ما تنظِّمه الأشياء
كان جون ستيوارت مِل رجلًا إنجليزيًّا. كان أيضًا أحد أكثر الفلاسفة السياسيين المؤثرين في أمريكا. تراوحت كتاباته بين أعمال مهمة عن المنطق ونص مدهش عن المساواة الجنسية، «إخضاع النساء». في مقابل ذلك كله ربما يتمثل أكبر آثاره المستمرة في كتاب قصير نسبيًّا اسمه «عن الحرية». تمثل الحجة القوية للدفاع عن الحريات الفردية وتعددية الفكر في هذا الكتاب، الذي نشر في عام ١٨٥٩، رؤية مهمة للفكر الليبرالي والليبرتاري في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لم تكن وجهة نظر مِل ضيقة إلى هذا الحد. كان مِل مدافعًا عن الحرية وخصمًا للقوى التي كانت تقمعها، لكن هذه القوى لم تقتصر على الحكومة. كانت الأعراف الاجتماعية مثلها مثل الحكومة، وكانت الضغوط الاجتماعية والتعصب — مثلها مثل التهديد بالعقوبة من قِبل الدولة، من وجهة نظر مِل — تهدد الحرية. كان مِل يهدف إلى مناهضة القوى القسرية الخاصة هذه. كان كتابه دفاعًا ضد جميع الأعراف الاجتماعية القامعة للحرية؛ حيث كانت الحرية في ذلك الوقت في إنجلترا مهددة بالفعل.
منهج مِل في التفكير مهم، وعلينا أن نتبناه نحن أيضًا. يدور نقاش مِل في كتابه حول السؤال: ما الذي يهدد الحرية، وكيف يمكن مقاومة ذلك؟ لكن لا ينحصر نقاش مِل في سؤال، ما هو التهديد الذي تمثله الحكومة للحرية؟ يدرك مِل أن هناك شيئًا آخر بخلاف الحكومة يهدد الحرية، وأن هذا الشيء قد يكون خاصًّا يتعلق بالأفراد أكثر منه عامًّا يتعلق بالحكومة. لم ينصبَّ اهتمام مِل بمصدر تهديد الحرية؛ حيث كان جلُّ اهتمامه منصبًّا على الحرية ذاتها.
في المقابل، لا يجب أن يكون اهتمامنا هذا على حساب الاهتمام بأدوات «تنظيمية» أخرى مهمة. لا تدور رؤيتي هنا حول وجود تهديد وحيد للحرية مع نسيان التهديدات الأخرى التقليدية. تدور رؤيتي — في المقابل — حول إضافة تهديد يزداد وضوحًا إلى قائمة التهديدات السابقة. أعتقد إذن بضرورة فهم طريقة عمل التنظيم فهمًا شاملًا؛ بغرض رؤية هذا الخطر الظاهر الجديد، فهْمٌ لا يُركِّز على التأثير المنفصل لإحدى القوى — مثل الحكومة أو الأعراف الاجتماعية أو السوق — بل يُركِّز على هذه القوى مجتمعة من خلال رؤية شاملة.
(١) حياة نقطة
هناك طرق عديدة للتفكير في «التنظيم». أريد أن أفكر في التنظيم من منظور شخص يخضع سلوكه للتنظيم أو، بصورة مختلفة، شخص مقيَّد. هذا الشخص الخاضع سلوكه للتنظيم يتمثل في هذه النقطة (المثيرة للشفقة)، مخلوق (أنت أو أنا) خاضع لأشكال مختلفة من التنظيم تؤدي إلى تقييد سلوكه (أو تمكينه كما سنرى). آمل من خلال وصف أشكال القيود المختلفة التي تحدُّ من سلوك هذا الفرد أن أبيِّن لك شيئًا حول كيفية عمل هذه القيود معًا.
كيف يتم «تنظيم» هذه النقطة؟
لنبدأ بشيء يسير؛ ألا وهو التدخين. إذا أردت أن تُدخِّن، فما القيود التي تواجهك؟ ما العوامل التي تنظِّم قرارك بالتدخين أو عدم التدخين؟
أحد هذه القيود قانوني. ينظِّم القانون التدخين في بعض الأماكن على الأقل. إذا كنت لا تبلغ من العمر ثمانية عشر عامًا، فلا يسمح القانون ببيع السجائر لك. إذا كان عمرك أقل من ستة وعشرين عامًا، يجب على البائع أن يفحص بطاقة هويتك قبل بيع السجائر لك. تنظم القوانين أيضًا الأماكن المسموح بالتدخين فيها؛ حيث لا يُسمح — على سبيل المثال — بالتدخين في مطار أوهير الدولي، أو على متن طائرة، أو في مصعد. تهدف القوانين من خلال هاتين الطريقتين — على الأقل — إلى توجيه سلوك التدخين؛ حيث تمثل هاتان الطريقتان نوعًا من القيد على سلوك الفرد الذي يريد أن يدخن.
