الهوية والسرد في السير الذاتية لبياجيه
تغيير الماضي ليس تغييرًا لشيء فقط؛ إنه إلغاء لنتائجه، وهي بلا نهاية.
الحقيقة إنسان خفي.
المقدمة
بالإضافة إلى ذلك هذه الديمومة للذات تتضاعف بوَهْم، طبقًا لرأي بورديو، أنَّ ما يسمَّى ذاتًا يمثل كينونة عضوية تشكل مشروعًا، هدفًا لتنظيم مستقبل حياة المرء. ويرى بورديو أن ذلك غير مناسب تمامًا لأن الأداء، بعد اكتمال عملية عشوائية تمامًا في مشروع متعمد، هو ما يبدو أنه حياة منظمة. في أفضل الأحوال، إنها حالة من تفسير تالٍ؛ وفي أسوأ الأحوال، عملية تستُّر. ليس تفسيرًا علميًّا قط. وبالنسبة للوضعية الجديدة عند بورديو في «دوركهايم»، المؤسسات وطريقة عملها مرشحة محتملة لتفسيرات «علمية». ويرى بورديو أن الذات في سياق حتى إن الوسط يمتصها؛ ومن ثم تختلف اختلافًا تامًّا في بيئات مختلفة بحيث يصبح المفهوم الحقيقي للذات بلا معنى.
نرى شيئًا مفرطًا في هذا الراديكالية الوضعية، لكن هناك شيئًا إيجابيًّا أيضًا: فكرة البنية العامة للبيئة، ليس باعتبارها مجرد خلفية للسيرة الذاتية، لكن باعتبارها رفيقًا في عملية الحياة، حتى لو لم تكن محددة كما يتمنى بورديو. يمكن أن نتحدث هنا عن عملية جدلية بين الممثل والمشهد، ونرى ملاحظات بورديو دعوة لأن نولي المشهد مزيدًا من الانتباه ونتجنَّب شرَك التتابع الزمني الذي تفتحه معظم السير الذاتية في ظل شكل جمل مثل «كنت مهتمًّا دائمًا ﺑ» أو «منذ الصغر حتى الآن». تهدف هذه الجمل إلى تحويل التتابع الزمني إلى ضرورة منطقية، والعشوائية إلى نظام وهدف.
في رأينا، يذهب بورديو بعيدًا في اتجاه النزعة الإمبريقية بوضع كل الأعباء على المؤسسات الاجتماعية. ورغم كل شيء، يشيِّد الناس حيواتهم الخاصة وبيئاتهم إلى حد معين. المجرات ليست بيانات هائلة مسلَّم بها؛ إنها بُنى صنعها الفلكيون. الشيء نفسه صحيح بالنسبة لحيوات الإنسان. إنها تشيَّد في سرديات الإنسان.
وبالتالي، هدفنا هنا توضيح كيف يعتبر الناس سِيَرهم الذاتية شكلًا من أشكال تقديم الذات يختلف تبعًا للجمهور المستهدف في الوظيفة التي تنظَّم بها حبكات حياتهم وتعيد تنظيمها. تبعًا للجمهور المستهدف، يمكن أن يكون بياجيه ميتافيزيقيًّا ينتمي إلى ما بعد البرجوسونية («بحث»)، أو سيكولوجيًّا علميًّا («تاريخ علم النفس في السيرة الذاتية»)، أو فيلسوفًا تخلص من الوهم وتحول إلى عالم («الحكمة وأوهام الفلسفة»)، إذا اكتفينا بذكر ثلاث فقط من سِيَره الذاتية.
ومن ثم نسعى هنا إلى تقديم أوضح تعريف ممكن للتفاعل بين الممثل والمشهد والحبكة والجمهور الذي يشكل سيرة.
منهج السيرة، على عكس رأي بروديو (١٩٨٦م، ليس «حسًّا عامًّا مهربًا في عِلْم»، لكنه بديل صالح للنموذج التجريبي لمنهج الدراسة الوحيدة التي لا تسعى إلا إلى نتائج محددة. لم تستطع العلوم السيكولوجية، في قرن أو نحو ذلك من وجودها، إنتاج نظريات صالحة قابلة للاختبار إمبريقيًّا على أساس منهج الدراسة الواحدة، رغم كل جهود هذه العلوم. هناك عاملان أساسيان يفسران هذا؛ الأول: طبيعة الإنسان. البشر ليسوا آلات، وليسوا حتى أجهزة كمبيوتر؛ يتكيف البشر باستمرار مع بيئتهم. باعتباري إدراكيًّا سابقًا، أعرف مدى استحالة صياغة مبادئ عامة لوظيفة الإنسان حتى في مجالات مثل عتبات الحس والإدراك، التي تختلف باستمرار رغم طرق القياس الثابتة والموضوعية. ثانيًا: لا يمكن صياغة مبادئ ديناميكية عامة تفسر صلاحية هذه الفروق الملحوظة في نظرية.
في مثل هذا السياق، يبدو منهج السيرة بديلًا صالحًا لانعدام التلاؤم في منهج الدراسة الواحدة وشرطها الافتراضي الاستنباطي بخمس طرق على الأقل:
- أولًا: ينتهي منهج الدراسة الواحدة بفرضية سخيفة عن قيمة حقيقة ما بالنسبة للتعميم العلمي. ماذا يعني أن نقول إن نظرية ما تفسر ٩٠٪ أو ٨٠٪ من الحالات؟ منطقيًّا، ينبغي لنظرية جيدة أن تفسر كل الشواهد.
