جزيء الماء وتفاعلاته
يكمن مفتاح فهم سلوك الماء في جميع حالاته المختلفة — الغازية، والسائلة، والبلورية، والزجاجية (أجل) — في الجزيء نفسه. لذا، بمجرد أن نفهم طبيعة الجزيء، يمكننا التفكير في كيفية تفاعُله مع جزيئات الماء الأخرى لاستكشاف سلوكه وخصائصه كمادةٍ غازية، أو سائلة، أو صلبة. أي يُمكننا دراسة حالته الاجتماعية الجزيئية. بالمثل، إذا استطعنا أن نفهم كيفية تفاعل جزيء الماء مع أنواعٍ أخرى من الجزيئات، يُمكننا استكشاف خصائص وسلوكيات المجموعة الواسعة من الأنظمة الكيميائية والفيزيائية والبيولوجية التي يدخل فيها الماء.
الماء منفردًا
إذن، كيف يبدو جزيء الماء بمفرده؟
يُبرز هذا التصوير الشكل الهندسي للجزيء، ولا غضاضة في ذلك؛ إذ إن لهذا الشكل الهندسي تأثيرًا كبيرًا في طريقة تفاعل جزيئات الماء بعضها مع بعض، ومع جزيئاتٍ أخرى. تبتعِد نواة الأكسجين المركزية عن كل نواةٍ من نُوي الهيدروجين المرتبطة بها بمسافةٍ تبلغ نحو عُشر مليار من المتر: ٠٫١ نانومتر.
وكما هو الحال في جميع الجزيئات، تزداد الحركات الاهتزازية مع زيادة الحرارة. والعكس صحيح: كلما قلَّت الحرارة، قلت الحركات الاهتزازية. ولكن حتى عند درجة حرارة الصفر المُطلق (٠ كلفن، أو −٢٧٣° مئوية)، تبقى بعض الحركات الاهتزازية.
يُعتبر هذا واحدًا من تأثيرات ميكانيكا الكم يُعرَف ﺑ «حركة نقطة الصفر». بالنسبة إلى الأنظمة التي تحتوي على ذرات خفيفة، يمكن أن تكون هذه الحركات كبيرة وذات أهمية محتملة في تحديد بعض السلوكيات. وهكذا، وبما أن جزيء الماء يحتوي على اثنتَين من أخف الذرات — الهيدروجين — يحتفظ الجزيء بكمية كبيرة من الطاقة الاهتزازية حتى عند الصفر المطلق. قد يبدو الأمر غريبًا قليلًا أن نُشدد على هذه النقطة عند النظر في سلوك الماء تحت ظروف الحرارة المُحيطة العادية، ولكن كما سنرى في الفصلَين الخامس والسادس، قد تكون حركات النقطة الصفرية هذه مُهمة في بعض العمليات المهمة كيميائيًّا وبيولوجيًّا.
الماء المشحون: دور الإلكترونات
يُخبرنا هذا الوصف حتى الآن عن شكل جزيئات الماء وحجمها وحركاتها الداخلية، ولكنه لا يُخبرنا أي شيء عن كيفية انجذابها بعضها لبعض، أو انجذابها لأنواع أخرى من الجزيئات (أو تنافُرها معها). وللاطلاع على هذا، نحتاج إلى النظر في تأثيرات الإلكترونات في الجزيء. بعض هذه الإلكترونات تربط بين نُوي الأكسجين والهيدروجين لتكوين جزيء الماء. ولكن لفهم كيفية حدوث التفاعُل المُحتمل بين الجزيئات، نحتاج إلى النظر في جزيء الماء من حيث توزيع الشحنة الكهربائية.
الجزيء الذي يحوي مناطق ذات شحنةٍ موجبة وسالبة منفصلة يمكن وصفه كَميًّا في إطار مجموعةٍ من «العزوم الكهربائية». وهذه العزوم مفيدة لنا في هذا المقام؛ إذ إننا بمجرد أن نعرف قيمها، يُمكننا معرفة كيفية استجابة الجزيء في مجالٍ كهربائي، تحديدًا مجال كهربائي تُنشئه الشحنات الكهربائية على الجزيئات المجاورة. بمعنًى آخر، تُتيح لنا العزوم الكهربائية حساب كيفية انجذاب الجزيئات بعضها لبعض أو تنافرها.
أهم هذه العزوم هو «العزم الثنائي القطب». تبلغ قمة هذا العزم بالنسبة إلى الماء ١٫٨٥ ديباي، وهي وحدة سُمِّيت تيمنًا باسم الفيزيائي الهولندي الشهير بيتر ديباي. وهي تسمية مناسبة للغاية؛ إذ كان أول إسهام علمي كبير لديباي هو تطبيق مفهوم العزم الثنائي القطب على توزيع الشحنة في الجزيئات غير المُتماثلة. وتُعتبَر هذه القيمة للعزم الثنائي القطب عالية جدًّا، ولكنها معقولة بالنسبة إلى جزيءٍ صغير.
إذا وضعنا الجزيء في مجال كهربائي، سواء أكان المجال خارجيًّا أم مشتقًّا من الشحنات الكهربائية على الجزيئات المجاورة، فسوف يستجيب من خلال تفاعل العزم الثنائي القطب الخاص به مع ذلك المجال الكهربائي الخارجي (وهي نقطة ترتبط بقدرة الماء المفيدة جدًّا على العمل كمذيب جيد، والتي سنُثيرها مرة أخرى في الفصلَين الخامس والسادس). ولكن سيكون للمجال الكهربائي الخارجي تأثير إضافي على جزيء الماء؛ إذ سيُشوه توزيع الشحنة حول الجزيء أكثر بطريقةٍ تزيد العزم الثنائي القطب.