لكن لا تعد القوانين هي أكثر القيود أهمية على التدخين. يشعر المدخنون في الولايات المتحدة — لا شك — بوجود أحد أشكال التنظيم على حريتهم في التدخين، حتى إن كان ذلك نادرًا ما يحدث من خلال القانون؛ فلا يوجد شرطة للتدخين، ولا تزال محاكم التدخين نادرة للغاية. في المقابل، يتم تنظيم سلوك المدخنين في أمريكا من خلال الأعراف الاجتماعية. تؤكد الأعراف الاجتماعية على ضرورة الحصول على تصريح من الآخرين قبل إشعال سيجارة في سيارة خاصة. وفق الأعراف الاجتماعية أيضًا لا يتوجَّب على المرء الحصول على تصريح للتدخين أثناء رحلة خلوية. وفق الأعراف الاجتماعية يمكن للآخرين أن يطلبوا من أحد المدخنين التوقف عن التدخين في مطعم، أو عدم التدخين نهائيًّا خلال تناول الوجبات. تؤدي هذه الأعراف الاجتماعية إلى وجود قيود محددة، وتنظِّم هذه القيود سلوك التدخين.
لا تعتبر القوانين والأعراف الاجتماعية فقط القوى الوحيدة التي تنظِّم سلوك التدخين؛ حيث تعتبر قوى السوق أيضًا قيدًا على هذا السلوك. يعتبر سعر السجائر أيضًا قيدًا على قدرة المدخنين على التدخين، فبتغيير السعر يتغيَّر هذا القيد. وإذا تم عرض باقة متنوعة من أنواع السجائر في السوق تختلف فيما بينها من حيث الجودة والسعر، تزداد قدرة المدخنين على اختيار أنواع السجائر التي يريدونها؛ حيث تقلص زيادة الاختيارات هنا من القيود على سلوك التدخين.
تأمَّل القيود الأربعة معًا إذن على النحو التالي:
في هذا الشكل، تمثل كل كرة بيضاوية أحد أنواع القيود التي تؤثر على النقطة المثيرة للشفقة الموجودة في المنتصف. يفرض كل نوع من القيود نوعًا مختلفًا من التكلفة على النقطة للانخراط في سلوك محدد، وهو التدخين في هذه الحالة. تختلف التكلفة التي تفرضها الأعراف الاجتماعية عن تلك التي تفرضها قوى السوق، عن تلك التي يفرضها القانون، عن تلك التي يفرضها معمار السجائر (المسرطن).
تختلف القيود فيما بينها اختلافًا كبيرًا، لكن يعتمد بعضها على بعض؛ حيث تدعم إحداها القيود الأخرى أو تُقوِّضها. تمتلك التكنولوجيات القدرة على تقويض الأعراف الاجتماعية والقوانين مثلما تمتلك القدرة على دعمها. تمتلك بعض القيود القدرة على جعل القيود الأخرى ممكنة، فيما تجعل قيود أخرى بعض القيود الأخرى غير ممكنة. تعمل القيود معًا على الرغم من أن كلًّا منها يعمل بطريقة مختلفة، فضلًا عن اختلاف تأثير كل منها. تفرض الأعراف قيودًا من خلال الضغوط الاجتماعية التي يفرضها المجتمع، وتفرض قوى السوق قيودًا من خلال السعر الذي تفرضه الأسواق، وتفرض المعماريات قيودًا من خلال العوائق المادية التي تفرضها، وتفرض القوانين قيودًا من خلال العقوبات التي تُلوِّح بها.
يمكن أن نطلق على كل نوع من هذه القيود «منظِّمًا»، كما نستطيع أن نفكِّر في كل قيد من هذه القيود كنمط متمايز للتنظيم. يمتلك كل نمط من هذه الأنماط طبيعة معقدة، كما يصعب وصف التفاعل بين هذه الأنماط الأربعة. سوف أعرض هذا التفاعل المعقد بصورة أكثر شمولًا في ملحق الكتاب، لكن تكفي الإشارة إلى ارتباط هذه القيود في هذا السياق وتفاعلها؛ بحيث تؤدي إلى وجود عملية التنظيم التي تخضع لها النقطة المثيرة للشفقة في أي مجال من المجالات.
كيف يمكن إذن خلق هذا التوازن والمحافظة عليه بين الأنماط الأربعة؟ ما الأدوات التي نمتلكها لإقامة بناء مختلف؟ وكيف يمكن نقل مزيج القيم من الفضاء الواقعي إلى عالم الفضاء الإلكتروني؟ كيف يمكن تغيير هذا المزيج إذا كان التغيير مطلوبًا؟
(٢) عن الحكومات وسُبل التنظيم
وصفت توًّا أربعة نماذج من القيود قلتُ إنها «تنظم» سلوك الفرد. لا توجد هذه القيود المنفصلة من تلقاء نفسها كمعطيات أساسية في الحياة الاجتماعية؛ حيث لا يمكن العثور عليها في الطبيعة ولا هي من صنع الإله. ومن الممكن تغيير أي من هذه القيود على الرغم من أن آليات تغييرها معقدة. يسهم القانون بدور كبير في هذه الآليات، وهو ما أهدف في هذا القسم إلى وصفه.
