الماء، الماء في كل مكان …
كيف نشأ الماء من الانفجار الكبير وكيف وصل إلى الأرض؟ نحن واثقون تمامًا أن بإمكاننا الإجابة عن السؤال الأول. لكننا لا نزال في جدلٍ حول الثاني. يُعتقَد أنه بعد أقل من دقيقتَين من الانفجار الكبير، كانت الحرارة مُنخفضة كفاية — بلغت نحو ثلاثة مليارات درجة مئوية — بما سمح للبروتونات (نوية الهيدروجين) والنيوترونات بالتجمع معًا لتشكيل نوي العناصر الأخف، وهي الهيليوم، والليثيوم، والبورون. بمجرد انخفاض الحرارة إلى نحو ٤٠٠٠ درجة مئوية، كانت النوي قادرة على الإمساك بالإلكترونات والاحتفاظ بها، وهكذا تشكَّلت ذرات الهيدروجين وهذه العناصر الثلاثة الأخرى. وقد مهَّد ذلك الطريقَ لتكوين عناصر الكون كما نعرفها اليوم؛ إذ يتألف نحو ثلاثة أرباعه من الهيدروجين، ونحو ربعه من الهيليوم، في حين يُشكل كل عنصر آخر من ١ إلى ٢ في المائة فقط من الإجمالي.
ولكن أين الأكسجين؟
يستمر النجم في «الاحتراق» حتى يستنفد كل «وقوده النووي». بعدها يُصبح لبُّه غير مستقر؛ إذ ينهار تحت تأثير قوة جاذبيته، مما يؤدي إلى انفجارٍ ضخم، يُعرَف بالمستعر الأعظم. تكون طاقة هذا الحدث كبيرة لدرجة أنها تُحفز عمليات تخليق نووي جديدة، ينتج عنها عناصر ثقيلة، مثل اليورانيوم والثوريوم. بعد ذلك يتشتَّت كل الحطام — الذي يحتوي تقريبًا على كل العناصر الموجودة في الجدول الدوري — في الفراغ الكائن بين النجوم.
إذا نظرنا إلى الفضاء، نجد نتائج هذه الانفجارات العظيمة وما فعله الزمن بها بعد ذلك، على سبيل المثال في السُّحب الجزيئية الضخمة التي يُمكننا رصدها بواسطة تلسكوب جيد. وبالإضافة إلى الهيدروجين الذي لا يزال مُهيمنًا، نجد غازات أخرى مثل أول أكسيد الكربون، والميثانول، والأمونيا. والماء. هناك أيضًا حبيبات صغيرة جدًّا من المواد الصلبة، مثل السيليكات والكربون (وحتى الألماس)، غالبًا ما تكون مُغطَّاة بطبقة من الجليد. عندما تبدأ المادة داخل هذه السحب الجزيئية في التكتُّل، تتسطح في شكل قرص دوار. تتجمع معظم المادة في القرص، في مركزه، لتشكيل نجم، بينما المادة التي تُوجَد على مسافة أبعد تُشكل مخزونًا تتكوَّن منه الكواكب. ويُعتقد أن نشأة الكواكب تحدث عن طريق تراكم الغاز وحبيبات الغبار لتشكيل أجسامٍ صخرية صغيرة (الكويكبات) تصطدم بعضها ببعض، وتتلاصق تحت تأثير قوة الجاذبية لتشكيل أجسام أكبر. يُستخدم معظم ما تبقى من المادة ويُستهلك في هذه التصادمات؛ حيث «تلتهم» الأجسام الأكبر الأجسام الأصغر، مما يؤدي إلى نشأة الكواكب، ولكن ليس كما نعرفها بعد. ربما تكون أقرب إلى صخور منصهرة، ولكنها تحتوي بالفعل على جزء كبير من المادة التي لدينا الآن على الأرض.
