الفصل الثاني
صناعة الذات وصناعة العالم
جيروم برنر
أودُّ التحدث بصوت مَن يأخذ بجديَّة تصريح فيتجنشتاين بأن وظيفة
الفيلسوف مساعدة الذبابة على الخروج من الزجاجة. أنا الذبابة.
ونيلسون جودمان الفيلسوف الذي ساعدني أكثر كلَّما وجدت نفسي
محشورًا في زجاجة فيتجنشتاين. أقترحُ أن أطرح بعض الخواطر
والفرضيات التي تحتاج بشكل خاص إلى عقل فلسفي قوي لتوضيحها.
وتتعلَّق كلها بموضوع بسيط بشكل خادع: كيف يقدِّم الناس حكاية عن
أنفسهم أو، بشكل أوسع، ماذا يفعلون حين يطرحون «سيرة
ذاتية».
في السيرة الذاتية، نطرح رؤية لما نسميه ذاتنا وأفعالها،
وتأملاتها وأفكارها ومكانها في العالم. ثمة صعوبة بالغة في تحديد
طبيعة المشار إليه في مثل هذا الخطاب. وإلى بعض هذه الصعوبات أودُّ
أن أوجه انتباهي. ينبغي أن أقول، بالمناسبة، إن تأملاتي ليست
افتراضية تمامًا. لديَّ ما يسمى في الرطانة الحديثة قاعدة بيانات.
وقد انشغلت مجموعة منا في نيويورك، في جمع سِيَر ذاتية تلقائية،
غير فنية، إذا كان هناك شيء من هذا القبيل، من أناس عاديين.
اجتذبنا متطوعين وسألناهم ببساطة: «احكِ لنا قصة حياتك». أكَّدنا
لهم في البداية أننا لسنا إكلينيكيين، لكننا، مع ذلك، نود بشدة أن
نكتشف، باستخدام لغة جودمان Goodmanian
language، كيف يشيدون صورة لحيواتهم. وقد حدث
شيء غريب. أجرينا لقاءً مع رجل، ثم أجرينا لقاءً مع أخته وقد
«أوصى» لنا بها، فقالت: «تعرفون، يودُّ أخي الآخر أن تجروا أيضًا
لقاءً معه»، وقبل انقضاء وقت طويل كنا قد أجرينا لقاءً مع كل أفراد
الأسرة نفسها: ابنتين كبيرتين وابنين، والأب والأم. ربما للمرة
الأولى — على الأقل لم أتمكَّن من العثور على تقرير عن شيء في
الأدبيات بهذا الشكل — أجرينا مقابلات منفصلة مع ستة أفراد من
العائلة نفسها، كان لهم جميعًا، إذا كان من الممكن أن أُسامَح على
التعبير، «عوالم نفسية» متماسة بشكلٍ ما مع بعضها. كانت مادة رواية
عائلية un roman familial.
عند نقطة في الإجراءات، كنتُ أتناول الغداء مع صديق قديم،
الأنثروبولوجي كليفورد جريتز، وسألتُه عن تعريف الأسرة، من منظور
أنثروبولوجي أو إثنولوجي. رد البروفيسور جريتز: «حسنًا، الأسرة، في
المقام الأول، نظام مصمَّم لحفظ قوى الطرد المركزي من العمل في
مجموعة من الناس عليهم أن يبقوا معًا.» وجدتها طريقة «جيدة» ومفيدة
للنظر في المسألة، جيدة، بمعنى أنَّ حياة الأسرة عملية إحماء
طبيعي. وحينذاك بدأت أدرك، بشكل ملموس، إلى أية درجة يتكون بناء
ذوات الناس و«حيواتهم» في أسرة (أو أية مجموعة أخرى متقاربة) من
مفاوضات ضد الطرد المركزي حول القواعد.
وتبيَّن بسرعة أن المفاوضات المقصودة لم تكُن، إذا جاز التعبير،
من العدم ex nihilo. في الحقيقة،
كانت مصممة في شيء لا يمكن أن أسميه إلا أجناسًا؛ أجناسًا أدبية
قابلة للتفاوض بسهولة تامة. ينبغي أن يكون هناك، إذَن، فهم عميق،
وكان هنري جيمس على صواب، حين قال إن المغامرات تحدث لمَن يعرفون
كيف يحكون عنها. إذا كان صائبًا، لا بدَّ أنه صائب بعمق. إلى أية
درجة يُدفَع المرء، بمجرد أن ينطلق في حكاية من جنس أدبي عن نفسه،
ليبقى معها إلى الأبد؟ ونعود إلى هذه القضية فورًا. لكن لأعُد
أولًا إلى البداية وأناقش بحرية أكبر العملية الفضولية التي يَبني
بها الناس ما نسميه «ذاتًا» و«حياة».
لم يعُد الأمر مفزعًا جدًّا منذ زمن بعيد، من المؤكد عند انعطافة
القرن، لم تعُد عملية خلق الذات تبدو مزعجة جدًّا لدارسي السيرة
الذاتية. كان للمجلدات الكبيرة لجورج ميش،
١ التي ظهرت قبل الحرب العالمية الأولى، اهتمامات أخرى.
