الفصل الثاني

جزيء الماء وتفاعلاته

يكمن مفتاح فهم سلوك الماء في جميع حالاته المختلفة — الغازية، والسائلة، والبلورية، والزجاجية (أجل) — في الجزيء نفسه. لذا، بمجرد أن نفهم طبيعة الجزيء، يمكننا التفكير في كيفية تفاعُله مع جزيئات الماء الأخرى لاستكشاف سلوكه وخصائصه كمادةٍ غازية، أو سائلة، أو صلبة. أي يُمكننا دراسة حالته الاجتماعية الجزيئية. بالمثل، إذا استطعنا أن نفهم كيفية تفاعل جزيء الماء مع أنواعٍ أخرى من الجزيئات، يُمكننا استكشاف خصائص وسلوكيات المجموعة الواسعة من الأنظمة الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية التي يدخل فيها الماء.

الماء منفردًا

إذن، كيف يبدو جزيء الماء بمفرده؟

تعتمد الإجابة في الواقع على الخاصية التي قد ترغب في التركيز عليها تحديدًا. على سبيل المثال، غالبًا ما يُنظر إلى بنية جزيء الماء باعتباره نسقًا من «بومرانج من كرات وعصي» من نُوي الأكسجين والهيدروجين المكونة له (انظر شكل ٢-١، متجاهلًا في الوقت الحالي الأسهم وعلامات الموجب والسالب). تمثل الكرات نُوي الذرات، وتُمثل العصي الروابط الكيميائية بينها. في هذه الروابط «التساهمية»، تُعتبر بعض الإلكترونات (الإلكترونات التكافؤية) من كل ذرة إلكترونات مشتركة بين النُّوي المختلفة التي تُشكل الجزيء.
fig1
شكل ٢-١: تصوير لجزيء الماء بالكرة والعصا. تُظهر الأسهم كيف تهتز الذرات، بينما تُبيِّن علامات + و− موضع تركُّز الشحنة الكهربائية. مُنحنى الرابطة.

يُبرز هذا التصوير الشكل الهندسي للجزيء، ولا غضاضة في ذلك؛ إذ إن لهذا الشكل الهندسي تأثيرًا كبيرًا في طريقة تفاعل جزيئات الماء بعضها مع بعض، ومع جزيئاتٍ أخرى. تبتعِد نواة الأكسجين المركزية عن كل نواةٍ من نُوي الهيدروجين المرتبطة بها بمسافةٍ تبلغ نحو عُشر مليار من المتر: ٠٫١ نانومتر.

بالنظر إلى أن كثيرًا من الجزيئات الأخرى التي تتكوَّن من ثلاث ذرات — على سبيل المثال، جزيء ثاني أكسيد الكربون (CO2) — تكون خطية، قد يكون من المدهش قليلًا في البداية أن نجد أنَّ جزيء الماء «مُنحنٍ». هناك أسباب وجيهة لهذا تتعلق بميكانيكا الكم، والتي، عند إجراء الحسابات بالشكل الصحيح، تفسر لماذا تكون الزاوية HOH حوالي ١٠٤٫٥°. والمثير للاهتمام بصفةٍ خاصة بشأن هذه الزاوية أنها لا تقترِب فقط من الزاوية الرباعية الأسطح، التي تبلُغ حوالي ١٠٩٫٥°، بل أيضًا من الزاوية الداخلية للمُضلَّع الخماسي (١٠٨°). تذكَّر هذه الزوايا. فسنستفيد منها فيما بعدُ عندما نبدأ في تسويغ بِنى كلٍّ من الجليد والماء السائل.
على الرغم من أن هذه الصورة الثابتة ستساعدنا على فهم الجانب الهندسي لطريقة تفاعل جزيئات الماء، فإنها ساذجة جدًّا؛ لأنه ما مِن جزيء يظلُّ ثابتًا أبدًا. فالجزيئات تهتز. والطريقة الأبسط لتخيُّل حركتها الاهتزازية هي بتخيُّل كل رابطة O-H كما لو كانت نابضًا أو زنبركًا، على كل طرفٍ منه ذرات من الهيدروجين والأكسجين قادرة على التذبذُب، كما هو مشار إليه بيانيًّا بالأسهم على طول روابط O-H في الشكل ٢-١. بالإضافة إلى هذا النمط الاهتزازي ﻟ «تمدُّد الرابطة»، يمكن لذرات الهيدروجين أيضًا التذبذب بعضها نحو بعض، وبعيدًا بعضها عن بعض، بحيث تتغيَّر زاوية الرابطة HOH. يوضَّح هذا النمط الاهتزازي لانحناء الرابطة أيضًا بواسطة الأسهم ذات الصلة في الشكل ٢-١.