من شأن مثال بسيط أن يوضح ما أريد قوله بصورة أشمل. بفرض أن سرقة أجهزة الراديو في السيارات تمثل مشكلة. ليست مشكلة كبيرة من ناحية الحجم، لكنها مشكلة متكررة ومكلفة بحيث تستدعي مزيدًا من التنظيم. يتمثل أحد الحلول في زيادة العقوبة المفروضة على سرقة أجهزة راديو السيارات إلى السجن المؤبد مدى الحياة، بحيث تصير العواقب التي يتحملها اللصوص نتيجة السرقة أكبر بكثير من العائد من ارتكاب الجريمة. إذا أدرك اللصوص أنهم يتعرضون للسجن مدى الحياة في كل مرة يسرقون جهاز راديو من إحدى السيارات، فلن يكون منطقيًّا أن يقوموا بسرقة أجهزة الراديو، وهكذا سيكون القيد الذي يشكله تلويح القانون بتوقيع عقوبة كافيًا لوقف السلوك الذي نحاول منعه.
في المقابل، لا يعتبر تغيير القانون هو الأسلوب الوحيد الممكن لتنظيم السلوك. يتمثل أسلوبٌ ثانٍ لتغيير السلوك في تغيير معمار الراديو. تخيَّل أن مُصنِّعي أجهزة الراديو قاموا ببرمجة الأجهزة بحيث لا تعمل إلا في سيارة واحدة، من خلال كود سري يربط جهاز الراديو بسيارة معينة؛ حيث إذا تم أخذ الراديو من السيارة لن يعمل خارجها. يعتبر ذلك قيدًا من خلال الكود على سرقة أجهزة الراديو؛ حيث لا يصبح الراديو ذا قيمة بمجرد سرقته. هذا أيضًا من شأنه أن يقيد سلوك سرقة أجهزة الراديو، وسيصبح تقييد السلوك من خلال الكود أداة فعَّالة في وقف هذا السلوك، مثلما هو الحال مع عقوبة السجن مدى الحياة.
من هنا، يمكن استخدام القيد نفسه بطرق مختلفة؛ حيث تكون تكلفة كل منها مختلفة عن الأخرى. ربما تكون عقوبة السجن مدى الحياة أكثر تكلفة من الناحية المالية من تغيير الكود في أجهزة الراديو (وهو ما يعتمد على عدد من يسرقون أجهزة الراديو وعدد من يتم القبض عليهم)، وربما كان الأمر أكثر فعالية في حال تغيير الكود بدلًا من القانون، وذلك من المنظور المالي، وربما كان من الأفضل أيضًا أن يتماشى مبدأ تقليص التكلفة المالية مع تطبيق صريح القانون؛ حيث تصبح عقوبة بمثل هذه الغلظة بربرية في ضوء جريمة تافهة كهذه، وهكذا تسير القيم التي يتم تبنِّيها في خُطى الاستجابة الفعَّالة. وسيكون الكود هو أفضل وسيلة للتنظيم.
-
تمثَّل جزء من زخم الثورة الفرنسية في معمار مدينة باريس؛ إذ سهلت شوارع المدينة الصغيرة الملتفة من عملية وضع الحواجز، وهو ما جعل الثوَّار يمتلكون زمام السيطرة على المدينة دون أن يمتلكوا قوة كبيرة. أدرك لويس نابليون الثالث ذلك؛ فقام بمجموعة من الإجراءات في عام ١٨٥٣ من شأنها تغيير تصميم شوارع المدينة.30 بُنيت باريس مرة أخرى، فكانت شوارعها أكثر اتساعًا، وتضم ممرات متعددة؛ ما يجعل من المستحيل على المتمردين امتلاك زمام السيطرة في المدينة.
-
يدرس جميع طلاب المدارس تصميم لانفان؛ بغرض جعل غزو العاصمة واشنطن صعبًا. يعتبر موضع البيت الأبيض بالنسبة إلى الكابيتول (مبنى الكونجرس) أمرًا مثيرًا للاهتمام. تبلغ المسافة بين المبنيين ميلًا واحدًا فقط. شَغَل المسافة بين المبنيين في ذلك الوقت قطعة أرض غير ممهدة (كان المركز التجاري الكائن بين المبنيين حاليًّا مستنقعًا). لم تكن المسافة بين المبنيين سوى عائق كان الغرض منه هو جعل المسار بين المبنيين مائلًا، من خلال جعل الربط بينهما عسيرًا، ومن ثم يصبح من الصعب على ممثل الجهة التنفيذية (الرئيس) السيطرة على الجهة التشريعية.
-
أثرت الفكرة نفسها على إنشاء المحاكم الدستورية في أوروبا. أُنشئت المحاكم الدستورية في أوروبا في مدن بعيدة عن العاصمة. في ألمانيا، توجد المحكمة في مدينة كَرلسرو وليست في برلين. وفي جمهورية التشيك، توجد المحكمة في مدينة برنو وليست في العاصمة براغ. يرتبط السبب مرة أخرى هنا بقيد الجغرافيا. كان الهدف من إقامة المحاكم الدستورية بعيدًا عن المجالس التشريعية والجهات التنفيذية هو التخفيف من حدة ضغط كليهما على المحاكم، فضلًا عن الحد من انصياع المحاكم لهما.
