها. لم يتوقع أحد أن ينجح ذلك. في البداية، نبه موقع الخدمة المستخدمين إلى أن الكنديين فقط هم من يستطيعون استخدام الموقع. لاحقًا، قام موقع آي كريف تي في بإدخال خاصية رمز المنطقة في الموقع، بحيث لا يستطيع أحد استخدامه دون إدخال رمز بريدي مقبول. إذا كان الرمز البريدي يقع خارج نطاق كندا، فلن يستطيع المستخدمون استخدام الموقع. في المقابل، لم يكن أمرًا صعبًا للغاية أن يجد المرء رمزًا بريديًّا يقع داخل كندا (على سبيل المثال، كان رقم هاتف موقع آي كريف تي في نفسه يظهر واضحًا على صفحة الموقع).
رأى كريج أن مهامه لا تشمل مراقبة خرق سلوك الاستخدام من قبل الأمريكيين. لم تمثل مسألة بث برامج تليفزيونية في كندا أي خرق للقانون بالنسبة إلى أي شخص. لماذا إذن يضطر كريج إلى التفكير فيما إذا كانت الخدمة التي يقدمها تخالف القانون في الولايات المتحدة؟
سرعان ما أقنعت مجموعةٌ من المحامين الأمريكيين كريج بضرورة أخذ الأمر في الاعتبار بصورة أكثر جدية. في قضية تم رفعها في بتسبرج، اتهمت الرابطة الوطنية لكرة القدم (وعدد من الأطراف الأخرى) موقع آي كريف تي في بخرق حقوق التأليف والنشر في الولايات المتحدة. فبغض النظر عما إذا كان بث برامج تليفزيونية في كندا عبر الإنترنت قانونيًّا أم لا، فإن الأمر لم يكن كذلك في الولايات المتحدة. من هنا، بقدر ما يستطيع الأمريكيون زيارة الموقع الكندي، فهم بذلك يخرقون القانون الأمريكي، وبقدرِ ما يجعل الموقع الكندي زيارة الأمريكيين له ممكنة، فهو بذلك يخرق القانون الأمريكي. طالبت الرابطة الوطنية لكرة القدم بناء على ذلك محكمة بتسبرج بغلق الخوادم الكندية لهذا الموقع.
أجرى قاضي المحكمة المختص، دونالد زيجلر، تحقيقًا قضائيًّا موسعًا لتقصي الحقائق. وفي ٨ فبراير من عام ٢٠٠٠، أصدرت المحكمة المختصة قرارًا قضائيًّا بإغلاق موقع آي كريف تي في. منحت المحكمة الموقع مهلة لمدة تسعين يومًا لإظهار أنه يمتلك التكنولوجيا المناسبة لحجب المستخدمين المقيمين في الولايات المتحدة. تعهد الموقع بأن يحجب ٩٨٪ من المواطنين الأمريكيين، من خلال استخدام إحدى تكنولوجيات بروتوكولات الإنترنت التي تناولناها في الفصل الرابع، على أن نسبة ٩٨٪ لم تكن كافية بالنسبة للمحكمة؛ حيث إذا استطاع أي مواطن أمريكي زيارة موقع آي كريف تي في، فلا يزال الموقع يخالف القانون الأمريكي.
لم تستطع آي كريف تي في الوعد بتحقيق نسبة ١٠٠٪. على عكس قرار القاضي جوميز فيما يتعلق بياهو في فرنسا، لم يستعر الغضب على الإنترنت بعد صدور قرار المحكمة؛ فلم تنتقد آلاف المواقع القرار أو تتشكك فيه حتى حفنة من مقالات الصحافة. في الواقع، لم يلحظ أحد تقريبًا قرار المحكمة.
(١-١) عَمًى متبادل
تطرح قضية ياهو فرنسا وقضية آي كريف تي في المسألة الجوهرية نفسها. في كل من هاتين القضيتين هناك سلوك قانوني في إحدى الدول (بيع الهدايا التذكارية النازية في الولايات المتحدة، وبث برامج تليفزيونية مجانية عبر الإنترنت في كندا)، وغير قانوني في دولة أخرى (بيع الهدايا التذكارية النازية في فرنسا، وبث برامج تليفزيونية مجانية عبر الإنترنت في الولايات المتحدة). في كلتا القضيتين مارَس القاضي، الذي كانت قوانين بلاده تُخرَق، سلطته في وقف هذا الخرق (حيث أمر القاضي جوميز شركة ياهو بإزالة المواد النازية من الموقع، أو حجْبِها عن المستخدمين في فرنسا، وأمر القاضي زيجلر موقع خدمة آي كريف تي في بإزالة المواد التليفزيونية التي يبثها الموقع، أو حجبها عن الأمريكيين)، لكن في إحدى القضيتين تم انتقاد الإجراء القانوني على أنه يمثِّل «رقابة»، بينما لم يلاحظ أحد تقريبًا قرار المحكمة في القضية الأخرى.
هذا عمًى متبادل؛ حيث نرى العيب في سوانا فيما لا نراه فينا. بالنسبة إلى الأمريكيين، يعتبر حجب تعبير النازيين «رقابة». وما يزيد الأمر سوءًا أن نطالب بالرقابة على هذا النوع من التعبير في الولايات المتحدة — حيث يعتبر نشر وسائل التعبير النازية قانونيًّا — فقط لأن هذا الأمر غير قانوني في فرنسا.
