فضاءات إلكترونية
قلتُ آنفًا إننا نستطيع أن نميِّز بين الإنترنت والفضاء الإلكتروني. يجب إذن التحدث قليلًا عن هذا الفرق بغرض توضيح الشكل التنظيمي المميز الذي هو موضوع هذا الجزء. الإنترنت هو وسيط للتواصل. يقوم الناس بأشياء مختلفة «على» الإنترنت، معظمها بسيط، حتى لو كان مهمًّا. يدفع الأفراد الفواتير من خلال الإنترنت، ويقومون بالحجز في المطاعم من خلاله، ويطَّلعون على الأخبار على الإنترنت، كما يتبادلون الأخبار مع أفراد العائلة من خلال رسائل البريد الإلكتروني أو برامج المحادثة الفورية. تعتبر هذه الاستخدامات مهمة من حيث إنها تؤثر على الاقتصاد، وتجعل حياة من يستخدمون الإنترنت أكثر سهولة أو صعوبة، لكنها استخدامات غير مهمة من حيث إنها لا تغيِّر الطريقة التي يحيا بها الناس. من اللطيف أن تبتاع الكتب عن طريق ضغطة واحدة عبر موقع أمازون. وأنا شخصيًّا أشتري آلافًا مؤلفة (ربما حرفيًّا) من الكتب التي لم أكن لأبتاعها من خلال طرق مختلفة، لكن حياتي لم تتغير من خلال ضغطة واحدة (حتى لو تغير حسابي في المصرف). صار القيام بالأشياء أسهل وأكثر مباشرةً، لكن طبيعة الأشياء لم تتغير جوهريًّا.
في المقابل، لا يقتصر الأمر في الفضاء الإلكتروني على جعل الحياة أكثر سهولة، فالمسألة تتعلق بجعل الحياة مختلفة، أو ربما أفضل. يتعلق الأمر بخلق حياة مختلفة (أو ثانية) تُستحضر فيها أساليب للتفاعل لم تكن ممكنة قبلًا. ولا أعني بطبيعة الحال أن عملية التفاعل هي عملية جديدة، فدائمًا ما كان لدينا مجتمعات نحن معشر البشر، مجتمعات صدر عنها دومًا شيء يقترب في طبيعته مما يصدر عن الفضاء الإلكتروني، وهو ما سأتناوله لاحقًا. في المقابل، تخلق مجتمعات الفضاء الإلكتروني هذه اختلافًا في الدرجة تطوَّر إلى اختلاف في طبيعة هذه المجتمعات. ثمة شيء فريد في التفاعلات في هذه الفضاءات، وثمة شيء فريد للغاية في الطريقة التي تُنظَّم بها هذه المجتمعات.
تُنظَّم الحياة في الفضاء الإلكتروني بصورة أساسية من خلال كود الفضاء الإلكتروني؛ لكنه ليس تنظيمًا بالمعنى الذي أشرت إليه في الجزء الأول؛ فلا أعني أن الكود يجعل من السهولة بمكان التعرف على مَن فعل ماذا، بحيث يتم توقيع العقوبات على أولئك الذين تصرفوا بصورة مخالفة. إنما أعني تنظيمًا على غرار الكيفية التي تحد بها قضبان السجن من حركة السجناء، أو كالتي تحد بها السلالم من صعود ونزول أصحاب الاحتياجات الخاصة. يعتبر الكود أداة تنظيم في الفضاء الإلكتروني؛ لأنه يحدد الشروط التي يُقدَّم من خلالها الفضاء الإلكتروني. كما يدرك أولئك الذين يضعون هذه الشروط أن الكود هو أداة لتنفيذ سلوكيات تُفيدهم أكثر من غيرهم.
هكذا هو الأمر أيضًا مع الإنترنت؛ فالكود على الإنترنت هو أيضًا أداة تنظيم، ويعيش الناس الحياة على الإنترنت وفق ذلك التنظيم. تتمثل استراتيجيتي في هذا الفصل في البدء بتناول الجوانب الأكثر غموضًا والأقل شيوعًا كوسيلة لبناء الإدراك حول الأمور الأكثر شيوعًا. وبمجرد أن ترى تطبيق الأسلوب على عوالم من غير المحتمل أن تعيش فيها، ستتعرف على الأسلوب فورًا عند تطبيقه على العالم الذي تعيش فيه طوال الوقت.
•••
الفضاء الإلكتروني ليس مكانًا واحدًا، فهو أماكن متعددة، تختلف طبيعة كل منها اختلافًا جذريًّا. تتأتى هذه الاختلافات جزئيًّا من الأشخاص الذين يتواجدون في هذه الأماكن، لكن الطبيعة الديموجرافية لا تفسر كل شيء، بل ثمة شيء ما يجري خلاف ذلك.
هناك ردا فعل مختلفان إزاء العبارة السابقة، فبالنسبة لأولئك الذين يعيشون في «الفضاء الإلكتروني» منذ فترة، فهذا الحديث مألوف للغاية، فهؤلاء عاشوا في أنواع عديدة من «الشبكات» منذ البداية، ثم انتقلوا إلى الإنترنت من مجتمعات كانت أكثر انعزالًا، من عالم بي بي إس (خدمة لوحة الإعلانات)، أو وفق مايك جودوين (كاتب الفقرة السابقة)، من عنوان «راقٍ» مثل «وِل». بالنسبة إلى هؤلاء، تمثل الشبكة فضاء للحديث والتواصل والتبادل، باختصارٍ: مكان واعد بصورة غير معقولة لجعل الحياة في الفضاء الواقعي مختلفة.
تتناول الأقسام التالية أشكالًا مختلفة من الأماكن الإلكترونية، ويتمثل الهدف منها في بناء وعي حول طريقة التفكير في الفروق التي نلحظها، وهذا الوعي سيساعدنا بدوره في معرفة إلى أين يمضي الفضاء الإلكتروني.
(١) قيم الفضاء
تعني الخيارات أن الفضاءات التي تتشكل بصور مختلفة تسمح بسلوكيات متعددة أو تمنعها بطرق مختلفة. وهذه هي الفكرة الأولى التي سأُوضِّحها، وهذا مثال عليها.
في بداية عصر الإنترنت، كان التواصل يجري من خلال تبادل النصوص، فجميع الوسائط مثل مجموعات أخبار يوزنت، وإنترنت ريلاي تشات (بروتوكول المحادثة الفورية من خلال تبادل الرسائل النصية)، والبريد الإلكتروني، جميعها انحصر في تبادل النصوص، في كلمات على الشاشة يكتبها مستخدم (أو هكذا كنا نظن).
يرى كثيرون في هذه الحقيقة عن الشبكة في بدايتها قيدًا على حرية التواصل. فنيًّا، هي كذلك، لكن هذا القيد من الناحية الفنية لا يفسِّر الطبيعة القياسية للشبكة حينذاك كإطار عام حاكم يسمح بنوع محدد فقط من الحياة فيها. من هذا المنظور، قد تتمثل القيود في خواص محددة، وقد تسمح بممارسة سلوكيات محددة أو تمنع ممارسة سلوكيات أخرى. مكَّن هذا القيد بوجه خاص فئات من الناس لم تتمتع بالتمكين اللازم في حياة الفضاء الواقعي.
فكِّر في ثلاث فئات: الأكفَّاء، والصم، و«القِبَاح». يواجه هؤلاء الناس في الفضاء الواقعي مجموعة استثنائية من القيود التي تحد من قدرتهم على التواصل، فالضرير في الفضاء الواقعي تواجهه أطر عامة حاكمة تفترض فيه قدرته على الإبصار؛ حيث يتحمل تكلفة هائلة في تطويع معماريات الفضاء الواقعي، بحيث لا يصير هذا الافتراض بقدرته على الإبصار مُقصيًا تمامًا له. أما الأصم في الفضاء الواقعي فيواجه أطرًا عامة حاكمة تفترض فيه قدرته على السمع، وهو أيضًا يتحمل تكلفة هائلة في تطويع هذه المعماريات. وأما الشخص القبيح في العالم الواقعي (مثال على ذلك حانة أو نادٍ اجتماعي)، فيواجه أطرًا عامة حاكمة للأعراف الاجتماعية تجعل مظهره عائقًا في تحقيق نوع من الحميمية في العلاقات، وهو يتحمل معاناة هائلة في مواجهة هذه المعماريات.
في الفضاء الواقعي تواجه هذه الفئات الثلاث أطرًا عامة حاكمة تعيقهم مقارنةً «ببقيتنا»، لكن في الفضاء الإلكتروني في ظهوره الأول لم يكن الأمر كذلك.
يستطيع الأكفاء أن يستخدموا برامج كلامية تقرأ نصًّا (يمكن قراءته من خلال ماكينة)، كما يمكنهم الرد عن طريق الكتابة على لوحات مفاتيح؛ حيث لا يستطيع الآخرون على الشبكة تحديد ما إذا كان الشخص الذي يكتب هو شخصًا ضريرًا إلَّا إذا أقر هو بذلك، وهكذا تساوى الأعمى مع المبصر.
ينطبق الأمر نفسه مع الصُّم. في المرحلة المبكرة من الإنترنت لم تكن هناك حاجة لسماع أي شيء. للمرة الأولى استطاع العديد من الصم تبادل الأحاديث أو الأخبار؛ حيث لم يكن العنصر الأبرز في كل ذلك هو صَمَم المستخدم. مرة أخرى، تساوى الصُّم مع السامعين.
وينطبق الأمر نفسه مع «القِباح»؛ فنظرًا لأن المظهر لا ينتقل عبر كل محادثة، تمكَّن الأشخاص القِباح من تبادل محادثات حميمة مع الآخرين لا يحددها تلقائيًّا مظهر المتحدثين؛ حيث يستطيع الأشخاص القِباح المغازلة أو اللعب، أو أن يكونوا مثيرين دون أن تكون أجسادهم (بالمعنى الحرفي للغاية للفظة) عائقًا. جعلت هذه النسخة الأولى من الشبكة هؤلاء الناس متساوين مع «الحِسان». في غرفة محادثة افتراضية، لا يوجد أي اعتبار للعيون الآسرة، أو البسمة الساحرة، أو عضلات ذراع جذابة، بل كل الاعتبار للفطنة، والقدرة على اجتذاب الآخرين، والبلاغة في التعبير.
منح هذا المعمار للفضاء الإلكتروني الأصلي هذه المجموعات شيئًا لا يجدونه في الفضاء الواقعي. بصورة عامة، غيَّر المعمار من مزيج الفوائد والمتاعب التي واجهها الناس؛ حيث تم تمكين الأكثر قدرة على التعبير، فيما لم يعد للأشخاص الجذَّابين أهمية تذكر في الفضاء الإلكتروني مقارنةً بالفضاء الواقعي، وهكذا ولَّدت المعماريات أدوات التمكين والتثبيط هذه.
أنت لا تعرف معنى أن أكون ما أنا عليه؛ لقد عشتُ طوال حياتي في عالم لا تؤخذ كلماتي فيه بمعناها؛ حيث لا يتم الإنصات إلى ما أقوله كما هو. لم يتوافر لدي قط فضاء قبل هذا الفضاء؛ بحيث تعني كلماتي ما أقوله حقًّا. دائمًا أبدًا قبل ذلك كانت عباراتي يُشار إليها على أنها صادرة عن «هذه المرأة الساحرة» أو «الزوجة» أو «الأم». لم أستطع قط أن أتحدث لأُعبِّر عن نفسي، لكن هنا أستطيع أن أتحدث كما أنا.