كيف وصل الماء إلى هنا؟
ثمة آليات عديدة يمكن أن يكون الماء الذي لدينا على الأرض قد وصل من خلالها. تفيد إحدى النظريات الشائعة أنه جاء من خلال تصادُمات الأجسام «الرطبة» مثل المُذنبات، التي تحتوي على كمياتٍ كبيرة من الماء المتجمِّد. علاوة على ذلك، فقد أشرْنا بالفعل إلى أن حُبيبات الغبار التي تراكمت لتشكيل الأرض كانت لها أغلفة جليدية جاءت من الغاز الذي يُغلف حبيبات الغبار. من المُمكن أن يكون كثير من هذا الماء قد احتُجز أثناء عملية التراكم، وبما أن كتلة الماء في منطقة «الأرض الأولية» كانت أكبر بكثيرٍ من كمية الماء التي تراكمت في النهاية، فقد تكون هذه آلية مهمة وصل إلينا الماء عن طريقها.
يُعتبر التقاط الغاز من السديم الشمسي — وهو سحابة الغاز والغبار التي تشكَّلت منها الشمس وبقية الأجسام في النظام الشمسي قبل نحو ٤٫٥ مليارات سنة مضت — آلية أخرى من الآليات التي اقتُرحت لتفسير وصول الماء، وإن كان من غير المُرجَّح أن يكون هذا القدْر الكبير من الماء قد وصل إلينا بهذه الطريقة. بالإضافة إلى الماء الناتج عن تصادم المُذنبات، يمكن أن تكون الاصطدامات مع الكُويكبات أيضًا قد أضافت كميةً من الماء. من الصعب اختبار صحة هذه النظرية، ولكن الأدلة التي لدَينا تُشير إلى أنه من غير المُرجح أن تكون هي المصدر الرئيسي.
لا تزال القضية مُعلقة فيما يتعلق بماهية الآلية الفعلية لوصول الماء إلى الأرض، ولكن ثمة موقف مُرضٍ يُمكن تبنِّيه في هذا الشأن، وهو أن الآليات الثلاث الرئيسة المُدرجة هنا («التراكم الرطب»، والغاز من السديم الشمسي، والتصادمات اللاحقة بين الكويكبات والمذنبات) كلها ساهمت في تكوين الماء الذي لدَينا على الأرض. ولكن قدْر الماء الذي جاء من كلٍّ منها هو أمر غير واضح، وموضوع قيد البحث حاليًّا. على سبيل المثال، قامت «بعثة روزيتا» بأخذ عيناتٍ من سطح أحد المذنبات في عام ٢٠١٤، وكان الهدف من ذلك جزئيًّا هو البحث عن أدلة للمساعدة في حل هذه المشكلة المُثيرة للجدل منذ فترة طويلة.
ما فعلَه الماء بعد ذلك
يُعتبر توزيع ماء الأرض وتاريخه منذ وقت ظهوره حتى اليوم واحدًا من أعقد المشكلات في الكيمياء الأرضية. ولكن يُمكننا أن نطرح تكهنًّا قائمًا على معرفة. خلال المراحل الأخيرة من تكوين الأرض، كانت الكويكبات المتصادمة قد أُودِعت طاقةً كافية لإذابة جزء من الأرض على الأقل لتكوين مُحيط من الصهارة (قد تكون المادة المُندفعة منه هي ما شكَّلت قمرنا بعد ذلك).
إلى جانب الماء، كانت جزيئات أخرى مُتطايرة مثل الهيدروجين (بالطبع)، والنيتروجين، وأكاسيد الكربون، قد أُدمِجت أيضًا في محيط الحِمم خلال عملية التراكم. ثم، مع تبريد الصهارة وبدء تصلُّبها، أُطلِقت الجزيئات المُتطايرة لتُشكِّل غلافًا جويًّا بدائيًّا يتكون في أغلبه من الهيدروجين، وثاني أكسيد الكربون، وبخار الماء. وكان مجال الجاذبية للأرض غير كافٍ للحفاظ على الهيدروجين الخفيف، الذي فُقِدَ تدريجيًّا. ومع انخفاض درجة حرارة الأرض بما يكفي لتكثُّف بخار الماء في سُحب، جاءت الأمطار — وبقِيَت — حتى تشكلت المحيطات.
