الفصل السادس
(١) في الصانع
إنَّ الصنَّاع هم العدد الأكثر والسواد الأعظم في كلِّ الحرف والكارات، وعليهم مداد العمل، ومن أجلهم وُضِعَت هذه التراتيب التي نحن بصددها، وبهم تتوارث وثيقة العمل في كلِّ الأزمنة، ويُحفظ سرُّ المعرفة في الفنون والصنائع. وهم كالأرض ينبوع ثروة البلاد، ومصدر كنوزها الثمينة، بل لولاهم لما كنَّا نحصل على كبير نفع مما تنبته الأرض لنا من مواد الغذاء والكساء. أجل، إنَّ الصانع والفلاح هما القوتان الماديَّتان اللَّتان عليهما يتوقَّف نجاح الأمم أو تأخرها. ومع أنَّ هذا الأمر بديهي لا ريب فيه لم يُلتفت إليه من زمن طويل، وقد أهملت جدَّا آداب الصانع وتعليمه، حتى فُقِد بالكلية بعض الصنائع — كما سبق الإيماء إليه — وبعضها الآخر كاد يبيد لولا أنْ يتقيَّد بالسلطة المتسلسلة في الحِرَف. فالآن لا يطلب من الصانع أنْ يكون عارفًا القراءة والكتابة، بل يكفيه أنَّه قد حصل درجة المهارة في صنعته مع أنَّه كان من جملة الشروط الموضوعة ألَّا يُقْبَل بشدِّ أحد في الكار ما لم يكن قد تاب عن المنكرات ورخى ذقنه «أي التحى».
(٢) في شدِّ الصانع
وهذا من كلام العامَّة، ومعناه أن أجيره للساعة الحاضرة لم يأتِ الوقت الملائم لشدِّه، وأنَّ دراهمه عزيزة لا تحتمل مصروفًا غير عادي.
وحالما يقبل الأجير بالشدِّ يسرع الشاويش أنْ يهديه على الفور عرقًا أخضر، وهذه إشارة معناها أن وجب عليه أن يولم وليمةً لرفقائه. ويكون على الغالب العرق الأخضر من الريحان، ويجوز أنْ يكون من نوع آخر حتى ومن أغصان الشجر أيضًا؛ لأنَّ الشاويش يقطع عرقًا نضرًا من أول ريحانة، أو شجرة يصادفها ويسرع بتقديمها للمزمع أن يُشدَّ. فيأخذ ذاك منه العرق بكلِّ قبول وشكر، ويبوسه ويضعه على رأسه. فيذهب حينئذٍ الشاويش إلى شيخ الحِرفَة ويخبره بأمره، فيقيِّد اسمه مع المزمعين أنْ يشدُّوا سويَّة إذا كان منهم أحد وإلَّا فيعين له وحده يومًا ليشدَّ به. ثم يرجع الشاويش ويدعو نيابة عن المرشَّح للشدِّ رفقاءه، وشيوخ الحِرفَة وشيخها، ونقيب شيخ المشايخ ومن شاء من عندهم، وفي بعض الأحيان يدعوهم هو نفسه لحضور شدِّه.
سلامٌ ثانٍ لأهل الصدر وهم شيخ الحرفة وشيوخها:
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
(الشاويش يتلو الفاتحة جهارًا.)
وبعد فراغ النقيب من هذه السلامات يتلو بعض نشائد نبويَّة منها:
(الفاتحة وغيرها.)
ثم ينتقل بعد ذلك إلى فتح الأشغال فيقول منشدًا:
ثم يلتفت قائلًا إلى المشدود:
أمَّا ربط المحزم — وهذا يكون إمَّا من المحازم الاعتيادية أو من الشالات — فهو حق النقيب، فيرفع يدي الطالب من على صدرهِ إلى قمَّة رأسه جاعلًا بطن كفِّه اليمنى يعلو ظهر كفِّه اليسرى وأصابعه ملتصقات — سألتُ لماذا لا تكون الأصابع العشر مشتبكات بعضهن ببعض؟ فقيل لي: إنَّ ذلك لا يوافق لئلا تتعربس الأمور على المشدود، فالتسريح أولى — ثم يفرد النقيب المحزم، ويلف المشدود به من وسطه إلى قرب قدميه، ويعقد طرفيه الأعليين من الخلف إلى الأمام ثلاث عُقَد؛ الواحدة احترامًا لشيخ الحرفة والثانية لمعلم المشدود والثالثة للشاويش. وتفسير ذلك أنَّ الشيخ له وحده القدرة أن يحل الأولى من الثلاث عُقَد؛ لأنَّه رئيس الحرفة؛ كي يعلم المشدود ما له وعليه من واجبات الخضوع. وأمَّا الثانية فيحلها المعلِّم ليفتخر أنَّه أخرج تلميذًا ماهرًا أو كما يقولون سراقًا «جراق» من تحت يده، ويحلُّ الشاويش الثالثة؛ لأنَّه أحد السلطات الثلاث التي على المشدود أنْ يخضع لها في كاره.