اهتم ميش ﺑ «الحيوات» بقدر ما تمثل تعبيرات نموذجية عن الثقافة
وممثلة لها. ولا يمكن لمعاصر، مسَّته شكوك ما بعد الحداثة، إلا أن
يُبهَر بما يقرؤه في مجلدات ميش. بدايةً، كيف كان قادرًا على الحكم
على ما يمثل أي عصر؟ ولماذا كان اهتمامه قليلًا بالقضايا المعرفية
الضمنية، بالنسبة لنفسه ولرجال «نموذجيين وممثلين» (إنه، بالطبع،
ذكوري جدًّا في توجهه)؟ كيف تعامل مع حقيقة وجود ابتكارات في شكل
السيرة الذاتية كانت في ذاتها في أهمية أية أحداث في تشكيل أنواع
السير الذاتية التي تلَتْها؟ وكان توماس الكمبيس
٢ أحد هؤلاء المبتكرين. لكن لم يقتصر تقديم أشكال جديدة
على كُتَّاب السيرة الذاتية، لكنه ضمَّ فلاسفة وروائيين أيضًا، مثل
روسو وفلوبير. كان هناك، بالتأكيد، كُتَّاب سيرة ذاتية يدركون
«المشكلة البنائية»
٣ — من أوجستين إلى هنري آدمز
٤ — لكن معظم الكتاب في السيرة الذاتية حتى نهاية القرن
التاسع عشر اعتبروا كتابة السيرة الذاتية كتابة عن «ذات جوهرية»،
وكتابة عن «حياة»، بمصطلحات جودمان
Goodman «حياة بدائية» مستقلة
عن عملية بنائها. وكان كل ذلك ضروريًّا لأسرها، كتابتها، تدوينها.
وهو رأي لا يبعد كثيرًا عن الاعتقاد الذي يقود خالات حسنات النوايا
إلى التأكد من أن الكتَّاب يستهلون سيرة ذاتية «لا ينبغي أن تكون
صعبة؛ لقد عشْتَ حياة ممتعة».
اليوم، تحولت الرابطة تمامًا. نرفض الرأي القائل بأنَّ «الحياة»
شيء في ذاته، ونعتقد أنها كلها في البناء، في النص، أو صناعة النص.
إذا قرأْتَ لكتاب معاصرين عن سيرة ذاتية، مثل وليم سبنجمان
Spengemann أو جانيت فرنر جن
Gunn، فستجدهم بنائيين تمامًا.
إنهم يهتمون بالابتكار التاريخي الأدبي، بالشكل، بتصوير الواقع.
يهتمون، مثلي، بالقوى الأدبية التي تشكِّل السيرة الذاتية. هل
ترتكز سيرة ذاتية، ولتكن «رواية تعليمية»،
٥ على تراكم الحكمة من الخبرة، كما يمكن أن يعبر إمبريقي
بريطاني؟ وكأنَّ المرء، إذا جاز التعبير، يحوِّل تدريجيًّا الخصائص
الأولية للخبرة المباشرة إلى خصائص ثانوية لمعرفة أعلى.
لكنها ليست مجرَّد جنس أدبي له هذه الوظيفة التشكيلية، لكنها
استعارات معينة منظِّمة أيضًا. تأمل المثال التالي: بدأ مباشرة أحد
المشاركين في دراستنا، حين سُئِل، عن حياته، بحدث مجازي شكَّل
المقابلة كلها. هو نفسه كان كاتبًا له أعمال منشورة، مدرس لغة
إنجليزية، وُلِد في إنجلترا، في بلدة في ميدلندز
Midlands حيث قضى طفولته
ومراهقته. من هنا بدأ: «كان والداي يديران فندقًا صغيرًا على حدود
بلدة صغيرة في ميدلندز. حين وُلدت، استدعوا طبيب التوليد. رفعني
الطبيب من كعبيَّ، حين وجد أنني أعاني من صعوبة في التنفس، وصفعني
على ظهري، وكسر ضلعين. ترى، أعاني من نخر العظام. مثل قصة حياتي
إلى حدٍّ ما: يكسر الناس عظامي وهم يحاولون مساعدتي.» لم يعُد قطُّ
مرة أخرى إلى هذا الحدث، ولم يكرِّر حتى هذه المصطلحات. لكن كل
نقطة تحوُّل في حياته (أعود إلى نقط التحول فيما بعد) احتوت صورة
ما من هذه التيمة المجازية نفسها: يأتيه الأذى بفضل النوايا الحسنة
لشخص آخر. وهكذا بدأنا نسأل عن الدَّور الذي يؤديه جنس أدبي أو
تيمة مجازية في قصة حياة. لأسهب في هذه المشكلة لحظة.
لكن، ما السيرة الذاتية عمومًا؟ إنها تتكوَّن ممَّا يلي: راوٍ،
هنا والآن، يأخذ على عاتقه مهمة وصف تطور بطل هناك وحينذاك، بطل
تصادف أنه يحمل الاسم نفسه. وينبغي عليه طبقًا للعُرف أن يستدعيَ
هذا البطل من الماضي إلى الحاضر بطريقة ينصهر فيها البطل والراوي
في النهاية ويصبحان شخصًا واحدًا بوعي مشترك. والآن، للاستدعاء من
هناك وحينذاك لدرجة أن يصبح البطلُ الأصلي الراوي الحالي، يحتاج
المرء إلى نظرية للنمو أو على الأقل للتحول؛ إلى وصفة تسمح لولد
عديم الخبرة يسرق الكمثرى بأن يصبح القديس أوجستين الذي ينشغل الآن
تمامًا بالصراع بين الإيمان والعقل. يصبح الولد، بالطبع، أداةً في
القص. يكرس حياته لنظرية أو قصة يتَّسق فيها مع قدَره. في هذا
النوع من القصص، ليس من الخطأ أن نقول إن القول المأثور القديم قد
عُدِّل. إذا كان الطفل في البداية أبًا للرجل، فالرجل الآن (في
السيرة الذاتية) يستعيد دوره أبًا للطفل، لكنه هذه المرة يأسر
الطفل من أجل الثقافة باستخدام نظريات الثقافة وقصصها.