لماذا لا يعتبر الأمر «رقابة» حين يتم حجب البرامج التليفزيونية المجانية في كندا فقط لأن هذا الأمر غير قانوني في الولايات المتحدة؟ في كلتا القضيتين، يتم حجب إحدى صور التعبير القانونية في دولة عن طريق محكمة في دولة أخرى. تمنع الولايات المتحدة الكنديين من مشاهدة برامج تليفزيونية مجانية؛ فقط لأن البرامج التليفزيونية المجانية غير قانونية في الولايات المتحدة، ويمنع الفرنسيون الأمريكيين من الحصول على هدايا تذكارية نازية على موقع ياهو للمزايدات؛ فقط لأن هذا النوع من الهدايا غير قانوني في فرنسا.
لا يعاني الأمريكيون وحدهم من العمى، فأنا لا أختار هذه القضية تحديدًا لانتقاد الأمريكيين. بدلًا من ذلك، تُعلِّمنا هاتان القضيتان المتشابهتان درسًا عامًّا؛ وهو: كل أمة لديها إحدى صور التعبير التي ترغب في تنظيمها على الإنترنت. هناك شيء تريد كل أمة أن تسيطر عليه. تختلف هذه الأشياء بطبيعة الحال من أمة إلى أخرى. سيرغب الفرنسيون في تنظيم الخطاب النازي، وسيرغب الأمريكيون في تنظيم المواد الإباحية، وسيرغب الألمان في تنظيم كليهما، ولن يرغب السويديون في تنظيم أيهما.
يدور هذا الفصل حول هذه الرغبات المتداخلة في السيطرة. كيف سيستطيع الإنترنت التوفيق بين هذا المزيج من الرغبات؟ مَن سيتم تطبيق القواعد الخاصة به؟ هل ثمة طريقة لتفادي الفوضى الشاملة أو التنظيم الشامل؟ هل تقرر الأنظمة الأكثر قمعية حجم الحرية المتبقية لنا جميعًا؟
(٢) حول أن يكون المرء «في» الفضاء الإلكتروني
أثناء وجود الناس في ذلك المكان — الفضاء الإلكتروني — هم أيضًا موجودون في الفضاء الواقعي. يجلس الناس أمام شاشات الكمبيوتر يأكلون شرائح البطاطس، ويتجاهلون رنين الهاتف. يجلس الناس في الدور السفلي قبالة أجهزتهم في وقت متأخر من الليل فيما أزواجهم نائمون. إنهم يدخلون هذا الفضاء وهم في العمل، أو في مقاهي الإنترنت، أو في معامل كمبيوتر. يعيش هؤلاء الناس هذه الحياة هناك بينما هم متواجدون هنا، ثم في وقت ما من اليوم يغلقون جهاز الكمبيوتر فيعودون هنا وحسب. ينهض الناس واقفين بعيدًا عن أجهزتهم ذاهلين بعض الشيء ثم يستديرون. لقد عادوا مرة أخرى.
أين هم إذن عندما يكونون في الفضاء الإلكتروني؟
يملك البشر تلك الرغبة في الاختيار؛ فنحن نريد أن نقول إنهم إما موجودون في الفضاء الإلكتروني أو الفضاء الواقعي. إننا نملك هذه الرغبة لأننا نريد أن نعرف: أيٌّ من هذين الفضاءين يخضع للمسئولية؟ أيٌّ من الفضاءين يمتلك ولاية على الأشخاص؟ أيُّ الفضاءين يحكم؟
الإجابة هي: كلاهما. وقتما يكون الشخص موجودًا في الفضاء الإلكتروني، فهو هنا أيضًا في الفضاء الواقعي، وحين يخضع الشخص لأعراف أحد مجتمعات الفضاء الإلكتروني، فهو يعيش أيضًا داخل مجتمع في الفضاء الواقعي. فأيُّ شخص موجود في الفضاء الإلكتروني إنما هو موجود في كلا الفضاءين معًا، وتنطبق أعراف كلا الفضاءين عليه. تتمثل المشكلة بالنسبة للقانون في صياغة طريقة لتطبيق أعراف المجتمعين، الإلكتروني والواقعي، بالنظر إلى أن الشخص الذي تطبَّق عليه هذه الأعراف قد يكون موجودًا في كلا الفضاءين في نفس الوقت.
تذكَّر مرة أخرى مثال جيك بيكر. لم تكمن مشكلة جيك في ذهابه إلى مكان مختلف حيث تختلف الأعراف الاجتماعية. كانت المشكلة تتمثل في وجوده في غرفة سكنية للطلاب في ميشيجان وعلى الشبكة في الوقت نفسه. كان جيك يخضع لعرف التحضر والتزام آداب السلوك في الغرفة، وكان يخضع لعرف الفُحش في الفضاء الإلكتروني. بعبارة أخرى، كان جيك يخضع لمجموعتينِ من الأعراف الاجتماعية بينما كان جالسًا في كرسيه.
من إذن تُطبَّق شروطه؟ كيف ستتعامل حكومات العالم الواقعي مع الصراع بين هذين المجتمعينِ؟
ربما تسهم بعض الأمثلة في وضع سياق يمكن الإجابة من خلاله على هذا السؤال. عادةً، عندما تذهب إلى أوروبا، لا تأتي بالحكومة الفيدرالية معك؛ فأنت لا تحمل معك مجموعة من القواعد الخاصة بالأمريكيين أثناء وجودك في أوروبا، ومن ثم فأثناء وجودك في ألمانيا أنت تخضع للقانون الألماني. عادةً، لا تأبه الولايات المتحدة كثيرًا بتنظيم سلوك مواطنيها في الخارج.