وكما هو الحال في جميع الجزيئات، تزداد الحركات الاهتزازية مع زيادة الحرارة. والعكس صحيح: كلما قلَّت الحرارة، قلت الحركات الاهتزازية. ولكن حتى عند درجة حرارة الصفر المُطلق (٠ كلفن، أو −٢٧٣° مئوية)، تبقى بعض الحركات الاهتزازية.

يُعتبر هذا واحدًا من تأثيرات ميكانيكا الكم يُعرَف ﺑ «حركة نقطة الصفر». بالنسبة إلى الأنظمة التي تحتوي على ذرات خفيفة، يمكن أن تكون هذه الحركات كبيرة وذات أهمية محتملة في تحديد بعض السلوكيات. وهكذا، وبما أن جزيء الماء يحتوي على اثنتَين من أخف الذرات — الهيدروجين — يحتفظ الجزيء بكمية كبيرة من الطاقة الاهتزازية حتى عند الصفر المطلق. قد يبدو الأمر غريبًا قليلًا أن نُشدد على هذه النقطة عند النظر في سلوك الماء تحت ظروف الحرارة المُحيطة العادية، ولكن كما سنرى في الفصلَين الخامس والسادس، قد تكون حركات النقطة الصفرية هذه مُهمة في بعض العمليات المهمة كيميائيًّا وبيولوجيًّا.

الماء المشحون: دور الإلكترونات

يُخبرنا هذا الوصف حتى الآن عن شكل جزيئات الماء وحجمها وحركاتها الداخلية، ولكنه لا يُخبرنا أي شيء عن كيفية انجذابها بعضها لبعض، أو انجذابها لأنواع أخرى من الجزيئات (أو تنافُرها معها). وللاطلاع على هذا، نحتاج إلى النظر في تأثيرات الإلكترونات في الجزيء. بعض هذه الإلكترونات تربط بين نُوي الأكسجين والهيدروجين لتكوين جزيء الماء. ولكن لفهم كيفية حدوث التفاعُل المُحتمل بين الجزيئات، نحتاج إلى النظر في جزيء الماء من حيث توزيع الشحنة الكهربائية.

الجزيء نفسه مُحايد كهربائيًّا. فكل ذرة هيدروجين تحتوي على بروتون واحد، وكل ذرة أُكسجين لها ثمانية بروتونات. ومن ثَمَّ يحتوي جزيء H2O على عشرة بروتونات موجبة الشحنة، تُوازِنها عشرة إلكترونات سالبة الشحنة. بإجراء حسابات ميكانيكا الكم (أو القياسات التجريبية ذات الصلة)، نجد أن الشحنة ليست موزَّعة بالتساوي داخل الجزيء. بل هناك درجة من الفصل بين الشحنات الموجبة والسالبة.
أبسط تمثيلٍ لهذا الفصل بين الشحنات هو تعيين شحنة صغيرة مُوجبة لكل ذرة من ذرات الهيدروجين (علامة الموجب في شكل ٢-١)، مع شحنة سالبة مكافئة «على» ذرة الأكسجين يعادل حجمها ضعف حجم الشحنة على كل ذرة هيدروجين. بدلًا من وضعِها في مركز ذرة الأكسجين، تُشير الحسابات الميكانيكية الكمية إلى أنه من الأفضل اعتبار المنطقة ذات الشحنة السالبة كأنها «فص» واحد من الشحنة على الجانب «العلوي» من ذرة الأكسجين. يمكن النظر إلى الشحنات كما لو كانت مُتمركزة على زوايا مثلث متساوي الأضلاع، وبذلك يكون للجزيء عمومًا الشكل الهندسي لشحنة ثلاثية الأضلاع تقريبًا.

الجزيء الذي يحوي مناطق ذات شحنةٍ موجبة وسالبة منفصلة يمكن وصفه كَميًّا في إطار مجموعةٍ من «العزوم الكهربائية». وهذه العزوم مفيدة لنا في هذا المقام؛ إذ إننا بمجرد أن نعرف قيمها، يُمكننا معرفة كيفية استجابة الجزيء في مجالٍ كهربائي، تحديدًا مجال كهربائي تُنشئه الشحنات الكهربائية على الجزيئات المجاورة. بمعنًى آخر، تُتيح لنا العزوم الكهربائية حساب كيفية انجذاب الجزيئات بعضها لبعض أو تنافرها.

