الترجمة
نظرًا للصراع الذي كان يدور بين المسئولين أنفسهم عن إنفاذ القانون حول مدى أخلاقية اللجوء إلى التنصُّت على المكالمات الهاتفية، كان يتم اللجوء إلى هذا الأسلوب بصورة محدودة. في المقابل، في حال وجود تهديدات خطيرة، كان يتم استخدام أسلوب التنصت على نطاق واسع. كانت المشروبات الكحولية — الشغل الشاغل للسلطات في ذلك العصر — مثالًا على مثل هذا النوع من التهديدات الخطيرة.
- (أ)
يُحظر التعدي على حق الأفراد في ضمان أمنهم فيما يتعلق بأنفسهم، ومنازلهم، ووثائقهم، وممتلكاتهم ضد عمليات التفتيش والمصادرة خارج سلطة القانون المعقولة.
- (ب)
ويُحظر منح أذون قضائية، بدون سبب معقول، لا يؤيدها قسم أو ما يحل محله، ولا تصف مكان التفتيش، والأشخاص المطلوب القبض عليهم أو الأشياء المطلوب مصادرتها على وجه التحديد.
خلق هذا النظام القانوني عدة تهديدات لضابط الشرطة قبل إجرائه عملية تفتيش لمنزل أحد الأشخاص. فإذا قام الضابط بإجراء عملية تفتيش ولم يجد شيئًا، أو إذا وجد أحد المحلفين لاحقًا أن عملية التفتيش لم تتم في حدود سلطة القانون المعقولة، كان الضابط يلقى جزاء سلوكه غير القانوني من خلال تحمله شخصيًّا تبعات التعدي على حقوق الآخرين.
في المقابل، وفَّر النظام القانوني ضمانة ضد هذا التهديد تتمثل في الإذن القضائي. فإذا حصل ضابط الشرطة على إذن قضائي قبل القيام بعملية تفتيش، يُحصِّن هذا الإذنُ الضابطَ ضد تحمل تبعات التعدي على خصوصية الآخرين. وفي حال لم يجد الضابط أي شيء غير قانوني، أو تكشَّف أن عملية التفتيش التي يجريها لا تتم في حدود سلطة القانون المعقولة، يظل لديه دفاع (إذن التفتيش) يقيه من التعرض للمقاضاة.
كانت عملية تكوين الدوافع أحد أهداف النظام القانوني الأصلي. منح القانون ضابط الشرطة دافعًا للحصول على إذن قضائي قبل إجراء أي عملية تفتيش. وفي حال عدم يقينه من دافعه، أو لتجنب تحمُّل تبعات عملية التفتيش، يستطيع الضابط التأكد من سلامة حكمه من خلال اللجوء إلى استشارة قاضٍ. في المقابل، إذا كان الضابط على يقين من سلامة حكمه، أو لم يُمانع في تحمُّل التبعات، فلن يجعل عدم الحصول على إذن قضائي عملية التفتيش خارج سلطة القانون المعقولة تلقائيًّا. كان الضابط معرضًا لتهديد زيادة المسئولية عن تبعات عملية التفتيش، لكن لا يعدو الأمر أكثر من ذلك؛ حيث لا يهدد الضابط سوى هذه التبعات فقط.
هذا هو أصل المادة (ب) من التعديل الرابع. اشترط واضعو الدستور على القضاة، عند منح أذون التفتيش، تسمية «مكان التفتيش، والأشخاص المطلوب القبض عليهم، أو الأشياء المطلوب مصادرتها على وجه التحديد»، بحيث لا يتمكن القضاة من منح أذون تفتيش تُعطي سلطات عامة. تنحصر حصانة الإذن القضائي في أشخاص وأماكن محددة، وفقط عند توافُر سبب معقول لمنح الإذن.