-
لا يقتصر هذا المبدأ على سياسات الدفاع والأمن القومي فقط. يقوم مصممو جراجات الانتظار أو الشوارع — حيث يلعب الأطفال — بوضع مطبات صناعية على الطريق، بحيث يخفِّض سائقو السيارات من سرعاتهم. تحقق هذه المطبات الصناعية الغرض نفسه مثل قيود السرعة أو الأعراف الاجتماعية التي تهدف إلى الحد من القيادة السريعة، لكنها تعمل من خلال تغيير المعمار.
-
لا يقتصر المبدأ نفسه أيضًا على التنظيم لأغراض نبيلة؛ حيث قام روبرت موسز — على سبيل المثال — بتصميم الكباري في لونج أيلاند لتمنع مرور الحافلات عليها، بحيث لا يتمكن الأفارقة الأمريكيون، الذين كانوا يعتمدون بصورة أساسية على المواصلات العامة، من الذهاب إلى الشواطئ العامة.31 كان ذلك تنظيمًا من خلال المعمار، معمار غير عادل لكنه شائع.
-
لا يقتصر المبدأ نفسه على الحكومة فقط؛ فقد لاحظ العاملون في إحدى شركات الطيران الأمريكية الكبرى عدم رضاء المسافرين صبيحة أيام الإثنين من كل أسبوع عن البطء في استرداد أمتعتهم من الطائرات. بدأت الشركة في التوقف بطائراتها عند بوابات تبعد كثيرًا عن منطقة الحقائب؛ بحيث تكون الحقائب وصلت إليها مع وصول المسافرين إليها؛ أدى ذلك إلى رضاء المسافرين عن نظام استرداد حقائبهم.
-
تلقى فندق كبير في مدينة أمريكية شكاوى عديدة بشأن بطء مصاعده. قامت إدارة الفندق بتركيب مرايا إلى جوار أبواب المصاعد؛ فتوقفت الشكاوى.
-
يعرف القليلون المناصر الأكبر للتنظيم من خلال تغيير المعمار في القرن العشرين، رالف نادر. تعتبر تجربة نادر حول الصراع لفرض معايير السلامة على صانعي السيارات مسألة مثيرة للدهشة اليوم. كان جُل هدف نادر هو إجبار القانون لصانعي السيارات على صناعة سيارات أكثر أمانًا. يعتبر القانون الخاص بالسيارات اليوم جزءًا أساسيًّا من عوامل السلامة في السيارات، لكن كان هناك خلاف عميق حتى إزاء نقطة أساسية كهذه.32
-
درس نيل كَتيَل العلاقة بين المعمار وقانون العقوبات بصورة موسعة، من نشر إشارات المرور في الشوارع إلى تصميم الأماكن العامة لتعظيم الرؤية.33 لجأ القائمون على تنظيم أولمبياد سيدني في عام ٢٠٠٠، على سبيل المثال، «عن قصد إلى المعمار لتقليص الجريمة.»34 بدأ مصممو المعمار بتحديد مبادئ التصميم التي يمكن من خلالها تقليص معدلات الجريمة، وأطلقوا عليها جميعًا «منع الجريمة من خلال التصميم البيئي».35
ينظِّم القانون محتوى جانب كبير من هذا النمط من التعليم لا مراء. يخشى المحافظون، على سبيل المثال، من أنَّ تدريس الجنس سيغيِّر من العرف الاجتماعي الخاص بالاعتدال في ممارسة الجنس. يستخدم القانون بالتأكيد في تغيير الأعراف الاجتماعية للأطفال، سواء أكان ذلك صحيحًا أم لا. وفي حال ما إذا كان المحافظون على حق، يتخلص القانون من عرف الاعتدال في ممارسة الجنس. وفي حال ما إذا كان الليبراليون على حق، يُستخدم القانون لترسيخ عرف اجتماعي يتعلق بممارسة الجنس الآمن. أيًّا ما كان الأمر، تتضمن الأعراف الاجتماعية قيودًا خاصة بها يهدف القانون إلى تغييرها.
يمكننا تمثيل ذلك من خلال تعديل الشكل الثاني:
من المفترض أن تكون وجهة النظر واضحة الآن، ويمكن ضرب أمثلة متعددة عليها.
