الحلول
نحتاج إلى خطة. قدَّمت طرحًا غير سار عن الاختيارات التي يطرحها الفضاء الإلكتروني الآخذ في التغيُّر، وعن عدم قدرتنا على الاستجابة إلى هذه الاختيارات. وقد ربطت عدم القدرة هذه بثلاثة ملامح لثقافتنا القانونية والسياسية الحالية. في هذا الفصل القصير، أطرح ثلاثة حلول. لا تزيد هذه الحلول عن وصفات قصيرة، لكنها كافية للإشارة إلى نوع التغييرات التي نحتاجها.
(١) حلول قضائية
على الرغم من أنني أوافق على مثل هذا الحرص بصورة عامة، علينا أن نزحزح هذا الحرص لوضعه في سياقه الصحيح والحد من مداه. يجب أن نحاصر أسباب الصعوبات القضائية في اتخاذ القرارات. قد يكون مناسبًا تمامًا بعض التردد قبل حل المعضلات الدستورية في الفضاء الإلكتروني بصورة نهائية، وفي حزم، ودون أي ادعاء بديمومة الحلول. وفي حالات أخرى، يجب أن يتحلى القضاة — خاصة قضاة محاكم الدرجات الأدنى — بالحزم؛ لأن هناك الكثير منهم، ولأن كثيرًا منهم يتميزون بالموهبة والإبداع الاستثنائيين. ومن شأن قراراتهم أن تعلمنا شيئًا، حتى لو كانت هذه القرارات وقتية أو محدودة في نطاقها.
في حالات الترجمة البسيطة (حيث لا توجد حالات لبس كامن، ولا يوجد غموض في تقليدنا الدستوري)، يجب على القضاة الحض على الأطروحات التي تسعى إلى الحفاظ على القيم الأصلية للحرية في سياق جديد. في هذه الحالات، هناك مساحة مهمة للنشاط. يجب على القضاة تحديد قيمنا والدفاع عنها؛ لا لأن هذه القيم صحيحة بالضرورة، ولكن لأننا إذا تجاهلناها، فيجب أن ينبع هذا التجاهل من أنها مرفوضة، لا من قِبَل محكمة، بل من قِبَل الناس.
في الحالات التي لا تكون فيها الترجمة سهلة (حالات اللبس الكامن)، يلعب القضاة — خاصة قضاة محاكم الدرجات الدنيا — دورًا مختلفًا. في هذه الحالات يجب على القضاة التذمر؛ يجب أن يتحدثوا عن الأسئلة التي تثيرها هذه التغييرات، ويجب أن يحددوا القيم المتنافسة الأهم. وحتى لو كانت القرارات التي يجب أن يُصدِرُوها في قضية معينة مراعية للمشاعر أو سلبية، فإنها يجب أن تكون كذلك، ولكن بطريقة معارضة. قد تكون هذه القضايا محل حرص القضاة، لكن لتبرير عدم الفعالية، ولتعويض السماح بعدم تلبية مطالبات الحقوق، يجب على القضاة إثارة الصراع المطروح أمام الثقافة القانونية السائدة. لا يجب أن تؤدي القضايا الصعبة إلى تطبيق القانون بصورة سيئة، ولا يجب أيضًا أن يتم التعامل معها كما لو كانت قضايا سهلة.
هذا هو الحل الأبسط لمشكلة اللبس الكامن، لكنه حل غير كامل. يجبرنا هذا الحل على مواجهة أسئلة لها قيمتها الدستورية، ويجبرنا على الاختيار. سيساعدنا حل أفضل على مواجهة هذه المشكلات. وبينما لن تكون مهمة القضاء أن يتخذ قرارات نهائية حول المسائل التي تتعلق بالقيمة، سيُلهم القضاء الآخرين لاتخاذ قرارات بشأنها.