وُضع هذا النظام الدستوري بحيث يوجد توازن بين مصالح الأفراد في تحقيق الخصوصية وبين مصلحة الحكومة المشروعة في إجراء عمليات تفتيش. توافَر لدى ضابط الشرطة دافع الحصول على إذن قضائي (لتجنُّب تحمُّل تَبِعات عملية التفتيش بصورة شخصية). توافَرت لدى القاضي قاعدة تقيِّد شروط منح إذن تفتيش قضائي. ومعًا، حصرت هذه المعماريات الانتهاكات الحكومية للخصوصية في الحالات التي تنطوي على أسباب وجيهة لانتهاك الخصوصية فقط.
كل ما سبق كان مجرد خلفية. انتبه الآن إلى ما يلي.
افترض النظام القانوني الأصلي الكثير من الأشياء. ربما كان أكثر تلك الأشياء بديهية هو أنه افترض وجود نظام قانون عام يتمثل في قانون التعدي، وقد أدى تهديد التبعات القانونية جراء تطبيق قانون التعدي إلى تكوين دوافع لدى ضباط الشرطة من أجل الحصول على أذون تفتيش قضائية في المقام الأول. وضع هذا الافتراض الملكية الخاصة في القلب من الضمانات الأصلية للدستور.
افترض النظام القانوني الأصلي أيضًا الكثير من الأشياء فيما يتعلق بالتكنولوجيا المتوافرة في ذلك الوقت. يركِّز التعديل الرابع على التعدي؛ نظرًا لأن التعدي كان هو الوسيلة الرئيسة للتفتيش في ذلك الوقت. كانت اشتراطات التعديل الرابع ستصبح في غير محلها في حال توافُر إمكانية الكشف عن محتويات أحد المنازل دون الدخول إليه. في المقابل، كانت ضمانات التعديل الرابع منطقية؛ حيث كانت ترمي إلى تحقيق توازن بين سلطة الحكومة في إجراء عمليات تفتيشٍ، وبين حق الأفراد في الخصوصية بالنظر إلى قانون التعدي وتكنولوجيات اختراق الخصوصية السائدة في نهاية القرن الثامن عشر.
يغيب عن تاريخ معالجة المحكمة الدستورية العليا لهذه الأسئلة وجود نمط واضح تمامًا، لكن نستطيع في المقابل تحديد استراتيجيتين مختلفتين متنافستين للمحكمة. تتركَّز الاستراتيجية الأولى فيما قد يفعله واضعو الدستور أو المؤسسون في هذه الحالة؛ ألا وهي استراتيجية الخطوة الواحدة للالتزام بالمقاصد الأصلية للدستور. تهدف الاستراتيجية الثانية إلى البحث عن قراءة حالية للدستور الأصلي تحفظ معناه الأصلي في السياق الحالي، وهي الاستراتيجية التي أطلق عليها الترجمة.
توجد كلتا الاستراتيجيتين في قضية «أولمستيد ضد الولايات المتحدة» للتنصُّت على الهواتف. عندما قامت الحكومة بالتنصُّت على هواتف المتهمين دون الحصول على أي إذن قضائي، كان على المحكمة الدستورية العليا أن تقرر ما إذا كان استخدام مثل هذا الدليل مسموحًا به أو متفقًا مع مبادئ التعديل الرابع. دفع المتهمون قائلين: يجب على الحكومة أن تحصل على إذن قضائي للتنصُّت على الهواتف. دفعت الحكومة قائلة: لا ينطبق التعديل الرابع ببساطة على هذه الحالة.
كانت وجهة نظر الحكومة في غاية البساطة. افترض التعديل الرابع افتراضًا أوليًّا يتمثل في ضرورة تعدي الحكومة بغرض إجراء عملية تفتيش، وكان التعديل ينظِّم شروط تعدي ضباط الشرطة على الخصوصية. في المقابل، نظرًا لأن عملية التنصت على الهواتف تعتبر اختراقًا للخصوصية دون تعدٍّ، تستطيع الحكومة التنصُّت على هواتف المتهمين دون أن تقتحم منازلهم، ومن هنا لا تنطبق شروط التعديل الرابع في هذه الحالة. لا ينسحب التعديل الرابع ببساطة على حماية حالات اختراق الخصوصية التي تقع دون أن يكون هناك تعدٍّ على ممتلكات الأفراد.