ماذا يبرر وجود هذا القانون؟ رأى الكونجرس على نحو بديهي أن من ينخرط في مثل هذا النشاط في دولة أجنبية سيفعل المثل في الولايات المتحدة. إذا زار هؤلاء مجتمعًا تسمح الأعراف الاجتماعية فيه بممارسة الجنس مع الأطفال، فسينقل هؤلاء الأشخاص هذه الأعراف معهم إلى حياتهم في الولايات المتحدة. من هنا، بينما لا تعبأ الحكومة الأمريكية، بصورة عامة، كثيرًا بما يفعله الأمريكيون في بلاد أخرى، بدأت الحكومة في الاهتمام بذلك عندما يؤثر ما يفعله الأمريكيون في بلاد أخرى على حياتهم داخل الولايات المتحدة.
بطبيعة الحال، هذه القواعد التنظيمية هي الاستثناء، وهي استثناءات نظرًا لأن ممارسة الانتقال إلى مجتمعات بديلة أو أجنبية في الفضاء الواقعي هي استثناء أيضًا. تصعِّب عوامل المقاومة في الفضاء الواقعي من عملية تغلغل الأعراف الاجتماعية للثقافات الأجنبية في ثقافتنا. تتسع المسافة بين بلادنا والثقافات الأجنبية كثيرًا بحيث لا يستطيع سوى عدد قليل جدًّا العيش في المكانين.
يتمثل الجزء الثاني القديم في سؤال: كيف أو ما إذا كانت الحكومة ستحمي مواطنيها من الممارسات أو القواعد الأجنبية التي لا تتوافق مع ممارساتها وقواعدها هي؟ على سبيل المثال، يحمي قانون حقوق التأليف والنشر الفرنسي، بقوة، «الحقوق الأدبية» للمؤلفين الفرنسيين؛ فإذا أبرم مؤلف فرنسي عقدًا مع شركة نشر أمريكية، ولم يكن هذا العقد يحمي «الحقوق الأدبية» للمواطن الفرنسي، كيف سيكون رد فعل الفرنسيين؟
أما السؤال الثالث — والجزء الجديد — فيتمثل في قدرة المواطنين على العيش في ثقافة أجنبية فيما لا يزالون في منازلهم. يتجاوز هذا الأمر مجرد مشاهدة برامج تليفزيونية أجنبية. تعتبر البدائل التي يوفرها التليفزيون بدائل للخيال. توفر الحياة التفاعلية للفضاء الإلكتروني طرقًا بديلة للحياة (أو على الأقل هذا هو ما توفره بعض الفضاءات الإلكترونية).
يتركَّز اهتمامي في هذا الفصل لا على السؤال الأول — وهو سؤال يطلق عليه كثيرون استعمارًا ثقافيًّا — بل على الصراعات التي ستتولد عن السؤالين الثاني والثالث. ربما كان صحيحًا وجود صراعات دومًا بين قواعد الحكومات المختلفة. ربما كان صحيحًا أن هذه الصراعات أدت إلى نشوء صراعات محلية معينة، لكن الفضاء الإلكتروني هو ما أثار هذه المرحلة الثالثة من النقاش. وما كان يومًا استثناءً صار هو القاعدة. عادةً، كان السلوك يتم تنظيمه في إطار ولاية قضائية واحدة، أو في إطار ولايتين مترابطتين. أما الآن، فسيتم تنظيم السلوك في إطار ولايات قضائية متعددة غير مترابطة. كيف سيتعامل القانون مع ذلك؟
سيؤدي تكامل الفضاء الإلكتروني إلى زيادة هائلة في وقوع هذه الصراعات، كما سيؤدي إلى نشوء نوع من الصراع لم يقع قبلًا؛ صراع ينشأ عن أفراد ينتمون إلى ولايات قضائية مختلفة ويعيشون معًا في فضاء واحد، بينما يعيشون في هذه الولايات المختلفة.
بينما يعتنق كل طرف حقائق جزئية، فإن كليهما مخطئ من وجهة نظري. صحيح — مثلما يرى جونسون وبوست — أن ثمة شيئًا جديدًا هنا، لكن ما هو جديد ليس مختلفًا في نوعه، بل مختلف فقط في درجته. وصحيح — مثلما يرى جولد سميث وتيم وو — أننا كان لدينا دومًا نزاعات من هذا النوع، لكن لم يكن لدينا صراعات عند هذا المستوى. لم يكن هناك وقت كنا نستطيع فيه القول بأن الأشخاص يعيشون بالفعل في مكانين في وقت واحد، دون وجود مبدأ للسيادة بينهما. وهذا هو التحدي الذي سنواجهه في المستقبل.
هذه الازدواجية تمثل مشكلة؛ نظرًا لأن الأدوات القانونية التي استخدمناها لحل هذه المشكلات من قبل لم يتم تصميمها للتعامل مع الصراعات بين المواطنين. كانت هذه الأدوات مصممة للتعامل مع الصراعات بين المؤسسات، أو جهات تتميز بالتعقيد النسبي. كانت هذه الأدوات بمنزلة قواعد موضوعة للتعامل مع شركات تتفاعل مع شركات أخرى، أو شركات تتفاعل مع حكومات، ولم تُصمَّم للتعامل مع النزاعات بين المواطنين.