- ثانيًا: منهج السيرة الذاتية مماثل للطرق الريفية الصغيرة الضيقة التي تسمح للمسافر باكتشاف حقيقي للريف، على عكس الطرق السريعة التي فضيلتها الوحيدة أن تنقل المرء، بسرعة وأمان إلى حد ما، من مكان إلى آخر، حيث يقود وسط مكان غير محدد. يسمح منهج السيرة للباحث بدراسة مجالات متاخمة للمرء في ظل فحص أولي، دراسة يحتمل أن تلقي الضوء على تقدم البحث. مثلًا، دراسة كلية ونتاجها العلمي والأكاديمي ربما تقترح بعض الفرضيات بشأن خصائص البلدة التي توجد فيها الكلية، بيئتها اللغوية والثقافية، الأصول الاجتماعية للدارسين فيها، طريقتها في الحياة أو/وأي عامل آخر يؤثر على وظيفة الكلية. لكن دراسة سِيَر هيئتها تكشف بشكل أكبر بكثير عن واقع تلك الكلية المحددة لأنها تمنح الدراسة أساسًا وحيدًا ملموسًا تؤسس عليه فرضيات البحث. بشكل مماثل، تخبرنا دراسة السيرة الذاتية لبياجيه بالكثير عن وضع علم النفس الارتقائي في فترة مناظرة لحياته (١٨٩٦–١٩٨٠م) أكثر مما يخبرنا به استبيان يقدم إلى كل المتخصصين في علم النفس الارتقائي ممن كانوا يعيشون ويعملون في الوقت ذاته.
- ثالثًا: يمكن لمنهج السيرة أن يكون مفيدًا جدًّا لفهم العمليات المؤسسية في التنشئة الاجتماعية للبالغين. مثلًا، خبرة التدريب غير الرسمي في التاريخ الطبيعي التي تقدمها «جمعية أصدقاء الطبيعة»، مجموعة من طلاب المدارس الثانوية والجامعة، تهدف إلى تجنب المزيد من الجمعيات في الحياة الاجتماعية للطلاب، كانت حاسمة لتكوين الإبستمولوجيا والسيكولوجيا الجينية genetic عند بياجيه.
- رابعًا: يمكن لمقاربة السيرة أن تنعش موضوعًا بعد استنزاف مختلف المتغيرات المحللة بدقَّة متزايدة باستمرار بتناسب عكسي لنتائجها المتعلقة باكتساب معرفة جديدة في المجال. بيانات السيرة حيث إنها لا تعتمد على فرضية يحتمل أن تؤدي إلى فرضيات جديدة ومعرفة جديدة بفضل افتقارها إلى نظام واستقلالها عن التحيز النظري. إذن، كما اعتقد جورج هيربرت ميد،١ تتبادل الحياة الاجتماعية الرموز الدالة، ومن الضروري لفهم كيف يعرف الممثلون أنفسُهم نشاطَ توقعاتهم في تفاعلاتهم الاجتماعية. وهذا ممكن فقط بتحليل السيرة، حيث يمكن له وحده أن يصف بشكل كافٍ طريقةَ تشكيل التسلسل الحاسم للتفاعلات الاجتماعية والحفاظ عليها واستمرارها أو عدمه، وتحطيمها وفقدانها. توضح السِّيَر كيفية تأثر الشخصية بمثل تلك التغيرات.
- خامسًا: يحرر منهج السيرة السيكولوجيين من وسطهم وخبرتهم الخاصة أكثر من المقاربات الأخرى لأنه يدفعهم إلى تحليل عميق لموقف حياتي خاص وملموس. ثمة مثال جيد على هذه العملية من عمليات التحرر وهو العلاقة بين تأثير الماركسية والكاثوليكية الرومانية في أمريكا اللاتينية. تفسير المعايير الاجتماعية لاعتناق الماركسية بين النخبة المثقفة في أمريكا اللاتينية أن الماركسية حلت محل نظام عقائدي آخر، الكاثوليكية الرومانية، في عقول المثقفين. يفترض مثل هذا التفسير أنه أينما وُجدت الكاثوليكية توجد الماركسية — والحال ليس كذلك. في الصين، لم تحل الماركسية محل هيمنة أي نظام عقائدي آخر على جموع المثقفين الذين كانوا عمومًا يعتنقون البوذية أو الكونفوشيوسية؛ أي كانوا متسامحين ومتفتحين. لكن حين ننظر بدقَّة إلى حياة القادة الماركسيين في كلٍّ من أمريكا اللاتينية والصين، نلاحظ أنهم، في المنطقتين الجغرافيتين، أسقطوا على الجموع اغتراب الطبقة البرجوازية التافهة لوسطهم، المستبعدة من الطبقة الحاكمة ومستبعدين الأدنى ليحافظوا على مشاعرهم الخاصة بالتفوق الاجتماعي (الالتزام المفرط للبرجوازية التافهة). على العكس، في البلاد التي لم تهيمن فيها الماركسية، كان المثقفون البرجوازيون على اتصال بالطبقة العاملة في سنوات تشكيلها عن طريق الوظائف الصيفية، مع نتيجة مؤسفة تتمثَّل في أنهم لم يقوموا بالثورة من أجل «هؤلاء الأوغاد القذرين» الذين كدحوا معهم طوال الصيف.
- الخلاصة: بدلًا من صياغة المشاكل في مقولات نظرية مجردة، ينتج منهج السيرة مقولات تناسب تاريخ حياة الناس. وهكذا لا يتعارض مع كلِّ القواعد الاجتماعية والعادات الذهنية التي تعلَّم فيها الأعضاء العاديون من علماء الاجتماع المعاصرين. يفترض أن يكون البحث العلمي بطول معين، ويكون أداة طبيعية للتواصل العلمي. ينظر للنشر لإثبات فرضية معينة أو نفيها. ويفترض وجود نتائج كمية لتحليلها إحصائيًّا لإثبات قضية نظرية مهمة بدرجة أو أخرى. ويتم ذلك غالبًا بمقارنة النتائج بين المجموعات الخاضعة للتجربة والمجموعات الضابطة.