ورغم استمرار الشكوك، يمكن تقديم حجة جيوكيميائية معقولة لتفسير تأسيس الأنماط الحديثة لتكوُّن القشرة، والتعرية، وتكوُّن الرواسب في غضون نحو مائة مليون سنة منذ نشأة الأرض، ولكن مسألة ما إذا كانت الصفائح التكتونية قد نشأت بحلول ذلك الوقت تظلُّ سؤالًا مفتوحًا. فبحلول ذلك الوقت، ربما كان لدَينا غلاف جوي بدائي ومسطحات كبيرة من الماء؛ أي محيطات الماء السائل.
… ولا قطرة للشرب
نتقدَّم سريعًا إلى الوقت الحاضر حيث نعرف أكثر عن الماء على كوكبنا؛ وذلك لأسبابٍ واضحة جدًّا. ولكننا بالتأكيد لا نعرف كل شيء، على سبيل المثال نحن لا نعرف بأي درجةٍ من اليقين كم لدَينا من الماء. نعلم أن المحيطات تُشكِّل نحو ٧٠ في المائة من سطح الأرض، بينما يُغطي الجليد نحو ٥ في المائة منه، كالمُحيطات المتجمِّدة، والغطاءات الجليدية القطبية الجنوبية والشمالية، والجبال الجليدية. ولدَينا فكرة جيدة عن كمية الماء التي لدينا في المحيطات والأنهار، والماء المُختزن في الجليد، والمختزن في المياه الجوفية، والصخور، والمواد العضوية؛ إذ يبلغ نحو ١٫٩ ألف مليار مليار طن (أو ١٫٩ مليار كيلومتر مكعب)، يتألف نحو ٧٠ في المائة منه من ماء المحيطات المالح.
وما قد يُثير الدهشة أن هناك كمية كبيرة من الماء أيضًا في وشاح الأرض، ويُقصد به طبقة السيليكات الصخرية الواقعة بين القشرة الأرضية واللب الخارجي. تتراوح معظم التقديرات لمحتوى الماء في القشرة بين ٠٫٢ إلى ٢٫٥ مليار مليار طن، علمًا بأن الرقم الأعلى يعادل نحو ضعفَي محيطات الأرض. ولكن ثمة تقديرات أعلى من ذلك.
هذا يعني أن هناك قدرًا ضخمًا منه حولنا. غير أن مُعظمه غير متاح لنا في شكل الماء العذب الذي نحتاج إليه، فإذا ما أغفلنا الماء الموجود في الوشاح الأرضي، فهذا يعني أن الماء العذب يُشكل نحو ٢ في المائة فقط من هذه اﻟ ١٫٩ مليار مليار طن. وبما أن ما يقرب من ثلثَي هذه الكمية مُحتجَز في الغطاءات الجليدية، وباستبعاد تلك الكمية من المعادلة، فهذا يعني أن أقل من ١ في المائة من الماء العذب على الأرض يمكن أن يكون متاحًا لنا. وبالنظر إلى أن ٩٠ في المائة من هذه الكمية موجود في المياه الجوفية التي سيكون من الغباء التنقيب عنها واستخراجها بالكامل، فإن كمية الماء العذب التي يمكننا الوصول إليها بشكلٍ معقول تُعادل نحو ٠٫١ في المائة من الإجمالي. ربما تظلُّ هذه الكمية تمثِّل كميةً كبيرة ظاهريًّا من الماء (١٫٩ مليون مليار طن)، ولكن ضآلة النسبة تجذب انتباه العقل نحو الحاجة إلى الاعتناء بمصادر الماء العذب المتاحة بسهولة، وترشيد استخدامها.
لماذا نحتاج إلى الماء؟
الإجابة المختصرة هي: للحفاظ على مناخنا، وإبقائنا — والكائنات الحية الأخرى — على قيد الحياة.
ترتبط هاتان العبارتان بعمليات مُعقدة، يلعب فيها الماء في صورِه الثلاث دورًا بالغ الأهمية. نحن نحتاج إلى الماء بكمياتٍ وجودة مناسبَين، ولهذا فإن دورة الماء (التبخر والنتح ثم التساقط) تُعتبر عمليةً في غاية الأهمية باعتبارها آلية لتنقية الماء؛ فعلى الرغم من أن نحو ٧٥ في المائة من الماء «المعاد تدويره» يسقط على هيئة مطر على المُحيطات، فهو لا يُتاح لنا إلا بعملية تحلية مُكلفة (على صعيدَي الطاقة والمال). وعلى الرغم من أن الكمية الفعلية للماء في الغلاف الجوي الموجودة في أي زمنٍ تكون صغيرة، فإنها تلعب دورًا مركزيًّا في التأثير على طقسنا ومناخنا من خلال مجموعة معقدة من حلقات التغذية الراجعة.