ينطبق الأمر نفسه على الصراع بين الجهات السيادية. تُطبَّق قواعد التعامل مع هذه الصراعات جيدًا عندما تكون الأطراف المعنية لاعبين مداومين، على سبيل المثال: الشركات التي يجب أن تنفذ أنشطتها في مكانين، أو الأشخاص الذين يسافرون باستمرار بين مكانين، يستطيع هؤلاء الأشخاص اتخاذ الخطوات اللازمة لضبط سلوكهم بحيث يتلاءم مع الطيف المحدود من السياقات التي يعيشون فيها، وتساعدهم القواعد الحالية على تحقيق هذه الغاية. في المقابل، لا يتبع هذا (مثلما لا يترتب على ما سبق في سياق حقوق التأليف والنشر) أن ينجح المزيج نفسه من القواعد في عالم يصبح فيه الجميع متعددي الجنسية.
لن يأتي حل هذا التغيير عن طريق الإصرار على بقاء كل شيء كما هو، أو تغيير كل شيء؛ إذ سيتطلب الأمر المزيد من العمل. عندما يعيش عدد كبير من المواطنين في مكانين مختلفين، وعندما لا يوجد أحد هذين المكانين في ولاية قضائية لإحدى الجهات السيادية، فما أنواع الهيمنة التي تستطيع إحدى الجهات السيادية المناداة بها لنفسها على الجهات السيادية الأخرى؟ وما أنواع الهيمنة التي تستطيع هذه الجهات السيادية المناداة بها لنفسها على الأنشطة المختلفة في الفضاء الإلكتروني؟
هذا سؤال لم يتم الإجابة عليه بعد. يعتبر هذا السؤال مثالًا آخر على لبس كامن في ماضينا الدستوري، على أن الاختلاف في هذه الحالة يتمثل في عدم وجود قيمة دستورية دولية تأسيسية، وحتى لو توافرت هذه القيمة لما كان بالإمكان الإجابة على هذا السؤال. عند لحظة التأسيس، لم يكن الأشخاص العاديون يعيشون عادةً في إطار ولايات قضائية متعددة غير مترابطة. فهذا شيء جديد.
(٣) حلول ممكنة
من المؤكد أن تنشب صراعات بسبب الطريقة التي تريد بها الحكومات تحديد سلوك مواطنيها. ما هو غير مؤكد بعدُ يتمثل في كيفية حلِّ هذه الصراعات. في هذا القسم، أطرح ثلاث استراتيجيات مختلفة للحل؛ كانت الاستراتيجية الأولى بمنزلة حلم الإنترنت في بداياته، وتتمثل الاستراتيجية الثانية في الواقع الذي تشهده كثير من الأمم بصورة متزايدة في الوقت الحالي، وتتمثل الاستراتيجية الثالثة في العالم الذي يتشكَّل تدريجيًّا.
(٣-١) قاعدة اللاقانون
يا حكومات العالم الصناعي، يا عمالقةً بالينَ من لحم وفولاذ، آتي إليكم من الفضاء الإلكتروني، الموطن الجديد للعقل. باسم المستقبل، أسألكم يا من تنتمون للماضي أن تدعونا وشأننا؛ لا حللتم أهلًا ولا نزلتم سهلًا؛ ولا سلطان لكم حيث نجتمع.
ليست لنا حكومة منتخبة، ولن تكون لنا على الأرجح حكومة؛ لذا فإني أخاطبكم بسلطة لا تزيد على تلك التي طالما تحدثت بها الحرية نفسها؛ لأعلن أن الفضاء الاجتماعي العالمي الذي نُنشِئه مستقلٌّ بطبيعته عن الطاغوت الذي تسعون لفرضه علينا. ليست لكم شرعية لتحكمونا، ولا بيدكم وسيلة لقهرنا تستحق أن نخشاها.
تستمد الحكومات قوتها المُسْتَحَقَّةَ من قَبول المحكومين، وأنتم لم تطلبوا قبولنا ولا نحن منحناه لكم. نحن لم ندْعُكُم. أنتم لا تعرفوننا ولا تعرفون عالمنا. الفضاء الإلكتروني لا يقع داخل حدودكم، فلا تظنوا أنه يمكنكم إنشاؤه كما لو كان مشروع مرفق عمومي، فأنتم لا تستطيعون ذلك. إنه من فعل الطبيعة، وهو يُنمي ذاته من خلال عملنا الجمعي.
أنتم لم تنخرطوا في محاوراتنا الجامعة العظيمة، كما أنكم لم تخلقوا الثروة التي في أسواقنا. أنتم لا تعرفون ثقافتنا، ولا أخلاقنا، ولا قوانينا غير المكتوبة التي تنظم مجتمعنا بأكثر مما يمكن لكم أن تفرضوه.
تزعمون أن ثمة مشاكل بيننا عليكم أن تحلوها، وتستغلون هذا كذريعة للتدخل في ربوعنا. كثير من هذه المشاكل غير موجود؛ وحيثما وجدت صراعات وحيثما تكمن أخطاء فسوف نراها ونعالجها بطُرُقنا. نحن نعمل على تشكيل عَقْدنا الاجتماعي الخاص، وسوف تنشأ حاكميتنا طبقًا لظروف عالمنا، لا عالمكم؛ فعالمنا يختلف عن عالمكم.