إن حالة جان بياجيه مهمة من جوانب مختلفة. كتب عدة سير ذاتية استهدفت جماهير مختلفة؛ يقدم نفسه بطرق مختلفة في مشاهد مختلفة؛ وتكون المقارنة بينها كاشفة. بالإضافة إلى ذلك، تختلف المكانة النسبية للمتنافسين والدارسين والمتعاونين والخصوم … إلخ، طبقًا لذلك. يوصف الوسط نفسه بشكل مختلف طبقًا للغرض الرئيسي لكل سيرة ذاتية الخاصة. يحتل الممثلون الآخرون موضعًا مختلفًا في كل منها: تصبح الشخصيات الثانوية في سياقٍ أبطالًا أساسيين في آخر. يغير بياجيه نفسه القبعات طبقًا لوظيفة السرد. حين يتوقَّف السرد ويستمر، كما في سيرته الذاتية الأساسية التي تغطي من ١٨٩٨م إلى ١٩٧٦م في ثلاثة أجزاء، يوضح المؤلف نفسه بعض التغيرات في نظرته، في تركيزه على بعض الناس والأحداث، بدلًا من تقديم رؤية عميقة لنفسه وبيئته. والأكثر أهمية، من منظور منهج السيرة، أن اهتمام بياجيه بالتطور بوصفه العامل التفسيري في الإبستمولوجيا يكمن بعمق في تحليله لتطوره الخاص في المراهقة والشباب.
درسَ بياجيه التطوُّرَ واستخدمه عاملًا تفسيريًّا في علم النفس وعلم الأحياء وعلم المعرفة طوال فترة نضجه؛ لكن لم يبدُ في أعمال بياجيه إلا سنة ١٩٢٠م تقريبًا، وهو في الخامسة والعشرين. وهذا وقت متأخر إلى حدٍّ ما لرجل ادَّعى، في سيرته الذاتية الأساسية، حقًّا في النضج المبكر. يكمن الاهتمام الوحيد والرائد لبياجيه في سيرته الذاتية الأولى، المكتوبة وهو في العشرين، باعتبارها «رواية التكوين» بعنوان «البحث»، ولم تترجم بعدُ إلى الإنجليزية. وهكذا توجد أصول نزعة التطور عند بياجيه في محاولته لتقديم نشأة شخصيته في لحظة أزمة خطيرة ونهائية للشاب.
(١) السيرة الذاتية الأساسية
(١-١) الجنس الأدبي
نُشِر أول مقال لجان بياجيه يتعلَّق بالسيرة الذاتية، في الجنس الأدبي لسيرة ذاتية معلنة في ١٩٥٢م في الجزء الرابع من «تاريخ علم النفس في السيرة الذاتية». بدأت السلسلة بكارل مورشيسن في جامعة كلارك في مشروع ضمن إصدارات عديدة جعلت مورشيسن غنيًّا وسيِّئ السمعة، إن لم يكن مشهورًا. ظهر المجلد الأول من السلسلة في ١٩٣٠م في مطبعة جامعة كلارك (مشروع آخر لمورشيسن). كانت الفكرة، كما يشير العنوان العام، نشر تاريخ لعلم النفس من خلال تواريخ فكرية لسيكولوجيين كبار. كما كتب تشارلز سبيرمان، أحد المساهمين الأوائل: «ربما يكون مفيدًا للرجال الأصغر الذين لا تزال حياتهم تتشكل» (١٩٣٠م، ص٢٩٩). وهكذا يكون الجنس الأدبي تاريخًا للتنوير الخلقي والفكري «لرجال الأصغر» (من الواضح أن سبيرمان لم يتوقع نجاح النساء في علم النفس). إننا في ظل التقليد الموقر لسلسلة لوموند «الرجال المشهورون» (الرجال المشهورون مرة أخرى): التاريخ من أجل التعليم.
اختفى هذا الميل التعليمي بعد الحرب العالمية الثانية حيث أصبح «علم النفس الأمريكي» أكثر زهوًا وثقةً بنفسه وأكثر اقتناعًا بالطبيعة العلمية لمهمته.
حيث إن مشروع تاريخ علم النفس في سيرة ذاتية كان يهدف بصراحة شديدة إلى تعزيز رأي أنصار التطور لبعض الجماعات على الأقل في علم النفس، فمن المتوقع أن يوجد مثل هذا الرأي على الأقل في بعض السير الذاتية. إن تضمين أن شخصًا ساهم في تطوير يساوي ترسيخ شرعية أفكاره ومجاله عمومًا وتصديقها.
وضَّحتْ حالةُ تاريخ حياة فرويد، كما تسرد في حركة التحليل النفسي، الظاهرةُ على مستوى أكبر بكثير. في «فرويد، بيولوجي العقل» يبرهن فرانك سولووي (١٩٧٩م) على أن «الهدف الرئيسي لمؤرخي التحليل النفسي … كان توضيح أن التحليل النفسي ظهر بطريقة كانت، رغم كل شيء، متسقة مع نظرية التحليل النفسي نفسها» (ص٤٤٢). لأن ميثولوجيا التحليل النفسي وأسطورته التي نقلها المؤرخون الذين ساهموا في إخفاء عناصر التصور المربكة، والضرورية، المتعلقة بأفكار فرويد وقامت بتبرير القطب الأحادي للتابعين الأرثوذكس وتشجيعه في التحليل النفسي التقليدي، تعني السيرة الرسمية لفرويد الشك في النظرية التي أبدعها. ليس من الصعب أن نرى، إلى حد معين، أن مؤرخي التحليل النفسي كانوا يكتبون سِيَرهم الخاصة، مشرِّعين حيواتهم من خلال حياة أب بطولي، محاولين بالتفويض الهروب من الخطأ والسهو.