(٢) الأماكن الإلكترونية
يمكن البناء على هذه النقطة من خلال النظر إلى عدد من «المجتمعات» التي يختلف كل منها عن الآخر في التكوين، والتي يؤلِّف كلٌّ منها أشكالًا مختلفة للحياة، ومن خلال النظر في أسباب هذه الاختلافات.
(٢-١) أمريكا أون لاين
لا أرمي هنا إلى انتقاد قواعد «الإتيكيت» هذه. تضع أمريكا أون لاين أيضًا قواعد أخرى تنظِّم سلوك أعضاء أمريكا أون لاين، قواعد لا يتم النص عليها في عقود، بل من خلال المعمار نفسه للفضاء. تعتبر هذه القواعد هي الجزء الأكثر أهمية قي دستور أمريكا أون لاين، لكنه ربما يكون آخر جزء يُنظر إليه عندما نفكِّر في الأدوات التي تنظِّم السلوك في هذا المكان الإلكتروني.
خذ هذه الأمثلة:
وهكذا في أمريكا أون لاين يُمنح المستخدمون سلطة هائلة للجهالة شبه الكاملة لا يمنحها «كاتبو الشفرات» في الفضاء الواقعي. بطبيعة الحال، قد تحاول أن تعيش في الفضاء الواقعي الحيوات المتعددة نفسها، وإلى الحد الذي تكون فيه هذه الحيوات غير متوافقة أو غير متجانسة، تستطيع في واقع الأمر النجاح في ذلك كثيرًا. على سبيل المثال، ربما تكون أحد مشجعي فريق كَبس خلال فصل الصيف، وأن تكون من محبي الأوبرا في فصل الشتاء. في المقابل، إذا لم تتخذ خطوات استثنائية لإخفاء هويتك الحقيقية، يمكن دومًا الربط بين أي هوية تتخفى من خلالها وبين هويتك الحقيقية؛ فلا يمكنك ببساطة إظهار شخصية مختلفة عن شخصيتك الحقيقية، بل لا بد من أن تصنعها من الصفر، والأهم من ذلك (والأكثر صعوبة) أن عليك الاستمرار في الفصل بين شخصيتك المختلَقة وهويتك الأصلية.
هذا هو الملمح الأول من دستور أمريكا أون لاين، وهو ملمح تشكله شفرتها. أما الملمح الثاني فيتعلق بالتعبير، بما تقوله وأين.
هذا ملمح آخر لدستور فضاء أمريكا أون لاين، وهو ملمح يحدده الكود المنظِّم أيضًا. إن الاقتصار على تواجد ثلاثة وعشرين مستخدمًا فقط في غرفة محادثة واحدة في وقت واحد هو اختيار اتخذه مهندسو الكود، وبينما تختلف أسباب وجودهم؛ فإن الأثر المترتب على وجودهم واضح للعيان، فلا يستطيع أحد أن يفكر في دفع أعضاء أمريكا أون لاين للقيام بفعل جماعي علني، مثل نقد سياسة التسعير الأخيرة. هناك أماكن يمكن الذهاب إليها للشكوى، لكن عليك تحمل مشقة الذهاب إلى هناك بنفسك؛ فلا يوجد مكان يستطيع فيه الأعضاء التعبير عن شكواهم معًا.
يوجد ملمح ثالث في دستور أمريكا أون لاين مصدره الكود المنظم لها؛ ألا وهو القابلية للتتبع. بينما يوجد الأعضاء في حدود فضاء محتوى أمريكا أون لاين الحصري (بعبارة أخرى، عندما لا يستخدمون أمريكا أون لاين كبوابة للاتصال بالإنترنت)، فإن أمريكا أون لاين تستطيع (وهي لا شك تفعل ذلك) أن تتتبَّع أنشطة المستخدمين وتجمع معلومات عنهم؛ مثل: أي ملفات يقومون بتحميلها، وأي مناطق يرتادونها، ومن هم «أصدقاؤك المقربون»؟ باختصار، كل ما هو متاح في نظام أمريكا أون لاين. هذه معلومات قيِّمة للغاية؛ فهي تساعد أمريكا أون لاين على هيكلة فضائها بحيث يتلاءم مع طلب المستخدمين. ولا شك في أن القدرة على جمع هذه البيانات يتطلب قرارًا بشأن تصميمها، وهو قرار كان جزءًا أيضًا من الدستور الذي يحدد هوية أمريكا أون لاين، مرة أخرى، جزء يشكله الكود المنظم لها. وهو قرار يمنح البعض سلطة المراقبة دون أن يمنحها لغيرهم.
لا تعتبر أمريكا أون لاين استثنائية في هذه القدرة التمكينية؛ فهي تشارك الآخرين السلطة. من الملامح الرائعة للفضاء الإلكتروني شيء يطلق عليه «قائمة الأصدقاء المقربين.» أَضف أحد المستخدمين إلى قائمتك للأصدقاء المقربين، وعندما يتصل بالإنترنت تسمع صوت صرير باب، ويتم إخطارك بوجود صديقك. (هذا «الصديق المقرَّب» لا يحتاج لمعرفة أنه تجري مشاهدته، وإن عرف هذا فبمقدوره أن يحجب مشاهدته.) إذا ذهب هذا الشخص إلى إحدى غرف المحادثة وحاولت «العثور» عليه، فسيتم إخبارك في أي غرفة هو. قد تؤدي هذه السلطة، إذا تم منحها إلى مستخدمين عاديين، إلى تداعيات معقدة. (تخيَّل نفسك جالسًا في العمل وكانت خاصية إظهار الأصدقاء المقربين تعمل، تشاهد زوجتك تتصل بالإنترنت، وتنضم إلى إحدى غرف المحادثة، ثم … أنت تعرف ما أرمي إليه.) بُنيت هذه القدرة على المتابعة في الفضاء الإلكتروني؛ حيث يستطيع المستخدمون حجب هذه القدرة على الأقل بالنسبة لمراقب واحد، لكن هذا في حال معرفتهم بهذه الخاصية ورغبتهم في تغييرها.
خذ ملمحًا أخيرًا من ملامح دستور أمريكا أون لاين، وهو ملمح يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالملمح الأخير؛ ألا وهو التجارة؛ فأنت تستطيع شراء أشياء في أمريكا أون لاين، تستطيع شراء أشياء وتحميلها، أو شراء أشياء وطلب إرسالها إلى منزلك. عندما تشترى شيئًا، تقوم بذلك من خلال اسم شاشة؛ حيث تعلم أمريكا أون لاين (حتى إن لم يعرف أحد آخر) مَن تكون، فهي تعرف مَن تكون، وأين تقطن في الفضاء الواقعي، بل والأهم من ذلك، تعرف أمريكا أون لاين رقم بطاقتك الائتمانية وعناصر الأمن المرتبطة بها.
تعرف أمريكا أون لاين من أنت، وهو أحد ملامح تصميمها. فجميع سلوكيات الأفراد تجري مراقبتها وتقصِّي مسارها وصولًا إلى الأفراد كمستخدمين. تَعِد أمريكا أون لاين بألا تجمع بيانات عنك بصورة فردية، وإن كانت تأكيدًا تجمع بيانات عنك كجزء من مجموع. وهكذا تصبح أمريكا أون لاين — من خلال هذا المجموع ومن خلال الربط الذي تحققه بينك كجزء من المجموع وبينك كمستخدم — فضاءً يبيع إليك الأشياء بصورة أفضل وأكثر فعالية.
هذه الملامح الأربعة تميِّز فضاء أمريكا أون لاين كفضاء مختلف عن الأماكن الأخرى في الفضاء الإلكتروني. يصبح من الأسهل بالنسبة إلى أمريكا أون لاين أن تحدد مَن تكون، وأصعب بالنسبة إلى المستخدمين أن يعرفوا مَن أنت؛ يصبح من الأسهل بالنسبة إلى أمريكا أون لاين أن تخاطب جميع «مواطنيها» كما يحلو لها، ومن الأصعب بالنسبة للمنشقين أن ينظموا أنفسهم ضد رؤى أمريكا أون لاين حول كيف يجب أن تكون الأشياء، كما يصبح من الأسهل بالنسبة إلى أمريكا أون لاين أن تسوِّق الأشياء للمستخدمين، ومن الأصعب بالنسبة إلى المستخدمين أن يختبئوا. أمريكا أون لاين عالم مختلف يقوم على الأعراف؛ حيث تخلق أمريكا أون لاين هذا العالم لأنها تسيطر على معمار هذا العالم. يواجه الأعضاء في هذا العالم — بمعنًى من المعاني — مجموعة مختلفة من قوانين الطبيعة؛ قوانين تضعها أمريكا أون لاين.
مرة أخرى، لا أرمي إلى نقد طريقة إنشاء هذا العالم أو أقول إنه عالم غير مناسب. لا شك أن أمريكا أون لاين تعطي أعضاءها وعودًا تهدف إلى تخفيف حدة قلق الأعضاء حيال أدوات السيطرة، ولا شك أنه إذا تحوَّلت أمريكا أون لاين إلى مكان تُكبح فيه الحريات؛ فإن في السوق متسعًا لبدائل أخرى.
إن غاية ما أهدف إليه هو أن أبيِّن ما يجعل أمريكا أون لاين ما هي عليه؛ فالأمر لا يتعلق بقواعد مكتوبة فقط، ولا هي أعراف مستقرة، ولا هي أيضًا مسألة عرض وطلب يتعلق بجمهور مستهلك واعٍ. إن ما يجعل أمريكا أون لاين ما هي عليه يرجع في جزء كبير منه إلى بنية الفضاء نفسه. تدخل إلى أمريكا أون لاين فتجدها عالمًا محدد المعالم. يحدد معالم هذا العالم الكود المنظِّم له. تستطيع مقاومة هذا الكود؛ إذ يمكنك مقاومة الطريقة التي تتعامل معها بها مثلما تقاوم البرد عن طريق ارتداء رداء ثقيل، لكنك لن تستطيع تغييره؛ فأنت لا تملك سلطة تغيير كود أمريكا أون لاين، كما لا يوجد مكان تستطيع فيه حشد أعضاء أمريكا أون لاين لإجبارها على تغيير الكود. أنت تعيش حياتك في أمريكا أون لاين وأنت خاضع لشروطها، فإذا لم تَرُقْ لك الشروط، فَجِدْ لنفسك مكانًا آخر.
هناك تداعيات مهمة لهذه الملامح الخاصة بفضاء أمريكا أون لاين تتعلق بطريقة تنظيم فضاء أمريكا أون لاين. تخيَّل أن هناك مشكلة تعاني منها أمريكا أون لاين، وأنها تريد لهذه المشكلة أن تنتهي؛ فالشركة تريد أن تمنع أو على الأقل تسيطر على سلوك محدد. ما هي إذن الأدوات الموجودة في جعبة أمريكا أون لاين؟
أولًا، تمتلك أمريكا أون لاين جميع الأدوات التي يمتلكها أي نادٍ أو أخوية أو «مجتمع»، فهي تعلن عن قواعد لأعضائها (وهو ما تقوم به أمريكا أون لاين فعلًا)، أو أن تحاول أن تصم هذا السلوك بمثالب اجتماعية مستخدمةً في ذلك أعراف المجتمع بغرض تنظيم السلوك. وهو ما تقوم به أمريكا أون لاين فعلًا. في المقابل، إذا كان مصدر المشكلة هو الإفراط في استخدام مورد بعينه، يقوم مديرو أمريكا أون لاين بوضع سعر مختلف لهذا المورد عن طريق فرض ضريبة للتقليل من استخدامه، أو وضع سعر مختلف لأولئك الذين يفرطون في استخدامه.