يتكون الفضاء الإلكتروني من معاملات وعلاقات، ومن الفكر ذاته، وكلها مصفوفة كموجة ناتئة في شبكة اتصالاتنا. عالمنا موجود في كل مكان وفي اللامكان في الآن ذاته، لكنه ليس حيث تعيش الأجساد.
نحن نخلق عالمًا يمكن للجميع أن يدخلوه بلا ميزة، وبلا حكم مسبق على عرقهم، أو على قدرتهم الاقتصادية أو العسكرية، أو على محل ميلادهم.
نحن نخلق عالمًا يمكن فيه لأيٍّ كان في أي مكان التعبير عن رأيه أو رأيها، بغض النظر عن قدر تَفَرُّد هذا الرأي، بلا خوف من أن يُكرَه على الصمت أو على الامتثال.
مفاهيمكم القانونية عن الملكية والتعبير والهوية والحراك والسياق لا تنطبق علينا؛ فكلها مبنية على المادة، ولا مادة هنا.
هوياتنا لا أجساد لها؛ لذا فعلى غير حالكم، لا يمكننا إرساء النظام عن طريق القسر الجسدي. نحن نؤمن أنه عن طريق الأخلاق والمصلحة الخاصة المستنيرة والصالح العام، ستنشأ حاكميتنا. قد تكون هوياتنا مُوزَّعة على عديد من فضاءاتكم، إلا أن القانون الأوحد الذي تعترف به ثقافاتنا المكونة هو «القاعدة الذهبية»، ونأمل أن نستطيع بناء حلولنا الخاصة على هذا الأساس، إلا أننا لا نقبل الحلول التي تحاولون فرضها علينا.
في الولايات المتحدة الأمريكية وضعتم قانون إصلاح الاتصالات، وهو يناقض دستوركم أنتم أنفسكم، ويبدد أحلام جيفرسون وواشنطن ومِل وماديسون ودي توكفيل وبراندايس. هذه الأحلام يجب أن تولد من جديد فينا.
أنتم تخشون أبناءكم؛ لأنهم أُصلاء في عالم ستظلون أنتم دائمًا مهاجرين إليه، ولأنكم تخشونهم فأنتم توكلون إلى بيروقراطياتِكم مسئولياتكم الأبوية التي تخشون أن تواجهوا أنفسكم بها. في عالمنا كل الأهواء والتجليات البشرية، من أدناها إلى أسماها، جزءٌ من كلٍّ غير متمايز هو حوار البِتات العالمي. نحن لا يمكننا أن نفصل بين الهواء الذي يَخنُق والهواء الذي تُحلِّق عليه الأجنحة.
في الصين وألمانيا وفرنسا وروسيا وسنغافورة وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية تحاولون درء ڤيروس الحرية بإقامة نقاط حراسة على طول جبهة الفضاء الإلكتروني. قد يصد هذا العدوى لوقت قصير، لكنه لن يفلح في العالم الذي سوف يلتحف قريبًا بوسائل الاتصال الحاملة لوحدات البيانات.
إن صناعاتكم المعلوماتية التي عفا عليها الزمن تحاول إرجاء أجلها عن طريق اقتراح تشريعات، في أمريكا وفي غيرها، تَدَّعي ملكية التعبير ذاته في أنحاء العالم. هذه القوانين ستُعامِل الفِكَر كمنتج صناعي لا يسمو على الحديد المصهور. في عالمنا، كل ما يمكن للعقل البشري أن يخلقه يمكن أن يُنسَخ ويوزَّع بلا حدود وبلا كلفة. لم يعد انتقال الفِكَر يحتاج مصانعكم ليتحقق.
إن الممارسات الاستعمارية والعدائية التي تزداد وطأتها باستمرار تضعنا في موضع مَن سبقونا من عشاق الحرية وتقرير مصير أنفسهم، الذين اضطروا أن يرفضوا سلطة غاشمة نائية. علينا أن نعلن حصانة ذواتنا الافتراضية ضد سلطانكم، حتى ونحن لا نزال خاضعين لسطوتكم على أجسادنا. سوف ننشر أنفسنا على الكوكب حتى لا يتسنى لأحد أن يعتقل فِكَرنا.
ربما لا تعكس وثيقة واحدة أخرى أكثر من هذه الوثيقةِ المثالَ الذي كان سائدًا على شبكة الإنترنت منذ عقد مضى. أيًّا ما كان نوع الحكم الذي يسيطر على «أجسادنا» لن تستطيع أي حكومة التحكم في «ذواتنا الافتراضية» التي ستعيش في هذا الفضاء. أعلن بارلو «حصانة» هذه «الذوات الافتراضية» ضد الجهات السيادية في الفضاء الواقعي. لن تملك الجهات السيادية في الفضاء الواقعي من أمرها شيئًا إذا حاولت ممارسة سيطرتها في الفضاء الإلكتروني.