- أحزمة الأمان: ربما تريد الحكومة أن يضع المواطنون أحزمة أمان بصورة أكثر.43 ربما تمرر الحكومة قانونًا يشترط وضع أحزمة أمان (قانون ينظم السلوك مباشرةً). وربما تموِّل الحكومة حملات توعية عامة تهدف إلى وصم كل من لا يرتدي أحزمة أمان اجتماعيًّا (قانون ينظم الأعراف الاجتماعية كوسيلة لتنظيم السلوك). وربما تدعم الحكومة شركات التأمين بغرض عرض أسعار مخفضة للشهادات التأمينية على من يرتدون أحزمة الأمان (قانون ينظم السوق كوسيلة لتنظيم السلوك). وأخيرًا، ربما يشترط القانون وضع أحزمة أوتوماتيكية أو نظم إغلاق الاشتعال (تغيير كود السيارات كوسيلة لتنظيم سلوك وضع أحزمة الأمان). يؤدي كل إجراء من هذه الإجراءات إلى توقيع أثر ما على استخدام أحزمة الأمان، وكل منها له تكلفته. يظل السؤال بالنسبة إلى الحكومة هو: كيف تجعل أكبر عدد ممكن من الناس يضعون أحزمة الأمان بأقل تكلفة؟
- التمييز ضد ذوي الاحتياجات الخاصة: يتحمل ذوو الاحتياجات الخاصة عبء عوائق اجتماعية ونفسية كبيرة في الحياة اليومية.44 ربما تقرر الحكومة أن تفعل شيئًا حيال هذه العوائق. يتمثل الحل التقليدي في وضع قانون ينظم السلوك مباشرةً، قانون يمنع التمييز بين المواطنين بناءً على الإعاقة الجسدية. يستطيع القانون أن يقوم بما هو أكثر من ذلك. ربما يقوم القانون، على سبيل المثال، بتعليم الأطفال بغرض تغيير الأعراف الاجتماعية (تنظيم الأعراف الاجتماعية لتنظيم السلوك)، وربما يقوم القانون بدعم الشركات لتوظيف ذوي الاحتياجات الخاصة (تنظيم السوق لتنظيم السلوك)، وربما ينظم القانون قوانين البناء بغرض تيسير دخول ذوي الاحتياجات الخاصة إليها (تنظيم القوانين «الطبيعية» أو قوانين الفضاء الواقعي لتنظيم السلوك). يؤثر كلٌّ من هذه الأشكال التنظيمية على مسألة التمييز، وكل منها له تكلفته. يجب على الحكومة إذن أن تزن بين التكاليف والفوائد، ثم تختار النمط الأكثر فعالية في التنظيم.
-
المواد المخدرة: لا تكف الحكومة عن التفكير في الحد من تعاطي المواد المخدرة. تتمثل الاستراتيجية
الرئيسة للحكومة في التنظيم المباشر للسلوك من خلال التلويح بعقوبات بربرية بالسجن
لمخالفة قوانين تعاطي المواد المخدرة. تشتمل هذه السياسة على تكاليف واضحة وفوائد غير
واضحة. يهمنا في هذا المقام التكاليف غير الواضحة. يتمثل أحد الأنماط الفعالة لتنظيم
تعاطي المواد المخدرة غير القانونية في البناء الاجتماعي للمجتمع الذي يعيش فيه
الفرد.45 هذا هو ما أطلق عليه قيود الأعراف الاجتماعية؛ أي معايير السلوك المقبول
الذي يضمن أحد المجتمعات تطبيقها من خلال العقوبات، سواء أكان ذلك من خلال الخزي
الاجتماعي أم الإقصاء أو القوة.
ومثلما تعمل الحكومات على تدعيم قيود الأعراف الاجتماعية هذه، قد تعمل الحكومة أيضًا على إضعافها.46 تتمثل إحدى طرق القيام بذلك في إضعاف المجتمعات التي تُطبَّق فيها هذه الأعراف. يعتبر هذا مثالًا على العقوبات القصوى في قانون العقوبات، على حد قول ميرز.47 تؤدي هذه العقوبات من خلال تطرفها وآثارها إلى تقويض البنى الاجتماعية التي تدعم هذه السياسة الاجتماعية. يعتبر هذا مثالًا على الأثر غير المباشر للتنظيم المباشر للقانون، وعند مرحلة ما يتخطى هذا الأثر أثر القانون نفسه. يمكننا أن نطلق على هذا الأثر منحنى لافر للقانون الجنائي.لا يمكن استنتاج محصلة آثار هذه القيود المختلفة بصورة مسبقة. تتصرف الحكومة بطرق عديدة لتنظيم تعاطي المواد المخدرة. تدعم الحكومة حملات التوعية العامة الشاملة لوصم تعاطي المواد المخدرة اجتماعيًّا (تنظيم الأعراف الاجتماعية لتنظيم السلوك). تقوم الحكومة بمصادرة المواد المخدرة على الحدود، ومن ثم تقلل من الكميات المعروضة، وتزداد الأسعار، ويتقلص الطلب بناءً على ذلك (تنظيم السوق لتنظيم السلوك). في أوقات أخرى، تنظِّم الحكومة (بصورة مضحكة مبكية في آن واحد) «كود» المواد المخدرة (من خلال رشِّ حقول الماريجوانا، على سبيل المثال، مادة الباراكوات)، وهو ما يجعل الماريجوانا أكثر سميَّة، ومن ثم يزداد القيد على تعاطيها.48 تؤثر هذه الإجراءات جميعًا على تعاطي المواد المخدرة. في المقابل، يرى مؤيدو وضع التشريعات أن هذه الإجراءات تؤدي إلى ظهور سلوكيات إجرامية أخرى. يجب على صانعي السياسات إذن تقييم محصلة الآثار فيما إذا كانت تؤدي هذه الأشكال التنظيمية في مجملها إلى تقليص أو زيادة التكاليف الاجتماعية.