ربما ننكر هذا اللبس الكامن. ربما نرى أن واضعي الدستور تصوروا أن المحكمة الدستورية العليا لن تفعل شيئًا حيال حالات اللبس الكامن، وأنه في مثل هذه السياقات تتدخل العملية الديمقراطية — من خلال المادة الخامسة — لتصحيح أي سوء تطبيق أو للاستجابة إلى أوضاع متغيرة. ربما كانت هذه هي رؤية واضعي الدستور، لكنني لا أظن أن هذه النية كانت واضحة تمامًا بحيث تمنعنا من النظر في كيفية مواجهة سلسلة المشكلات القادمة فيما يتعلق بتطبيق القيم الدستورية في سياق الفضاء الإلكتروني بأفضل السبل. أُفضِّلُ أن أكون مخطئًا في حراكي على نحو لا يسبب ضررًا عن أن أكون مخطئًا في سكوني فيما تخور قواي. هذا دور صغير سيلعبه القضاء في سياق الحوار الأوسع الذي يجب أن نمارسه، لكن القضاء لم يبدأ بعد في لعب هذا الدور.
(٢) حلول الكود
يتمثل التحدي الثاني في مواجهة القانون من خلال الكود؛ أي التوصل إلى طريقة نفكِّر بها بشأن السلطة التنظيمية للكود. فيما يلي مجموعة من الفِكَر التي ستدفع بنا معًا إلى عالم يجب أن تلبي فيه عملية التنظيم المفروضة من خلال الكودِ الأعرافَ الدستورية.
هنا يرتبط الأمر مجددًا بفكرة الكود المفتوح. في الفصل الثامن، عندما تحدثت عن نوع القيد الذي يفرضه الكود المفتوح على التنظيم الحكومي قلتُ إنه صار من الأصعب بالنسبة للحكومة إخفاء أدواتها التنظيمية في برامج الكود المفتوح، مثلما صار من الأسهل بالنسبة إلى مبتكري ومستخدمي الكود المفتوح تعطيل أي أدوات تنظيمية تفرضها الحكومة من خلاله. كان الانتقال من الكود المغلق إلى الكود المفتوح انتقالًا من حالة أعلى قابلية للتنظيم إلى حالة أقل قابلية للتنظيم. وإذا كان الأمر مقتصرًا على تعطيل سلطة الحكومة، يعتبر هذا التحول طيبًا من غير لبس.
لكن ثمة جزأين يتألف منهما القيد الذي قد يفرضه الكود المفتوح؛ يعتبر أحدهما طيبًا دون شك، فيما لا يعتبر الآخر سيئًا بالضرورة. يتمثل الجزء الأول في الشفافية؛ حيث ستكون الأدوات التنظيمية معروفة، بينما يتمثل الجزء الثاني في المقاومة؛ حيث يمكن مقاومة هذه الأدوات التنظيمية المعروفة بسهولة. لا يترتب الجزء الثاني على الأول بالضرورة، ولا هو بالضرورة نقطة ضعف. ربما كان من الأسهل تعطيل الأدوات التنظيمية في الكود إذا كان الكود مفتوحًا. لكن في المقابل، إذا كانت عملية التنظيم مشروعة، فقد تشترط الدولة عدم تعطيل الأدوات التنظيمية في الكود، وإن أرادت، تستطيع الدولة عقاب المخالفين.
قارن ذلك مع تنظيم استخدام أحزمة المقاعد. اشترطت الحكومة الفيدرالية لفترة من الوقت توافر أحزمة مقاعد أوتوماتيكية في السيارات الجديدة. يعتبر هذا مثالًا على التنظيم من خلال الكود؛ حيث تصير السيارات أكثر أمانًا عن طريق تنظيم الكود بحيث يجبر الناس على استخدام أحزمة المقاعد. كره الكثيرون أحزمة المقاعد، وقام آخرون بتعطيلها. في المقابل، تمثلت الميزة في أحزمة المقاعد الأوتوماتيكية في أن تنظيمها تميَّز بالشفافية. لم يشُكَّ أحد فيمن هو مسئول عن القاعدة التي فرضتها أحزمة المقاعد. وإذا لم يرُق للحكومة قيام الناس بتعطيل أحزمة مقاعدهم، كانت الحكومة تستطيع تمرير قوانين تعاقبهم على ذلك. في النهاية، لم تضغط الحكومة كثيرًا في هذا الاتجاه؛ لا لأنها لم تستطع، بل لأن التكاليف السياسية كان من الممكن أن تكون مرتفعة للغاية. لقد وضعت السياسة حدًّا للتنظيم الحكومي، مثلما يجب أن يكون.