هنا خروج مهم على المألوف. لا يمكن التحقق، بالمعنى المعتاد
لاستخدام المصطلح، من النظريات أو القصص التي يشيِّدها المرء عن
نموه، عن «مراحل» مسار هذا النمو كله. وأفضل ما يمكن أن يقوم به
المرء مراجعتها على ذاكرة المرء نفسه، وهي، بالطبع، عُرضة للخطأ
بشكل معروف ومفتوحة على التخطيط
schematization، كما ذكرنا
السير فردريك برتليت Bartlett
(١٩٣٢م) منذ زمن طويل، أو مراجعتها على «ذكريات الأسرة»
(Rubin 1986). أو مراجعتها على
ما أطلقت عليه في موضع آخر «الحكايات الموثقة ثقافيًّا» لما ينمو
ولما تدور حوله الطفولة (Bruner
1990). تحديدًا، مثل هذا «الفحص» لا يوجهه
تصديق عادي، بل يوجهه معيار للاحتمال، للتماثل مع الحياة. أي إن
«قصة حياتي»، وسأصل إلى «القصة» في لحظة، ليست مؤلفة من مجموعة
مقترحات قابلة للاختبار بالمعنى المعتاد، لكنها مؤلَّفة بوصفها
سردًا. ويفرض هذا قيودًا تتلاءم كثيرًا مع متطلبات السرد كما أنَّ
عليها أن تتلاءم مع ما «حدث» للمرء، أو ما يتذكره المرء باعتباره
حدثَ. تذكر طبيب التوليد الذي كسر الضلعين. يحتمل أن تكون
«الحقائق» (من خلال نقلها ثقافيًّا) صحيحة. يقدم التفسير واستخدامه
المجازي، فيما بعد في ابتكار سردي، استمرارية مع الحقائق
المستقبَلة ومع مفهوم (أو ابتكار) كاتب السيرة الذاتية «لحياته».
ويجب أيضًا أن تتلاءم مع متطلبات السرد بوصفه شكلًا لتنظيم الخبرة.
ماذا يمكن أن نقول عن هذه المتطلبات الخاصة بالسرد؟
ينبغي أن يكون للحكايات السردية خاصيتان على الأقل؛ ينبغي أن
تركز على الناس وحالاتهم المتعمدة: رغباتهم، ومعتقداتهم … إلخ؛
وينبغي أن تركز على الكيفية التي أدَّت بها هذه الحالات المتعمدة
إلى أنواع معينة من الأنشطة. وينبغي أيضًا أن تبدو مثل هذه الحكاية
نظامًا يحفظ — أي يحفظ التسلسل أو يبدو أنه يحفظه — الخصائص
المسلسلة لما تكوِّنه الحياة نفسها أو يُفترَض أنها تكوِّنه.
وبطبيعة الأمور، إذا كانت هذه النقط صحيحة، ينبغي أن تكون السير
الذاتية عن الماضي، ينبغي أن تكون بامتيازٍ جنسًا أدبيًّا (أو
مجموعة من الأجناس الأدبية) مؤلفة بصيغة الماضي. وهكذا لمجرد
المتعة، نقرِّر اكتشاف إنْ كانت السير الذاتية كلها بصيغة الماضي،
السير الذاتية التلقائية التي جمعناها، وعينة من السير الذاتية
الأدبية.
لم نعثر قطُّ على عمل واحد شكل فيه الفعل الماضي أكثر من ٧٠ في
المائة من الأفعال المستخدمة. السير الذاتية، بالتأكيد، عن الماضي؛
لكن ماذا عن ٣٠ في المائة أو أكثر من جملها ليست في صيغة الماضي؟
إنني متأكد من أنه سيتبين لنا من دون كل هذه الإحصائيات أن السيرة
الذاتية ليست عن الماضي فقط، لكنها بهِمَّة عن الحاضر أيضًا. إنها
وكأنها حتى تأتي بالبطل إلى الحاضر، لا بدَّ أن تتعامل مع الحاضر
كما تتعامل مع الماضي، وليس فقط في نهاية الحكاية، كما يمكن القول.
إنه جزء منها. لكنَّ هناك جزءًا آخر أكثر أهمية. يتَّفق معظم ما
يأتي في «صيغة الحاضر» في السيرة الذاتية مع ما يسميه دارسو البنية
السردية «تقييم»، مهمة وضع هذه الأحداث المتتابعة في سياق ذي
معنًى. يتضمن السرد، سواء نظرنا إليه من منظور الذي يميل أكثر إلى
الشكلية لوليم لابوف (١٩٨٢م) أو المنظور الذي يميل أكثر إلى الأدبي
والتاريخي لبربارا هيرنشتاين سميث (١٩٨٦م)، سمتين بالضرورة:
إحداهما الحكي عمَّا حدث لجمع من البشر مع نظرة إلى النظام الذي
حدثت فيه الأمور. ويستعين هذا الجزء بشكل كبير بأدوات مثل الفلاش
باك، والنظر إلى الأمام، وأدوات أخرى. لكن لا بد أيضًا أن يجيب
العمل السردي على السؤال: «لماذا يستحق هذا أن يُحكى، ما أهميته؟»
ليس كل ما حدث جديرًا بأن نحكيَه، وليس من الواضح دائمًا السبب
الذي يجعل ما يحكيه المرء جديرًا بأن يُحكى. إننا نملُّ وننفر من
تعليقات من قبيل «استيقظتُ في الصباح، ونزلتُ من السرير، وارتديت
ملابسي وربطت حذائي، وحلقت، وتناولت فطوري، وذهبت إلى المكتب ورأيت
طالب دراسات عليا لديه فكرة لأطروحة …»
تفرض وظيفة «لماذا نحكي» شيئًا ذا أهمية كبيرة (ومخبَّأة) على
السرد. لا يجب فقط أن يكون السرد عن سلسلة أحداث عبر الزمن، مبنية
بشكل شامل فيما يتعلق بالمبادئ الثقافية، ينبغي أيضًا أن يحتوي
شيئًا يهبه استثنائية. توقفنا بشكل أفضل لحظةً نستكشف ما يعنيه هذا
المعيار للاستثنائية في السيرة الذاتية، وبشكل عرَضي، لماذا مثل
هذا الفيض من العبارات في صيغة المضارع في كتابة السيرة
الذاتية.