الوضع الذي نفحصه هنا بين وضع سكنر ووضع فرويد. رغم أن السيرة الذاتية لبياجيه لم تؤدِّ إلى إنتاج تاريخي من داخل حركة «بياجيه»، إلا أن الحركة تستخدمها بكثافة، وبشكل أساسي شارحو أعمال بياجيه ومن يقومون بتبسيطها للجمهور. إنهم سيكولوجيون؛ ومع ذلك يعملون في ظلِّ «وَهْم السيرة»، المنتشر ذات يوم في تاريخ الأدب، وطبقًا له تتأسس نظريات الجزء الأكبر من حياة العظماء. وهذا لا يثير دهشتنا كما قد يبدو، حيث إن السيرة الذاتية لبياجيه تعمل في ظل وهم مماثل يتعلق بالتشابه في الشكل بين مراحل حياته ومراحل نظريته.
(١-٢) المحتوى
تقدم مثل هذه المقدمة مزيتين أساسيتين للكاتب: تُهرِّب الرأي العلمي للعلم، وتُسكِتُ، في الوقت ذاته، أيَّ شك محتمل بالتصريح بحدود ما يوشك الناس على قراءته. بهذا الإطار المقنَّع صراحة، يتقدم بياجيه ليصف نضجه المبكر (كتب بالقلم الرصاص وصفًا كاملًا لمحرك سيارة بالبخار لأنه كان أصغر من أن يسمح له باستخدام القلم الجاف)، وعن مدى نجاحه في مآثره في شبابه، منذ كان في الحادية عشرة كان مصنِّفًا ماهرًا للرخويات، ومدركًا «لشيطان الفلسفة» (١٩٥٢م، ص٢٣٩). ويعود الفضل إلى أبحاثه في الرخويات «إلى تمتعه بتميز نادر بإلقاء نظرة على العلم وما يدعمه قبل فهم الأزمات الفلسفية في مرحلة المراهقة» (١٩٥٢م، ص٢٣٩). وهكذا لم يكُن بياجيه مبكر النضج وماهرًا فقط، لكنه، بالإضافة إلى ذلك، اتَّقى صفارات الفلسفة التي تدوي على نطاق واسع في أذن المراهقين الأبرياء غير الجاهزين.
وهكذا تكون الأرضية مجهزة لتقديم «مشكلة الدين» باعتبارها غير جديرة باهتمام عالم أحياء شاب ذكي؛ لأن العقائد الدينية تتعارض مع علم الأحياء، ولأن البراهين على وجود الرب واهية. يلعب الدين دَور مقدمة للفلسفة. وتختصر الفلسفة إلى «التطور الخلاق» عند برجسون، مما يتيح لبياجيه الشاب أن يماهي الرب مع الحياة، على المستوى العاطفي، والمعرفة كما تنبثق من الضرورة البيولوجية، على المستوى المعرفي. وبهذه الطريقة، أدرك بياجيه أن بيولوجيا برجسون غير كافية، وأن هناك رابطة مفتقدة بين البيولوجيا والمعرفة: علم النفس.
في نسخة «بحث»، التي أعاد بياجيه قراءتها في ١٩٥٢م، وضع بالقلم الرصاص بين هذه الفقرة من الكتاب: «جشتالت». وفي الحقيقة، أعلن في السيرة الذاتية أنه أصبح جشتالتيًّا، وأنه عرف أبحاث فرتهايمر وكوهلر في ذلك الوقت (١٩١٣–١٩١٥م)، وكانت جديدة. نعرف أنه اعتراف زائف. ثمة اعتراف آخر زائف وهو تفسير الرحيل من نيوشاتل إلى زيورخ. إذا كانت الرغبة في العمل في مختبر لعلم النفس الحافز الوحيد لبياجيه، يتساءل المرء لماذا فضَّل شخص مهتم بنشأة المعرفة زيورخ على جينيف حيث كان يعمل نجوم مثل كلاباريد وحيث كُتِبت المراجعة الوحيدة الإيجابية حقًّا لسيرته «بحث» بقلم أدولف فرير.
ومع ذلك، أُصيب بياجيه بخيبة أمل من مختبرَي «ليبز» و«فرتشنر» في زيورخ وفزع من أخطار «التوحد» (من تأثير تدريس بلولر) إذا تمركز في نظامه الخاص، وقرر العودة إلى الرخويات وقام بتحليل إحصائي على تغير الرخويات البرية في ربيع ١٩١٩م.
في ١٩٢٩م صار بياجيه مدير «المكتب الدولي للتعليم» وأستاذ تاريخ العلوم في جامعة جينيف وأستاذ علم النفسي التجريبي في لوزيانا. وأعاد أيضًا تنظيم معهد جان جاك روسو في الفترة من ١٩٢٩م إلى ١٩٣٩م. في ذلك الوقت، درس نشأة عدة مفاهيم في الأطفال مع ألينا شيمينسكا ومفاهيم الكمية الفيزيائية مع باربل إنهيلدر. اكتشف بُنى المجموعات الطبيعية المسئولة عن العمليات الذهنية العيانية للأطفال في الفئات والعلاقات والعدد.
أثناء ذلك، درس بياجيه الزمن والسرعة والحركة. وفي المكتب الدولي للتعليم، نظم توزيع الكتب التعليمية على أسرى الحرب. وبعد الحرب، عرض على بياجيه منصب نائب المدير العام المسئول عن التعليم في اليونسكو، فرفض. في ١٩٤٦م، منح درجة فخرية من السوربون. وقد منح درجة من هارفارد في ١٩٣٦م. وفي ١٩٤٩م نال درجة من بروسل ودرجة من ريودي جانيرو، وصار عضوًا في أكاديمية نيويورك للعلوم.
درس الفراغ والهندسة، كما درس الفرصة، باعتبارها مجالات ثابتة في عالم الذكاء على عكس العمليات الذهنية.