أمَّنت المحكمة الدستورية العليا على هذا الرأي. في قرار للمحكمة كتبه رئيسها القاضي (والرئيس السابق للبلاد)، ويليام هوارد تافت، اتبعت المحكمة رأي الحكومة.
في المقابل، كانت وجهة نظر القاضي براندايس مختلفة في تعليقه على قرار المحكمة (كانت هناك رؤًى مختلفة أيضًا للقضاة هولمز، وستون، وبَتلر). كان التركيز في رأي براندايس، كما هو الحال في رأي تافت على الالتزام بالمقصد الأصلي للتعديل الرابع. يظل الالتزام من وجهة نظر القاضي براندايس مختلفًا.
يُميِّز هذان الرأيان نمطين مختلفين في عملية التأويل الدستوري. يرى تافت الالتزام بالمقصد الأصلي في التعديل الرابع من خلال تكرار ما قام به واضعوه، فيما يرى براندايس الالتزام بالمقصد الأصلي في التعديل الرابع من خلال البحث عن نظير حالي لما قام به واضعوه. إذا اتبعنا رأي تافت، على حد قول براندايس، لن نحترم ضمانات الخصوصية التي أسس لها واضعو التعديل الرابع. وإذا اتبعنا رأي براندايس، كما يشير تافت ضمنًا، سنضيف شيئًا إلى الدستور لم يكتبه واضعوه.
ادعى المتحزبون على الجانبين أن رأي الآخر كان «سيُغير» من معنى الدستور. لكن، رأي مَن؟ هل «سيغير» رأي المحكمة أو رأي القاضي براندايس من معنى التعديل الرابع؟
للإجابة على هذا السؤال يجب أن نسأل أولًا: تغيير بالنسبة إلى ماذا؟ ما هو المحك المرجعي الذي يُعتبر هذا التغيير تغييرًا نسبةً إليه؟ بالتأكيد، كان براندايس سيوافق على الرأي القائل بأن المحكمة كانت ستعتبر أي حالة يتجاوز فيها تطبيق التعديل الرابع عملية التعدي أمرًا غير مقبول في عام ١٧٩١. في المقابل، إذا تغيَّر شيء تم افتراضه أوليًّا في المقصد الأصلي للتعديل الرابع، أفليس أمرًا بديهيًّا أن يكون رد فعل المحكمة الدستورية العليا المناسب هو أن تتصرف كما لو أن شيئًا لم يتغير على الإطلاق؟
أخذ أسلوب براندايس تغيير الافتراض الأولي في الاعتبار. قدَّم براندايس قراءة غيَّرت من مجال تطبيق التعديل الرابع بغرض الحفاظ على ضمانات التعديل الرابع فيما يتعلق بالخصوصية. في المقابل، قدَّم تافت قراءة حافظت على مجال تطبيق التعديل الرابع، لكنَّها غيَّرت ضماناته بشأن الخصوصية. أبقت كلتا القراءتين على شيء ثابت، فيما غيَّرت كلٌّ منهما شيئًا ما. يبقى السؤال هو: أي القراءتين حافظت على الالتزام بالمقصد الأصلي للتعديل الرابع؟
في المقابل، تغيرت هذه الحماية مع ظهور الهواتف. توافرت معلومات شخصية كثيرة عبر خطوط الهواتف. تغيَّر الوضع الآن، وإذا لم تعتبر عملية التنصت تعديًا، قلَّت كثيرًا نسبة ما يتم حمايته من الحياة الشخصية ضد التلصص الحكومي. صارت نسبة ٥٠٪ فقط من الخصوصية هي المحمية الآن بدلًا من ٩٠٪ منها.