(١) وظيفتا السيرة الذاتية
تقوم السيرة الذاتية بوظيفة مزدوجة. إنها، من ناحية، فعل
«تحصين»، باستخدام مصطلح نيلسون جودمان؛ بمعنى أننا نتمنَّى أن
نقدِّم أنفسنا للآخرين (ولأنفسنا) بوصفنا «توكيدًا ثقافيًّا»
نموذجيًّا أو مميزًا بشكل ما. أي أن نقدِّم حالاتنا وأفعالنا
المتعمدة في ضوء «السيكولوجيا الشعبية» المتأصلة في ثقافتنا.
عمومًا، نضحك على ما هو مضحك مبدئيًّا، ونأسى لما هو محزن
مبدئيًّا. هذه مجموعة «المعطيات» في الحياة. ليست هناك فردية،
ليست هناك ذات حديثة. نحن ببساطة مرايا لثقافتنا. لتأكيد
الفردية (وأنا أتحدَّث عن الثقافة الغربية فقط)، نركِّز على ما
هو، في ضوء علم النفس الشعبي، استثنائي (ومن ثَم جدير بأن
يُحكَى) في حيواتنا.
والآن، المتطلب الوحيد الذي تفرضه ضرورة أن نحكي قصة حياة
(حتى حين يدعونا سيكولوجيٌّ للقيام بذلك) أن يحكي المرء شيئًا
«شيقًا»، أي قصة تعتبر قانونية وتعتبر غير قانونية في الوقت
ذاته. ما يجعل شيئًا «شيقًا» هو دائمًا «نظرية» أو «قصة» تسير
عكس المتوقع أو تؤدي إلى نتيجة عكس المتوقع. لكن التوقع،
بالطبع، يتحكَّم فيه علم النفس الشعبي المنتشر ضمنيًّا في
الثقافة. هذه هي الحالة؛ على القصة (لتفي بمعيار قابليتها لأن
تُحكَى) أن تنتهك التوقع القانوني، وأن تفعل ذلك بطريقة مفهومة
ثقافيًّا. أي يجب أن تكون انتهاكًا لمبدأ متعلِّق بعلم النفس
الشعبي، انتهاكًا يصبح مبدأً، أي إن خرق العُرف ينبغي أن يكون
هو نفسه عُرفيًّا: الزوج الديوث، والعذراء الجميلة المخدوعة …
إلخ.
لنعُدِ الآن إلى قضية الجنس الأدبي، وقد أثرناها من قبلُ.
أفترض أنَّ الأجناس الأدبية تمثِّل أشكالًا مميزة لانتهاكات
قانون علم النفس الشعبي. وبهذا لا أنوي أن أقول إنَّ الأجناس
الأدبية، إذا جاز التعبير، «نُسَخ» ممَّا يحدث في الحياة. إنَّ
الابتكارات الأدبية، كما لوحظ، إلهامات لأنماط جديدة في
الحياة، دعاوى لتجريب طرق طازجة لانتهاك تفاهة علم النفس
الشعبي، ونبجل أنماط لورانس ستيرن
Sternes وناتاليا جينزبرج
Ginzburgs، فيرجينيا وولف
وأنايس نين
Anais Nin
«لبصائرهم الإنسانية» بقدر ما نبجِّلهم لمهاراتهم الأدبية.
وهكذا بالضبط، وعلم النفس الشعبي يجسد الطرق القانونية التي
يستجيب بها الناس للعالم ويحصنها، يبتكر الأدبُ أشكال الانحراف
ويمثلها، وأعني ﺑ «الأدب» أيضًا العالم الفكري الأدبي
للمبتكرين الكبار في سيكولوجيا «شخصية» الإنسان، من أنصار
أنواع الأخلاط الأربعة، مرورًا بمسمر
٦ ورُسُل «الإيحاء»، إلى العصور الحديثة حين ابتكر
قصصًا جديدة «شيقة» غير قانونية أشخاصٌ مثل بيير جانيه وفرويد
ويونج، وفي وقت أحدث لانج، ولاكان. وبالطبع، مع كل تحصين جديد
للانحراف عن قانون علم النفس الشعبي هناك ابتكار لمصطلحات تحصن
أكثر النمط المنشق، «دفاع الأنا»، و«النمط القديم»، و«انطوائي»
… إلخ.
هدف السرد، إذَن، إزالة غموض الانحرافات. لا يحل السرد
مشكلة، إنه يضعها ببساطة بطريقة تجعلها مفهومة. ويفعل ذلك
باستدعاء لعبة الحالات السيكولوجية ولعبة الأفعال التي ترشح
حين يتفاعل البشر معًا وينسب هذا لما يمكن توقُّع حدوثه عادةً.
أعتقد أن كينيث بورك
٧ لديه الكثير مما يقوله عن «لعب الحالات
السيكولوجية»، وأعتقد أن فحص أفكاره مفيد. في كتابه «نحو
الحوافز
The Grammar of
Motives»، يدخل فكرة «النزعة الدرامية»
(
Burke 1945). لاحظ «بورك»
أن النزعة الدرامية يخلقها تفاعل خمسة عناصر (يسميها خماسية).