دُعِي لنشر كتاب عن المنطق وكان يعد كتابه الشهير «مقدمة في نظرية المعرفة التوليدية» في ثلاثة مجلدات. بحلول ذلك الوقت، اكتمل منظومته: يتقدم التطور الذهني من بنى إيقاعية أولية إلى نظم أكثر تعقيدًا بكثير ليصل في النهاية إلى انعكاسية كاملة للعمليات الذهنية.
يواصل بياجيه ذكر سِيَره الذاتية الأخرى، السيرة التي قدمت لطلاب السوربون والسيرة التي قدمت في «بصائر الفلسفة وأوهامها».
يلتقط بياجيه أربعة أحداث يراها جديرة بالذكر: (١) التعيين في السوربون من ١٩٥٢ إلى ١٩٦٣م؛ (٢) نشأة «المركز الدولي لإبستمولوجيا الجينية»؛ (٣) نشره المكثف؛ (٤) انخراطه في الشئون الدولية في علم النفس والتعليم. بشكل علمي، يذكر «البيولوجيا والمعرفة» (١٩٦٦م) وأعماله في البِنَى.
على العكس، إن خبرة بياجيه بتخصصات متعددة في المركز الدولي للإبستمولوجيا الجينية، الذي يتعاون فيه متخصصون في المنطق والرياضيات والفيزياء وعلم الأحياء والسبرنطيقا مع علم اللغة النفسي، جعلته يرى مدى ثراء مثل هذا التعاون في تطور علم النفس، وهو علم بالضرورة في ملتقى طرق علم الأحياء والذكاء الاصطناعي والرياضيات.
ثم تقدم بياجيه ليوضح مدى خطأ جيروم برنر في رفض تعدد التخصصات، حيث إن موقفه يحمل تناقضًا ذاتيًّا. يستدعي برنر في «مذهبه»، في رأي بياجيه، (١٩٧٦/١٩٦٦م، ص٢٤) ثلاثة عوامل: التخيل واللغة والتواصل الاجتماعي. لكن التخيل له جذور عصبية بالضرورة مما يجعل تعاون أطباء الأعصاب ضروريًّا. يفترض التواصل الاجتماعي، بالتعريف، تعاونًا مع علماء الاجتماع. وأخيرًا وليس آخرًا، اعتبر نعوم تشومسكي (في هارفارد، طبقًا لبياجيه!) اللغة بنية منطقية توليدية تتحقق في حديثي الولادة.
ينبثق خوف علماء النفس من المنطق ونظرية المعرفة من مفهوم مسبق يرى أنهما فلسفيان وليسا علميين. ويوجد الدليل على صحة هذا، في رأي بياجيه، في حقيقة أن علماء النفس أنفسهم ليست لديهم مشكلة مع تسلسل الأرقام الطبيعية لأن الأرقام نوقشت في آخر ٢٥ قرنًا.
(١-٣) تعليق
كما لاحظنا، يتغيَّر أسلوب بياجيه في سيرته الذاتية الطويلة من نسخة ١٩٥٢م حتى النسخة الأخيرة. والسبب الأساسي لهذا التغير هو الجمهور الذي يخاطبه في عام ١٩٦٦ وعام ١٩٧٦م: أناس محليون يتحدثون الفرنسية على معرفة بالتوتر بين العلوم الأوروبية والأمريكية. ثمة سبب آخر وهو شهرة المؤلف. في ١٩٥٢م، بعد الحرب التي عزلت سويسرا، لم يكن بياجيه مشهورًا كما كان في عام ١٩٦٦م وعام ١٩٧٦م حين كان محمَّلا بعلامات الاعتراف من جمعيات علمية وسياسية. لكن الدهشة تأتي من اختياره جيروم برنر كبش فداء. كانت عداوة بياجيه شديدة حتى إنه فشل في تقديم أفكار برنر بصورة منصفة. يتناقض هذا الموقف بحدة مع مراجعة بياجيه لكتاب برنر عن التطور المعرفي في ١٩٦٧م. نقدُ بياجيه قاسٍ لكنه يبقى في حدود المناقشة العلمية، بينما يميل هنا إلى الإفراط. إن تقدم العمر ليس عذرًا كافيًا في مثل هذه الحالات. هناك ما هو أكثر من الاختلاف العلمي بين بياجيه وبرنر من جانب بياجيه.
بنظرة عامة على السيرة الذاتية الرئيسية يتبين أن هدف بياجيه ثلاثي: (١) التأكيد على نضجه العلمي المبكر؛ (٢) انسجام تطوره الفكري مع نظريته؛ (٣) توضيح أن علم النفس التطوري المعرفي نتاج عرضي للانشغال الإبستمولوجي المبكر والمستمر بما يتلاءم مع أكثر المعايير صرامة في الإثبات التجريبي العلمي.
وضع بياجيه انقسامًا واضحًا بين اهتماماته العلمية والفلسفية في شبابه: الأولى مقدسة، والثانية ملعونة. بعد ذلك، أثر الانقسام ذاته في فصل البحث السيكولوجي المعرفي الجيد عن البحث التحليلي النفسي سيئ التأثير.
تبدو عمومًا حياة بياجيه، عالم النفس، محكومة بمفاهيمه، مفاهيم من قبيل الحركة العامة من مركزية الأنا إلى اللامركزية مع فترات يميل فيها التوحد إلى الهيمنة على الصورة وفترات يتحقق فيها التكامل الاجتماعي بشكل أفضل. يلعب التوازن والاتزان وأيضًا الاستيعاب والتكيف دورًا مهمًّا في تطور بياجيه.