من العناصر المُهمة أيضًا الغطاء الجليدي القطبي، الذي يعكس كميةً كبيرة من الإشعاع القادم من الشمس. فبدون هذا الغطاء الجليدي، ستمتصُّ الأرض المزيد من الحرارة. وبالإضافة إلى ارتفاع درجة حرارة اليابسات، سيؤدي ذلك أيضًا إلى ارتفاع درجة حرارة المحيطات، بما لذلك من آثار على التيارات المُحيطية، مثل تيار الخليج الذي يلعب دورًا رئيسًا في الحفاظ على المناطق المعتدلة في أوروبا الشمالية.
إن العوامل البيئية التي تؤثر على مناخنا مُعقدة ولم تُفهم بعدُ بالكامل؛ فنحن نتحدث عن توازناتٍ دقيقة جدًّا تشمل عددًا من العمليات المختلفة. ولكن في كثيرٍ من هذه العمليات، يحل الماء بجميع أطواره الثلاثة محلَّ القلب منها. وكما سنرى لاحقًا، فإن خواصَّه الخاصة في الطور السائل (مثل كمية الحرارة الكبيرة نسبيًّا التي يتطلبها رفع درجة حرارة كمية مُعينة من الماء بمقدار درجة مئوية واحدة)، وكجليدٍ صلب (الذي تقل كثافته عن كثافة الماء) ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتأثيره على مناخنا.
احتياجات نفسية وفسيولوجية
على صعيد شخصيٍّ أكثر — أتمنَّى أن يجد صداه على نطاق أوسع — ثمة أسباب تجعلني وكثيرين آخرين نحتاج إلى الماء، وهي أسباب تتجاوز وظائفه الفيزيائية في الحفاظ على حياتي، والحفاظ على البيئة في حالة تسمح باستمرار وجودي المادي.
في سبيل الحفاظ على صحتي العقلية، يجب أن أختفي كل فترةٍ في الجبال والأودية، وأذهب إلى الأراضي الطينية على الساحل والجُزر المعزولة لأتشبع بجو الأماكن البرية التي تبقَّت لدَينا. وحاجتي إلى ذلك ليست لإنعاش نفسي روحيًّا فحسب، ولكن أيضًا لمساعدتي على تصفية ذهني، بما يسمح لي بالتفكير في المشكلات الصعبة، سواء كانت علمية أو غير ذلك. وكان الماء — ولا يزال — قوةً رئيسة في تشكيل تلك المناظر الطبيعية الملهِمة.
ومن خلال قدرته على التحميض من خلال إذابة ثاني أكسيد الكربون، كان الماء عنصرًا محوريًّا في تشكيل المعالم التي نراها في مناطق الحجر الجيري، بداية من مناظر الأودية الجافة الطبيعية المتنوعة بأشكالها الجميلة، وصولًا إلى الحُفَر التي تبتلِع تيارات الماء السطحي التي تحفر الكهوف الجوفية الهائلة، كما في حديقة كارلسباد الوطنية في ولاية نيو مكسيكو. تضم هذه الخزائن الجوفية صواعد ونوازل الكهوف، وغيرها من المنحوتات الطبيعية الرائعة التي شكَّلها الماء، والتي تجذب مستكشفي الكهوف لسَبر أعماقها. بينما يمكن لأولئك الذين يعانون من رُهاب الأماكن الضيقة منَّا، ولا يستطيعون النزول تحت الأرض في أماكن مغلقة، أن يستمتعوا بالأرصفة الجيرية — التي نحتها الماء أيضًا — التي تتميز بها حديقة بورين الأيرلندية الوطنية، على سبيل المثال، أو التلال الجيرية التي تتخذ شكل أبراج هائلة في جنوب شرق الصين التي ألهمت الرسَّامين الصينيين الكلاسيكيين.