وتشمل ممثلًا يقوم بعمل باتجاه هدف باستخدام أداة في مشهد
معين. ويرى أن النزعة الدرامية تُخلَق حين تختل عناصر
الخماسية، حين تفقد «نسبها» المناسبة. وهذا يخلق اضطرابًا، وهو
عنصر سادس منبثق. ولديه الكثير ممَّا يُقال عمَّا يؤدي إلى
اختلال النسب بين عناصر الخماسية الدرامية. على سبيل المثال،
لا يتلاءم الممثل والمشهد. نورا، على سبيل المثال: ماذا تفعل
في العالم نورا المتمردة في «بيت الدمية» في منزل هذا الدكتور
المبتذل؟ أو أوديب يتزوج دون أن يدري من أمه جوكاستا. «النسب
المتناسبة» تقدمها، بالطبع، المواقف القانونية في علم النفس
الشعبي باتجاه الحالة الإنسانية. وتشكل النزعة الدرامية
انتهاكها النمطي. في الثقافة الشفهية الكلاسيكية، تمثل
الأساطير العظيمة المنتشرة أشكالًا نمطية قديمة للانتهاك،
وتصبح باطِّراد «سلسلة» رسمية — وحتى متجمدة — بمرور الزمن،
كما نعرف من الدراسات الكلاسيكية للحكايات الشعبية الروسية
التي نشرها فلاديمير بروب
Propp (١٩٨٦م). في
الثقافات الأدبية الأكثر تحركًا يزيد بشكل هائل، بالطبع، تنوع
في مثل هذه الحكايات والقصص، بما يوازي التعقد الهائل والفرص
الأوسع التي تصاحب المعرفة بالقراءة والكتابة. تتطور الأجناس
الأدبية، وتظهر أشكال جديدة، ويزيد التنوع، في البداية على
الأقل. ربما مع هذا الظهور للثقافات الجماهيرية ووسائل الإعلام
الجديدة الواسعة الانتشار، تحدث قيود جديدة على هذا التنوع،
لكن هذا يأخذنا بعيدًا عن مجال هذه المقالة (انظر فيلدمان، في
هذا المجلد).
(٢) نقاط التحول
في السيرة الذاتية الغربية سِمة تحتاج إلى ذكر خاص. ترتبط
بما أسميه تسليط الضوء على نقاط التحول أو «تمييز
marking» هذه النقاط. أعني
«بنقاط التحول» تلك الأحداث التي يعزو فيها الراوي، وكأننا
نؤكد قوة حالات تعمد الوسيلة، تغيرًا حاسمًا أو موقفًا في قصة
البطل لإيمان أو قناعة أو فكرة. وأرى ذلك حاسمًا للجهد المبذول
لإضفاء الفردية على حياة، ليجعلها بوضوح وبراعة شيئًا أكثر من
الفرار من قانونية تلقائية خاصة بعلم النفس الشعبي. وأقدم
مثالًا بعد لحظة، مأخوذًا من «أسرة» السير الذاتية، الأسرة
التي أشرنا إليها من قبلُ.
لكنني قبل ذلك، أعلق بإيجاز على سبب استخدامي كلمة «تمييز».
ليست اللغة، كما عبَّر رومان ياكبسون (١٩٨٨م) منذ جيل، مجرد
نظام للتواصل، لكنها أيضًا نظام لتنظيم الانتباه. إن التحدث
(مقابل الصمت) هو ذاته طريقة للتمييز،
لجذب الانتباه إلى ما يودُّ
المرء أن يضعه في الصدارة. وبمجرد أن التحدث، يوجد في كل لغة
في كل مستوى نظام متقن تمامًا لتمييز «المُميَّز» من «غير
المميَّز» — ما يُعتبَر أمرًا مسلَّمًا به وما يُلقَى عليه
الضوء باعتباره جديدًا أو منحرفًا أو خاصًّا أو جديرًا
بالاهتمام. وهكذا، على سبيل المثال، توجد أدوات سردية لتحديد،
إذا جاز التعبير، ما يستحق النشر — أو طرق تمييز الاختلال في
النسبة بين عناصر الخماسية بمفهوم «بورك». أرى بناء «نقاط
التحول» السردي أداةً أخرى لتمييز العادي والمتوقع (أي علم
النفس الشعبي) من الغريب وما يمثل وسيلة بشكل جوهري.
نتناول الآن مثالًا. أقدم كارل، الأخ الأكبر في أسرة
«جودهيرتز»، الاسم المستعار nom de
plume الذي نستخدمه لأسرة السيرة الذاتية
التي ذكرناها من قبلُ. يهتم المثال بمقدمته عن فكرة من الأفكار
المهيمنة في سيرته الذاتية التي حكاها بتلقائية وقد حدثت وهو
صبي في المدرسة. يحكي لنا أنه خرج للانضمام لفريق كرة القدم،
ولأنه كان ضخمًا كان واثقًا من انضمامه. وفي مباراته الثالثة
مع هذا الفريق في مدرسة ثانوية كاثوليكية، قال له المدرب:
«انتهى، أريده خارج المباراة. أخرجوه من المباراة.» صُدِم
وانتابَهُ صراع خلقي. «قررت حينذاك وهناك أن هذا لم يكُن لي.»