- الإجهاض: نصل إلى المثال الأخير. منذ قضية «رو ضد ويد»، أقرت المحكمة الدستورية العليا بحق المرأة الدستوري في الإجهاض.49 في المقابل، لم يمنع هذا الحق الحكومة من السعي لوقف حالات الإجهاض أو الحد منها. مرة أخرى، لا تحتاج الحكومة إلى تنظيم الإجهاض بصورة مباشرة (وهو ما يعتبر غير دستوري وفق حيثيات قضية «رو ضد ويد»). تستطيع الحكومة، في المقابل، أن تلجأ إلى أساليب غير مباشرة لتحقيق الغرض نفسه. في قضية «راست ضد سوليفان»، دعمت المحكمة الدستورية العليا سلطة الحكومة في التحيز عند تقديم مشورة تنظيم الأسرة، من خلال منع الأطباء من ذكر الإجهاض كأحد وسائل تنظيم الأسرة في عيادات «مدعومة حكوميًّا».50 يعتبر هذا مثالًا على تنظيم الأعراف الاجتماعية (داخل البناء الاجتماعي لنظام الرعاية الصحية) لتنظيم السلوك. في قضية «ماهر ضد رو»، دعمت المحكمة الدستورية العليا حق الحكومة في منع تمويل بعض الجهات الطبية لإجراء عمليات إجهاض. يعتبر هذا مثالًا على استخدام السوق لتنظيم السلوك.51 وفي قضية «هودجسون ضد مينيسوتا»، دعمت المحكمة الدستورية العليا حق الدولة في إجبار النساء القاصرات على الانتظار ثمانيًا وأربعين ساعة قبل إجهاضهن.52 يعتبر هذا مثالًا على استخدام قانون الفضاء الواقعي (قيود الوقت) لتنظيم إجراء عملية إجهاض. في جميع هذه الحالات، بخلاف قضية «رو ضد ويد»، تستطيع الحكومة تنظيم سلوك النساء الراغبات في الإجهاض.
عندما ننظر إلى التنظيم بهذه الصورة الأعم، نستطيع أن ندرك إلى أي مدًى تعد مسألة عدم قابلية الفضاء الإلكتروني للتنظيم مُلحَّة. نستطيع أن ندرك أكثر فأكثر كيف يمكن أن تتدخل الدولة لإنجاح عملية التنظيم، كما يجب أن ندرك الأخطار المتزايدة التي تنشأ عن هذا الميل إلى التنظيم الشامل. يجب أن ندرك أيضًا أكثر فأكثر الخطر الذي يمثله التنظيم للقيم الدستورية. يتناول القسم التالي أحد هذه المخاطر.
(٣) مشكلات الأسلوب غير المباشر
لا تهم هنا تفاصيل الخطة الكلية. يكفي أن نركز على جانب واحد فقط. منح الكونجرس الولايات خيارًا من أجل حثِّها على اتِّباع الإرشادات الفيدرالية لتنظيم التعامل مع النفايات النووية. خيَّر الكونجرس الولايات بين تنفيذ أشكال تنظيمية محددة أو «الاحتفاظ» بالوقود النووي المستهلك. كان ذلك تنظيمًا من نوع «أعطني مالك أو أقتلك»؛ حيث لم يكن الوقود الذي ستحتفظ به الولايات أصلًا مضافًا بل دَيْن. كان الكونجرس يفرض بأسلوب يتسم بالغلظة الشديدة على الولايات تمرير أشكال تنظيمية كان يريدها.
ألغت المحكمة الدستورية العليا هذا الجزء من القانون. في واقع الأمر، أكدت المحكمة على أن الكونجرس كان يجبر المجالس التشريعية في الولايات على تطبيق قانون شرعه الكونجرس. يمتلك الكونجرس، بطبيعة الحال، السلطة اللازمة لتمرير مثل هذه القوانين مباشرةً، لكنه لا يمتلك السلطة لإجبار الولايات على تمرير القوانين. لا يُسمح هنا باتباع الأساليب غير المباشرة.
لا تمثِّل هذه القضية — نيويورك ضد الولايات المتحدة — المبدأ العام لقيام الحكومة بعملية التنظيم من خلال طرق مباشرة فقط، أو حتى أن عملية التنظيم غير المباشرة هي عملية غير مفضلة بصورة عامة. كانت القضية تركِّز بصورة أساسية على مسألة التدخل غير المباشر فيما يتعلق بالولايات. يعتبر غاية ما تمثله قضية نيويورك ضد الولايات المتحدة هو أنه لا يمكن تحييد الولايات — ككيانات سيادية مستقلة تستحق احترامًا دستوريًّا بصورة خاصة — بغرض خدمة أهداف الحكومة الفيدرالية؛ بمعنى أنه عندما تمتلك الحكومة الفيدرالية برنامجًا تريد أن تنفذه، عليها ألا تفرضه بصورة مباشرة على الولايات.