الخلاصة، تحكي لنا هذه السيرة الذاتية ثلاث سرديات: واحدة عن التطور «العلمي» المحض لبياجيه؛ والثانية عن الحافز «الإبستمولوجي» الصارم لعبوره من «علم الأحياء» إلى «الفلسفة»، وبعد ذلك إلى علم النفس؛ والثالثة عن طريقة طرد شياطين الفلسفة والتغير الخلقي من نظام بياجيه. مرة أخرى، في مقاربة صارمة من مقارباته، تطرد هذه الشياطين في النهاية في نهاية المراهقة، وهي الفترة المناسبة لمثل هذه النقلة؛ لأن البلوغ هو سن العلوم.
(٢) بصائر الفلسفة وأوهامها
(٢-١) الجنس الأدبي
الجنس الأدبي لهذا البحث خليط من الخطاب الدفاعي والخطاب الهجومي؛ بأكثر من طريقة، كان هدف بياجيه قريبًا جدًّا من الدفاع اللاهوتي.
(٢-٢) المحتوى
يحكي بياجيه حياته بهدف خاص لشرح تأثير الأسئلة الفلسفية على أعماله. وهكذا، لم يعد التركيز ينصبُّ على الطفل مبكر النضج أو العالم الشاب ولكن على اكتشاف الفلسفة من خلال قراءة كتاب برجسون «التطور الخلاق» باندفاع قوي. إن الافتتان بالتضاد بين «الزخم الحيوي» والمادة الخاملة، وأيضًا بين الذكاء (مادة في جوهره) والحياة، قصير لكنه يوصف بشكل رائع. يتم التعبير عن الصراع بين العلوم والإيمان فيما يتعلق بعلم نفس الأسرة: كان جان بياجيه ابنًا لأم بروتستانتية متدينة جدًّا وأب حر التفكير. بدا الأب علميًّا، وبدت الأم غير علمية، ومن هنا جاء الصراع. ومن المهم أن نلاحظ هنا انزلاقًا إلى التحليل النفسي السطحي، وهو أمر نادر جدًّا في السير الذاتية لبياجيه، لكنه يتكرر أكثر في رسائله أو محادثاته. ويؤدي وظيفة اختزالية.
في مسار المفارقة التاريخية نفسها، تقدم بياجيه (١٩٧١م) ليقول «بالنسبة لي، يعمل المتخصص في علم الحيوان في الحقل أو المختبر» (ص١٦)، وهذا صحيح جزئيًّا فقط حيث إن بياجيه لم يعمل قط في مختبر بالمعنى المعاصر للكلمة. ومع ذلك، ادعى أن ممارسته قادته إلى التوجس في التفكير الفلسفي المجرد، مستنتجًا أن الفلسفة تحتاج بعضًا من «علم النفس التجريبي» (١٩٧١م، ص١٦).
تبدو الإقامة في زيورخ طريقًا مسدودًا، دون أيِّ ذكر للأسباب التي جعلتها كذلك. يصور السنة التي قضاها في باريس بأنها توفيق للاهتمامات الفلسفية (العمل تحت إشراف «لالاند» و«برنشفيك») والبحوث السيكولوجية (العمل في مختبر بينيه). ولم يذكر بياجيه موافقة لالاند على أبحاثه المبكرة في علم النفس إلا هنا.
حين انتقل ريموند من جامعة نيوشاتل إلى جامعة لوزيانا، شغل بياجيه كرسي ريموند في الفلسفة.
ومع ذلك، بعد تعيينه في جامعة جينيف في ١٩٢٩م، ادعى بياجيه أن له علاقات رائعة مع زملائه في قسم الفلسفة. وبالعكس، لاحظ، بعد الحرب العالمية الثانية، بعث علم النفس الفلسفي في صورة الوجودية والفينومينولوجيا، وكانا تجسيدًا للاعتماد نفسه في الفلسفة على التغيرات الاجتماعية والسياسية.
اندهش من أن السوربون رحَّبت به «فيلسوفًا في علم النفس» (ولم يكن مدهشًا على الإطلاق أنه كان خلفًا لموريس ميرلو بونتي).
وجد بياجيه أن وضع علم النفس في فرنسا ينذر بالخطر. لم يكن يوجد فعليًّا خارج الفلسفة. ويرى بياجيه أن هذا يرجع إلى البنية الاجتماعية للأكاديمية الفرنسية، ورصد ثلاثة عوامل رئيسية. الدور الاجتماعي المحدد «لدروس الفلسفة» (أي السنة النهائية في الليسيه الفرنسية) يقدم عدَّة وظائف أكاديمية. كان حكم المسنين من الأساتذة المحافظين في الجامعة ينظم طريقة تشغيل الأساتذة عن طريق «المسابقات» مما يضمن وجود النزعة المحافظة على كل المستويات. منعت عادة أن يعد الأستاذ الذي على وشك الإحالة إلى المعاش خلفه لكيلا يحدث أي تجديد. ويرى بياجيه أن هذه العوامل جعلت الفلاسفة الفرنسيين يؤمنون بأنهم على قمة كل أشكال المعرفة، وأدت إلى منع ازدهار علم النفس التجريبي. وينبغي أن نلاحظ هنا أن بياجيه يصف وضعًا كان يتلاشى فعليًّا في ١٩٦٥م عند نشر بحثه.
بعد هذا الاتهام للمؤسسة الفلسفية الفرنسية، طرح بياجيه مسألة تكوين علم جديد يسمى «الإبستمولوجيا الجينية». تختلف الإبستمولوجيا الجينية عن الإبستمولوجيا القياسية في المسألة الأساسية المطروحة. تثير الإبستمولوجيا القياسية مسألة احتمالية المعرفة عمومًا، وتطرح الإبستمولوجيا الجينية مسألة احتمالية نمو المعرفة. «كيف تنمو المعرفة؟»، ليس سؤالًا فلسفيًّا رغم ذلك. إنه سؤال إمبريقي يتطلب معيارًا موضوعيًّا للتدقيق التجريبي في البيئة العلمية.