أراد براندايس قراءة التعديل الرابع بحيث يحمي نسبة اﻟ ٩٠٪ من الخصوصية التي كان يحميها في الأصل، حتى لو كان ذلك يتطلب حماية الأفراد ضد ما هو أكثر من مجرد التعدي. يمكن أن نقول إن براندايس أراد أن يقرأ التعديل الرابع قراءة مختلفة بحيث يوفِّر الحماية نفسها في مقصده الأصلي.
إذا كان ثمة قاضٍ يستحق مديح الفضاء الإلكتروني، إذا كان ثمة رأي للمحكمة الدستورية العليا يستحق أن يكون نموذجًا للناشطين في الفضاء الإلكتروني في المستقبل، إذا كان ثمة فصل أول في الصراع لحماية الفضاء الإلكتروني؛ فهو هذا القاضي، وهو هذا الرأي، وهي هذه القضية. يعطي براندايس نموذجًا لقراءة الدستور بغرض الحفاظ على معناه وقيمه عبر الأزمان والسياقات. يعتبر رأي براندايس أسلوبًا يُقر بالتغيير ويضمنه بغرض الحفاظ على شيء منحنا إياه واضعو الدستور في الأصل. يعتبر رأي براندايس أسلوبًا يترجم معنى الدستور عبر سياقات غاية في الاختلاف، سواءٌ أكانت هذه السياقات بعيدة زمنيًّا مثلما نحن بعيدون عن واضعي الدستور، أم مثلما يبعد الفضاء الإلكتروني عن الفضاء الواقعي.
اتُّهم تشارلز كَتز بنقل معلومات تتعلق بلعبة المقامرة إلى عملاء في ولايات أخرى عبر الهاتف. قام عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالية بتسجيل نصف مكالمات كَتز الهاتفية العديدة من خلال وضع جهاز تنصُّت خارج كشك الهاتف العام؛ حيث كان كَتز يُجري مكالماته. اتُّهم كَتز بناءً على الأدلة التي قدمتها هذه التسجيلات، وأيدت محكمة الاستئناف الحكم استنادًا إلى الحكم في قضية «أولمستيد ضد الولايات المتحدة».
وجدتُ نفسي، كمساعد [قانوني] لقاضي المحكمة الدستورية العليا بوتر ستيوارت، أعمل في قضية تتضمن مراقبة الحكومة إلكترونيًّا لأحد المتهمين جنائيًّا، من خلال جهاز صغير تم وضعه خارج أحد أكشاك الهاتف العامة. نظرًا لأن اختراق خصوصية المشتبه به لم يتم من خلال التعدي المادي على «منطقة يحميها الدستور»، دفعت الحكومة الفيدرالية، استنادًا إلى قضية «أولمستيد ضد الولايات المتحدة»، بعدم وجود أي «تفتيش» أو «مصادرة»، ومن ثم لا ينطبق التعديل الرابع في «حق الأفراد في ضمان أمنهم فيما يتعلق بأنفسهم، ومنازلهم، ووثائقهم، وممتلكاتهم ضد عمليات التفتيش والمصادرة خارج سلطة القانون المعقولة».
حذت المحكمة الدستورية العليا في قرارها حذو براندايس بدلًا من تافت. سعت المحكمة إلى تبني قراءة للتعديل الرابع جعلت للتعديل معنًى منطقيًّا في سياق متغير. في سياق واضعي التعديل في عام ١٧٩١، كانت حماية الممتلكات الخاصة ضد التعدي طريقة فعَّالة لحماية التعدي على الخصوصية، لكن في سياق «كَتز ضد الولايات المتحدة»، في ستينيات القرن العشرين، لم يتحقق ذلك. في ستينيات القرن العشرين، كانت الحياة الخاصة تجري في أماكن لا تنطبق عليها قواعد الممتلكات الخاصة (في «الأثير»، على سبيل المثال، لشبكة هواتف شركة إيه تي آند تي). وهكذا لم يحمِ النظام القانوني، الذي جعل الخصوصية ترتكز على الملكية الخاصة، الخصوصيةَ بنفس الدرجة التي كان يقصدها واضعو التعديل. سعى القاضي ستيوارت في قضية «كَتز ضد الولايات المتحدة» إلى علاج ذلك من خلال ربط التعديل الرابع بطريقة أكثر مباشرة لحماية الخصوصية.