بينما لا ترسِّخ قضية نيويورك ضد الولايات المتحدة مبدأ دستوريًّا عامًّا، تشير القضية إلى الأسباب التي تجعل الأساليب غير المباشرة تشكل قلقًا عامًّا.
كان هدف هذا الأسلوب التنظيمي واضحًا؛ ألا وهو تقليل عدد حالات الإجهاض. كان يتم تنفيذ هذا الأسلوب التنظيمي عن طريق الأطباء الذين كانوا يثنون المرضى عن اللجوء إلى الإجهاض. يمتلك الطبيب سلطة هائلة إزاء المرضى في سياقات كهذه. بطبيعة الحال، سيميل المرضى إلى الاعتقاد بصحة توصية الأطباء بعدم اللجوء إلى الإجهاض.
لاحظ طريقة تطبيق الأسلوب. كانت الحكومة تستطيع التعبير عن موقفها مباشرة عن الإجهاض. كانت تستطيع وضع الملصقات واللوحات الإعلانية التي تشير إلى أن الإجهاض شيء خاطئ. وربما اختارت الحكومة استخدام فضاء عياداتها للتعبير عن رؤيتها. في المقابل، اختارت الحكومة مواراة سياستها في كلمات الأطباء. استطاعت الحكومة إذن الاعتماد على السلطة المهنية للأطباء لتنفيذ أهدافها. استطاعت الحكومة تنظيم الإجهاض بصورة غير مباشرة من خلال تنظيم سلوك الأطباء مباشرةً.
مثلما حاولت الحكومة استخدام سلطة الولايات لتنفيذ أهدافها في قضية نيويورك ضد الولايات المتحدة، تعتمد الحكومة على إساءة تمثيل الموضوع في قضية «راست ضد سوليفان». يعتبر الأمر أكثر سوءًا هنا مما في سياق فرض السلطة الفيدرالية؛ حيث لا تدرك الضحية حتى أن عملية إساءة تمثيل موضوع هي عبارة عن سياسة من وضع الحكومة. لن يستمع المريض إلى مشورة الطبيب، على الأرجح، في صورة نشرة سياسية من الحكومة، بل يستمع إليها، على الأرجح، في صورة رأي طبي. لا يوجد خلط حول من هو مسئول عن الرأي الذي تم تقديمه وحسب، بل حول ما إذا كان ذلك رأيًا صحيحًا من الأساس.
بقدر ما كانت هذه الاشتراطات مريعة كانت تتميز بالصدق. عبَّرت هذه الاشتراطات عن الغرض منها في وضوح، وكانت شفافة فيما يتعلق بالقيم التي تدعمها. لم يستطع أحد التظاهر بأن الفصل العنصري الذي ساهمت هذه الاشتراطات في تطبيقه كان منتجًا ثانويًّا عَرَضيًّا لقرارات تم اتخاذها في مكان آخر. على الرغم من أن هذه التعهدات كانت تعهدات خاصة، فإن الولاية كانت مسئولة عن تنفيذها، بل كانت هذه التعهدات تستلهم معانيها من الولاية ذاتها. كان لسان حال الجميع هو: هذا مجتمع عنصري.
عندما قضت المحكمة الدستورية العليا بعدم دستورية هذه التعهدات، صار السؤال هو: أي اشتراطات أخرى تحل محلها؟ قليلون فقط هم من توقعوا أن تختفي التوجهات الكامنة وراء هذه التعهدات فجأة بسبب قرار محكمة واحد. من هنا، عندما تفصل المحكمة الدستورية العليا بوجوب انتهاء الفصل العنصري المباشر، علينا أن نتوقع ظهور الفصل العنصري غير المباشر ليحل محله.
قامت الحكومات المحلية إذن بشيء يشبه كثيرًا ما قامت به الحكومة الفيدرالية في قضية «راست ضد سوليفان»، وحاولت القيام به في قضية نيويورك ضد الولايات المتحدة. فنظرًا لعدم قدرتها على ترسيخ الفصل العنصري بصورة مباشرة، لجأت الحكومات المحلية إلى قوانين تخطيط المناطق — الإطار العام الجغرافي أو كود الفضاء الواقعي — لترسيخه بصورة غير مباشرة. قامت الحكومات المحلية ببناء مجتمعاتها وتصميم شوارعها إذن بحيث تصعِّب من عملية التكامل، كما نجحت أساليب تنظيم تخطيط مناطق تتميز بضآلتها من حيث مستوى عدم الراحة الذي تسببه للمستفيدين منها في فصل المجتمعات.
أهم ما في الأمر الآن هو أنه، أكثر حتى من قضية «راست ضد سوليفان»، صار من العسير للغاية إدراك العلاقة بين التنظيم وآثاره. يعتبر الفصل العنصري المستمر بين هذه المجتمعات نتاج عملية «اختيار». يختار الأفراد العيش في حي مفضلين إياه على حي آخر. هذا صحيح بالمعنى الضيق للعبارة، لكن اختيارات المواطنين في هذه الحالة تتم في مواجهة تكاليف فرضتها الدولة. اختار الناس أن يكونوا منفصلين لأن هذا أسهل. يصبح الأمر أكثر فأكثر سهولة؛ نظرًا لأن الحكومة فعلت كل ما وَسِعَها حتى صار الوضع على ما هو عليه.