هذا هو أقصى ما يمكن أن نتوقعه من التنظيم من خلال الكود في الفضاء الإلكتروني. هناك علاقة تبادلية بين الشفافية والفعالية. يعتبر التنظيم من خلال الكود في سياق الكود المفتوح أكثر شفافية، لكنه مُلزم أكثر. يقيِّد الكود المفتوح سلطة الحكومة في تحقيق غاياتها التنظيمية.
هناك فائدة أخرى. من شأن الكود المغلق أن يسهل على الحكومة إخفاء وسائلها التنظيمية، ومن ثم تحقيق غاية تنظيمية غير مشروعة. من هنا، لا توجد طريقة سهلة لعرقلة الغايات الحكومية، بل توجد عملية موازنة بين العلانية والسلطة، وبين شفافية القواعد وانصياع الناس. من القيود المهمة على سلطة الحكومة أن نقول إن القواعد الوحيدة التي يجب فرضها هي تلك القواعد التي تتسم بالشفافية.
هل يعني هذا أنه يجب علينا الدفع في اتجاه الكود المفتوح بدلًا من الكود المغلق؟ هل يعني هذا أن نحظر الكود المغلق؟
كلا، لا يترتب على هذه الملاحظات أننا يجب أن نحظر الكود المغلق، أو أننا يجب أن نعيش في عالم لا يوجد فيه إلا الكود المفتوح، بل تشير هذه الملاحظات إلى القيم التي يجب أن نصرَّ على أن يتضمنها أي كود يُستخدم في التنظيم. إذا كان الكود مُشرِّعًا، فيجب أن يحتضن قيم نوع محدد من التشريع.
يتمثل جوهر هذه القيم في الشفافية؛ فما يقوم به التنظيم من خلال الكود يجب أن يكون ظاهرًا مثلما يجب أن يكون التنظيم من خلال القانون ظاهرًا. يوفر الكود المفتوح هذه الشفافية، وإن كان لا يوفرها للجميع (فلا يستطيع الجميع قراءة الكود)، ولا بصورة كاملة (يخفي الكود المكتوب بصورة سيئة وظائفه جيدًا)، لكنه يوفرها بصورة أكثر اكتمالًا من الكود المغلق.
إن أفضل كود (من وجهة نظر القيم الدستورية) هو الكود القياسي والمفتوح. تضمن القياسية استبدال المكونات الأفضل بالمكونات الأسوأ. من وجهة النظر التنافسية، تشجع القياسية على وجود منافسة أكبر في إدخال تعديلات على مشروع وضع كود محدد.
لكن في المقابل قد يبدو أمرًا مقبولًا عدم إمكانية إنتاج أجزاء محددة من الكود إذا كانت هذه الأجزاء تُنتَج ككود مفتوح، ومن ثم قد يصبح الكود المغلق ضروريًّا في حالات التنافس. إذا كان الأمر كذلك، فسيقدِّم المزج بين الكود المفتوح والكود المغلق في مكونات النظام أفضل ما في العالمين؛ أي توفير ميزة تنافسية (من خلال المكونات المغلقة) وشفافية الوظائف (من خلال المكونات القياسية المفتوحة).
حاججت في صالح الكود الشفَّاف؛ نظرًا للقيم الدستورية التي يشتمل عليها. لم أحاجج ضد الكود كأداة تنظيمية أو ضد التنظيم ذاته، لكنني حاججت بأننا يجب أن نصرَّ على تحقيق الشفافية في عملية التنظيم، وأننا يجب أن نعمل على هياكل الكود بحيث تدعم هذه الشفافية.