إنَّ التفسير المارَّ ذكره تلقَّنتُه من شاويشية بعض الحرف، إنما لا أظنُّه صحيحًا؛ لأنَّ النقيب أخبرني أنَّه في شدِّ بعض الحرف يجعل العُقَد ثلاثًا، وفي بعضها خمسًا، وفي بعضها سبعًا، ويراعى بذلك شدَّة تمسك أهل تلك الحرفة بحفظ العهود والأمانة أو عدمه.
وتدلُّ هذه العُقَد على عَقد العهد والميثاق بالإخاء، فيعتبر حينئذٍ أهل حرفة المشدود كأخٍ لهم، لا بل يفضلونه في بعض الظروف على الأخ الطبيعي. وربما من ذلك أُطلق القول بعَقْد العهد؛ أي تعهد بحفظه.
وقد لاحظتُ أنَّ أكثر المحترفين من الأوروبيين يربطون مئزرهم من الأمام إلى الخلف؛ أي إنَّهم يجعلون عقد المئزر وراء ظهورهم بعكس محترفي بلادنا السورية الذين في وقت الشد وغيره، لا يربطون المحزم إلَّا من الخلف إلى الأمام ربما تذكارًا بوقت شدِّهم.
(٣) الهدايا المرسومة
وقد بحثت جدًّا لأقف على معنى هذه الهدايا فما أخذت جوابًا يقنعني، وأظنُّ أنها هدايا تتعلَّق بالوليمة؛ لأنَّ الصابون يصلح لتنظيف اليدين بعد الأكل، والشوْرة لمسح الفم ووقاية الأثواب، والخلال لأجل تنظيف الأسنان الأمامية من طرفه الواحد، وتنظيف الآذان لسماع آلة الطرب من طرفهِ الآخر، والعرق الأخضر لتزال به رائحة الأكل من اليدين بعد التغسيل — والله أعلم — وبعد توزيع هذه الهدايا يتلو النقيب الفاتحة فتكون خاتمة العمل.
(٤) الوليمة
من الحضور مَن يأخذ بتهنئة المشدود بعد شدِّه، ومنهم من يباشر بالعراضة، وهي رفع الأصوات بتهليل، حيث يقولون مرارًا عديدة: «صلُّوا على عيسى وموسى، ومكحول العين ومن يقدر يعادينا هه …»
وإنْ كانت الوليمة قد أُعِدَّت في ذلك النَّهار فيجلسون حالًا على الطعام، وإنْ كان تعيَّن لها اليوم الثاني أو يوم آخر فينصرفون ويحضرون بالوقت المعيَّن. ومن المشدودين من يكون قد أعدَّ أيضًا آلة للطرب قبل الأكل. أمَّا المُسكرات فلا دخل لها أصلًا في هكذا احتفالات، وإذا أراد أحد أنْ يحضر شيئًا منها فيفعله سرًّا.
أمَّا الأكل فيكون من أبسط المأكولات، وعلى الغالب صفيحة وشُعَيْبيَّات بسكر، يصطلح أهل هذه المدينة على استحضارها عند الفرَّانة؛ ليخفِّفوا بذلك الثقلة عن أهل بيوتهم.
ويسمُّون الوليمة «التمليح»؛ أي إطعام الأصحاب من الخبز والملح، ومنه يستعمل الفَعَلة فِعْلَ ملَّح يملِّح بمعنى عمل وليمة الشدِّ، ومنه «بعدهُ» أَكَلَ الوليمة. ومنه معنى نَصَبَ عليه وأخذ منه دراهم، فيقولون: فلان ملَّح له بألف غرش؛ أي أكل عليه ألف غرش.