وهكذا ترك فريق كرة القدم بعد المباراة مباشرة. في الشهور
التالية، قضى وقتًا طويلًا في المكتبة، «مكتئبًا». ويحكي لنا
أنه صار أكثر اهتمامًا بالتكامل الخلقي وكيفية الحفاظ عليه،
واضعًا في الاعتبار ما عليه العالم. العالم مكان فظٌّ وقذر حين
يطلب منك المدرب أن تغير هدفك تمامًا. ينبغي عليك أنت نفسك أن
تقرر الصواب في قناعتك، ولا تهتم بما يفكر فيه أي شخص.
في النهاية، يجد كارل طريقة «لرسم» انحرافه عن ثقافة المدرسة
الثانوية، وكلمة «يجد» الكلمة الصائبة. يجد الأخوة «بريجان»،
ويصبح نَشِطًا في منظمة
neighborhood
settlement house،
٨ وفي النهاية يصبح معارضًا لحرب فيتنام، مما يعطي
انحرافه الأول شرعية، بنية سردية جديدة.
تحتاج نقاط التحول إلى مزيد من الدراسة. إنها تمثل طريقة
يحرِّر الناس بها أنفسهم في وعيهم الذاتي من تاريخهم، مصيرهم
التافه، تمسكهم بالعرف. وأثناء ذلك، يميزون وعي الراوي عن وعي
البطل ويشرعون في غلق الهوة
بين الاثنين في الوقت ذاته. إن نقاط التحول خطوات باتجاه وعي
الراوي. ومما لا يثير الدهشة أنها، في معظم السير الذاتية،
توضع في نقاط حيث تقدم الثقافة في الحقيقة درجات أكثر من
الحرية، مساحة للحركة من أجل نقاط التحول. في أمريكا، على سبيل
المثال، التخرج في مدرسة ثانوية من هذه النقاط. «فعلْتُ دائمًا
ما كان يريده والداي. عند تلك النقطة بدأتُ أفكر في حقيقتي،
وقررت أن …» تُميَّز كل هذه العبارات بفعل ذهني. وهذه الإشارات
تحوُّلٌ «داخلي»، تحول في الحالة المتعمدة. لو كُتِبت السيرة
الذاتية قبل الاستراحة، لأحسست بأنها سيرة ذاتية
مختلفة.
وبهذا المعنى، أيضًا، يعترف المرء بأن علم النفس الشعبي لم
«يكتب» فيه فقط أن الناس لا توجههم حالاتهم المتعمدة فقط، لكنه
تغيَّر بطرق مخططة وفي أوقات متوقعة. وعلى سبيل المثال مع
المراهقين تركز ثقافة المكتبة فهمها لابتكارٍ ما على استكشاف
الوعي والانحراف أثناء هذه الأوقات المتوقعة والمتميزة. وفي
مجتمع جماهيري يكون لدى المرء انطباع بأن هذا التنوع في أزمة
البلوغ يصير من منتجات صناعة الصورة الأدبية.
نرى كل هذه الألغاز تثار بشكل ملموس جدًّا في السِّيَر
الذاتية للأسرة التي ندرسها (Bruner &
Weisser 1981). يمثل كلٌّ منهم، بطريقته،
تعبيرًا عن الثقافة. وتعكس جغرافيتهم النفسية الفردية جغرافيا
ثقافة نيويورك في أواخر ثمانينيات القرن العشرين. لكنني أعود
هنا إلى تعليق البروفيسور جريتز عن الأسرة بوصفها نظامًا
لاحتواء ميول الطرد المركزي ومواجهتها — تعتبر الأسرة أيضًا
عالمًا صغيرًا تُمثَّل فيه نزاعات المقاطعة الأوسع، وتُحتوَى
في حدود معينة. بالنسبة للأسرة، في حالة آل جودهيرتز، تمثل
جالية ضمنية بالنسبة لطريقة الحياة — معتقدات ورغبات وتطلعات
معينة يعتبرونها جميعًا «مسلمات». كأنهم يشتركون في مورفولوجيا
العالم والناس. وهذه المورفولوجيا المشتركة لا تشكِّل فقط
طريقة رؤية الآخرين، بل طريقة رؤيتهم لأنفسهم، مهما يكُن
اختلافهم. إنهم يميزون، على سبيل المثال، بين «العالم الحقيقي»
و«البيت» — وهو بشكل مؤكد تمييز واسع الانتشار في الثقافة،
لكنه مع ذلك تمييز شخصي جدًّا بالنسبة لآل جوهيرتز. القيم
بالنسبة للعالم الحقيقي «آلام الشارع»، بتعبيرهم: كيف تتعامل
مع المنافقين والطموحين والاستغلاليين. قيم البيت التفتح
والتعاطف والتسامح والتقارب. ويعبِّر كلٌّ منهم عن هذه
الجغرافيا والمورفولوجيا بطريقته، وتختلف بالنسبة لكلٍّ منهم،
تختلف بشدة عن الآخرين.
الأب رجل حاول أن يصبح رقيبًا في الجيش في زمن السِّلم قبل
أن يبلغ الخامسة والعشرين (وقد جُنِّد في الثامنة عشرة، تحت
السن بشكل غير قانوني في ذلك الوقت). كانت طفولته خشنة، مع أب
مدمن للخمور تخلَّى عن الأسرة، وكان عليه أن يتحمل المسئوليات
في سن مبكرة جدًّا، لكنه يدرك دائمًا ما بدت عليه الحالة مقابل
ما قد تكون عليه في الحقيقة. لعب بحذر، وعمل في السباكة بعد
تسريحه من الجيش، وصار رجلًا موضع ثقة ويعتمد عليه في المجتمع
— لكن كان المقربون منه قليلين. وحين تزوج قرر، مثل زوجته التي
عاشت أيضًا طفولة صعبة، أن يحميا أطفالهما من الأوقات الصعبة
التي عرفاها وهما طفلان. كانت مسز جودهيرتز امرأة لها آراء
قوية، «كاثوليكية وديمقراطية»، وفَّر الاثنان بيتًا لأطفالهما
— في الحقيقة يعيشان الآن في الحي نفسه في بروكلين لثلاثين
عامًا، حيث صارا من دعائم المجتمع.