تمتلك أمريكا أون لاين ما هو أكثر من هذه الأدوات. إذا لم ترغب أمريكا أون لاين في سلوك محدد، تقوم على الأقل في بعض الحالات بتنظيم هذا السلوك من خلال تغيير معماره. فإذا أرادت أمريكا أون لاين السيطرة على اللغة غير المحتشمة، تستطيع كتابة برامج تتبع استخدام اللغة. وإذا كان هناك اختلاط غير مرغوب فيه بين الراشدين والأطفال، تستطيع أمريكا أون لاين تتبع مَن يتحدث إلى مَن. وإذا كان هناك فيروس يرجع السبب فيه إلى تحميل المستخدمين ملفات مصابة به، تقوم أمريكا أون لاين بتشغيل الملفات تلقائيًّا من خلال برامج فحص الفيروسات. وإذا كان هناك نوع من سلوكيات التلصص أو الإيذاء أو التهديد، تقوم أمريكا أون لاين بمنع الاتصال بين أي مستخدمَين.
باختصار، تستطيع أمريكا أون لاين التعامل مع أي نوع من المشكلات من خلال تغيير الكود المنظِّم. ونظرًا لأن العالم الذي يعرفه أعضاء أمريكا أون لاين (أثناء تواجدهم فيها) يتشكل من خلال هذا الكود، تستطيع أمريكا أون لاين استخدام الكود في تنظيم سلوك أعضائها.
فكِّر قليلًا في السلطة التي أصفها. ومرة أخرى، لا أشكو أو أنتقد أو أُسائل هذه السلطة؛ حيث أكتفي بوصفها فقط. فيما تتحرك في هذا الفضاء الذي تحدد معالمه أمريكا أون لاين — مثل الانضمام إلى إحدى غرف المحادثة، أو كتابة رسالة في لوحة الإعلانات، أو الانضمام إلى أحد فضاءات المناقشة، أو إرسال رسائل فورية إلى شخص آخر، أو مشاهدة أو متابعة أشخاص آخرين، أو تحميل أو تنزيل ملفات من مواقع، أو الانتقال إلى قنوات محددة وقراءة مقالات محددة، أو تصفُّح فضاء معين في نَهَمٍ باحثًا عن صور لممثل أو ممثلة معينة — فيما تقوم بأي من هذه الأشياء، توجد أمريكا أون لاين في كل مكان. يبدو الأمر كأن النظام يمنحك حُلة فضاء تستخدمها في الملاحة في هذا الفضاء، لكنه يقوم في الوقت نفسه بمتابعة كل تحركاتك.
من حيث المبدأ، تعتبر إمكانية السيطرة هائلة. تخيَّل محاولة أمريكا أون لاين الحد من سرعة الاستجابة في خدمة معينة ترغب في إثناء المستخدمين عن استخدامها، أو توجيه المستخدم إلى إعلانات ترغب في رؤيته لها، أو تحديد أنماط السلوك التي ستراقبها أدواتها، وذلك بناءً على شعور الخوف من أن أشخاصًا يسلكون سلوكًا من نوع «س» يمثلون خطرًا على أشخاص من نوع «ص». لا أظن أن أمريكا أون لاين تنخرط في أنشطة كهذه، ولا أقول إن ثمة خطأً إن قامت هي بأي من ذلك، لكن من الأهمية بمكان، الإشارة إلى أن إمكانات السيطرة في هذا «المجتمع» غير محدودة، لا من حيث إن أمريكا أون لاين ستجعل الحياة أكثر بؤسًا (حيث سيتركها الناس حينئذ)، لكن بمعنى أنها تمتلك أداة تنظيمية لا يمتلكها الآخرون سواء في الفضاء الواقعي أو الفضاءات الإلكترونية الأخرى. بطبيعة الحال تحدُّ قوى السوق من سلطة أمريكا أون لاين، لكن أمريكا أون لاين تمتلك أداة للسيطرة لا يمتلكها الآخرون في السوق خارج الفضاء الإلكتروني.
من حيث المبدأ، إذن، يجب على أمريكا أون لاين أن تختار. وفي كل مرة تقرر فيها أمريكا أون لاين أنها تريد أن تنظِّم أحد أنواع السلوك، يجب أن تختار بين أربعة أنماط: القواعد، أو الأعراف الاجتماعية، أو الأسعار، أو المعمار. وعند اختيار أحد هذه الأنماط الأربعة، يصبح اختيار المعمار كمنظِّم للسلوك هو الاختيار الأكثر منطقية.
(٢-٢) شبكة المشورة القانونية
بدأ ديفيد جونسون شبكة المشورة القانونية في عام ١٩٩٢ كملتقًى تعاوني للمحامين على الإنترنت. كانت فكرته بسيطة تتمثل في اتصال الأعضاء بعضهم ببعض، وتيسير تبادل المناقشات بينهم، ومن خلال هذا الاتصال وهذه المحادثات تنبني قيمة هذا الفضاء؛ حيث يتبادل المحامون القضايا بينهم، ويدلون بدلوهم عند إطلاعهم على فِكَر الآخرين في هذا الفضاء، وهكذا ينشأ نوع جديد من ممارسة مهنة المحاماة، ممارسة تكون أقل انعزالية، وأقل اقتصارًا على ممارسيها، وأكثر انتشارًا وشعبية.
كانت المناقشات مقسَّمة إلى موضوعات قانونية مختلفة، وكان كل موضوع مقسَّم إلى مجموعات نقاشية؛ حيث يقود كل مجموعة قائد مناقشة. لم يكن قائد المجموعة رقيبًا على المناقشات، فهو لم يمتلك سلطة محو أي من التعليقات. كان دور قائد المجموعة ينحصر في إلهام المتناقشين وحثهم على التحدث، عن طريق تشجيعهم أو استثارة قرائحهم.
في ذروة هذه الشبكة، كان يوجد ما يقترب من ٩٠ مجموعة فيها. كان بوسع أي عضو محو أحد تعليقاته، لكنه إن لم يمحها تبقَ؛ أولًا ضمن قائمة موضوعات المناقشات، ثم في أرشيف خاص يمكن لأي عضو أن يبحث فيه عن المحتويات القديمة.
كان الأعضاء يدفعون رسومًا نظير انضمامهم؛ فيحصلون على حساب باسمهم الحقيقي. كانت جميع التعليقات تحمل أسماء الأعضاء الحقيقية، وإذا أراد أحد أن يعرف هوية أحد الأعضاء؛ فما عليه سوى البحث في دليل الأعضاء. يجب أن يكون أعضاء شبكة المشورة القانونية أعضاء في نقابة المحامين، إلا إذا كان هؤلاء الأعضاء من الصحفيين. أما الآخرون فلا يحق لهم الاتصال بالشبكة، فالمجتمع هنا مجتمع حصريٌّ.
تشبه التعليقات في هذا الفضاء كثيرًا التعليقات في مجموعات أخبار يوزنت؛ حيث يستطيع أي عضو بدء موضوع جديد، بحيث تتوالى ردود المستخدمين الآخرين في نهاية موضوعه. ونظرًا لأن الرسائل لا تُمحى من النظام، يستطيع أي مستخدم قراءة بداية أي موضوع إلى نهاية التعليقات عليه. كان يتم حفظ المحادثات بكاملها لا جزء صغير منها فقط.
بطبيعة الحال كانت جميع سمات فضاء شبكة المشورة القانونية مقصودة؛ حيث اختار مصمموها السماح ببعض الوظائف ومنع وظائف أخرى. نعدِّد فيما يلي بعض الآثار المترتبة على هذه الاختيارات:
أولًا: هناك الأثر المترتب على ضرورة استخدام الاسم الحقيقي. في هذه الحالة، تفكِّر مليًّا قبل الحديث، وتحرص على أن يكون ما تقوله صحيحًا قبل التلفظ بشيء على نحو حاسم. يقيِّد المجتمع ما تقول، فهو مجتمع يحكم على ما تقوله. وفي هذا المجتمع لا تستطيع الفكاك من الربط بينك وبين ما تقول. كانت المسئولية هي أحد الآثار المترتبة على معمار هذا الفضاء، لكن كان ثمة قدر من الإحجام أيضًا. فهل يستطيع شريك رئيس في مكتب محاماة رائد أن يسأل سؤالًا يكشف عن جهله بأحد مجالات القانون؟ لا يمكن تغيير الأسماء لحماية الجاهلين؛ لذا يلتزم هؤلاء الصمت.
ثانيًا: هناك أثر مترتب على فرض إجراء جميع المناقشات من خلال موضوعات يتوالى فيها طرح المشاركات. كانت جميع التعليقات مجمعة معًا؛ حيث تبدأ جميعها بسؤال ثم تنطلق المناقشة بناءً على السؤال. إذا أردت أن تشارك في النقاش؛ فعليك أولًا قراءة التعليقات الأخرى قبل المشاركة. بطبيعة الحال لم يكن ذلك شرطًا فنيًّا؛ حيث تستطيع المشاركة مباشرة دون قراءة أي شيء. لكن في المقابل، إذا لم تقرأ جميع التعليقات، فسينتهي بك المطاف بتكرار ما قاله الآخرون، وهو ما سيدل على أنك تتكلم دون أن تنصت. مرة أخرى، يربط استخدام الأسماء الحقيقية للأعضاء بين سلوكهم وأعراف المجتمع.
ثالثًا: هناك أثر مترتب يتمثل في السمعة؛ حيث تعتمد السمعة التي تبنيها في هذا الفضاء على نوع المشورة التي تُقدِّمها. إن سمعتك تتشكل من خلال تعليقاتك، كما تتأثر سمعتك لا شك بالتعليقات التالية لك. يتم حفظ هذه التعليقات وتصبح قابلة للبحث عنها، فإذا قلت شيئًا عن الموضوع كذا، ثم قلت عكسه في تعليق لاحق؛ فإنك لا محالة مطالب بتقديم تفسير حول هذا التعارض.
رابعًا: هناك الأثر المترتب على ربط السمعة باسم حقيقي في المجتمع الواقعي للمحامين المحترفين؛ حيث يؤثر سوء السلوك في الفضاء الإلكتروني على المستخدم في الفضاءات الأخرى. من هنا حققت شبكة المشورة القانونية الفائدة من وراء هذا المجتمع الإلكتروني؛ حيث نجحت في فرض أعراف مجتمع محدد. هذه الأعراف ربما دعمت سلوكًا مجتمعيًّا بنَّاءً بقدر ما، سلوكًا أكثر فائدة ربما من سلوك مجموعة يختلف أعضاؤها فيما بينهم جذريًّا. وهي أعراف تدعم معاقبة مَن ينحرفون عن السلوك الواجب. وهكذا استفادت شبكة المشورة القانونية من توقيع عقوبات مجتمعية من أجل السيطرة على السلوك غير المنضبط، فيما تعتمد أمريكا أون لاين على الاشتراطات الحاكمة لمحتواها؛ لضمان عدم انحراف المستخدمين عن الموضوع.