بالنظر إلى الأمر من منظورنا الحالي، ربما تكون أسباب عدم تحقُّق مُثُل بارلو واضحة، لكن في ذلك الوقت لم يتم إدراك هذه الأسباب على نحو صحيح. تصدر القوانين نتيجة إجراءات سياسية. بالمثل، لا يمكن إلغاء القوانين إلا من خلال إجراءات سياسية. لا تعتبر الفِكَر أو البلاغة الجميلة إجراءات سياسية. عندما يواجه الكونجرس الآباء المتأثرين الذين يطالبونه باتخاذ أي إجراء لحماية أطفالهم على الشبكة، وعندما يواجه الكونجرس موسيقيين عالميين غاضبين بشأن التعدي على حقوق التأليف والنشر الخاصة بهم على الإنترنت، وعندما يواجه الكونجرس المسئولين الحكوميين الذين يتقمصون مظهرًا جادًّا ويتحدثون عن مخاطر الجريمة على الشبكة؛ لن تجدي حتى بلاغة الشاعر الغنائي لفريق «جريتفول ديد» شيئًا. كان يجب أن يكون هناك إجراء سياسي إلى جانب بارلو، على أن الشبكة لم تكن مستعدة بعد لأي إجراء سياسي في ذلك الوقت.
(٣-٢) قاعدة القانون الواحد
تتمثل النتيجة العكسية لعدم وجود قانون في عالم لا يوجد فيه إلا قانون واحد؛ عالم تسود فيه حكومة واحدة (أو بصورة قابلة للتصور أكثر، عالم تعمل فيه جميع الحكومات معًا، لكنها فكرة سخيفة لن أناقشها هنا) من خلال فرض قانونها في كل مكان.
ربما تبقى هيمنة الولايات المتحدة إلى الأبد، لكنني أشك في ذلك؛ فهناك رغبة متنامية بين كثير من حكومات العالم للحد من نفوذ الولايات المتحدة، وفي عام ٢٠٠٥ حاولت بعض هذه الحكومات أن تنتزع السيطرة على «مؤسسة الإنترنت للأسماء والأرقام المخصصة» من الولايات المتحدة. فضلًا عن كونها تمثل جرعة صحية لاحترام السيادة، ستدفع هذه المقاومة إلى قيام نظام يحقق التوازن بين المصالح في العالم أجمع.
(٣-٣) قاعدة القوانين العديدة (والتكنولوجيا التي تجعل هذا ممكنًا)
كيف سيبدو النظام الأكثر توازنًا إذن؟
عُد مرة أخرى إلى الصراع الذي تناولناه في بداية هذا الفصل. من جانب، لا تريد فرنسا أن يشتري مواطنوها هداية تذكارية نازية، ولا تريد الولايات المتحدة أن يشاهد مواطنوها التليفزيون «المجاني». على الجانب الآخر، لا تجد فرنسا أي غضاضة في التليفزيون «المجاني»، ولا تمتلك الولايات المتحدة أي سلطة دستورية لمنع مواطنيها من شراء الهدايا التذكارية النازية. ألا من سبيل لمنح فرنسا ما تريد (وما لا تريد)، ومنح الولايات المتحدة ما تريد (وما لا تريد)؟
هل ثمة حل عام (في أعين الحكومة على الأقل) لهذه المشكلة؟
تصوَّر أولًا: أن شيئًا مثل طبقة الهوية التي أشرت إليها في الفصل الرابع وجدت طريقها في الفضاء الإلكتروني. تصوَّر أيضًا أن طبقة الهوية هذه تعني أن الأفراد سيستطيعون (بسهولة ودون الحاجة إلى الكشف عن شيء آخر) اعتماد طبيعة مواطنتهم. من هنا، مع الانتقال عبر الإنترنت، يوجد شيء مشفَّر مرتبط بوجودك على الشبكة يكشف عن الحكومة التي تتبعها أنت.
ثانيًا: تصور عقد مؤتمر دولي يهدف إلى تعبئة جدول بمجموعة من القواعد التي تريد الحكومة تطبيقها على مواطنيها، بينما يتواجدون في أماكن أخرى من العالم خارج موطنهم. حينها، سيرغب الفرنسيون، على سبيل المثال، في منع تداول المواد النازية، وسيرغب الأمريكيون في حجب المواد الإباحية عن أي شخص يقل عمره عن ١٨ عامًا، إلخ. بعد ذلك، سيتم نشر هذا الجدول وجعله متاحًا على أي خادم موجود على الشبكة.
أخيرًا: تصور أن الحكومات شرعت في إلزام الخوادم التي تقع في نطاق ولاياتها القضائية بالقواعد المنصوص عليها في الجدول. من هنا، إذا كنت تعرض مواد نازية، وأراد مواطن فرنسي زيارة موقعك، فستمنعه من ذلك. أما إذا كان هذا المواطن أمريكيًّا، فلن تمنعه من زيارة الموقع. ستقيِّد كل دولة إذن سلوك مواطني الدول الأخرى حسب رغبة كل دولة، فيما سيستمتع مواطني كل دولة بالحريات التي تضمنها دولهم لهم. سيؤدي هذا العالم إلى زرع القواعد المحلية في طيَّات الحياة في الفضاء الإلكتروني.