حين صار كارل، الابن الأكبر، معارضًا للتجنيد في حرب فيتنام،
نرى ثقافة الأسرة تعمل. كان أبوه «محافظًا hard
hat»، لكنه ساند كارل حين تهرب من
التجنيد. ورأى أنه طالما كان كارل يعتنق رأيه بصدق، كان ذلك
رائعًا. في الأسرة، يمكن أن يكون لكل فرد نسخته عن العالم إذا
كان ذلك مصحوبًا بقناعة صادقة. لكن معارضة كارل للحرب (مثل
معارضته لفريق كرة القدم) مبنية على اعتقاد بأن والده يؤمن
بالتكامل الفردي. يقول في مقابلة: «إننا أسرة خلقية جدًّا».
صدِّق ذلك أيضًا. لأنهم جميعًا يعرفون المطلوب منهم فيما
يتعلَّق بالقيم الخاصة بالأسرة، قيم التفتح والمشاركة
والتسامح. يتفاخرون بأنه لا يوجد شيء لا يمكن مناقشته على
طاولة عشاء الأحد حين يجتمعون معًا. وهذا هو المنبر الذي
يجربون عليه نسخ تغير صورتهم الذاتية وسِيَرهم الذاتية. الآن
مباشرة، على سبيل المثال، يفكِّر مستر جودهيرتز في التقاعد.
إنه يحب عمله، فهو يمنحه إحساسًا مطلوبًا بالاستقلال والاعتماد
على النفس. بالإضافة إلى ذلك، يشعر بأنه يفتقد المودة في
حياته. من المهم أن نراه يشكِّل نقطة تحول جديدة في حياته،
منها سيبدو الماضي مختلفًا. لكنك تشعر بأنه يصممها واضعًا
الآخرين في اعتباره، إن مواصلة نسخة من حياتك متوافقة مع نسخ
الآخرين في العائلة أمر بالغ الأهمية. لا تتأثر قوة صناعة
الذات بتفسيراتك لنفسك فقط، لكن بالتفسيرات التي يقدمها
الآخرون لنسختك. من الغرائب، بالطبع، أنَّ الذات وهي تعتبر
(على الأقل في الفكر الغربي) السمة الأكثر «خصوصية» لوجودنا،
يتبين بالفحص الدقيق أنها قابلة للتفاوض إلى حدٍّ بعيد، وأنها
حساسة جدًّا لعروض في مناخ ليس بهذا التفتح، مناخ الجماعة
المرجعية للمرء.
يتبين، والمرء يلاحظ هذه العملية الخاصة بتكوين الذات، أنه
قد يكون من الخطأ تصور أن الذات تعزف منفردة، أو محصورة في
ذاتية شخص واحد، أو مغلقة بشكل سحري. تبدو الذات أيضًا متداخلة
مع ذوات الآخرين أو «موزعة» بالطريقة نفسها التي تُوزَّع بها
«المعرفة» بما يتجاوز رأس المرء لتشمل الأصدقاء والزملاء الذين
يرتبط بهم، والمذكرات التي ملأها، والكتب التي يضعها على
الرفوف. لكن هناك بشكل ما مقاومة لمثل هذا الرأي عند معظم
الناس. في ثقافتنا الغربية، يُؤْثِر المرء رؤية الالتزام
فرديًّا. لكنه لم يكُن دائمًا في أي مكان بهذا الشكل، وعلينا
أن نتساءل إن كان هناك شيء «جوهري» في مفهومنا المعاصر للذاتية
أو إن كان يتغيَّر بقدر ما تغيَّر في الماضي، مثلًا، من العصور
الوسطى إلى ظهور النزعة التجارية (لمناقشة أكثر اكتمالًا حول
هذه النقطة، انظر Bruner
1990).
(٣) بناء الذات بناءً ثقافيًّا
ربما ما يبقى أكثر رسوخًا بشأن الذات بوصفها مفهومًا ثابتًا
عبر الزمن، كما ذكَّرنا تشالرز تايلور
Taylor (١٩٨٩م) حديثًا، هو
الإحساس بالالتزام بمجموعة معتقدات وقيم لا نريد (أو لا
نستطيع) إخضاعها لفحص «جذري». وهذا الالتزام، بالطبع، هو الذي
يقدم المحرك، إذا جاز التعبير، للسمة البلاغية للسيرة الذاتية،
وهو موضوع لم نتناوله بأي تفصيل حتى الآن ولا يمكن تحقيق ذلك
في إطار مقالة موجزة. لكننا لمسناه بطريقة غير مباشرة في
ملاحظة عنصر «التقييم» في خطاب السيرة الذاتية. لأن «ما يبرر
الحكي» هو أيضًا التزام بمجموعة معينة من المسلَّمات بشأن
الذات، وعلاقة المرء بالآخرين، ورؤية المرء للعالم وموضعه فيه.