على الرغم من صعوبة رسم حدود فاصلة واضحة، يتضح على أقل تقدير اتخاذ واضعي مواد التعديل الرابع خيارًا واعيًا لحماية الخصوصية. لم تكن مسألة الخصوصية موضوعًا غير مطروح في النقاش الأصلي حولها، ولم تكن مسألة لم يلحظها أحد. كما لم تكن مسألة الخصوصية المطروحة للنقاش هي نفسها «حق الخصوصية» التي يتذمر منها المحافظون في سياق الحديث عن حق الإجهاض، إنما هي حق الحرية من انتهاك الدولة «قدسية» المكان الخاص. كانت التهديدات التي مثَّلتها القيود الحكومية على خصوصية الأفراد تقع في القلب من الحركة التي أدَّت إلى نشأة الجمهورية. حاول كل من براندايس وستيوارت تفعيل هذا الخيار في سياقات لم يعد النظام القانوني الأصلي قادرًا على تفعيله فيها.
هذه هي الحالات السهلة. وهي أكثر سهولة في حال إذا لم نحاول نقل القيم من ماضٍ بعيد إلى المستقبل، بل إذا حاولنا نقل القيم من سياق إلى آخر فقط؛ فحين نعلم أي القيم نريد الحفاظ عليها لا نحتاج إلا أن نتمتع بالإبداع في طريقة الحفاظ على هذه القيم.
يقدِّم الفضاء الإلكتروني العديد من الأمثلة على هذه الحالات. عندما يصادف القضاة هذه الحالات، يجب أن يحذوا حذو براندايس. يجب على القضاء أن يقوم بعملية ترجمة، وأن يدفع المحكمة الدستورية لتقوم بالمثل. عندما تتغير الظروف بحيث تُفضي إلى محو ضمانات أحد الحقوق الأصلية التي يكفلها النص، يجب على المحكمة الدستورية العليا تبني قراءة للدستور تستعيد هذا الحق مرة أخرى.
في المقابل، توجد حالات غير سهلة. أحيانًا لا تكون الترجمة خيارًا، وأحيانًا لا تعود القيم التي تحاول الترجمةُ الحفاظَ عليها قيمًا نرغب في الحفاظ عليها. في أحيان أخرى، لا نعرف أي القيم سيقع عليها الاختيار للترجمة. كانت تلك هي المعضلة في الفصل الثاني عن الدودة التي كشفت عن حالات لبس كامنة. تكشف السياقات المتغيرة في بعض الأحيان عن حالة لبس كامن في السياق الأصلي. يجب علينا إذن أن نختار بين قيمتين مختلفتين؛ حيث يمكن أن تكون أي منهما متفقة مع القيمة الأصلية. لا نستطيع إذن أن نقول إن السياق الأصلي (سواء الآن أو منذ مائتي عام) أنهى المسألة؛ وذلك نظرًا لأن أيًّا من الاختيارين قد يكون صائبًا.
ذلك هو الالتزام بالمعنى الأصلي للدستور في صورة ترجمة. يبدو هذا النوع من الترجمة كما لو كان مجرد نقل شيء قيل قبلًا. تُخفي هذه الترجمة الإبداع في ممارستها، كما تدَّعي إظهار نوع من الاحترام أو التهذيب للمعنى الأصلي. تؤكِّد هذه الطريقة في قراءة الدستور على أن القرارات السياسية المهمة اتُّخذت بالفعل، ولا يتبقى سوى إجراء بعض التعديلات الفنية فقط. تهدف هذه الترجمة إلى الحفاظ على ضبط نغمات البيانو أثناء نقله من قاعة حفلات إلى أخرى.