يمكن وصف عالم شبكة المشورة القانونية الذي تشكِّله هذه السمات بطريقتين مختلفتين، تمامًا مثلما يمكن وصف العالم الذي تمثله أمريكا أون لاين بطريقتين مختلفتين؛ إحدى هاتين الطريقتين تتمثل في الحياة التي جعلتها سمات شبكة المشورة القانونية ممكنة، وهي حياة تتسم بثراء الحوار والصلات، لكنها حياة مُراقَبة وتترتب عليها تداعيات. أما الطريقة الأخرى، فتتمثل في القابلية للتنظيم من خلال إدارة الحياة التي تجري في فضاء شبكة المشورة القانونية، وهنا يمكن أن نرى فرقًا جوهريًّا بين هذا الفضاء وأمريكا أون لاين.
كان بمقدور شبكة المشورة القانونية الاستعانة بأعراف أحد المجتمعات بغرض التنظيم بصورة أكثر فاعلية مما هو الحال في أمريكا أون لاين. استطاعت شبكة المشورة القانونية الاستفادة من أعراف المجتمع القانوني؛ حيث كانت تعلم أن هذا المجتمع سيقوم بمعاقبة أي سلوك غير منضبط. بطبيعة الحال، كان هناك «سلوك» أقل في هذا الفضاء مما هو في أمريكا أون لاين (حيث تقوم بأشياء قليلة في هذا الفضاء)، لكن في حالته تلك، كان ينظِّم السلوك في شبكة المشورة القانونية، بصورة كبيرة، سمعة الأعضاء، وتداعيات استخدام أسمائهم الحقيقية.
أثَّرت هذه الفروق معًا في قدرة شبكة المشورة القانونية على تنظيم سلوك أعضائها؛ حيث فتحت هذه الفروق الباب أمام نوع من التنظيم من خلال أنماط السيطرة لا من خلال كود منظِّم. جعلت هذه الفروق السلوك في شبكة المشورة القانونية أكثر قابلية للتنظيم، من خلال الأعراف، من السلوك في أمريكا أون لاين. وربما كانت شبكة المشورة القانونية تمتلك أدوات سيطرة أقل مما لدى أمريكا أون لاين (حيث تقتصر أعراف السيطرة على أعراف المجتمع القانوني)، لكنها في المقابل تتحمل عبئًا أقل في تنظيم سلوك أعضائها. تعتبر أدوات مثل: تقليص عدد الأعضاء، وجعل سلوك الأعضاء سلوكًا علنيًّا، وربط سلوكهم بأسمائهم أدوات للتنظيم الذاتي في هذا الفضاء الإلكتروني.
في المقابل، تشبه شبكة المشورة القانونية أمريكا أون لاين في جانب مهم، فكلتاهما غير ديمقراطيتين؛ حيث تسيطر الإدارة في كلتا الحالتين على ما يجري في فضائها. مرة أخرى، هي سيطرة في حدود؛ حيث تعتبر قوى السوق عاملًا مهمًّا؛ ففي كلا الفضاءين لا يمتلك «الناس» السلطة اللازمة للسيطرة على ما يجري في الفضاء. ربما يمتلكون هذه السلطة بصورة غير مباشرة في شبكة المشورة القانونية أكثر مما في أمريكا أون لاين؛ حيث تنظِّم أعراف الناس في شبكة المشورة القانونية سلوكَ المستخدمين، لكنها أعراف لا يمكن استخدامها ضد شبكة المشورة القانونية مباشرة. ربما تتأثر قرارات المديرين في شبكة المشورة القانونية وأمريكا أون لاين بقوى السوق؛ حيث يوجد مستخدمون، ويسرق المنافسون العملاء، لكن عملية التصويت لا تحدد وجهة أمريكا أون لاين مثلما لم تحدد وجهة شبكة المشورة القانونية.
وهو ما لا ينطبق على المكان الإلكتروني التالي، أو على الأقل ليس بعد.
(٢-٣) لامدا إم أو أو
لامدا إم أو أو هو فضاء افتراضي يقوم على التواصل من خلال تبادل النصوص؛ حيث يقوم المستخدمون عبر العالم (يقترب عددهم الآن من ستة آلاف مستخدم) بالاتصال بهذا الفضاء، والتواصل بالطرق التي يسمح بها. يصبح الفضاء نتاج هذا التفاعل؛ حيث يستطيع المستخدمون المشاركة في بناء هذا الفضاء ربما لأكثر من ثماني ساعات أسبوعيًّا. بالنسبة إلى البعض، يعتبر التفاعل في هذا الفضاء هو أكثر التفاعلات الإنسانية تواصلًا في حياتهم بأسرها؛ وبالنسبة لمعظم المستخدمين، فإن التفاعل في هذا الفضاء لا يشبه أي شيء آخر يعرفونه.
على وجه العموم، يتحدث الناس في هذا الفضاء، لكنه ليس مثل حديثهم في إحدى غرف المحادثة في أمريكا أون لاين؛ حيث يصب الحديث في فضاء إم يو دي (أي فضاء إم أو أو) في مصلحة البناء؛ بناء شخصية وبناء مجتمع. يتفاعل المستخدمون جزئيًّا من خلال تبادل الأحاديث، وهذا الحديث مرتبط باسْم، وهذا الاسم — وما يرتبط به من ذكريات — يعيش في الفضاء، وبمرور الوقت يتعرف المستخدمون على الشخص من خلال ما تستحضره هذه الذكريات.
كان لدى بَنجل قوة من نوع خاص؛ حيث استطاع اكتساب مكانة خاصة في مجتمع لامدا إم أو أو من خلال قوة «سحرية دينية سوداء»، يستطيع من خلالها الاستيلاء على أصوات وأفعال الشخصيات الأخرى، ويجعلها تبدو كما لو كانت تقوم بأشياء لا تقوم بها في واقع الأمر. قام بَنجل بذلك في تلك الليلة مع مجموعة من النساء وشخص واحد على الأقل ملتبس النوع. قام بَنجل باستحضار قوته في هذا الفضاء العام، ثم قام بالاستيلاء على أصوات هؤلاء الناس. بمجرد وقوعهم تحت سيطرته، قام بَنجل «باغتصاب» هؤلاء النساء في عنف وسادية، وجعل الأمر يبدو كأنهن يستمتعْنَ باغتصابهن.
لفظة اغتصاب لفظة من الصعب استخدامها في أي سياق، خاصة هنا. سيعترض البعض بأنه مهما كان ما حدث في هذا الفضاء الإلكتروني فلا علاقة له بالاغتصاب، لكن في المقابل، حتى لو لم يكن «ذلك» «اغتصابًا» فسيرى الجميع علاقة بين الاغتصاب وبين ما جرى لأولئك النساء في هذا الفضاء. استخدم بَنجل قواه السحرية ضد هؤلاء النساء لتحقيق رغباته الجنسية (ضد رغباتهن)؛ حيث قام بطبع العنف ضدهن بطابع جنسي، وحرمهن من حق التعبير عن اعتراضهن.
وسواء يعتبر ما حدث هنا اغتصابًا أو لا؛ فإن ذلك ليس مما يهمنا في هذا المقام، فما يهم حقًّا هو كيف استجاب المجتمع. شعر المجتمع بالغضب العارم إزاء ما قام به بَنجل، ورأى كثيرون ضرورة القيام بشيء كرد فعل على ذلك.
اجتمع أعضاء مجتمع لامدا إم أو أو في غرفة افتراضية في وقت محدد لمناقشة ما هم بصدد فعله. حضر ما يقرب من ثلاثين مستخدمًا، وهو أكبر اجتماع عرفه المجتمع. رأى البعض ضرورة طرد بَنجل، أو «أن يتم التخلص منه»، وفق التعبير المستخدم؛ أي قتله لخدمة غايات مجتمع إم أو أو، ورأى آخرون أنه لا يمكن القيام بأي شيء. كان بَنجل بكل تأكيد شخصًا غريب الأطوار، وكانت الطريقة المثلى للتعامل مع غريبي الأطوار هي تجاهلهم. أما البعض الآخر فقام باستدعاء سحرة النظام — المبتكرون، الآلهة — للتدخل من أجل التعامل مع هذه الشخصية. رفض السحرة؛ حيث تقتصر وظيفتهم، كما جاء في ردهم، على خلق العالم. أما الأعضاء فعليهم تعلُّم كيفية العيش فيه.
ظهر في النهاية رأيان على طرفي نقيض: رأى جانب ضرورة القصاص الذاتي، فبَنجل شخص سيئ السلوك، ويجب القيام بأي شيء للتعامل معه، لكن ما لا يجب القيام به، وفق هؤلاء، هو أن يستجيب مجتمع لامدا إم أو أو عن طريق خلق عالم يسيطر عليه التنظيم. لا يحتاج مجتمع لامدا إم أو أو إلى الدولة، فكل ما يحتاج إليه هو مجموعة من المقتصين الطيبين، هو يحتاج إلى أناس ينفذون رغبة المجتمع دون تدخل دائم من قوة مركزية اسمها الدولة. يجب طرد أو قتل أو «التخلص من» بَنجل، وعلى أحدهم القيام بذلك، لكن هذا في حال رفض المجموعة الدعوة لتنظيم أنفسها بحيث تتحول إلى دولة.
أما الجانب الآخر، فكان يدعو إلى فكرة أخرى؛ ألا وهي الديمقراطية. عن طريق الاستعانة بالسحرة، يجب على فضاء لامدا إم أو أو الاتفاق على وسيلة للتصويت على القواعد الحاكمة لسلوكيات الناس في الفضاء، بحيث تخضع أي مسألة لصندوق الاقتراع، فلا يوجد أي دستور يستطيع تقييد مقررات العملية الديمقراطية. ينفِّذ السحرة ما يقرره الصندوق، وبعدها يصبح ذلك قاعدة.
كلا الطرفين لهما مميزاتهما، كما أنهما يستدعيان مجموعة من المثالب. تهدد العدمية في الحالة الأولى بفوضى عارمة؛ حيث يمكن تخيُّل مجتمع ينقلب على أشخاص دون تحذيرهم، أو حتى في وجود تحذير مسبقٍ غير كافٍ. يستطيع المرء تخيُّل المقتصين هائمين في الفضاء لا يقيدهم قيْد، «يتخلصون من» أناس صَدف أن بدت جرائمهم للمقتصين «نكراء». بالنسبة لأولئك الذين اتخذوا هذا الموقف بصورة أقل جدية في هذا الفضاء مما في الفضاء الواقعي، فإن هذا الحل الوسط لا غضاضة فيه، لكن ما لا غضاضة فيه بالنسبة إلى البعض هو أمر غير مقبول مطلقًا للآخرين، كما يدرك بَنجل ذلك جيدًا.
بدت الديمقراطية طبيعية، لكن قاومها كثيرون. بدت فكرة حضور السياسة في مجتمع لامدا إم أو أو مبددة لصفاء الفضاء، كما بدت فكرة أن يتم مناقشة الفِكَر أولًا ثم التصويت عليها عبئًا إضافيًّا. بطبيعة الحال، سيتم الإعلان عن القواعد، وسيتم تنظيم السلوك، لكن كل شيء في مجمله بدا كالعمل. سلب العمل شيئًا من مناخ المرح الذي كان عليه الفضاء.
«لا يوجد لاعب اسمه السيد بَنجل»، هكذا ستخبرك قاعدة البيانات.
كانت قيم عالم نظام يونيكس مختلفة؛ حيث كانت جزءًا أصيلًا من كود يونيكس، وحتى يمكن تغيير هذا الكود كان لا بد من تغيير هذه القيم، وهو ما قاومه أعضاء المجتمع بقوة.