وهكذا تكون السيرة الذاتية بلاغية بالضرورة، واضعين في
الاعتبار أنها أيضًا شكل من أشكال «اتخاذ موقف». وحين يوحد
المرء بلاغة تبرير الذات مع متطلبات سرد مرتبط بالجنس الأدبي،
يبدأ في الاقتراب مما يسميه جودمان «صنع العالم»، حيث تصبح
الذات المشيدة وقواها الممثلة، إذا جاز التعبير، مركز جاذبية
العالم. والقوة التي تنسب المركز إلى بقية العالم هي التزام
يبقى على مدار الزمن — التزام يكفل ثبات معين في تصور الذات،
لكنه يسمح أيضًا لمؤلف السيرة الذاتية بأن يحافظ على إحساس
بالتحالف مع الآخرين — التحالف والتضاد أيضًا. لأنه تعريف
الذات وأحلافها، كما يشير كلٌّ من تايلور وهنري تافيل
Tajfel، يُعرِّف أيضًا من
ينتمون للمجموعة المضادة، وكما أوضح تافيل (١٩٧٨م، الجزء
الأول) ببراعة، يبدو أن هناك دائمًا تدهورًا في المجموعة
المضادة التي لها دور خاص، في المقابل، في تحديد خصائص المرء
وخصائص من معهم، المجموعة التي ينتمي إليها.
بهذا المعنى، لا تشمل السيرة الذاتية (مثل الرواية) بناء
الذات فقط، لكنها تشمل أيضًا بناء ثقافة المرء — كما يؤكد لنا
جريتز (١٩٨٨م). تشمل كتابة الأنثروبولوجيا نوعًا من السيرة
الذاتية أيضًا. من المهم أن نتأمل النمط الرومانسي الذي يصر
على أن المرء يمكن أن «يجد» ذاته ليس فقط بالانسحاب من العالم
— كما حدث من طلاب الجامعة في سبعينيات القرن العشرين الذين
طلبوا إجازة ليذهبوا ويعيشوا في قرية في ماين
Maine أو نيبال أو الجزر
اليونانية لكي «يجدوا أنفسهم». أعتقد أن هذا أثر متبقٍّ لمفهوم
لذات «جوهرية» مستقلة عن الثقافة فيما يتعلَّق بما يبحر به
المرء في العالم. إنه لغز كبير، فَحْص السِّيَر الذاتية
الفعلية وعملية بنائها، كيف أن هذه التصورات المنعزلة يمكن أن
تنقذ الخبرة الفعلية للحكاية الذاتية. لنعود مرة أخرى إلى إحدى
نقاط جودمان بشأن صنع العالم، ومن الواضح بالتأكيد أن معايير
«الصواب» بالنسبة لعالَمٍ مشيَّد لا تتواءم مع المعايير
المعتادة بالنسبة «للحقيقة» الراسخة سواء بالتشابه أو التطابق.
في الحقيقة، يبدو أن الصواب محكوم بشكل برجماتي — هذا ما يمكن
أن يعيشه المرء بين من يتفاعل معهم في الوضع الذي يعمل
فيه.
كلمة أخيرة عن تطور مفهوم الذات في الثقافات المختلفة في ظل
مختلف ظروف الحياة. إنه موضوع واسع، لم يُدرَس جيدًا، رغم
غزارة الأدبيات فيه. نشرت مجموعة منا مؤخَّرًا، تحت قيادة
كاترين نيلسون، مناجيات طفلة بعد وقت النوم — كثير منها شبه
سيرة ذاتية. تمتد المناجيات من الشهر الثامن عشر لإيمي
Emmy إلى عيد ميلادها
الثالث (Nelson 1989). ما
يتبين من ذلك العمل ومن دراسات أخرى حديثة أن بناء الذات يبدأ
مبكرًا جدًّا، وهي عملية منظمة تتشابك بعمق مدهش مع براعة
اللغة نفسها — ليس فقط مع تركيبها أو معجمها، لكن أيضًا مع
بلاغتها وقواعدها في بناء السرد. ومثل كل السمات الأخرى لصنع
العالم، يعتمد صنع الذات (أو «صنع الحياة») بقوة على النظام
الرمزي الذي يتصل به — فرصه وقيوده. أود أن أختم بالتعليق الذي
تَعدُّ النزعة البنائية لنيلسون جودمان به المرء بشكل جيد
لتقدير تعقيدات صنع الذات والحياة. وآمل أن أكون قد أشرتُ في
سياق هذه الملاحظات إلى الطرق التي يمكن لأفكاره أن تكون
فعَّالة في هذا المجال.
المراجع
-
Bartlett, F. C. (1932), Remembering,
Cambridge: Cambridge University Press.
-
Bruner, J. S., & Weisser, S.
(1991), The Invention of self: Autobiography
and its forms, In: D. R. Olson, & N.
Torrance (Eds.), Literacy and orality (pp.
129–148), Cambridge: Cambridge University
Press.
-
Bruner, J. S. (1990), Acts of
meaning, Cambridge, MA: Harvard
University Press.
-
Burke, K. (1945), The grammar of
motives, New York:
Prentice-Hall.
-
Geertz, C. (1988), Works and
Lives, Stanford, CA: Stanford
University Press.
-
Herrnstein Smith, B. (1986),
On the margins
of discourse, Berkeley, CA:
University of California
Press.
-
Jakobson, R. (1988), Selected
writings, Vol. 8, Berlin:
Mouton de Gruyter.
-
Labov, W. (1982), Speech actions
and reactions in personal narrative, In: D.
Tannen (Ed.), Analyzing discourse: Text and
talk, Washington, DC:
Georgetown University Press.
-
Nelson, K. (Ed.) (1989),
Narratives from
the crib, Cambridge, MA:
Harvard University Press.
-
Propp, V. (1986), The morphology of the folk
tale, Rev. ed. Austin, TX:
University of Texas Press.
-
Rubin, D. C. (Ed.) (1986),
Autobiographical
memory, Cambridge: Cambridge
University Press.
-
Tajfel, H. (1978), Differentiation between
groups, London: Academic
Press.
-
Taylor, C. (1989), Sources of the
self, Cambridge, MA: Harvard
University Press.