لذا نقول إن الجزيء له «قابلية استقطاب ثنائي» كبيرة مع زيادة العزم الثنائي القطب الخاص به من خلال وجود مجال خارجي. وأُكرِّر، هذا السلوك مهم في فهم سلوك الماء كمذيب جيد. ولكن وجب التنبيهُ إلى أن هذه خاصية مشتركة بين كثير من الجزيئات الصغيرة. علاوة على ذلك، لا تخرج قيمة العزم الثنائي القطب للماء أو قابليَّته للاستقطاب عن النطاق المألوف لجزيء صغير، على الرغم من أن كليهما مُرتفع.
إذن ما المُميز بشأن الجزيء؟
في المُجمَل، يبدو جزيء الماء، عند النظر إليه بمفرده، جزيئًا صغيرًا عاديًّا.
الارتباط
لا تزال طبيعة التفاعُل الهيدروجيني الفعلية مُثيرة للجدل قليلًا. فعلى الرغم من أن الأفكار الأولى كانت عادةً ما تعتبِر التفاعُل «إلكتروستاتيًّا» بحتًا، كونه يتحدَّد بحسب توزيع الشحنة على الجزيئات، فإن الأعمال النظرية اللاحِقة غالبًا ما كانت تُشير إلى وجود درجةٍ بسيطة من انتقال الإلكترونات بين جزيئات الماء المتفاعِلة، مما يشير إلى وجود طابع تساهمي. ولا يزال الجدل مستمرًّا حول ما إذا كان يجب اعتبار تفاعل الرابطة الهيدروجينية في حالة الماء تساهميًّا بصورة جزئية. ولكن لفهم بِنية الماء وخصائصها بصورةٍ عامة، ليس علينا القلق بشأن حسم هذا الجدل.
الشيء المُتفق عليه هو قوة التفاعل بين جزيئَين من الماء. فهو يقف في موضعٍ متوسط بين تفاعُل فان دير فالز والتفاعُل التساهمي. ويمكن وضع ترتيب حجم التفاعل (الذي يبلغ، بلغة الأعداد، نحو ٢٠ جولًا لكل مول) في سياقٍ ما عن طريق ملاحظة أن هذا الرقم يعادل نحو عشرة أضعاف تقلُّب حراري تقليدي في درجة حرارة الغرفة.
لكن ثمة المزيد من السمات لرابطة الهيدروجين المائية أكثر من مجرد قوتها. فما يجذب الاهتمام ويتمتع بأهميةٍ خاصة هو اتجاهيتها، وعدد الجزيئات التي تُحب التفاعل بعضها مع بعض.
يبدو من المنطقي تمامًا أن تنجذب ذرة الهيدروجين المُوجبة لأحد الجزيئات إلى المنطقة ذات الشحنة السالبة من الأكسجين عن أي جزيءٍ آخر. لذا، لن نتفاجأ بالعثور على هيدروجين يُشير إلى الجانب الخلفي للأكسجين في جزيءِ ماءٍ مجاور. ولكن بما أن الأكسجين له شحنة سالبة ضعف الشحنة المُوجبة على الهيدروجين، فإن الأكسجين لن يرتضي بالارتباط الهيدروجيني مع جزيءٍ آخر واحد فقط. فلا يزال مُتبقيًا لدَيه بعض «القوة الجاذبة» لجذب ذرة هيدروجين على جزيء ماءٍ آخر. في الواقع، هناك تفضيل مفهوم لدى كل ذرة أكسجين لجذب ذرات هيدروجين من جزيئَي ماء مُجاورَين.
علاوة على ذلك، يملك هذا الجزيء المائي «المركزي» أيضًا ذرتَي هيدروجين يجِب أن يُرضيهما؛ لذا ستميلان إلى التفاعُل مع المنطقة السالبة الشحنة من جزيئَي ماء آخرين.
يتم إيجاد هذا الترتيب المثالي الموضعي الرباعي التناسُق عن طريق التجريب. تُظهر الدراسات البلورية على البِنى التي تحتوي على جزيئاتٍ أخرى مع الماء (الهيدرات)؛ أن هيدروجينات الماء تُشارك على نحو شِبه دائمٍ كمانح للرابطة الهيدروجينية، حيث تتوفر المناطق السالبة الشحنة للجزيئات المجاورة، ويسهل الوصول إليها. لذا، فعلى الرغم من أن المنطقة السالبة الشحنة هي فصٌّ واحد فقط له شحنة سالبة، فإن توافُر المساحة لاستيعاب ذرتَي هيدروجين مانحتَين في المنطقة ذات الشحنة السالبة المُضاعفة من الأكسجين في الماء سيدفع الجزيئات نحو التناسُق الرباعي الأسطح الذي نُشاهده في هذا النمط الرباعي. وتكون نسبة مانح الرابطة الهيدروجينية إلى المُستقبِل هي ٢:٢. والحسابات النظرية العالية الجودة تُعيد إنتاج هذه البنية الموضعية أيضًا.
ألقِ نظرة متأنِّية على هذا النسق لخمسة جزيئات من الماء واحفظه في ذاكرتك! إنه المفتاح لفهم الماء؛ أي فهم بِنيته في أشكاله المختلفة، وخصائصه، وسلوكه في جميع أنواع الظروف والبيئات. لذا سنُشير إليه مرارًا (حتى إنك بعد فترة قد تبدأ في الشعور بالملل حدَّ الغثيان) حين نستخدِمه لاستكشاف الطرُق التي تتفاعل بها جزيئات الماء في «أطوار التكثف»، بدءًا من الشكل البلوري المألوف الذي تجده في المُجمَّد أو على المنحدرات الثلجية.