هنا مكان لإجراء تغيير قانوني حقيقي؛ فمن دون التوصل إلى حل لمسألة ما إذا كان الكود المغلق أو المفتوح هو الأفضل، لا نملك إلا أن ندفع الكود المغلق في اتجاه تيسير تحقيق شفافية أكبر. على أن القصور الذاتي للقانون الحالي — الذي يمنح مبتكري البرمجيات ضمانات حماية غير محدودة — يعمل في عكس اتجاه إجراء أي تغيير حقيقي. باختصار، لا وجود للسياسة بأي صورة من الصور.
(٣) حلول ديمقراطية
عندما قال وبستر هذا — في عام ١٨٥٠ — حملت كلمات «لا كمواطن من ماساتشوستس» أهمية لا نلحظها على الأرجح اليوم. بالنسبة إلينا، تعتبر عبارة وبستر مألوفة للغاية. ماذا عساه يكون وبستر إلا أن يكون أمريكيًّا؟ كيف له أن يتحدث عن نفسه بصورة أخرى؟
جاءت هذه الكلمات في حقيقة الأمر في مستهل عهد جديد في الولايات المتحدة. أتت هذه الكلمات في وقت كان انتباه المواطنين الأمريكيين يتحول من مواطنتهم في إحدى الولايات إلى مواطنتهم في الأمة. تحدَّث وبستر عن نفسه في الوقت الذي صار من الممكن فيه أن يشير المرء إلى نفسه بمنأى عن الولاية التي ينتمي إليها، وبالإشارة إلى نفسه كمواطن في أُمَّة.
مثلما ذكرت، عند تأسيس الجمهورية كان مواطنو الولايات المتحدة (وهو مفهوم محل خلاف في حد ذاته) مواطنين في ولايات معينة أولًا. كانوا يدينون بالولاء إلى ولاياتهم الأم؛ حيث كان مكان معيشتهم يحدد طبيعة حياتهم. كانت الولايات الأخرى بعيدة عنهم مثلما أن إقليم التبت بعيد عنا اليوم. بل في الواقع، يعتبر الذهاب إلى التبت اليوم بالنسبة إلينا أكثر سهولة من زيارة أحد مواطني ولاية ساوث كارولاينا ولاية مِين.
بمرور الوقت، بطبيعة الحال، تغيَّرت الأمور. وفي الصراع الذي أدى إلى نشوب الحرب الأهلية، وفي معارك إعادة البناء، وفي الثورة الصناعية التي تلت؛ نما شعور الأفراد المواطنين بأنفسهم كأمريكيين. وفي خضم هذه العمليات التبادلية والصراعات، ولدت الهوية القومية؛ فالأمة تولد فقط حين ينخرط مواطنون مع مواطنين آخرين من ولايات أخرى في أنشطة مشتركة.
من السهولة بمكان نسيان لحظات التحوُّل هذه، بل أسهل من ذلك تصوُّر أن هذه الأحداث تنتمي إلى الماضي فقط، لكن لا يستطيع أحد إنكار أن إحساس المرء بأنه «أمريكي» تغيَّر في القرن التاسع عشر، مثلما أن لا أحد يستطيع إنكار أن إحساس المرء بأنه «أوروبي» آخذ في التغير في أوروبا اليوم. تُبنى الأمم مع إحساس الناس بوجودهم في إطار ثقافة سياسية مشتركة. وهذا التحوُّل الذي نستشعره يتواصل إلى اليوم.
كلما نقضي نحن — مواطني الولايات المتحدة — مزيدًا من الوقت، وننفق مزيدًا من المال في هذا الفضاء الذي لا يُعد جزءًا من أي ولاية محددة، لكنه يخضع لجميع الأشكال التنظيمية في جميع الولايات، سنسأل بصورة متزايدة أسئلة عن وضعنا في هذا الفضاء. سنبدأ في الشعور بحق الانتماء الذي شعر به وبستر، كمواطن أمريكي، لنتحدث عن الحياة في موضع آخر في الولايات المتحدة. بالنسبة إلينا، سيتمثل هذا الحق في الحديث عن الحياة في جزء آخر من العالم، وهو ما ينبع من الشعور بأن ثمة مجتمع مصالح يتجاوز في حدوده العلاقات الدبلوماسية ليصل إلى أفئدة المواطنين العاديين.