وهكذا الأمر أيضًا مع مجتمع لامدا إم أو أو، فقبل عملية التصويت كان مجتمع لامدا إم أو أو منظَّمًا من خلال الأعراف الاجتماعية؛ حيث كان يتم الحفاظ على الأدوات المنظمة للأسس الاجتماعية من خلال مراقبة المواطنين الأفراد للسلوكيات في المجتمع. كان المواطنون الأفراد هم الأدوات التنظيمية للمجتمع، وكان صعود الديمقراطية علامة على سقوط هذا المجتمع. وعلى الرغم من استمرار الأعراف في وجود الديمقراطية، فإن طبيعة هذه الأعراف تغيَّرت إلى الأبد. فقبل تطبيق الديمقراطية، كان يمكن حل الصراع حول أي الأعراف تسود من خلال الإجماع؛ أي من خلال سيادة آراء معينة بأسلوب لا مركزي. أما الآن، صار يحسم هذا الصراع من خلال سلطة الأغلبية، لا من خلال ما تقوم به الأغلبية، بل من خلال طريقة تصويتها.
لقد قدمت هذا العالم الصغير الغريب بصورة رومانسية أكثر من اللازم. لا أعني أن عالم لامدا إم أو أو قبل الديمقراطية كان بالضرورة أفضل منه بعدها. أريد فقط أن أشير إلى تغيير من نوع خاص. مثل شبكة المشورة القانونية، وبخلاف أمريكا أون لاين، يعتبر مجتمع لامدا إم أو أو مكانًا تقوم فيه الأعراف بعملية التنظيم، لكن بخلاف شبكة المشورة القانونية، يعتبر مجتمع لامدا إم أو أو مكانًا يسيطر فيه الأعضاء حاليًّا على عملية إعادة تشكيل الأعراف.
تُغيِّر هذه السيطرة الأشياء. تصبح الأعراف مختلفة عندما تصبح الكلمة لصناديق الاقتراع، كما يصبح الكود مختلفًا عندما تملي صناديق الاقتراع على السَّحرة تغيير العالم. تشير هذه التغييرات جميعًا إلى الانتقال من نوع من الفضاء تسود فيه أعراف معينة إلى فضاء آخر تسيطر عليه أعراف أخرى، من نوع من التنظيم إلى نوع آخر.
يتشكل الفضاء التالي في هذا المسح الشامل من خلال الكود أيضًا، على الرغم من انخفاض قدرة «الإدارة» في هذه الحالة على تغيير معماره الأساسي. هذا الكود هو كود الشبكة، أحد بروتوكولات الإنترنت التي لا يمكن تغييرها بسهولة من خلال مستخدم واحد، أو على الأقل هذا ما لم أجده سهلًا.
(٢-٤) مجموعة الأخبار law.cyber
كان اسمه آي بي إي إكس ولم يعرف أحد من هو. ربما استطعت أن أعرفه — حيث حصلت على البيانات اللازمة لملاحقته — لكن بعدما فعل ما فعل، لم أرغب في معرفة من هو. ربما كان طالبًا في أول درس عن الفضاء الإلكتروني قمت بتدريسه، كنت سأجعله يرسب في مادتي؛ لأنني كنت أشعر بالغضب العارم ممَّا فعله. كان اسم المادة التي أُدرِّسها «قانون الفضاء الإلكتروني». كانت النسخة الأولى من هذا الصف في جامعة ييل.
أقول النسخة الأولى لأنني حظيت بالفرصة الاستثنائية لتدريس هذه المادة في ثلاث كليات حقوق مرموقة: أولًا، كلية الحقوق في جامعة ييل، ثم كلية الحقوق في جامعة شيكاجو، وأخيرًا كلية الحقوق في جامعة هارفرد. كانت هذه ثلاثة أماكن مختلفة للغاية، وكان الطلاب في كل منها مختلفين للغاية، لكن كان هناك جزء من المادة هو نفسه في هذه الأماكن جميعًا. في كل عام دراسي، كانت هناك «مجموعة أخبار» ترتبط بالمادة، لوحة إعلانات إلكترونية يقوم الطلاب بكتابة تعليقات فيها حول أسئلة تمت إثارتها أثناء الصف، أو حول أي شيء آخر. كانت هذه التعليقات تفضي إلى مناقشات، موضوعات مناقشة، تعليق تلو الآخر يناقش أو ينقد التعليق السابق عليه.
قصتي هنا مصدرها جامعة ييل. تعتبر كلية الحقوق في جامعة ييل كلية عجيبة، وإن كانت عجيبة بصورة محببة؛ فهي كلية صغيرة وتعج بالطلاب الأذكياء الذين لا يرغبون في أن يصبحوا محامين. تعتبر كلية الحقوق في جامعة ييل نفسها بمنزلة مجتمع، وكل من في الكلية من العميد إلى أدنى الدرجات (ليست هذه طريقة «ييل» في وصف الأشياء) يبذل قصارى جهده في دعم واستمرار روح الجماعة هذه بين الطلاب. ينجح الأمر في ييل إلى حد كبير، ولا يعني ذلك أن هناك سلامًا بين الجميع على الدوام، لكن بمعنى أن الجميع في ييل يدركون روح الجماعة هذه. البعض يرحب بهذه الروح والبعض الآخر يرفضها، وهو رفض — كالترحيب — يدل على وجود شيء؛ فلا أحد يرفض روح الجماعة بين الناس مثلًا على متن حافلة جراي هاوند.
إحدى السمات المميزة لكلية الحقوق في ييل هو «الحائط»، وهو مكان يستطيع أي شخص كتابة تعليقات عن أي شيء يرغبه عليه؛ حيث يمكن مثلًا كتابة خطاب عن حقوق المِثْليين في ييل، أو الاعتراض على معاملة ييل للعمال النقابيين. يتم وضع رسائل سياسية فضلًا عن موضوعات تتعلق بالقانون. كل تعليق يؤدي إلى مزيد من التعليقات، سواء تعليقات سريعة تُكتب على التعليقات الأصلية، أو تُرفق أسفل التعليق.
يوجد الحائط، الذي يعد علامة مميزة لأي زائر، وسط كلية الحقوق. وسط هيكل قوطي مقلَّد توجد مساحة صخرية عليها عشرات من الأوراق ملصقة في عشوائية. يتجول الطلاب حول التعليقات، يقرءون ما كتبه الآخرون. هذا هو ركن ييل للتعبير عن الرأي، على الرغم من أن المتحدثين كتَّاب، وأن المواد المكتوبة ثابتة، لا يمكن تحقيق أي مكسب على الحائط من خلال البلاغة الطنَّانة، فحتى تكسب احترام الآخرين يجب أن تقول شيئًا مهمًّا.
تحكم قاعدة واحدة هذا الفضاء؛ حيث يجب توقيع جميع التعليقات. أي تعليق دون توقيع يتم إزالته. في البداية، لا شك، كان الغرض من القاعدة هو أن يُوقِّع التعليقَ كاتبُه، لكن نظرًا لأن هذه هي ييل حيث لا توضع قاعدة دون إثارة آلاف الأسئلة، ظهر إلى الوجود تقليد يستطيع بموجبه أن يقوم أي شخص بلصق تعليق وتوقيعه دون أن يكون هو صاحب هذا التعليق («وقَّعه لكن لم يكتبه فلانًا»). هذا التوقيع يمنح التعليق الاعتماد اللازم حتى لا يتم إزالته من الحائط.
أسباب هذه القاعدة واضحة، مثلما هي المشكلات المترتبة عليها. لنقل إنك تريد انتقاد عميد الكلية بشأن قرار اتخذه. العميد، مهما كان شخصًا لطيفًا، هو صاحب نفوذ، وربما تُفضِّل لصق تعليق دون كتابة اسمك عليه، أو هَبْ أنك طالب تمتلك رؤًى سياسية تجعلك منبوذًا، أن تلصق تعليقًا يتضمن هذه الرؤى وعليه توقعيك سيؤدي ذلك إلى نفور زملائك منك. لا تعد حرية التعبير تعبيرًا دون وجود آثار مترتبة؛ فالنفور أو الإحساس بالعار أو الإقصاء هي جميعًا آثار مترتبة على كثير من أشكال التعبير.
تعتبر الجهالة، إذن، أحد أساليب التحايل على هذه المعضلة، فمن خلال الجهالة تستطيع أن تقول ما تشاء دون خوف. في بعض الحالات، وبالنسبة إلى البعض، يصبح الحق في التحدث دون الكشف عن الهوية مسألة منطقية.
في المقابل، ربما يريد أحد المجتمعات أن يناهض هذا الحق، فمثلما تمنح الجهالة القوة للتعبير عن رأي لا يلقى قبولًا واسعًا، فهي تحمي صاحب التعليق في حال التعبير عن رأي غير مسئول، أو ينال من السمعة، أو ضار. ربما تريد أن تنقد سياسات العميد، وربما تريد أن تتهم عن غير حق أحد زملائك بالغش. يستفيد كلا الرأيين من الجهالة، لكن يظل هناك سبب وجيه للمجتمع لرفض رأي مثل الرأي الثاني.
كانت شخصية آي بي إي إكس سيئة، وكان هذا واضحًا من البداية. قبل ظهور آي بي إي إكس، كانت الحياة في الفضاء مزدهرة. في البداية، كان المستخدمون يشاركون على استحياء لكن في أدب. كان المشاركون الشجعان يبدءون بكتابة فكرة أو مزحة ثم تدور حولها المحادثات لفترة. بعد مرور أسبوعين صارت المناقشات أكثر سخونة. بدأت في الظهور أنماط محددة في المناقشات. بعض الأشخاص يطرحون أسئلة، وبعضهم الآخر يُقدِّم إجابات. تعثَّر المستخدمون في البداية، لكنهم ما لبثوا أن بدءوا في الحديث في بطء.
لا أستطيع أن أُفسِّر لماذا حدث ذلك. ربما كانت أونا سميث حافزًا على ذلك. قلتُ إنني قمت بتدريس هذه المادة ثلاث مرات. في كل مرة (دون أي تدخل مني على الإطلاق) كانت هناك أونا سميث تشارك في مجموعة الأخبار. كانت شخصًا حقيقيًّا في ييل، لكن بعد انتهائي من التدريس في ييل صرت أفكِّر بها كنمط. كانت دومًا امرأة من خارج الصف، وكانت دومًا على قدر عظيم من المعرفة عن الشبكة ويوزنت، وكانت دومًا تتجول في صفي (الإلكتروني) وتقول للآخرين كيف يتصرفون. وعندما كان أحد المستخدمين يخالف أحد الأعراف في الشبكة، كانت أونا تقوم بتصويبه. لم يتلق كثير من الطلاب في كثير من الأحيان هذه التعليمات بصورة حسنة (كان هؤلاء طلاب قانون على أي حال)؛ حيث كان الصف يصطف مدافعًا عن الشخص الذي كان يتم توجيه التعليمات إليه، وتحدي أونا لتدافع عن قواعدها. بطبيعة الحال، ولأنها خبيرة، كانت أونا تمتلك عادةً إجابة تدافع بها عن القواعد التي أمْلَتْها. سرعان ما يتحول تبادل الأسئلة والإجابات مع أونا إلى محور اهتمام الصف. نجحت أونا في استثارة غضب الطلاب الذين ازداد تلاحمهم نتيجة لذلك.