ولا يخفى أنَّ الخبز والملح أو الملح وحده، هو من الموادِّ التي يرمزون بها من أقدم الأزمنة على حسن السجايا وحفظ العهود.
(٥) كلفة الشدِّ
إنَّ كلفة الشدِّ تختلف بحسب درجة غناء المشدود من أربعين فرنكًا إلى مئة فرنك، وهاك تفصيل ذلك:
إلى الشيخ من ٤ فرنكات إلى ١٠.
إلى النقيب من ٢ فرنكات إلى ٦.
إلى الشاويش من ٢ فرنكات إلى ٣.
أجرة الجنينة ومصروف الوليمة من ٢١ فرنكات إلى ٨١.
(٦) ملاحظات
- أولًا: إنَّ الروايات تختلف كثيرًا في ترتيب الشدِّ، فمنهم من قال لي إن توزيع الهدايا يسبق الشدِّ وأخذ العهود، ومنهم من قدَّم أخذ العهود على تقديم النصائح. وقد اعتمدتُ فيما ذكرت على ما ظننته أقرب للصحة.
-
ثانيًا: إنَّ شدَّ المعلِّم؛ أي انتقال الصانع المشدود إلى درجة معلِّم يختلف عن
شدِّ الصانع بما يأتي: أولًا إنَّهم لا يسمُّون له أبًا بالكار. ثانيًا
إنهم لا يربطون له المئزر. ثالثًا إنهم لا يأخذون منه العهود بركوعه، بل
يُكتفى بأخذ قول منه أنَّه يحافظ على أصول الكار والحرفة.
ومن الصنَّاع من يُشدُّ في النهار ذاته صانعًا ومعلِّمًا، والطريقة بذلك أنَّهم عندما يسأل الشيخ قائلًا: «ما قالت الإخوان، هل يستحق مصانعة؟» يضيف إليه سؤالًا آخر قائلًا: «هل يستحق معلِّميَّة؟»، فإن كان مستحقًّا يجيبوه بالإيجاب وإلَّا فيقولون للطالب «حاجتك هلق مصانعة إنشا الله سنة الجايَّة تصير معلِّم»؛ أي يكفيك الآن أنْ تشد صانعًا فإن شاء الله في السنة الآتية تصير معلِّمًا.
- ثالثًا: إذا كان المشدود لا يستحق أنْ يأخذ المصانعة فعندما يقول شيخ الحِرفَة «ما قالت الإخوان؟»، فمعلِّمه أو الذي يريد أنْ يعارض بشدَّة يطرح بين أيدي الحاضرين صايةً أو عملًا من شغله، ويقول للشيخ ومعلِّمي الحِرفَة «احكموا بذلك إنْ كنتم منصفين، هل يستحقُّ هذا الرجل الشدَّ أم لا؟» فيفحصون العمل، وإذا كان فيه ما يوجب تأخير المشدود فيُؤخِّرونه ولا يخشون بذلك لومة لائم؛ لأنَّهم يفضِّلون أنْ يبقى الكار سالمًا من السقط والشوائب أكثر مما يحرصون على خاطر أحد الصنَّاع.
- رابعًا: من الممكن أنْ يشدَّ كثيرون دفعة واحدة، والعمل بذلك هو أنَّهم يوقفونهم بالوسط بالقرب من بعضهم، ويشدُّون كلًّا منهم بمحزم ويجرون باقي الترتيب كما لو كان المشدود واحدًا. أمَّا الهدايا وسائر المصروف والرسوم فتدفع محاصَّة، أي كل بقدر ما ينوبه منها.
- خامسًا: إنَّ المحترفين من كلِّ المذاهب يشتركون بالشدِّ. أمَّا المسيحيُّون واليهود فلا يعطون شيئًا من العهود والإشارات، بل يكتفى بشدِّهم بالمحزم وبتلاوة «أبانا الذي في السموات … إلخ»، وهم يسمُّونها فاتحة النصارى، أو بتلاوة الوصايا العشر في شدِّ اليهود، ويسمُّون لهم آباء بالكار من المسلمين، ويأخذون منهم العهد والميثاق بألَّا يخونوا الحِرفَة، ولا يضروا بالأموال والعباد.