ما الذي سنفعله إذن حينها؛ عندما نشعر أننا جزء من عالم ما، وأن هذا العالم ينظِّم سلوكنا؟ ماذا سنفعل عندما نريد اتخاذ الخيارات بشأن كيفية تنظيم العالم لسلوكنا، وكيفية تنظيمنا إياه؟
لا يعتبر السأم الذي نشعر به حيال الحكومة، الذي أشرت إليه في نهاية الفصل السابق، حالة بلا سبب يبررها. على أن سبب ذلك لا يرجع إلى موت أيٍّ من مُثُل الديمقراطية. فلا نزال ديمقراطيين. كل ما هناك هو أننا لا نحب ما أسفرت عنه ديمقراطيتنا. في الوقت نفسه، لا نستطيع تصوُّر أن نطبِّق ما لدينا على نطاقات جديدة مثل الفضاء الإلكتروني، فإذا كنا نعاني في هذا الفضاء من أمور على غرار التجاوزات وحالات عدم الوفاء بالوعود الحكومية، فمن الأفضل إذن أن توجد هذه الأمور بقدر أقل في النطاق الجديد.
هناك مشكلتان هنا، لكن إحداهما فقط ترتبط بالطرح الأساسي لهذا الكتاب؛ لذا سأتناول هذه المشكلة بمزيد من العمق. أشرتُ إلى المشكلة الأخرى في نهاية الفصل السابق؛ ألا وهي ظاهرة الفساد في أي نظام التي تسمح بوجود نفوذ سياسي يبتاعه أولئك الذين يمنحون المال. هذا هو فساد تمويل الحملات الانتخابية، لا فساد الأشخاص، بل فساد العملية. فحتى أفضل الأعضاء في الكونجرس لا يملكون خيارًا إلا قضاء المزيد والمزيد من وقتهم في جمع المزيد والمزيد من المال للمنافسة في الانتخابات. هذا صراع تسلُّح، وهو صراع ترى المحكمة الدستورية العليا أن الدستور يشترطه. وحتى يتم التوصل إلى حل لهذه المشكلة، لا أثق كثيرًا فيما ستتمخض عنه ديمقراطيتنا.
لكن هناك سببًا ثانيًّا غير منطقي يُرَد إليه هذا الفشل الديمقراطي. لا يتمثل هذا السبب في أن الحكومة لا تستمع كثيرًا إلى وجهات نظر العامة، بل في أنها تستمع إليها أكثر من اللازم. يتردد صدى كل فكرة عابرة للعامة في استطلاعات الرأي، وهي استطلاعات تستشعر نبض الديمقراطية. على الرغم من ذلك، لا تُعد الرسالة التي تنقلها استطلاعات الرأي هي رسالة الديمقراطية. لا يرجع السبب وراء تواتر وتأثير هذه الاستطلاعات إلى زيادة أهميتها؛ فالرئيس يصنع السياسة العامة بناءً على استطلاعات رأي متعجلة؛ فقط لأن الاستطلاعات المتعجلة سهلة في إجرائها.
هذه جزئيًّا مشكلة تكنولوجية. تشير استطلاعات الرأي إلى تفاعل بين التكنولوجيا والديمقراطية لا نزال في بدايات فهمنا له. ومع انخفاض تكلفة رصد آراء المواطنين، ومع بناء أجهزة للرصد الدائم للمواطنين، بتنا نُصدر سيلًا دائمًا من البيانات عما يعتقده «الناس» بشأن أي موضوع محل اهتمام حكومي.
يوفر نوع محدد من الكود آلية المراقبة الكاملة؛ كود يجعل عملية اختيار العينات آلية، ويوفر قواعد بيانات بالنتائج، ويبسِّط عملية الربط بين البيانات، لكننا نادرًا ما نسأل ما إذا كانت عملية المراقبة الكاملة أمرًا مفيدًا أم لا.