بعد مرور شهر ونصف الشهر على بدء تدريس المادة، وصلت مجموعة الأخبار إلى الذروة؛ حيث صارت أفضل ما يمكن أن تكونه. أتذكر تلك اللحظة جيدًا. في ظهيرة أحد أيام الربيع، لاحظت أن أحد الطلاب كتب البيت الأول في قصيدة. مع نهاية اليوم، دون أي تنسيق، أكمل الصف القصيدة. كان هناك إيقاع ما يتخلل مناقشات الطلاب، والآن صارت هناك قافية. كانت الأشياء تطنُّ في مجموعة الأخبار، وكان الناس يشعرون بدهشة حقيقية إزاء هذا الفضاء.
عندها ظهر آي بي إي إكس. أظن أن ذلك حدث بعد مناقشة موضوع الجهالة في الصف؛ لذا ربما كانت ادعاءاته اللاحقة بتحقيق أهداف تعليمية صحيحة. لقد ظهر عقب أحد صفوفنا، ظهر — فيما يبدو — للهجوم على أحد طلاب الصف. لم يكن هجومًا على فِكَره، بل هجومًا يستهدف الشخص نفسه. كان الهجوم شريرًا وشاملًا حتى إنني عندما قرأته لم أعرف كيف أفسره. هل كان هجومًا حقيقيًّا؟
توقفت المناقشات على الفور في المجموعة. فقط توقفت. لم يعلق أحد بأي شيء كما لو أن الجميع كان يخشى من أن الوحش الذي اقتحم فضاءنا سيصب جام غضبه على أحدهم في المرة القادمة، حتى تقدَّمت الضحية وبدأت في الرد، كانت إجابته تشي بجراح الهجوم. شقَّت كلمات آي بي إي إكس جرحًا بالغًا. كانت ضحيته غاضبة ومجروحة، فقامت بهجوم مضاد.
لكن هذا الهجوم ألهم آي بي إي إكس بجولة أخرى من الأفعال الشريرة، أكثر شرًّا من المرة الأولى. وهكذا، لم يستطع أعضاء الصف مقاومة المشاركة. هاجم آي بي إي إكس مجموعةٌ من الشخصيات في الصف واصفين إيَّاه بالجبان لتخفيه خلف اسم مستعار، وبأنه شخص مريض بسبب ما قاله. لم يُؤتِ هذا بأي أثر. عاد آي بي إي إكس مرات ومرات في منتهى القبح والإصرار.
تغيَّر الفضاء. تناقصت المحادثات، وبدأ الجميع في الانصراف. انصرف البعض بطبيعة الحال؛ نظرًا لما شعروا به من اشمئزاز لما رأوه، فيما خاف البعض الآخر أن يكون هدف آي بي إي إكس التالي. كانت هناك فترة قصيرة من الحياة في الفضاء عندما اصطف الجميع لمهاجمة آي بي إي إكس، لكن عندما عاد آي بي إي إكس مرة بعد أخرى أكثر شرًّا في كل مرة؛ انصرف معظم المشاركين. (عاد آي بي إي إكس في إحدى المرات للاعتراض على ارتكاب أخطاء بحقه، وفي الأسبوع السابق، ادَّعى بأنه لم يكتب أي تعليق لكن أحد المشاركين ارتدى عباءة آي بي إي إكس البيضاء وقام بكتابة التعليقات منتحلًا اسمه؛ بحيث تضررت سمعته هو؛ أَيْ آي بي إي إكس. لم يُبدِ الصف تعاطفًا كبيرًا مع أي من ذلك.)
لم يقتصر التغيير على المشاركين في الفضاء الإلكتروني، فعندما كنا نلتقي أسبوعيًّا وجهًا لوجه، شعرت بتغيير المناخ العام. شعر الجميع بوجود المخلوق في قاعة الدرس، لكن لم يستطع أحد تصديق أنه طالب في كلية الحقوق بجامعة ييل. كان هذا المخلوقُ أحدَ زملائهم في الصف، يختبئ خلف ابتسامة أو مزحة في الفضاء الواقعي، لكنه شرير في الفضاء الإلكتروني. كانت هذه الفكرة ذاتها — أن يختبئ الشر وراء ابتسامة — هي ما غيَّر نظرة المشاركين إلى الابتسامات.
أطلق البعض على ذلك «أثر ديفيد لينش»، في إشارة إلى المخرج الذي يرسم فساد مجتمع يتخفى وراء واجهات برَّاقة. شعرنا جميعًا في هذا الصف بفساد مجتمعنا تحت ستار الابتسامات والطلاب الملتزمين. كان ثمة جيك بيكر (مروَّض نسبيًّا) بين ظهرانينا. سمح الفضاء بسلوك أدى إلى دمار المجتمع، مجتمع قام الفضاء ذاته بخلقه. تم خلق هذا المجتمع جزئيًّا من خلال القدرة على التخفي، التخفي وراء اسم مستعار طيب، أو لإخفاء التردد، أو لإخفاء العدول عن كتابة شيء، أو لإخفاء رد فعل معين، أو لإخفاء عدم الانتباه إلى ما يقوله الآخرون. أدَّت هذه السلوكيات المُجهَّلة إلى أن يكون المجتمع ما هو عليه. لكن الجهالة نفسها التي خلقت المجتمع هي نفسها التي أدت إلى ميلاد شخصية آي بي إي إكس؛ وهو ما أدى إلى موت هذا المجتمع.
(٢-٥) حياة (حيوات) ثانية
وصفت هذه الأماكن الأربعة التي انتهيت للتوِّ من وصفها في الطبعة الأولى من هذا الكتاب، كل باستخدام التعبيرات نفسها. إنها قصص قديمة، لكن لا تزال الدروس التي يخرج المرء منها بها هي الدروس نفسها التي يهدف هذا الفصل إلى إيصالها. لا أعني بطبيعة الحال أن أشير إلى عدم وجود تقدم في الفضاءات الإلكترونية التي ألهمها الإنترنت؛ حيث شهدت السنوات الخمس السابقة تزايدًا عظيمًا في الفضاءات الإلكترونية بصورة تتخطى أي شيء تصورته عندما كتبت الطبعة الأولى من هذا الكتاب.
بمعنًى من المعاني، لا تعتبر هذه الفضاءات جديدة حقًّا؛ حيث تمتلك هذه الفضاءات تكنولوجيا جديدة تعمل بصورة أفضل كثيرًا من نسخها المبكرة؛ نظرًا لأن أجهزة الكمبيوتر صارت تعمل بصورة أسرع، فضلًا عن زيادة سرعة الاتصال بالإنترنت. في المقابل، يظل عالم ألعاب فيديو إم إم أو جي، الذي وصفته في الفصل الثاني، مستوحًى من فضاءات واقعية.
تكون نتيجة ذلك «شيء أكثر ثراء اجتماعيًّا بطرق عديدة»، «ولا يقتصر الأمر هنا على صور الجرافيك ثلاثية الأبعاد، التي ستصبح بدورها فجة في وقت لاحق.»
صارت ألعاب الأدوار الإلكترونية شديدة التعدد (مرة أخرى ألعاب فيديو إم إم أو جي، أو ألعاب فيديو إم إم أو آر بي جي) صناعة قائمة بذاتها. يقضي الملايين مئات وربما آلاف الساعات حرفيًّا كل عام في هذه الفضاءات؛ حيث ينفقون مليارات الدولارات حرفيًّا ليحيوا هذه الحيوات الثانية. بطبيعة الحال، بينما يعيش هؤلاء هذه الحيوات الثانية فهم أيضًا يعيشون حيواتهم في الفضاء الواقعي. فبينما يلعب هؤلاء مثلًا لعبة عالم الحرب المعروفة باسم وورلد أوف وور كرافت، فهم يلعبون أيضًا أدوار الآباء أو الأمهات في الفضاء الواقعي. لم يترك هؤلاء إذن الحياة في العالم الواقعي للعيش في هذه الأماكن الأخرى، لكنهم جعلوا الأماكن الأخرى جزءًا لا يتجزأ من حيواتهم في العالم الواقعي. وقد شهدت السنوات الخمس الأخيرة زيادة عظيمة في معدلات الحيوات الواقعية التي يحياها أصحابها في الفضاء الإلكتروني.
يتضمن النوع الثاني مزيدًا من عمليات الإنشاء والتصميم؛ حيث توفِّر هذه الفضاءات مجتمعات يستطيع المستخدمون التواصل من خلالها، فضلًا عن أنشطة إبداعية وتجارية أخرى، ويختلف مزيج هذه الأنشطة بصورة كبيرة حسب كل لعبة؛ لكنها جميعها تهدف إلى خلق عالم افتراضي يوحي بوجود مجتمع واقعي فيه. تعتبر هذه الألعاب امتدادًا لألعاب إم أو أو التي وصفتها آنفًا، لكن هذه الألعاب تشمل أكثر من مجرد الأشخاص الذين لا يشعرون بالارتياح إلا عن طريق التواصل باستخدام النصوص. هذه الفضاءات حقيقية من الناحية التصويرية، حتى وإن كانت فضاءات افتراضية.
تتعارض هذه السمة الأخيرة بشدة (على الأقل بالنسبة لي) مع نوع ألعاب فيديو إم إم أو جي الآخر الذي ذكرته توًّا، عالم لعبة «هناك»؛ فهذا العالم هو أيضًا موقع مجتمعي، لكنه مختلف اختلافًا جذريًّا عن عالم «الحياة الثانية» (وأقل نجاحًا منه). يتمحور هذا العالم حول التوكيلات التجارية لماركات شهيرة؛ حيث تقوم سوني أو نايكي، على سبيل المثال، بفتح متجر لها في عالم لعبة «هناك»، كما يُسمح للمستخدمين بخلق أشياء فيه، وعندما يقررون بيع أو التخلي عن هذه الأشياء يحصل عالم لعبة «هناك» على نسبة من هذه العمليات. وعلى الرغم من أن معظم عناصر هذا العالم مُعدة سلفًا، فإن ثمة فرصة هائلة لإدخال تعديلات خاصة عليها.
صاغ مؤسسو عالم لعبة «هناك» رؤيتهم لهذا العالم حول المثل العليا للولايات المتحدة (أو على الأقل حول فهمهم لها)، فكان سعر الصرف دولارات هذا العالم مثلًا هو ١٧٨٧ إلى ١؛ حيث الرقم ١٧٨٧ هو تاريخ كتابة دستور الولايات المتحدة. وعلى حد وصف رئيس مجلس إدارة عالم لعبة «هناك» حينئذٍ لأحد الصفوف التي كنت أدرِّس لها: تُستمد قيم عالم لعبة «هناك» من قيم الجمهورية الأمريكية.
تشكَّك طلابي في ذلك. وأحرَجتْ طالبة لامعة لي، كاثرين كرَمب، الرئيس التنفيذي؛ حيث وجهت إليه سؤالًا حول ما إذا كان عالم لعبة «هناك» يحترم مبادئ التعديل الأول من الدستور الأمريكي. رد الرئيس التنفيذي: «بالطبع.» «وهل يُسمح لأحد مواطني عالم لعبة «هناك» بوضع لافتة على أرضه؟» «بالطبع.» «وهل يُسمح لهذا المواطن بشراء أرض ملاصقة، لنَقُل: لنايكي؟» «بالطبع.» «وهل يُسمح لهذا المواطن بوضع لافتة على أرضه الملاصقة لنايكي تقول: «نايكي تستخدم العمالة رخيصة الثمن تحت ظروف عمل غير عادلة»؟» «امم. لست متأكدًا من الإجابة.» وهكذا لنَقُل على التعديلِ الأولِ السلامَ.