الماء إذن مُهم لأرواحنا كما هو مُهم للحفاظ على حياتنا. وسننظر في الفصل السادس في كيفية قيامه بالأخيرة.
الماء في الجيولوجيا
لم يكن تطرُّقي إلى تأثير الماء على الأرض سوى مجرد خدش للسطح. فالماء ليس له تأثير مُهم في تشكيل التضاريس السطحية للكوكب فحسب، بل له أهمية بالِغة أيضًا فيما يحدُث داخل الكواكب، وكذلك في مواقع البراكين وأسلوب ثورانها. لقد أشرتُ بالفعل إلى أن كمية الماء في وشاح الأرض قد تكون كافيةً لإعادة ملء مُحيطات الأرض عدة مرات. إذن، ماذا يفعل هذا الماء هناك، وكيف يُمكن أن يؤثر فينا وجودُه على مسافةٍ سحيقة تحت أقدامنا؟
لنأخذ مثالًا واحدًا فقط. عند دفع صفيحة مُحيطية تحت صفيحة قارية (في عملية تُعرَف ﺑ «الاندساس»)، تجر الكثير من الماء معها (داخل المعادن المائية مثلًا). وبينما تغوص الصفيحة المندسَّة، ترتفع درجة حرارتها بفعل عمليات مثل الاحتكاك بين الصفيحة والقشرة، وبفعل تأثير الضغط. إذا كانت الحرارة كافية، فستبدأ الصفيحة في الذوبان، وبما أن المادة المنصهرة ستكون أخفَّ وزنًا من الصخر البلوري، فإنها ستميل إلى الطفو للأعلى.
يُمكن أن يلعب الماء دورًا حاسمًا هنا؛ إذ إن نقطة انصهار الصخور، تحت الضغط، تقلُّ بشكلٍ كبير من خلال وجود الماء. على سبيل المثال، الجرانيت الجاف على عُمق ٢٠ كيلومترًا تحت السطح يذوب عند درجة ١٠٠٠ مئوية، بينما يتحول الجرانيت «الرطب» إلى مادة مُذابة عند درجة ٦٥٠ مئوية فقط. ويمكن أن ترتفع تلك الحِمم السائلة (الأخف) عندئذٍ، وعند الوصول إلى السطح، قد ينتُج عنها نشاط بركاني انفجاري.
قد يبدو هذا غريبًا للوهلة الأولى، ولكن من المعروف جيدًا أن تلك الانفجارات البركانية الهائلة تعتمِد على الماء الكامن في الأسفل. وهكذا نجد الماء أساسيًّا في تاريخ تكوين كثيرٍ من المعالِم الجيولوجية الناتجة عن النشاط البركاني. ولا يقتصر هذا على الأرض فقط؛ إذ يُعتقَد أن بعض أجزاء وشاح القمر يحتوي على قدْرٍ من الماء يُماثل ما يحتويه الوشاح العلوي للأرض منه.
ولكن ما هو الماء بالضبط؟
كيف كان الماء يبدو لأجدادنا في العصور القديمة؟ مع وجود الماء في كل مكان حولهم، وكونه المُركب الوحيد على الأرض الذي يوجد طبيعيًّا في جميع حالاته الثلاث — الغازية، والسائلة، والصلبة — فليس من المُستغرَب أن يكون قد جذب الانتباه، وكان مصدر إلهام للفلاسفة، والشعراء، والموسيقيين، والفنانين التشكيليين، بالإضافة إلى علماء الفيزياء والكيمياء وعلماء الأرض وعلماء البيولوجيا في عصورٍ أحدث بكثير.
ربما كان انتشاره وأهميتُه لاستمرارية الحياة الوازع للقدماء لكي ينسبوا للماء مكانةً أولى في فلسفتهم. وفي قصة الخلق في سِفر التكوين، كانت المياه موجودة قبل الأرض: «لتجتمع المياه التي تحت السماء في موضعٍ واحد، ولتظهر اليابسة.» وأعطى البابليون الماء دورًا بالِغ الأهمية في الخلق؛ إذ كانت جميع الأراضي بحرًا حتى تدخَّل الإله مردوخ لخلق اليابسة. وفي القرآن الكريم، يقول النبي محمد إنه أُوحيَ إليه من الله أنْ «وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ». وكان الروم يعتقدون أن الله قد أجرى مياه الينابيع والمياه المعدنية على الأرض لعلاج الأمراض البشرية، بينما في الكنيسة المسيحية، كان يُنظَر إلى الماء على أنه يجلب الفوائد الروحية في المعمودية، وأن الماء المقدس يمكن أن يغسلنا من خطايانا.