لم يكن المثل المتصوَّر — على الأقل من الناحية الدستورية — للديمقراطية أن تكون انعكاسًا تامًّا للنبض الحالي للناس. حرص واضعو الدستور على تصميم هياكل تعمل كوسيط لوجهات نظر الناس. نُظر إلى الديمقراطية على أنها أكثر من مجرد سلسلة من العبارات الحماسية. أريد للديمقراطية أن تكون تداولية، وعميقة، ومتوازنة من خلال القيود التي يفرضها الدستور.
لكن حتى أكون متوافقًا مع طرحي في الجزء الثالث، ربما يجب أن أقول إن ثمة لبسًا كامنًا فيما يتعلق بهذه المسألة. ففي عالم كانت فيه الانتخابات مكلفة، والاتصالات معقدة، كانت الديمقراطية تجد طريقها من خلال الانتخابات غير الدورية. في المقابل، لا نستطيع أن نعرف كيف كان سيكون رد فعل واضعي الدستور حيال تكنولوجيا تسمح بإجراء استطلاعات رأي كاملة ومستمرة.
هناك سبب مهم للشك في استشعار نبض الجماهير من خلال الاستطلاعات السريعة. تعتبر الاستطلاعات السريعة محل مساءلة، لا لأن المستطلَع آراؤهم لم يتلقوا تعليمًا، أو أنهم غير قادرين على إصدار أحكام صائبة، ولا لأن الديمقراطية فاشلة، ولكن لأنها تنتج عن الجهل. يمتلك الناس آراء مغلوطة أو شبه مغلوطة، لكنهم يكررون التعبير عن هذه الآراء كأحكام قاطعة رغم معرفتهم أن أحكامهم الخاصة لا تُلاحظ أو تؤخذ في الاعتبار.
تشجِّع التكنولوجيا على هذا. يتمثل أحد الآثار المترتبة على الزيادة الهائلة في الأخبار في تعرضنا لكمٍّ من المعلومات عن العالم أكثر بكثير من ذي قبل. يمنحنا هذا الاطلاع على الأخبار بدوره ثقة أكبر في حكمنا على الأمور. عندما لا يسمع أحد عن تيمور الشرقية، ربما تكون إجابة الناس عند سؤالهم عنها: «لا أعرف.» في المقابل، عندما يشاهد الناس أخبارًا عن تيمور الشرقية لمدة لا تزيد على عشر ثوانٍ على شاشة التليفزيون، أو يقرءون ما لا يزيد على ثلاثين سطرًا فقط على إحدى صفحات موقع إخباري، يحصلون على تفسير للأمور لم يسبق لهم أن خبروه من قبل. يكرر الناس هذا التفسير دون إضافة قيمة كبيرة إلى ما سمعوه.
لا يتمثل حل هذه المشكلة في سماع أخبار أقل أو حظر استطلاعات الرأي. يتمثل الحل في الاستعانة بنوع أفضل من استطلاعات الرأي. تستند الحكومة إلى بيانات استطلاعات رأي سيئة في اتخاذ قراراتها لأن هذه هي البيانات الوحيدة المتوافرة. في المقابل، لا تعتبر استطلاعات الرأي هذه الأنواع الوحيدة لاستطلاع الرأي؛ فهناك أساليب لاستطلاع الآراء تتغلب على أخطاء الاستطلاعات السريعة، ويصدر عنها أحكام تتميز بعمق وثبات أكثر.
تتمثل الميزة الكبرى في هذا النظام ليس فقط في توفير المعلومات إلى المُستطلع آراؤهم، بل في أن عملية الاستطلاع نفسها تداولية. تبرز النتائج تدريجيًّا من خلال نقاش المواطنين مع مواطنين آخرين. لا يتم تشجيع الناس على الإدلاء بأصواتهم فقط، بل على تفسير أسباب تصويتهم، وهي الأسباب التي قد تقنع الآخرين أو لا تقنعهم.
قد نتخيَّل (أو قد نحلم) بتطبيق هذه العملية عمومًا. قد نتخيَّلها أحد الثوابت الرئيسة في حياتنا السياسية، وربما أحد قواعد المواطنة. وإذا صارت كذلك، فسيكون هذا أمرًا طيبًا، وستصبح معادلًا للاستطلاعات السريعة والعملية السريعة التي تهتم بها الحكومة العادية. ستصبح الاستطلاعات التداولية بمنزلة إجراء تصحيحي للعملية التي لدينا في الوقت الحالي، إجراء يبعث على الأمل.