لكن يقدِّم ترايب مثالًا قد يجعل هذا الأسلوب في الترجمة غير ذي معنًى. يدور المثال حول معنى مادة المواجهة في التعديل السادس؛ أي حق المتهم في محاكمة جنائية في «مواجهته بالشهود ضده». يطرح ترايب سؤالًا: كيف يمكن قراءة هذه المادة اليوم؟
لنفترض أن وصف ترايب للتكنولوجيات المتاحة هو وصف دقيق، وأن واضعي التعديل السادس تبنوا مادة المواجهة الوحيدة التي سمحت بها تكنولوجيا العصر. يأتي السؤال الحقيقي في الخطوة الثانية؛ بما أن التكنولوجيا تفسح المجال أمام إمكانيتين — مواجهة في اتجاه واحد أو في اتجاهين — أي منهما إذن يشترطها الدستور؟
كاختيار سياسي، أُفضِّل هذه الإجابة بالتأكيد، لكنني في المقابل لا أرى مصدرها. بالنسبة إليَّ، تبدو هذه مسألة لم يناقشها واضعو التعديل السادس، وربما كانت ستدعو إلى انقسامهم حال تم طرحها عليهم. بالنظر إلى التكنولوجيا المتاحة في عام ١٧٩١، لم يضطر واضعو التعديل السادس إلى الاختيار بين مواجهة في اتجاه واحد ومواجهة في اتجاهين. وبالنظر إلى صراع القيم محل التفاضل وقتها، لا يبدو واضحًا كيف كان سيكون اختيارهم. من هنا، يعتبر من قبيل التضليل أن نتحدث كما لو كانت هناك إجابة أعطانا إياها واضعو التعديل السادس. لم يعط واضعو التعديل السادس أي إجابة هنا. وفي رأيي، لا يمكن استنتاج إجابة مما تم النص عليه.
ليست الخيارات بطبيعة الحال سيئة للغاية؛ فاتخاذ القرار ليس بمعضلة كبيرة ما دمنا قادرين على ذلك، لكن إليك بلُب المشكلة كما أراها: مثلما ذهبت بمزيد من التفصيل في الفصل الرابع، بالنظر إلى الوضع الحالي لمحاكمنا وثقافتنا القانونية بصفة عامة، تعتبر الخيارات الدستورية مكلفة. ما زلنا لا نستطيع اتخاذ قرارات دستورية سليمة، ولا أظن أننا سنكون في وضع أفضل عما قريب.
أخشى ما أخشاه فيما يتعلق بالفضاء الإلكتروني هو أن نلجأ للطريق الأول؛ حيث يتراجع القضاء — وهو المؤسسة المسئولة في المقام الأول عن التعبير عن القيم الدستورية — إلى الوراء، مفسحًا المجال أمام المجالس التشريعية لتحسم الأمور ذات البعد الدستوري. في رأيي، سيتراجع القضاء إلى الوراء؛ لأنه سيشعر (كما أشير لاحقًا في هذا الكتاب) أن هذه الموضوعات هي موضوعات أثارها ظهور الفضاء الإلكتروني. وستتسبب حداثة هذه الموضوعات في جعلها تبدو كموضوعات سياسية، وعندما يصبح موضوع ما سياسيًّا، يبتعد القضاء عن مواجهته.
لا يبدو واضحًا حتى الآن: كيف سنتخطى هذا الفقر في المناقشات؟ ظل الفكر الدستوري هو مجال عمل المحامين والقضاة لفترة طويلة للغاية. وقعنا في شَرَك نمط تفكير يدَّعي أن جميع المشكلات المهمة قد حُلَّت بالفعل، بحيث لم يتبق لنا سوى ترجمة هذه المشكلات لتناسب العصور الحديثة. وهكذا لا ندري في أي اتجاه نسلك عندما لا نرى أي إجابة في الأفق. في الوقت الذي تناضل الأمم عبر العالم من أجل التعبير عن القيم الدستورية واحتضانها، فقدنا نحن — أصحاب أقدم تقليد دستوري مكتوب — حساسية احتضان القيم الدستورية والتعبير عنها والمفاضلة بينها.