أهم هذه العزوم هو «العزم الثنائي القطب». تبلغ قمة هذا العزم بالنسبة إلى الماء ١٫٨٥ ديباي، وهي وحدة سُمِّيت تيمنًا باسم الفيزيائي الهولندي الشهير بيتر ديباي. وهي تسمية مناسبة للغاية؛ إذ كان أول إسهام علمي كبير لديباي هو تطبيق مفهوم العزم الثنائي القطب على توزيع الشحنة في الجزيئات غير المُتماثلة. وتُعتبَر هذه القيمة للعزم الثنائي القطب عالية جدًّا، ولكنها معقولة بالنسبة إلى جزيءٍ صغير.

إذا وضعنا الجزيء في مجال كهربائي، سواء أكان المجال خارجيًّا أم مشتقًّا من الشحنات الكهربائية على الجزيئات المجاورة، فسوف يستجيب من خلال تفاعل العزم الثنائي القطب الخاص به مع ذلك المجال الكهربائي الخارجي (وهي نقطة ترتبط بقدرة الماء المفيدة جدًّا على العمل كمذيب جيد، والتي سنُثيرها مرة أخرى في الفصلَين الخامس والسادس). ولكن سيكون للمجال الكهربائي الخارجي تأثير إضافي على جزيء الماء؛ إذ سيُشوه توزيع الشحنة حول الجزيء أكثر بطريقةٍ تزيد العزم الثنائي القطب.

لذا نقول إن الجزيء له «قابلية استقطاب ثنائي» كبيرة مع زيادة العزم الثنائي القطب الخاص به من خلال وجود مجال خارجي. وأُكرِّر، هذا السلوك مهم في فهم سلوك الماء كمذيب جيد. ولكن وجب التنبيهُ إلى أن هذه خاصية مشتركة بين كثير من الجزيئات الصغيرة. علاوة على ذلك، لا تخرج قيمة العزم الثنائي القطب للماء أو قابليَّته للاستقطاب عن النطاق المألوف لجزيء صغير، على الرغم من أن كليهما مُرتفع.

قبل أن نترك الحديث عن الخصائص الكهربائية لجزيء الماء، يجب أن نُشير إلى أن الجزيئات ستتنافر عندما تُصبح قريبة جدًّا بعضها من بعض بما يجعل توزيعات الإلكترونات تبدأ في التداخُل. الصورة البسيطة للجزيء الذي يُشبه الدمبل المعقوف في الشكل ٢-١ لا تُخبرنا شيئًا عن المدى المكاني لتوزيع الإلكترون، وإن كانت تُعطينا صورةً عن مكان تركيز الشحنة.
يقدِّم الشكل ٢-٢ صورةً أفضل. استنادًا إلى حسابات عالية الجودة من ميكانيكا الكم، يتبيَّن لنا إمكانية وصف الشكل الجزيئي بصورةٍ جيدة إلى حدٍّ معقول بأنه سطح غير كروي بعض الشيء. والبيانات التجريبية من تحليلات البِنية البلورية العالية الدقة تدعم هذا الوصف. وعلى الرغم من أنه غالبًا ما لا يتمُّ التركيز على هذا الجانب من جزيء الماء، فإنه يمكن أن يساعد في شرح البِنى المائية المُعقدة للغاية بطريقةٍ بسيطة نسبيًّا، وهي البِنى التي غالبًا ما نُلاحظها في الأنظمة الحيوية على سبيل المثال.
fig2
شكل ٢-٢: الخطوط الكفافية لكثافة الإلكترونات لجزيء الماء.

إذن ما المُميز بشأن الجزيء؟

رأينا أن جزيء الماء يتكوَّن من ذرتَي هيدروجين مُرتبطتَين كيميائيًّا (برابطة تساهمية) بذرة أكسجين واحدة. والجزيء ليس خطيًّا، ولكنه مُنحنٍ، بحيث تكون الزاوية HOH لهيكلِه الهندسي المتوسط — والتي تبلغ نحو ١٠٤٫٥ درجات — قريبة من كلٍّ من الزاوية الرباعية الأسطح والزاوية الداخلية لمُضلع خماسي مستوٍ. والجزيء يهتزُّ باستمرارٍ من الداخل. وبما أنه يحتوي على ذرَّتَين خفيفتَين (ذرتَي الهيدروجين)، فإن حركة النقطة الصفرية له تكون كبيرة. ويمكن اعتبار التوزيع الكلي لشحنة جزيء الماء أقربَ لأن يكون ثلاثيَّ الزوايا. وهذا التوزيع للشحنة يُعطي للجزيء عزمًا ثنائيَّ القطب كبيرًا، وسهولة اختلال هذا التوزيع تؤدي إلى قابلية استقطابٍ كبيرة، على الرغم من أن قيمة العزم الثنائي القُطب والقابلية الاستقطابية لا تخرجان عن المألوف مع القِيَم الموجودة لكثيرٍ من الجزيئات الصغيرة الأخرى. أخيرًا، يكون شكل الجزيء، المُحدَّد بتوزيع كثافة إلكتروناته، غير كروي قليلًا، وإن كان ملحوظًا.