هَب أن ولاية مينيسوتا هددت بمقاضاة مالك خادم شيكاجو. من السهولة النسبية بمكان أن يقنع المدعي العام للولايةِ القضاءَ في ولاية إلينوي بمقاضاة مالك الخادم غير القانوني في شيكاجو (بافتراض إمكانية التدليل على عدم قانونية سلوك المستخدمين عبر الخادم). وهكذا ينتقل الخادم من شيكاجو إلى جزر كايمن، وهو ما يصعب على ولاية مينيسوتا مقاضاة مالك الخادم، ويحافظ على سهولة اتصال مواطني مينيسوتا بالخادم. مهما كانت ما تقوم به الولاية، يبدو أن الشبكة تساعد مواطني الولاية على التغلب على الحكومة. تجعل الشبكة، التي لا تعترف بالحدود الجغرافية، من الصعوبة البالغة بمكانٍ بالنسبة للحكومات التي تقيدها الحدود الجغرافية تنفيذ قواعدها.
في هذه القصة، إذن، تُحترَم مصالح ولاية مينيسوتا. لا يُسمَح لمواطنيها بالمقامرة. في المقابل، لا تحدد رغبات الولاية ممارسات المقامرة للأشخاص من خارجها. لا يُمنَع سوى مواطني الولاية من ممارسة المقامرة من خلال هذا الإجراء التنظيمي.
يعتبر هذا تنظيمًا على مستوى ولاية واحدة لمشكلة واحدة. ما الذي يجعل الولايات الأخرى تتعاون مع ولاية مينيسوتا؟ ما الذي يجعل أي ولاية أخرى تُنفِّذ الإجراء التنظيمي لولاية مينيسوتا؟
الإجابة هي أن هذه الولايات لن تتعاون مع مينيسوتا إذا كان هذا هو الإجراء التنظيمي الوحيد محل الاهتمام، لكنه ليس كذلك. ترغب مينيسوتا في حماية مواطنيها من المقامرة، بينما قد ترغب نيويورك في حماية مواطنيها ضد سوء استخدام البيانات الشخصية. قد يشترك الاتحاد الأوروبي مع نيويورك في الهدف نفسه، فيما قد تشترك يوتا مع مينيسوتا في هدفها.
بعبارة أخرى، تمتلك كل ولاية مصلحة خاصة في السيطرة على سلوكيات محددة، وهي سلوكيات تختلف من ولاية إلى أخرى. تتمثل النقطة الرئيسة هنا في أن المعمار الذي يمكن ولاية مينيسوتا من تحقيق مآربها التنظيمية يساعد الولايات الأخرى أيضًا على تحقيق مآربها التنظيمية هي الأخرى، وهو ما قد يؤدي إلى تحقيق نوع من الفائدة المشتركة بين الولايات القضائية المختلفة.
سيبدو الاتفاق بين الولايات على النحو التالي: ستعد كل ولاية بتنفيذ الآليات التنظيمية للولايات الأخرى على الخوادم التي تتواجد في نطاق ولاية كل منها، في مقابل تنفيذ آلياتها على الخوادم الموجودة في نطاق الولايات الأخرى. ستشترط ولاية نيويورك أن تمنع الخوادم فيها مواطني ولاية مينيسوتا من المقامرة عبر الخوادم في نيويورك، في مقابل منع ولاية مينيسوتا مواطني ولاية نيويورك من الاتصال بالخوادم التي تسمح بسوء استغلال البيانات الشخصية في نطاق ولايتها. ستمنع ولاية يوتا مواطني الاتحاد الأوروبي من الاتصال بالخوادم التي تسمح بسوء استغلال البيانات الشخصية في نطاق ولايتها، في مقابل منع الاتحاد الأوروبي مواطني يوتا من الاتصال بالخوادم الأوروبية التي تسمح بزيارة مواقع مقامرة.
يمكن الاستعانة بالهيكل التنظيمي نفسه في دعم عمليات التنظيم المحلية للسلوك على الإنترنت. في ظل وجود طريق بسيط للتحقق من المواطنة، وطريق سهل للتحقق من أن الخوادم تميِّز بين المستخدمين بناءً على موطنهم، والتزام فيدرالي بدعم هذا التمييز الداخلي بين المستخدمين؛ يمكن تصور وجود معمار يسمح بالتنظيم المحلي للسلوك على الإنترنت.
إذا كان ذلك يمكن أن يحدث داخل الولايات المتحدة، فمن الممكن أن يحدث بين الأمم الأخرى بصورة عامة. تتوافر المصلحة نفسها على المستوى الدولي في إنفاذ القوانين المحلية مثلما تتوافر المصلحة في إنفاذ القوانين على المستوى الوطني، بل ربما أكثر. وهكذا بهذه الطريقة، سييسر الإنترنت الذي يتميز بوجود أدوات للتحقق من الهوية من عملية تقسيم المستخدمين على المستوى الدولي، وترسيخ هذا الهيكل للسيطرة الدولية على سلوك المستخدمين.
هذا النظام من شأنه أن يعيد تقسيم المستخدمين بناء على موقعهم الجغرافي داخل الشبكة. سيعيد هذا النظام فرض حدود على شبكة تم بناؤها دون وجود لهذه الحدود. سيمنح هذا النظام الجهات التنظيمية في المجر وتايلاند السلطة اللازمة للقيام بما لا يستطيعون القيام به حاليًّا؛ ألا وهو السيطرة على مواطنيهم أنَّى شاءوا. سيجعل هذا النظام مواطني الولايات المتحدة أو السويد أحرارًا بالدرجة التي تريدها حكوماتهم.