لترسيخ هذا العلم الجديد، طلب بياجيه مساعدة مالية من مؤسسة روكفلر لإنشاء مركز للإبستمولوجيا الجينية، وكان بالضرورة محاولة متعددة التخصصات، تتأسس على جهود مشتركة لمتخصصين في المنطق والرياضيات والفيزياء والسبرنطيقيا وعلم الأحياء وعلم اللغة النفسي وتاريخ العلوم. رغم أن بياجيه لاحظ بزهو، أنه كان نواة هذا كله، إلا أنه لم يستطع القيام بالمهمة وحده لأنه «بقدر ما يمكن للمرء أن يتحدث عن «نظام بياجيه» فسوف يكون علامة على فشلي» (١٩٧١م، ص٤٤)؛ وهكذا كان استخفاف بياجيه بأي إنتاج فردي عظيمًا.
يتذكر أن مؤسسة روكفلر ترددت في البداية. ثم، افترض أن الفيلسوف (لاحظْ هذا) وولف مايز، من مانشستر، زار جينيف وكتب تقريرًا للمؤسسة. وكان تقرير مايز ماهرًا بما يكفي ليضمن قَبول بياجيه لدورة ثانية من المناقشات طرح أثناءها السؤال التالي، وهو سؤال عملي جدًّا: «كيف يمكن أن تجد أناسًا بارعين بما يكفي للتعاون بفاعلية ومغفلين بما يكفي للتخلي عن سنة كاملة من أبحاثهم في الرياضيات أو المنطق … إلخ، ومغامرين بما يكفي للحوار مع ملاحظي أطفال؟» (١٩٧١م، ص٤٦). إن بياجيه، على ما يبدو، ردَّ عليهم بما يرضي اللجنة، حيث إنه منح التأسيس الضروري لبدء «المركز الدولي للإبستمولوجيا الجينية».
هذا الاختيار، والطريقة التي يتم بها تقديم هؤلاء المعاونين، مهم. جريكو، وهو عالم نفس، يقدم باعتباره طالبًا متفوقًا (الأول من نوعه على المستوى القومي الفرنسي). وهذا يعني إشارة إيجابية إلى المدارس العليا الفرنسية وإلى مسابقات التعيين، وهما مؤسستان انتقدهما بياجيه من قبل في هذه السيرة الذاتية باعتبارهما تقضيان على المواهب الشابة في فرنسا.
تنتهي السيرة الذاتية بهذه السخرية الأخيرة.
(٢-٣) التعليق
بالطريقة نفسها، يقتصر ذكر المتعاونين المقربين على سيكولوجي واحد، بيير جريكو (وكان يقيم في باريس غالبًا)، ولم يشمل، على غير المتوقع، باربل إنهيلدر. الآخرون، رياضي، بابرت، ومنطقيان، أبوستل، وجريز. وفي الدائرة الثانية لما يعرف بالمتعاونين المميزين، لا يظهر إلا سيكولوجيان: جروبر وبريسون.
قارن هذا بالصورة الذاتية لبياجيه بوصفه سيكولوجيًّا. يذكر إنهيلدر وسنكلير وبوفيت مع إشارات تمجيدية وأيضًا إشارات إيجابية بالنسبة لبقية المتعاونين في جينيف؛ مما يعطي انطباعًا بأنَّ دَور علماء النفس في جينيف كان خاصًّا وثانويًّا: إدارة الأمور بالنسبة لبياجيه. مكانهم في التاريخ محدود، ويبدو مكان المتعاونين من خلفية مختلفة أكبر. وقد انعكس هذا في التنظيم الفعلي للأبحاث حول بياجيه، حيث جاء «المركز» في البداية، ثم حدث في المركز انقسام قوي بين «المنظِّرين» و«التجريبيين». تكونت المجموعة الأولى أساسًا من غير السيكولوجيين واقتصرت الثانية على السيكولوجيين.
يُقدَّم تاريخ علاقة بياجيه مع مؤسسة روكفلر في هذه السيرة الذاتية كما لو أنها بدأت بمشروع مركز الإبستمولوجيا الجينية. ومن المسلَّم به أن هذا غير صحيح. اهتمت مؤسسة روكفلر بمشاريع بياجيه قبل إنشاء المركز بفترة طويلة. حين سمع كلبريد أن الباحثين السويسريين يمكن أن تنطبق عليهم شروط مؤسسة روكفلر لمنح بمبالغ كبيرة، أعلن أن زائرًا من المؤسسة سيتم الترحيب به في معهد جان جاك روسو. وهكذا جاء الزائر وكان شخصًا ماهرًا لم يقرر فقط أن المعهد جيد جدًّا لكنه ذكر أيضًا أن شابًّا صاعدًا ممتازًا يساعد على نموه: جان بياجيه. وهكذا قبل الحرب العالمية الثانية، استقر بياجيه بواسطة المؤسسة ويبدو أن مشاكل الحرب كانت وراء وقف الاعتماد. وهكذا، حين عاد بياجيه إلى مؤسسة روكفلر، كان له سجل هناك وكان يستطيع أن يسحب من رصيده السابق.
وكان الاستنتاج المؤسف، فيما بعدُ، إنه رغم جهود بياجيه لإثبات العكس، لم تنجُ الإبستمولوجيا الجينية بعد موت مؤسسها، لا باعتبارها شكلًا خاصًّا من الإبستمولوجيا، ولا باعتبارها مؤسسة. وبالتالي، يفشل المقال الدفاعي العنيف الموسع في شكل سيرة ذاتية في تحقيق هدفه، حيث لم يعد أحد يسلك الطريق الذي اقترحه بياجيه. ما يبقي مرارة مؤكدة وذكرى لمعركة مريبة حول أفكار لم تبقَ على قيد الحياة بالشكل المتوقع.