أو فيما يتعلق بفضاء «الحياة الثانية»، سألت كرَمب: «من يمتلك بروتوكول الإنترنت [الملكية الفكرية] في التصميمات التي يبتدعها المواطنون؟» عالم لعبة «هناك». «ومن يمتلك بروتوكول الإنترنت في التصميمات التي تبتدعها نايكي؟» «نايكي، بالطبع. كيف يكون الأمر خلاف ذلك؟» ربما كان الأمر مختلفًا إذا التزمت مبادئ الدستور الأمريكي، على حد قول كرَمب للرئيس التنفيذي، التي تقول بأن حقوق بروتوكولات الإنترنت هي حقوق أصيلة «للمؤلفين أو المبتكرين»، لا الشركات.
قامت «الحياة الثانية» (مثل جميع الأمم الجديدة) بتعهيد تكلفة البناء إلى مواطنيها، فعندما تشتري أرضًا في «الحياة الثانية»، تحصل على مساحة خالية أو جزيرة غير مأهولة. عليك إذن أن تشتري أشياء، أو أن تقايض أشياء، أو تبني أشياء بغرض تعمير الأرض. هناك دورة اقتصادية كاملة فيما يتعلق بعملية البناء، وربما كان ذلك عملًا شاقًّا. في المقابل، تستطيع بيع ما قمت ببنائه، كما تصبح التصميمات التي ابتدعتها ملكك أنت. يقطن ويبني الآن أكثر من ١٠٠ ألف شخص عالم «الحياة الثانية». بالنسبة إلى هؤلاء، فإن اللعبة تقدم لهم ما تعدهم به بالفعل.
هذه القواعد الحالية نتاج تطور الحياة في «الحياة الثانية»، ففي الاختبار النهائي العام الأول للموقع قبل إطلاقه باسم «الحياة الثانية»، لم يوجد مفهوم ملكية الأراضي. كل شيء كان مشاعًا. بدأ مفهوم ملكية الأراضي مع الاختبار الثاني، عندما كان يستطيع المستخدمون الحصول على قطة أرض عامة مقابل دفع سعر محدد. عند امتلاك الأرض، كان مالكها يقرر ما إذا كان الآخرون يستطيعون صنع أشياء، أو كتابة شفرات، أو وضع علامات على الأرض، ثم تم زيادة الخيارات لاحقًا.
في الإصدار رقم ١٫١، كانت هناك تغييرات هائلة في طبيعة الأراضي، فبينما كان المستخدمون يستطيعون في البداية الانتقال عبر الأثير دون أي قيود إلى أي مكان، صار المالكون يقررون حاليًّا ما إذا كان الآخرون يستطيعون «انتهاك حرمة» أراضيهم أم لا؛ وذلك لتفادي وقوع أضرار، سواءٌ أكان ذلك عن طريق ضبط خاصية أساسية تسمح أو تمنع من دخول الأرض، أم عن طريق إنشاء قائمة بالأشخاص المسموح لهم بالزيارة دون قيود. كانت هذه القيود تنطبق حتى مسافة ١٥ مترًا فوق سطح الأرض. أما خلاف ذلك، فيستطيع أي مستخدم الطيران دون أي قيود فوق الأرض، حتى لو لم يرغب مالك الأرض في وجود هذا المستخدم في محيط أرضه.
كان الحل الذي توصلت إليه صياغة القانون هو تقدير مسافة الطيران المنخفضة للغاية والمرتفعة للغاية؛ حيث لا يعد الأمر تعدِّيًا في حال الطيران فوق إحدى الأراضي على ارتفاع كبير للغاية، فيما يعتبر الطيران على ارتفاع منخفض للغاية فوق إحدى الأراضي نوعًا من الإزعاج. وهكذا توصل عالم «الحياة الثانية» إلى حل مشابه للحل الذي أوجده القانون.
لاحظ الفارق المهم: في الفضاء الواقعي، يعني وجود قانون توقيع العقوبة عليك لمخالفة قاعدة الطيران «المرتفع/المنخفض». أما في عالم «الحياة الثانية»، فلا تستطيع ببساطة مخالفة قاعدة الطيران لأقل من ١٥ مترًا؛ حيث إن القاعدة جزء من الكود المسيطر على سلوكك في عالم «الحياة الثانية». لا يوجد خيار بشأن الالتزام بالقاعدة أو عدم الالتزام بها مثلما لا يوجد خيار بشأن الجاذبية.
وهكذا فإن الكود هو القانون هنا. يؤكد الكود/القانون على سيطرته مباشرة، لكن هذا الكود (مثل القانون) يتغير. محك الأمر هنا هو إدراك أن هذا التغيير في الكود (على خلاف قوانين الطبيعة) هو كود موضوع ليعكس اختيارات وقيم واضعيه.
توسَّعت «الحياة الثانية» في تطبيق هذه الفكرة؛ حيث يستطيع المبتكرون في هذا العالم تمييز محتوياتهم من خلال الرخصة التي يرغبون بها، لكن سحرة هذا العالم ينظرون في فكرة تأثير الرخصة التي اختارها المبتكرون تأثيرًا مباشرًا على كيفية استخدام الآخرين للابتكارات. في حال كانت رخصة المشاع الإبداعي تُميِّز محتوًى ما، يستطيع أحد المستخدمين نسخه دون تصريح مباشر. أما في حال عدم تمييز المحتوى من خلال الرخصة، فإنه إذا حاول أحد المستخدمين نسخ المحتوى، فسيصبح المحتوى غير مرئي. مرة أخرى، يعبِّر الكود عن القانون بصورة أكثر فعالية مما يستطيع القانون في العالم الواقعي أن يفعل.
(٢-٦) الإنترنت
كما ذكرت، نستطيع التمييز بين الفضاء الإلكتروني والإنترنت، لكن يظل الطرح المقدم في هذا الفصل، مهما كان واضحًا بالنسبة إلى الفضاء الإلكتروني، قائمًا بالنسبة إلى الإنترنت. هناك قيم محددة تستبطن سمات معماريات الإنترنت. وهي سمات قد تتغير أيضًا، وإذا تغيرت فستتغير القيم التي يُسوِّقها الإنترنت بدوره.
كما ذكرت آنفًا، جسَّد الإنترنت هذا المبدأ من خلال تركيز وظيفة بروتوكول تي سي بي/آي بي، بصورة أساسية، على أفضل سُبل نقل حزم البيانات. أما ما تقوم به هذه الحزم، أو الغرض منها، فليست من وظائف البروتوكول؛ حيث يكون نقل البيانات هو الهدف الأساسي والوحيد.
كانت إحدى النتائج المترتبة على هذا التصميم، إذن، هي أن صار المستخدمون قادرين على الابتكار دون الحاجة إلى التنسيق مع أي مالك للشبكة. فإذا أردت أن تطوِّر تطبيقًا لنقل الصوت عبر أحد بروتوكولات الإنترنت لنقل الصوت، فكل ما عليك القيام به هو كتابة كود التطبيق بغرض استخدام بروتوكولات تي سي بي/آي بي لنقل البيانات عبر الشبكة بطريقة تجعل التطبيق يعمل.
تتمثل القيمة هنا في الابتكار والمنافسة؛ حيث تُمكِّن الشبكة أكبر عدد ممكن من المبتكرين — مستخدمي الشبكة — وتمنحهم جميعًا الصلاحيات اللازمة للابتكار لصالح الشبكة. يمكن استخدام أي تطبيق على الشبكة (ما دام يلتزم ببروتوكولات تي سي بي/آي بي). وإذا أعجب التطبيق مستخدمي الشبكة، يصبح تطبيقًا ناجحًا.
في الوقت نفسه — طالما تم الالتزام بمبدأ الطرف إلى الطرف على الأقل — يحرم هذا التصميم أقوى لاعب في الشبكة؛ مالكها، من فرصة الابتكار داخلها. ربما لا يحب مالك الشبكة التطبيقات التي يتم تطويرها، لكن مبدأ الطرف إلى الطرف لا يعطيه فرصة حجب استخدام هذا التطبيق.
لكن مثلما يمكن تغيير طبيعة الشبكة التي تعتمد على بروتوكولات تي سي بي/آي بي بحيث يتم سد «فجوات» المعلومات في الشبكة، يمكن أيضًا تغيير طبيعة شبكة تي سي بي/آي بي بحيث يتم التخلص من مبدأ الطرف إلى الطرف. في الواقع، يمكن استخدام الأدوات التي تناولتها في الفصل الرابع للقيام بهذه المهمة. على سبيل المثال، يستطيع مالك الشبكة إجراء مسح لحزم البيانات التي تنتقل عبر شبكته، وحجب أي بيانات لا تأتي عن طريق تطبيق معروف أو معتمد. وحتى يتم إدراج أحد التطبيقات ضمن قائمة مالكي الشبكات، يجب على مطوري التطبيقات الاتصال بالمالكين لإدراجهم في القائمة. يعتبر هذا التغيير في طريقة عمل الإنترنت ممكنًا من الناحية الفنية، بل ثمة أنماط من طرق السيطرة هذه يتم تطبيقها بالفعل لأغراض تنافسية وأمنية. على سبيل المثال، تستطيع بعض الشبكات التي تريد السيطرة على بعض التطبيقات المستخدمة في الشبكة لأغراض تنافسية استخدام هذا الأسلوب في السيطرة؛ لحجب التطبيقات غير المرغوب فيها (مرة أخرى، فكِّر في نموذج شركات الهواتف التي تحجب تطبيقات نقل الصوت عبر بروتوكولات الإنترنت)، كما تستطيع بعض الشبكات التي تريد تجنب أي فيروسات أو مشكلات في شبكتها أن تحجب جميع التطبيقات الأخرى؛ ما يُسهِّل من عملية السيطرة. وأيًّا ما كان السبب فإن النتيجة واحدة؛ ألا وهي تقييد حرية الابتكار في الإنترنت.
ومثلما هو الحال مع القصص حول «الفضاء الإلكتروني»، فإن هذه الحالة عن الإنترنت توضح أيضًا العلاقة بين المعمار والسياسة المتبعة. يعتبر مبدأ الطرف إلى الطرف نموذجًا مرجعيًّا لتكنولوجيا تستبطن قيمًا محددة. ويعتمد اختيارنا للمعماريات التي نشجعها على السياسة التي نناصرها، وهو ما ينطبق حتى في الحالات التي لا يعتبر فيها الإنترنت «مكانًا»؛ أي حتى لو كان الإنترنت «مجرد» وسيط.
(٣) كيف تختلف المعماريات والفضاءات
تختلف الفضاءات التي وصفتها توًّا بعضها عن بعض. يُوجِد المجتمع في بعض الأماكن مجموعة من الأعراف التي يتم تطبيقها ذاتيًّا (من خلال أعضاء المجتمع). وتُسهم سمات كالعلانية (في مقابل الجهالة) والديمومة في خلق هذه الأعراف، فيما تجعل الجهالة، وعدم الديمومة، والتعددية عملية تشكيل المجتمع أكثر صعوبة.
في الأماكن التي لا يكون فيها المجتمع منظَّما ذاتيًّا بصورة كاملة، تُستكمل الأعراف من خلال القواعد المفروضة، سواء من خلال الكود أو سلطة مُنظِّمة. قد تخدم هذه القواعد تحقيق أهداف تتعلق بترسيخ أعراف محددة، لكن قد تتعارض هذه الأهداف أحيانًا مع هدف بناء المجتمعات.