-
سادسًا: إنَّ حرفة البنَّائين والنحَّاتين الذين جميعهم من المسيحيِّين لا يعرفون
الشدَّ، ولا لهم علاقة بشيخ المشايخ، فيقيمون منهم شيوخًا معلِّمين ويضعون
روابط لأنفسهم يصونون كارهم بها، ولهم الآن جمعيَّة معلِّمين مؤلفة من اثني
عشر عضوًا تجتمع بالشهر مرَّة، وتعيِّن رئيسًا لها في كلِّ ثلاثة أشهر
تبدله بسواه، ومن أخصِّ واجباتها حفظ رابطة الكار. وقد أفادني أحدهم أنهم
إذا لم يقدروا على أنْ يصونوا رابطة كارهم من الإخلال، ففي نيَّتهم أنْ
يذهبوا إلى شيخ المشايخ؛ ليقيم عليهم شيخًا ويتردَّدون بذلك هربًا من
الدخول تحت قيد استئسار لا يسهل عليهم التَّخلُّص منه فيما بعد.
إنَّ النقيب نقض ما بلغني عنهم بأنَّهم لا يشدُّون قط، وقال: إنهم كانوا يشدُّون قبلًا ثم تملَّصوا من سلطة شيخ المشايخ، وسأبحث عن ذلك.
-
سابعًا: أذكر على سبيل التفكيه — ولعل في ذلك أيضًا منفعة — أنَّ صنف المُسْخِنين
والمهرِّجين، أو الطفيلية أو الظرفاء كما يقولون عن أنفسهم، يدَّعون أنَّهم
حرفة منتظمة لها مشايخ معلِّمون وشاويشيَّة. وكان قبل سنة ١٨٦٠ شيخ
المسلمين منهم أمين أغا خُمْخُم، وشيخ المسيحيِّين يوسف شاتيلا، وشاويش
الكار جبران سبانخ. وأمَّا بعد ذلك التاريخ فلت الكار، ولم يعد له رابطة
ولا أصول. وكانوا يُجرون شدَّهم على طُرُق هزليَّة مغلقة.
وقد وقفت على بعض ما كانوا يتفنَّنون به في هذا الموضوع، فإنَّ الشدَّ عندهم هو تمثُّل لما هو جارٍ في سائر الكارات، إنما النصائح التي يعطونها للمشدود هي: «يا بني إذا فرغ جيبك استر عيبك، واعلم أنَّ المهرِّج الشاطر مَن كان مثل الرماح على أكتاف الأجاويد، فيقتضي أنْ تكون كالذئب تأخذ الريح عن الأعراس والولائم والسهرات، فتذهب في كل مساء لقرب باعة الحلويات والمعجَّنات والقشطة، فتترصَّد مَن أتى وابتاع شيئًا منها فتعلم من ذلك أنَّ عنده وليمة، فتسرع حالًا إليها وتدخل على القوم بوجه شاويش، ويكون في جيبك ألف قصَّة مُضحكةٍ؛ حتى لا ينشف وجه صاحب البيت منك، وإنْ كان بخيلًا. وإذا صادفت أحد أولاد الكار فإياك أنْ تعاكسه، بل اتَّفقْ معه على شيَّات١٥ «أكلات» الغير. وانتقل من القاعة إلى المطبخ بخفَّةٍ حتى تعلم ما الأكل المطبوخ وما الحلو المعدُّ، فإذا علمت أنَّ الأكل أطيب من الحلو، فقُلْ لرفيقك عند جلوسك على الطعام: «الصلاة على الحاضر»، وإذا كان الحلو أفضل فقل له رامزًا بدون أنْ يفهمك سائر الحاضرين: «أيُّها الناس إنَّ الدنيا لا تغني عن الآخرة»، واعلم أنَّ اسم الكنافة عندنا «مُخَيْطَنة»، والقطائف «لُزيقيَّات»، والمعمول «ضربات الأنجق»، والهيطليَّة «ستِي أزْمُقي»، والعنب «فُقِّي»، والعوامة «رصاص الأنبياء»، والكوسا «مدافع الجوع» إلخ.» انتهى. ويرفق الشيخ أو أحد المعلِّمين كلًّا من هذه النصائح والتعاليم بصفعة على رقبة المشدود يتلقَّاها بالشكر، وهو صاغر إلى أنْ يتمَّ الشدُّ على هذا المنوال، ولا ينفعه الشدُّ شيئًا سوى أنَّه يُعَد حينئذٍ من معلِّمي التهريج والإسخان لا ينازعه على كاره منازع.