عناصر العالم القديم
نميل في العموم إلى أن ننسِب الإعلان الأول (حوالي عام ٧٠٠ قبل الميلاد) بأن الماء هو العنصر الأساسي المُكوِّن لكل شيءٍ إلى طاليس الملطي؛ أحد الحكماء السبعة في العصور القديمة، والذي يُطلَق عليه أحيانًا أبا الفلسفة. ولِمَ لا وهو يُمكن تبخيره لتشكيل «هواء» من نوعٍ ما، وتجميده لتشكيل «أرض» من نوعٍ ما؟ إذن يمكن بالتأكيد أن يكون الأساس لجميع المواد (الصلبة والسائلة والغازية)، أليس كذلك؟
فضَّل آخرون بعد طاليس إعطاء الأفضلية لعناصر أخرى مثل الهواء والنار، وربما كان أمبادوقليس في القرن الخامس قبل الميلاد هو أول من جمع العناصر الأربعة «الكلاسيكية» للعالم القديم؛ الأرض، والهواء، والنار، والماء. قد نعزو إلى أمبادوقليس أيضًا الأفكار الأولى عن الذرات، من خلال مفهومه عن «الخواص» الأربع ﻟ «البذور» التي تناظر العناصر الأربعة الأصلية.
اعتمدت حضاراتٌ أخرى مجموعاتٍ مختلفةً من العناصر كأسس لها. على سبيل المثال، ركز الصينيون على خمسة عناصر، هي: الأرض، والخشب، والمعدن، والنار، والماء، وربما نلاحظ هنا أهمية الرقم خمسة للطاويين. وليس من المُستغرَب أن الماء يظهر كعنصرٍ مشترك في هذه التقاليد المختلفة.
بدأ الإسكندريون — ربما تحت تأثير الاتصالات مع مصر وآسيا الصغرى وبلاد الرافدين، وربما حتى الهند — في إدخال جوانب عملية في فلسفتهم الطبيعية (بما في ذلك إدراك أن بإمكان البخار بذل الشغل، رغم عدم بناء مُحرك بخاري حقيقي). وعلى الرغم من هذه الخطوات نحو البرجماتية، بدت أفكار أرسطو حول العناصر (بالإضافة إلى أفكاره الأخرى في مجالات متنوعة، من الفيزياء والكيمياء إلى الأخلاق والسياسة) أنها تُجمِّد عمليات التفكير، مما منع أوروبا من التحرُّر من هذه القيود الفكرية لنحو ألفَي سنة.
بدأ ليوناردو دافنشي في استخدام التجربة بالفعل كأداةٍ لتطوير فهم العديد من الأمور. على سبيل المثال، من خلال استنتاج أن الماء يتبخَّر في السحب، التي تتسبَّب في المطر، قطع دافنشي شوطًا نحو فهم دورة المياه. لكن بقِيَت فكرة الماء باعتبارها عنصرًا أساسيًّا. ولكن مع تطوُّر المنهج التجريبي في القرن السابع عشر الذي اقترح تحولاتٍ مُمكنة بين أزواج مختلفة من العناصر الأربعة، تزايدت صعوبة دمج ملاحظات في نموذج العناصر الأربعة الكلاسيكي.
الماء في بدايات العلم الحديث
في النصف الثاني من القرن السابع عشر — وهي الفترة التي شهدت بدايات الكيمياء الحديثة — لم يتمكن حتى روبرت بويل، الذي كان لدَيه من الفراسة والفطنة ما سمح له بصياغة قانون أساسي يتعلَّق بسلوك الغازات (قانون بويل)، من التحرُّر من الأفكار «الأولية» السابقة.