من هنا يستطيع مهندسو المعماريات في شبكة المشورة القانونية وأمريكا أون لاين استخدام التكنولوجيا لتغيير السلوك، لكن إذا صار التغيير عميقًا بحيث ابتعد كثيرًا عما يظن الأعضاء أنه السلوك الأصلي المتبع في الفضاء، فسيترك الأعضاء الفضاء ببساطة. تعتمد مدى خطورة تهديد هذا القيد على توافر البدائل المتاحة بطبيعة الحال. فمع ازدهار المدونات، يصبح فضاء كشبكة المشورة القانونية ذا قوة سوقية منخفضة نسبيًّا. أما قوة أمريكا أون لاين فهي أكثر تعقيدًا. هناك بطبيعة الحال العديد من شركات تقديم خدمات الإنترنت الأخرى، لكن بمجرد الانتقال للانضمام إلى إحداها تكون تكاليف الانتقال باهظة.
أما في لامدا إم أو أو فإن المسألة أكثر تعقيدًا؛ حيث لا يوجد حقًّا ما يربط بين الناس في عوالم إم أو أو (هناك المئات من هذه العوالم ومعظمها مجاني)، لكن نظرًا لأن الشخصيات في أحد عوالم إم أو أو هي شخصيات مكتسبة لا شخصيات جاهزة، ونظرًا لأن خلق هذه الشخصيات يتطلب وقتًا، كما لا يمكن استبدال الشخصيات، يَصعُب على أعضاء أحد عوالم إم أو أو الناجحة بصورة متزايدة الانتقال إلى فضاء آخر؛ فهؤلاء لهم حق الوجود مثلما أن المواطنين السوفييت لهم الحق في الوجود؛ أي إن لهم الحق في الوجود لكن دون الأصول التي قاموا ببنائها من خلال انتمائهم لهذا العالم الذي كانوا ينتمون إليه.
(٤) تنظيم الكود من أجل تنظيم أفضل
قمتُ بإجراء عملية مسح لمجموعة من الفضاءات لاستبيان عناصر التنظيم في كل منها. يعتبر الكود أحد العناصر المهمة بصورة متزايدة. في الفضاء الإلكتروني بصفة خاصة، وعبر الإنترنت بصفة عامة، يتضمن الكود مجموعة من القيم، فهو يسمح أو يمنع أنماطًا محددة من السيطرة على السلوك. ومثلما كان هو الشغل الرئيس لهذا الجزء؛ فإن الكود أداة للسيطرة أيضًا — لا السيطرة الحكومية، على الأقل في الحالات التي قمت بإجراء مسح حولها — لكنها سيطرة تخدم أغراض أيِّ منظِّم يضع الكود.
تشي هذه القصص بأسلوب في السيطرة، وبمجرد أن ندرك الفكرة، سندرك الأسلوب في سياقات مختلفة للتنظيم. إذا استطاعت «الحياة الثانية» استخدام الكود للسيطرة بصورة أفضل على السلوك، فماذا عن الحياة الأولى؟ إذا كانت أمريكا أون لاين (أمريكا على الإنترنت) تستخدم الكود للسيطرة على عمليات الاحتيال بصورة أفضل، فماذا عن أمريكا خارج الإنترنت؟ إذا كان الإنترنت يستخدم تصميم الطرف إلى الطرف بغرض تشجيع المنافسة بصورة أفضل؛ فماذا يتعلم المُنظِّمون على الأرض من ذلك؟ كيف تستمد ممارسات صانعي السياسة الفِكَر من أساليب سياسة السيطرة هذه؟
الإجابة هي: يقوم صانعو السياسات بالشيء نفسه منذ فترة طويلة، فمثلما وصف الفصل الخامس كيفية استخدام المنظمين للكود من أجل تنظيم السلوك أكثر؛ فإن المنظمين أيضًا استخدموا الكود للسيطرة على السلوك مباشرةً. خذ بعض الأمثلة البديهية على ذلك.
(٤-١) الأشرطة
تعتبر السمة الأبرز في الوسائط الرقمية هي تطابق النسخ بصورة كاملة، فالوسائط الرقمية مجرد بيانات، والبيانات ليست سوى شرائط تتألف من رقمي ١ وصفر. تحتوي أجهزة الكمبيوتر على خوارزميات معقدة للتحقق من نَسخ شريط من البيانات نَسخًا طبق الأصل تمامًا.
تمثل هذه السمة خطرًا جديدًا لمُقدِّمي المحتوى، فبينما كان كود النَسخ عن طريق التكنولوجيا التناظرية (أنالوج) يؤدي إلى انخفاض جودة النسخة مقارنةً بالأصل، فإن كود التكنولوجيات الرقمية ينتج نسخة مماثلة للأصل تمامًا. هذا يعني أن الخطر المحيق بمقدمي المحتوى من جانب «النسخ» أعلى في العالم الرقمي منه في عالم التكنولوجيا التناظرية.
كانت التكنولوجيا السمعية الرقمية هي التكنولوجيا الأولى من نوعها التي تكشف عن مثل هذا الخطر، فمثل أي تكنولوجيا تسجيل رقمية تستطيع هذه التكنولوجيا، نظريًّا، نسخ المحتوى بصورة مطابقة تمامًا. من هنا خشي مُقدِّمو المحتوى من أن عمليات القرصنة باستخدام شرائط التكنولوجيا السمعية الرقمية ستؤدي إلى تدمير صناعتهم؛ لذا سعوا لدى الكونجرس للضغط من أجل إصدار تشريعات جديدة لحمايتهم من التهديد الرقمي.
ها هو الكونجرس مرة أخرى ينظم الكود من أجل تنظيم السلوك؛ حيث يفرض قانونه أن تكون النسخ المتعددة منخفضة الجودة كوسيلة للحد من عمليات النسخ غير القانونية. ومثل تنظيم الخدمات الهاتفية ينجح أسلوب التنظيم هذا؛ لأن هناك عددًا قليلًا نسبيًّا من مُصنِّعي التكنولوجيا السمعية الرقمية. مرة أخرى، في وجود هدف محدد يمكن أن يصبح التنظيم الحكومي فعَّالًا؛ حيث يتمثل أثر التنظيم في جعل السلوك الأساسي المستهدف أكثر قابلية للتنظيم؛ ألا وهو سلوك مخالفة حقوق التأليف والنشر.
(٤-٢) التليفزيونات
بحلول منتصف تسعينيات القرن العشرين، أثارت مخاوف الآباء فيما يتعلق بأثر مشاهد العنف في التليفزيون على أطفالهم انتباه الكونجرس، وكان رد فعله من خلال التشريع، لكن نظرًا لاشتراطات التعديل الأول في الدستور الأمريكي، كان من الصعب على الكونجرس منع مشاهد العنف في التليفزيون مباشرةً، وهكذا بحث الكونجرس عن طريقة يتم بها حجب مشاهد العنف بطريقة غير مباشرة. اشترط الكونجرس على مقدمي المحتوى التليفزيوني الإشارة إلى محتوى العنف من خلال عبارات تدل على مستوى العنف في الفيلم، كما اشترط الكونجرس تطوير القائمين على صناعة التليفزيون تكنولوجيا تحجبُ محتوى العنف بناءً على هذه العبارات.
(٤-٣) ضد التحايل
مهما كانت المشكلات التي واجهها القائمون على صناعة المحتوى مع أشرطة التكنولوجيا السمعية الرقمية، فلا شك أن هذه المشكلات تتضاءل كثيرًا مقارنةً بالمشكلات التي واجهها القائمون على صناعة المحتوى مع المحتوى الرقمي والإنترنت. فعلى الرغم من أن التكنولوجيا السمعية الرقمية تسمح بأخذ نسخ مماثلة تمامًا للأصل، فهي لا تجعل توزيع هذه النسخ مسألة سهلة، وهو شيء يقوم الإنترنت بعمله. حاليًّا، لا تسمح التكنولوجيا الرقمية فقط بصنع نسخ مماثلة تمامًا للنسخة الأصلية، بل جعلت مسألة توزيع هذه النسخ الرقمية مجانًا مسألة في غاية السهولة.
كما أتناول بمزيد من التفصيل في الفصل العاشر، يتمثل أحد ردود الأفعال حيال هذه «الخاصية» للتكنولوجيات الرقمية في تكنولوجيا «إدارة الحقوق الرقمية»؛ حيث تضيف تكنولوجيات إدارة الحقوق الرقمية كودًا إلى المحتوى الرقمي يَحُول دون القدرة على صنع نسخ أو توزيع هذا المحتوى، على الأقل دون تصريح من تكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية ذاتها.
من هنا، فإن الأغاني التي اشتريتها وقمت بتنزيلها من موقع أبل آي تيونز تحميها تكنولوجيا أبل لإدارة الحقوق الرقمية «للعب العادل». تسمح لي هذه التكنولوجيا بصنع نسخ من الأغاني في عدد محدود من أجهزة الكمبيوتر، لكنها تحد من قدرتي على صنع نسخ منها على نطاق واسع.
يُطبَّق هذا القيد من خلال الكود؛ حيث تأتي وظيفة «انسخ» من خلال شفرة النسخ، فيما تقوم تكنولوجيا إدارة الحقوق الرقمية بتغيير أو إضافة خواص إلى وظيفة «انسخ». هذا إذن مثال تقليدي على استخدام الكود/الشفرة في استعادة السيطرة على شيء قام كود (آخر) بمنع السيطرة عليه.
(٤-٤) أعلام البث
مع تحوُّل التليفزيون التقليدي إلى تليفزيون رقمي، صار مالكو حقوق التأليف والنشر أكثر قلقًا بشأن المخاطر التي يواجهونها في بث محتويات تحميها حقوق التأليف والنشر. فعلى خلاف التليفزيون التقليدي، يتمتع البث الرقمي بجودة مذهلة؛ لذا فإن النسخ الرقمية من المواد المذاعة تماثل المواد الأصلية في جودتها. يرتعد حاملو حقوق التأليف والنشر خوفًا من نشر نسخ تتمتع بجودة فائقة تماثل أصول المواد الرقمية المُذاعة على شبكة رقمية مجانية (الإنترنت).
•••
في كل حالة من هذه الحالات، تقوم الحكومة بتوجيه جهة وسيطة تمتلك سلطة تغيير الكود بغرض تغيير السلوك. ويعتمد ما إذا كان هذا التغيير في الكود سيؤدي إلى تغيير في السلوك أو لا على سلطة الوسيط نفسه. في حالة عوالم إم أو أو — أو فضاء نقاش افتراضي مثل شبكة المشورة القانونية — فإن سلطة السيطرة على السلوك سلطة محدودة للغاية. وفي حالة أمريكا أون لاين أو «الحياة الثانية»، فإن تكلفة مغادرة الفضاء نهائيًّا ترتفع كثيرًا بالنسبة إلى المستخدمين، وهكذا يصبح مجال التنظيم أكثر اتساعًا. وإذا كان الوسيط هو الإنترنت أو أي تكنولوجيا رقمية يتم إنتاجها أو بيعها داخل الولايات المتحدة، تصير سلطة المنظِّم أكبر. يصبح الكود هو القانون حتى لو ظلت هناك مساحة لتفادي تنظيم الكود.
تشير هذه التعقيدات إلى الحاجة إلى إطار عام أكثر شمولًا. أشرتُ في هذا الفصل إلى التفاعل بين التكنولوجيا والسياسة والقانون، وهو تفاعل ينبئ بنموذج أكثر شمولًا. وفي الفصل التالي، أعرض هذا النموذج، ثم في الفصل الذي يليه سنعود مجددًا إلى المرونة في عملية تنظيم الكود من أجل تدبر ملمح آخر مهم.