هناك سحر في عملية يؤخذ من خلالها العقل في الاعتبار، لا حيث يتسوَّد الخبراء أو لا يُصوِّت إلا الأذكياء فقط، بل حيث تُنحت السلطة نحتًا في وجه العقل. ينبع السحر من العملية التي يُقدِّم المواطنون من خلالها الأسباب، ويدركون أن السلطة تقيدها هذه الأسباب التي قدموها.
لم يكن توكفيل أو أي منظِّر آخر هو الذي أقنعني بهذا المَثَل، بل كان محاميًا جعلني أرى قوة هذه الفكرة، محاميًا من ماديسون، ويسكونسن. إنه عمي، ريتشارد كاتس.
نحن نعيش في عصر يحط فيه العقلاء من قدر المحامين. لا شك في أن المحامين مسئولون عن هذا جزئيًّا. لكن لا يمكنني قبول ذلك؛ ليس فقط لأنني أُدرِّب المحامين كجزء من عملي، بل بسبب صورة حُفرَت في ذاكرتي، صورة رسمها عمي حين عبَّر عن سبب كونه محاميًا. في عام ١٩٧٤، كان عمي عائدًا لتوِّه من واشنطن؛ حيث عمل في لجنة البرلمان الخاصة باتهام الرئيس — نيكسون، لا كلينتون — بسوء التصرف، وإن كانت هيلاري رودام قد عملت معه. حاولت الضغط عليه ليخبرني بكل شيء. أردتُ أن أعرف أكثر عن المعارك التي دارت. لم يكن هذا الموضوع من نوعية الموضوعات التي نناقشها كثيرًا في المنزل. كان أبواي جمهوريين ولم يكن عمي كذلك.
ما يفعله المحامي، ما يفعله المحامي الجيد، هو ما يجعل هذا النظام ينجح. لا يتمثل هذا في التضليل، أو الغضب العارم، أو الاستراتيجيات، أو التكتيكات. يتمثل ما يفعله المحامي الجيد في شيء بسيط. يتمثل ما يفعله المحامي الجيد في رواية قصة مقنعة، لا من خلال إخفاء الحقائق، أو إثارة المشاعر، بل من خلال استخدام العقل، عن طريق قصة، لإقناع الآخرين.
عندما ينجح الأمر، يقع شيء ما للناس الذين يمرون بتجربة الإقناع هذه. يرى البعض، للمرة الأولى في حياتهم، السلطة تحدها قوة العقل، لا من خلال الأصوات ولا الثروة، ولا مَن يعرف المرء، بل من خلال نقاش مقنع. هذا هو مكمن السحر في نظامنا، مهما كانت المعجزات نادرة.
ظلت هذه الصورة قائمة، لا في النسخة النخبوية للخبراء الذين يقررون ما هو أفضل، ولا في النسخة الشعبوية للجماهير المستثارة التي تصرخ في خصومها إلى حد الجنون، بل في النسخة البسيطة التي يدركها المحلفون. وهذه هي الصورة البسيطة التي يفتقر إليها نظامنا الديمقراطي الحالي؛ أن تَصدُرَ الأحكام حول طريقة المُضي قدمًا من خلال تداول الآراء، والفهم المشترك، وعملية بناء المجتمع.
نستطيع بناء بعض من ذلك مرة أخرى في نظامنا الديمقراطي، وكلما قمنا بذلك قلَّت أهمية استطلاعات الرأي السريعة، وكلما صارت هذه الاستطلاعات السريعة أقل أهمية؛ آمنا مرة أخرى بهذا الجزء من تقليدنا الدستوري الذي جعلنا ثوريين في عام ١٧٨٩؛ ألا وهو الالتزام بشكل الحكم الذي يحترم التداول والناس، والذي يقف ضد الفساد المتدثر في زينة أرستقراطية زائفة.