وعلى الرغم من أن اعتماده فكرة إمكانية تحويل الماء إلى مادة عضوية (وهي تجربة أُجريت في منتصف القرن السابع عشر من قِبَل جان بابتيستا فان هيلمونت، فسَّرت امتصاص شجرة نامية للماء بتحوُّل الماء إلى خشب)، كان الماء لا يزال يُعتبر عنصرًا. أما في تجاربه على الاحتراق، فيمكن العثور على البذور الأولى لكشف لُغز تركيب الماء. فبدون تحديد الغازات على النحو المُتعارف عليه (وهو ما حدث فيما بعد)، حصل على غاز الهيدروجين («الهواء غير النقي»)، عن طريق إذابة بُرادة الحديد في حمض، وأحرقه في الهواء. وبذلك ربما يكون أول من جمع الهيدروجين والأكسجين لتكوين الماء، ولكن بدون عِلم منه.
جاء الحسم النهائي بعد مرور مئات السنين من اكتشاف جوزيف بريستلي لغازٍ يُعزز الاحتراق، والذي سُمِّي لاحقًا بالأكسجين. ولكنه كان مُقيدًا فكريًّا بالإطار المفاهيمي القائم؛ لذا لم يتمكَّن أيضًا من رؤية الحقيقة. في الفترة نفسها، أنتج هنري كافنديش — وهو «العالِم النبيل» الثري الذي وزن الأرض — «الهواء القابل للاشتعال» من تأثير الأحماض على الحديد والزنك والقصدير، ولاحظ أن هذا الغاز يحترق بسهولة في الهواء. ولكن كما حدث مع بريستلي، عند تفسير نتائج هذه التجارب، لم يتمكن أيضًا من الخروج من الإطار المفاهيمي السائد في ذلك الوقت. (لم يمنع ذلك خلفاءه من تسمية مُختبر فيزياء مرموق في كمبريدج باسمه.)
لذا بحلول عام ١٧٧٥، عُزل كِلا مُكوِّنَي الماء. ولكن لم يكونا قد ترسَّخا بعدُ باعتبارهما عنصرَين لا «هواء غير نقي». وشهدت فترة السبعينيات من القرن الثامن عشر ثلاث تجارب توحَّد فيها الهيدروجين والأكسجين. أجرى هذه التجارب جون وارلتاير (أحد زملاء بريستلي)، وبيير جوزيف ماكير (أحد زملاء أنطوان لافوازييه في فرنسا، الذي سنلتقي به مرة أخرى قريبًا)، وجيمس وات، الذي قام فيما بعدُ بإنجازٍ مُثير للاهتمام مع المحرك البخاري، ولكنه كان آنذاك فني مُختبر لجوزيف بلاك، الكيميائي الاسكتلندي الذي اكتشف ثاني أكسيد الكربون. وقد أجرى بريستلي هذه التجربة أيضًا في عام ١٧٨١.
هذه القصة كلها طويلة ومُعقدة، وتُلقي الضوء على مشكلة محاولة تفسير نتائج جديدة في ضوء مفاهيم قديمة. وتُظهِر أيضًا تردُّد بعض الباحثين في الاعتراف بعمل الآخرين، وهي سمة للأسف لا تزال موجودةً في البحوث الحالية، سواء أكانت علمية أم غير ذلك.
واختصارًا لهذه القصة الطويلة، تطلَّب الأمر من لافوازييه في فرنسا التوصل إلى الاستنتاج الصحيح، وترتيب الأوضاع من خلال إدراك أن الماء مُركب من الهيدروجين والأكسجين. ولم يتسنَّ له القيام بذلك إلا من خلال التخلُّص من الإطار المفاهيمي — القيد الفكري — الذي لم يتمكن العلماء البريطانيون من الفكاك منه. وبذلك أطلق على الغازَين المعنيَّين: «الهيدروجين» لقُدرته على توليد الماء، و«الأكسجين» لقُدرته على تكوين الأحماض، على الرغم من أننا نعرف الآن بالطبع أن الأكسجين لا يُوجَد في كل الأحماض. وأثبت لافوازييه استنتاجه أكثر من خلال «فصل» الماء واستعادة الهيدروجين الناتج.
بذا صرنا نعرف الآن ماهية هذه المادة.