في المُجمَل، يبدو جزيء الماء، عند النظر إليه بمفرده، جزيئًا صغيرًا عاديًّا.

الارتباط

تتفاعل جزيئات الماء معًا من خلال نوعٍ من التفاعل يُسمَّى «الرابطة الهيدروجينية». يُعتبَر هذا التفاعُل أضعف بكثيرٍ من الرابطة التساهمية التي تربط ذرات الهيدروجين والأكسجين في جزيء الماء (وتربط الذرات في الجزيئات عمومًا). غير أنه أقوى من تفاعُل «فان دير فالز» الذي يخلُق تجاذُبًا ضعيفًا بين الذرَّات أو الجزيئات التي لا تمتلك عزمًا ثنائيَّ القطب كبيرًا، كما في جزيئات مثل الميثان CH4.

لا تزال طبيعة التفاعُل الهيدروجيني الفعلية مُثيرة للجدل قليلًا. فعلى الرغم من أن الأفكار الأولى كانت عادةً ما تعتبِر التفاعُل «إلكتروستاتيًّا» بحتًا، كونه يتحدَّد بحسب توزيع الشحنة على الجزيئات، فإن الأعمال النظرية اللاحِقة غالبًا ما كانت تُشير إلى وجود درجةٍ بسيطة من انتقال الإلكترونات بين جزيئات الماء المتفاعِلة، مما يشير إلى وجود طابع تساهمي. ولا يزال الجدل مستمرًّا حول ما إذا كان يجب اعتبار تفاعل الرابطة الهيدروجينية في حالة الماء تساهميًّا بصورة جزئية. ولكن لفهم بِنية الماء وخصائصها بصورةٍ عامة، ليس علينا القلق بشأن حسم هذا الجدل.

الشيء المُتفق عليه هو قوة التفاعل بين جزيئَين من الماء. فهو يقف في موضعٍ متوسط بين تفاعُل فان دير فالز والتفاعُل التساهمي. ويمكن وضع ترتيب حجم التفاعل (الذي يبلغ، بلغة الأعداد، نحو ٢٠ جولًا لكل مول) في سياقٍ ما عن طريق ملاحظة أن هذا الرقم يعادل نحو عشرة أضعاف تقلُّب حراري تقليدي في درجة حرارة الغرفة.

ترتبط القِيَم النسبية للتجاذُبات بين الجزيئات والتقلُّبات الحرارية بتماسُك مجموعة من الجزيئات في درجة حرارة مُعينة. في حالة الماء، يعني هذا الفرق، في ترتيب القوة بين طاقة الرابطة الهيدروجينية والتقلُّب الحراري التقليدي، أنَّ الماء يبقى سائلًا في درجة الحرارة المُحيطة. فالتقلُّبات الحرارية ليست قويةً بما يكفي لكسر ما يكفي من الروابط الهيدروجينية لتبخير السائل. في المقابل، تكون قوة التفاعُلات بين الجزيئات الصغيرة المُماثلة، مثل جزيء كبريتيد الهيدروجين (H2S)، أضعف بكثير؛ ومِن ثَم تكسرها التقلُّبات الحرارية بسهولة أكبر، وبالتالي تغلي هذه السوائل في درجات حرارة أقلَّ بكثيرٍ من الماء (−٦٠ درجة مئوية في حالة كبريتيد الهيدروجين).
تُقدم هذه القوة النسبية للرابطة الهيدروجينية فيما يتعلق بالتقلبات الحرارية المُعطِّلة تفسيرًا بسيطًا لواحدةٍ مما يُسمَّى بحالات شذوذ الماء، وهي أن الماء يكون سائلًا في درجة الحرارة المُحيطة، بينما يظلُّ كثير من الجزيئات الأخرى ذات الكتلة الجزيئية المُماثلة أو الأكبر، مثل كبريتيد الهيدروجين (H2S)، في حالةٍ غازية.

لكن ثمة المزيد من السمات لرابطة الهيدروجين المائية أكثر من مجرد قوتها. فما يجذب الاهتمام ويتمتع بأهميةٍ خاصة هو اتجاهيتها، وعدد الجزيئات التي تُحب التفاعل بعضها مع بعض.