(٣) الخلاصة العامة
إنَّ بياجيه، في سِيَرِه الذاتية كلها، هو نفسه ومختلف. الحقائق نفسها. الحكايات متماثلة، لكن النتيجة مختلفة تمامًا.
بالعكس، قدم في هذه السيرة الذاتية، نظريته في المعرفة باعتبارها نتاجًا للبرجسونية، ولم تكن كذلك. حين قرأ برجسون، كان يريد ترسيخ علم للأنواع مؤسس على مبدأ تفسيري عام خاص بالتوازن بين الأجزاء والكل. اتهم علماء النفس بعدم فهم ما يقصد القيام به، غافلين عن الحقيقة الساطعة بأنه لم يكن يقدم علم نفس بل إبستمولوجيًّا مستخدمًا علم النفس وسيلة للوصول إلى هدف.
في السيرة الذاتية في بداية كتاب «الحكمة ووهم الفلسفة» يوجد بياجيه ثالث: الميتافيزيقي الذي تحول إلى عالِم لقصور الفلسفة وغرور الفلاسفة. هنا، أمامنا شخصية عاشق منبوذ. لكن بعنف: كلمة «حكمة» مكتوبة بحروف صغيرة على غلاف الكتاب، بينما كلمة «وهم» مكتوبة بحروف كبيرة. وقد كتب الفصل الاستهلالي لتوضيح أن الطريقة الوحيدة لقول الحقيقة بالنسبة لإبستمولوجيٍّ هي استخدام علم النفس منهجًا لجمع البيانات لأنه مؤسس على حقائق موضوعية يضبطها الوسط العلمي الموضوعي كله (على عكس النظم الفردية «لفلاسفة في مقاعد وثيرة»).
ما المشترك في هذه السرديات المختلفة؟ ذاكرة الطفولة أساسًا: الخوف من التوحد، الحاجة إلى الانتماء إلى مكان ما، ضرورة فحص المخيلة طوال الوقت. من هنا التضاد بين الاستيعاب والتكيف، التوحد والتفكير الاجتماعي، الذاتية والموضوعية، الارتياب والخصوصيات، الأحلام والفنتازيات، التوازن بين المتناقضات باعتباره التفسير النهائي حينما وحيثما أمكن، وأيضًا الموازنة باعتبارها محرك النشوء والتطور. في النهاية، يبدو أن العنصر الأساسي في كل هذه الهويات، العنصر الذي يؤدي إلى سرديات مختلفة هو الخوف من الجنون في رجل يتمتع بمخيلة جريئة وأفكار طليقة. ربما كان الجنون يلوح خلف الصورة المرعبة لأمه العصابية. وهكذا تبدو نظرية بياجيه برمتها آلية دفاعية هائلة ضد الاكتئاب والفقد.
المراجع
-
Bergson, II. (1907), Creative evolution (A. Mitchell, Trans.), New York: Henry Holt (original version published 1911).
-
Boring, E. & Lindzey, G. (1967), A history of psychology in autobiography, Vol. 5, Worcester, MA: Clark University Press.
-
Bourdieu, P. (1986), L’illusion biographique, Actes de la recherche en sciences sociales, 2, 62-63.
-
Ducret, J.-J. (1984), Jean Piaget, savant et philosophe, Les années de formation, 1907–1924, Etude sur la formation des connaissances et du sujet de la connaissance, 2 Vol, Genève: Droz.
-
Parrat-Dayan, S. (1993a), Le texte et ses voix: Piaget lu par ses pairs dans le milieu psychologique des années 1920–1930, Archives de Psychologie, 61, 127–152.
-
Parrat-Dayan, S. (1993b), La réception de l’oeuvre de Piaget dans le milieu pédagogique des années 1920–1930, Revue française de pédagogie, 104, 73–83.
-
Parrat-Dayan, S., & Vonèche, J. (1992), Comment les Anglo-saxons comprennent l’équili-bration, In: D. Maurice & J. Montangero (Eds.), Equilibre et Equilibration dans l’oeuvre de Jean Piaget et au regard de courants actuels, Fondation Archives Jean Piaget, Cahier 12 (pp. 83–95), Genève: Fondation Archives Jean Piaget.
-
Pfister, O. (1920), Jean Piaget: Psychoanalyse und Pädagogik, Imago, 6, 294-295.
-
Piaget, J. (1918), Recherche, Lausanne: La Concorde.
-
Piaget, J. (1949), Traité de logique, Paris: A. Colin.
-
Piaget, J. (1950), Introduction à l’épistémologie génétique, 3 Vol, Paris: Presses universitaires de France.
-
Piaget, J. (1952), Autobiography, In: E. G. Boring, H. Werner, R. M. Yerkes & H. S. Langfeld (Eds.), A history of psychology in autobiography, Vol. 4, Worcester, MA.: Clark University Press.
-
Piaget, J. (1966), Biology and knowledge: An essay on the relations between organic regulations and cognitive processes (B. Walsh., Trans.), Chicago, IL: Chicago University Press.
-
Piaget, J. (1971), Insights and illusion of philosophy (W. Mays, Trans.), New York & Cleveland: The World Publishing Company.
-
Piaget, J. (1976/1966), Autobiographie, Cahiers Vilfredo Pareto (Revue européenne des sciences sociales), 14, 1–43, Updated version of 1966, Cahiers Vilfredo Pareto, 4, 129–159 (Updated version of Piaget, 1952).
-
Ricœur, P. (1983, 1984, 1985), Temps et récit, 3 Vol, Paris: Seuil.
-
Skinner, B. F. (1961), Cumulative record, New York: Appleton-Century Crafts.
-
Sulloway, F. (1979), Freud, biologist of the mind, Cambridge, MA: Harvard University Press.
-
Vidal, F. (1994), Piaget before Piaget, Cambridge, MA: Harvard University Press.