بالنسبة إلى من يحبون الحرية مثلما كانت في بدايات الإنترنت، يعتبر هذا النظام كابوسًا. يقتلع هذا النظام الحرية التي وفرها المعمار الأصلي للإنترنت. سيُعيد هذا النظام السيطرة إلى فضاء وضع تصميمه بحيث يتفادى السيطرة.
أحب أنا أيضًا الحرية مثلما كانت في الإنترنت الأصلي، لكن في ظل شكي في الطرق المختصرة لوضع السياسة التي أفضلها — أعني بالطرق المختصرة الأدوات التي يتم استخدامها كي ينشأ عنها نتائج محددة في غياب دعم ديمقراطي حقيقي — أشعر بالتردد في إدانة مثل هذا النظام. بطبيعة الحال، يجب ألا تسمح أي حكومة ديمقراطية بأن تنعكس رغبة أي حكومة غير ديمقراطية على جدول تقسيم المستخدمين. لا يجب أن نساعد الأنظمة الشمولية على قمع مواطنيها، لكن إذا تم تطبيق هذا النظام في إطار عائلة من الأنظمة الديمقراطية، سيساعد هذا النظام على دعم الديمقراطية. إذا كره الناس أحد القيود المفروضة على الحرية، دع الناس إذن يحشدون جهودهم للتخلص من هذا القيد.
تتمثل وجهة نظري في أن مواطني أي نظام ديمقراطي يجب أن يمتلكوا حرية اختيار أي صورة من صور التعبير يتداولونها، لكنني أفضل أن يناضل المواطنون من أجل الحرية من خلال السعي من أجلها عن طريق وسائل ديمقراطية، لا من خلال خدعة تكنولوجية تهبهم الحرية مجانًا.
سواء أحببت أنت — أو أنا — النظام، يعتبر طرحي هنا تنبُّئِيًّا. يعتبر هذا النظام حلًّا وسطًا طبيعيًّا بين نتيجتين لا تقبل أيهما الحكومة؛ إذ لن تقبل الحكومات بعالم لا تؤثر فيه قوانين العالم الواقعي على الفضاء الإلكتروني، مثلما لن تقبل بعالم تسيطر عليه حكومة واحدة، أو حفنة من الحكومات الكبيرة. يمنح هذا النظام كل حكومة سلطة تنظيم سلوك مواطنيها. ولا يحق لأي حكومة أن تفعل ما هو أكثر من ذلك.
أتفهم دافع جوجل (الربح). أتفهم بالتأكيد تبرير جوجل لاتخاذها مثل هذا الإجراء (سيساعد هذا الإجراء على تسريع وتيرة تحول الصين إلى دولة ديمقراطية)، لكن سواء اعتقدت في صحة هذا التوازن أو لا في سياق الصين الشيوعية، يتوافر تبرير أقوى عندما نتحدث عن اتفاقيات بين أمم ديمقراطية. في رأيي، يعتبر ما تفعله الصين مع الصحفيين فيها خطأ. إذا عرض ناشر صيني نشر هذا الكتاب في الصين بشرط حذف هذه الفقرة من الكتاب، فلن أوافق بالتأكيد، لكنني في مقابل ذلك أمتلك رؤية مختلفة فيما يتعلق بالقواعد التي تفرضها فرنسا أو إيطاليا.
يتمثل أحد الآثار المهمة لهذا المعمار — وهو في الواقع قد يكون سببًا كافيًا لمقاومته — في جعله عملية التنظيم أكثر سهولة، وكلما صارت عملية التنظيم أسهل، زاد احتمال وقوع التنظيم.
لكن هذه هي عملية المساومة — بين التكلفة والرغبة في التنظيم — التي رأيناها مرارًا وتكرارًا. تعتبر التكلفة بالنسبة للحكومة حرية بالنسبة إلينا، وكلما زادت تكلفة التنظيم قلت فرص تنفيذه. تعتمد الحرية على أن تظل عملية التنظيم مكلفة. تتحقق الحرية من خلال هذه الصعوبة.
عندما تصبح عملية التنظيم سهلة أو رخيصة تتعرض هذه الحرية المحتملة للخطر، ويمكننا توقع المزيد من التنظيم. في هذه الحالات، إذا أردنا الحفاظ على الحرية، فسنحتاج إلى تطوير أطروحات تدعمها. سنحتاج إلى أطروحات داعمة للحرية للحيلولة دون تنفيذ عمليات تنظيمية تستهدف الحرية على الشبكة. ومثلما أُوضِّح لاحقًا في هذا الكتاب، هناك رغبة قوية مثيرة للدهشة لدى الأمم المختلفة لتبنِّي نظم تيسِّر عمليات التنظيم التي تستهدف ولايات قضائية محددة، كما يوجد سبب وجيه يفسر لماذا ستنخفض تكاليف عملية التنظيم. يجب أن نتوقع، إذن، المزيد من التنظيم قريبًا جدًّا.
باختصار، سيتمثل الأثر النهائي في تقسيم الفضاء الإلكتروني بناءً على الخواص التي يحملها المستخدمون الأفراد، ومن شأن هذا التقسيم أن يؤدي إلى تحقيق درجة من السيطرة على الفضاء الإلكتروني لم يتخيلها أحد من قبل قط. سينتقل الفضاء الإلكتروني من فضاء غير قابل للتنظيم — اعتمادًا على عمق أدوات الاعتماد — إلى أكثر الفضاءات القابلة للتنظيم التي يمكن تخيلها.