يبدو من المنطقي تمامًا أن تنجذب ذرة الهيدروجين المُوجبة لأحد الجزيئات إلى المنطقة ذات الشحنة السالبة من الأكسجين عن أي جزيءٍ آخر. لذا، لن نتفاجأ بالعثور على هيدروجين يُشير إلى الجانب الخلفي للأكسجين في جزيءِ ماءٍ مجاور. ولكن بما أن الأكسجين له شحنة سالبة ضعف الشحنة المُوجبة على الهيدروجين، فإن الأكسجين لن يرتضي بالارتباط الهيدروجيني مع جزيءٍ آخر واحد فقط. فلا يزال مُتبقيًا لدَيه بعض «القوة الجاذبة» لجذب ذرة هيدروجين على جزيء ماءٍ آخر. في الواقع، هناك تفضيل مفهوم لدى كل ذرة أكسجين لجذب ذرات هيدروجين من جزيئَي ماء مُجاورَين.

علاوة على ذلك، يملك هذا الجزيء المائي «المركزي» أيضًا ذرتَي هيدروجين يجِب أن يُرضيهما؛ لذا ستميلان إلى التفاعُل مع المنطقة السالبة الشحنة من جزيئَي ماء آخرين.

fig3
شكل ٢-٣: جزيء ماء ذو نمط رباعي التناسُق يُظهر الترتيب الرباعي الأسطح في حالته المثالية لبيئة الجار الأول لجزيء ماء.
والنتيجة النهائية موضحة في الشكل ٢-٣، حيث يُحيط بكل جزيء ماءٍ في الوضع المثالي أربعة جزيئات مجاورة ترتبط معًا برابطة هيدروجينية. في اثنَين من هذه التفاعُلات، سيعمل جزيء الماء المركزي باعتباره «مانحًا» للرابطة الهيدروجينية من خلال توجيه هيدروجيناته (ذات الشحنة الموجبة) نحو منطقةٍ سالبة الشحنة في كلِّ جزيءٍ من جُزيئَي الماء المجاورَين له. أما في التفاعُلَين الآخرين، فسيعمل الجزيء المركزي باعتباره «مُستقبلًا» للرابطة الهيدروجينية لجزيئَي ماء مجاورَين يوجِّهان هيدروجيناتهما نحو المنطقة السالبة الشحنة من جزيء الماء المركزي. إنها مجموعة متناسِقة ورائعة من التفاعُلات التي تجعل جميع الجزيئات في سعادة. وتأسيسًا على هذه الحجة البسيطة، يُمكننا بناء النمط الرباعي التناسُق للشكل٢-٣. فالجيران الأربعة تُشكِّل شكلًا «رباعيَّ الأسطح» حول الجزيء المركزي.

يتم إيجاد هذا الترتيب المثالي الموضعي الرباعي التناسُق عن طريق التجريب. تُظهر الدراسات البلورية على البِنى التي تحتوي على جزيئاتٍ أخرى مع الماء (الهيدرات)؛ أن هيدروجينات الماء تُشارك على نحو شِبه دائمٍ كمانح للرابطة الهيدروجينية، حيث تتوفر المناطق السالبة الشحنة للجزيئات المجاورة، ويسهل الوصول إليها. لذا، فعلى الرغم من أن المنطقة السالبة الشحنة هي فصٌّ واحد فقط له شحنة سالبة، فإن توافُر المساحة لاستيعاب ذرتَي هيدروجين مانحتَين في المنطقة ذات الشحنة السالبة المُضاعفة من الأكسجين في الماء سيدفع الجزيئات نحو التناسُق الرباعي الأسطح الذي نُشاهده في هذا النمط الرباعي. وتكون نسبة مانح الرابطة الهيدروجينية إلى المُستقبِل هي ٢:٢. والحسابات النظرية العالية الجودة تُعيد إنتاج هذه البنية الموضعية أيضًا.

ألقِ نظرة متأنِّية على هذا النسق لخمسة جزيئات من الماء واحفظه في ذاكرتك! إنه المفتاح لفهم الماء؛ أي فهم بِنيته في أشكاله المختلفة، وخصائصه، وسلوكه في جميع أنواع الظروف والبيئات. لذا سنُشير إليه مرارًا (حتى إنك بعد فترة قد تبدأ في الشعور بالملل حدَّ الغثيان) حين نستخدِمه لاستكشاف الطرُق التي تتفاعل بها جزيئات الماء في «أطوار التكثف»، بدءًا من الشكل البلوري المألوف الذي تجده في المُجمَّد أو على المنحدرات الثلجية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