تقوم الحكومة في هذا السياق بعملية التنظيم بصورة غير مباشرة، عن طريق استخدام مكونات كود الفضاء الواقعي لتحقيق أهدافها، لكن عملية التنظيم بهذه الصورة لا يُنظر إليها على أنها تنظيم من الأساس. تحقق الحكومة هنا أهدافها دون أي تكلفة اقتصادية. تتحصل الحكومة على منافع من تنظيمٍ كان سيُنظر إليه كتنظيم غير قانوني ومحل خلاف دون حتى أن تقر بوجود أي تنظيم.
لا أرمي هنا، إذن، إلى مهاجمة التنظيم غير المباشر بصورة عامة، بل أرمي إلى التركيز على الشفافية. لا يحق لأي حكومة أن تخفي أجندتها. يجب أن تكون كل الأشكال التنظيمية في حكومة ديمقراطية دستورية علنية؛ لذا يعتبر أحد الأسئلة المثارة من خلال ممارسة أشكال التنظيم غير المباشرة هو مسألة العلنية. هل يجب السماح للحكومة باستخدام أساليب لا تتسم بالشفافية في ظل توافر الأساليب العلنية لتحقيق أهدافها؟
(٤) إلى أين يؤدي كل ذلك؟
اتساقًا مع صورة أستاذ قانون بجامعة هارفرد … لا يرى لسيج الصورة الكاملة مكتفيًا بالاستغراق في التفاصيل في حبور بالغ … بينما كانت فكرته المتكررة حول كود الساحل الغربي (من مبرمجي وادي السيليكون)، في مقابل كود الساحل الشرقي (من واضعي التشريعات الحكومية) مصطنعة على نحو بالغ، لا يري لسيج الفرق الحقيقي بين الاثنين.
يبدو أن الأستاذ الطيب يستخدم لفظة «تنظيم» لتنطبق بالتساوي على جهود الشركات الخاصة للسيطرة على سلوك عملائها، من خلال آليات السوق، وعلى جهود المؤسسات الحكومية للسيطرة على سلوك جميع المواطنين من خلال قوة القانون.
سواء أدركتُ أم لم أدرك «الفرق الحقيقي» بين الكود والقانون، تتمثل عبقرية هذا الخطاب في أن كاتبه يرى الشبه بين الاثنين بوضوح. يدرك كاتب الرسالة (وهو رئيس إحدى شركات الإنترنت) أن «الشركات الخاصة» تحاول «السيطرة على سلوك عملائها»، ويكتب أن هذه الشركات تستخدم «آليات السوق» لتحقيق هذه السيطرة. (بصورة أكثر دقة، كنت أتحدث عن المعماريات وليس الأسواق لتحقيق السيطرة، لكن لا يهم ذلك الآن. سواء أكانت الأسواق أم المعماريات، يظل الموضوع محل النقاش هو نفسه.) يرى كاتب الرسالة إذن وجود «تنظيم» يتجاوز القانون. يختار كاتب الرسالة الكود المفضل له من بين الاثنين (وهو ما يتماشى مع كونه مسئولًا تنفيذيًّا).
ما يدركه كاتب هذه الرسالة هو ما يجب أن ندركه جميعًا لفهم طريقة تنظيم الفضاء الإلكتروني، ولفهم كيف يستطيع القانون تنظيم الفضاء الإلكتروني. تحدثت في هذا الفصل عن امتلاك الحكومة للعديد من الأدوات تستخدمها في عملية التنظيم. والفضاء الإلكتروني يوسع من هذه الأدوات. تستطيع الحكومة بصورة غير مباشرة من خلال تنظيم وضع الكود تحقيق أهداف تنظيمية دون الحاجة إلى تحمل التبعات السياسية، وذلك لتحقيق الأهداف التنظيمية نفسها التي تسعى لتحقيقها بصورة مباشرة.
يجب أن نشعر بالقلق حيال ذلك. يجب أن نشعر بالقلق حيال نظام يجعل التنظيم غير المباشر أسهل. يجب أن نشعر بالقلق حيال نظام يجعل عملية التنظيم أسهل. يجب أن نشعر بالقلق حيال الموضوع الأول؛ لأن الأساليب غير المباشرة في التنظيم تجعل مقاومة أشكال التنظيم السيئة صعبة. يجب أن نشعر بالقلق حيال الموضوع الثاني؛ لأننا لا ندرك بعد — كما أشير في الجزء الثالث — مجموعة القيم التي تتهددها أخطار جراء تزايد مجال تطبيق التنظيم الفعَّال.
هناك دواعٍ كثيرة للقلق لا شك في ذلك، لكن قبل أن نناقش دواعي القلق هذه سننظر بمزيد من التفصيل أولًا في السياقات التي تصبح فيها دواعي القلق هذه حقيقية.