الفصل الثالث

الماء في حالة الجليد

الجليد هو بلورة، بغضِّ النظر عن المكان الذي تجده فيه طبيعيًّا على الأرض، سواء في ثلاجتك، أو عندما يتساقط في صورة حبات ثلج في حديقتك، أو في نهر جليدي في القطب الشمالي. وهذا يعني على المستوى الجزيئي أن الجزيئات التي تُشكل البلورة مرتبة بنمط متكرر منتظم. بعبارة أخرى مختلفة قليلًا، يمكننا تخيل عددٍ قليل من الجزيئات مُرتبة داخل صندوق نُسميه «الخلية الوحدة». لتشكيل البلورة، ما علينا إلا تكرار تلك الخلية الوحدة عن طريق وضع وحدات خلايا أخرى تحتوي على جزيئات بجوارها في ثلاثة أبعادٍ لتشكيل البلورة الممتدَّة.

عند تكرار هذه العملية، يجب أن يكون لدينا وحدة خلية تملأ المساحة كاملة الفراغات عند تكرارها في ثلاثة أبعادٍ دون ترك أي فراغات. وهذا يُقيد عدد أشكال الصناديق التي يمكن أن تشكل وحدات خلايا صالحة؛ بالتأكيد يمكن للمكعب أن يتجمَّع مع مكعبات أخرى متطابقة لملء الفضاء الثلاثي الأبعاد، ولكن الشكل الرباعي الأسطح، على سبيل المثال، لا يمكنه ذلك. (جرِّب الأمر!)

علاوة على ذلك، عند تكرار وحدة خليةٍ تحتوي على جزيئات، يجب أن تكون التفاعُلات بين الجزيئات عبر حدود الخلية الوحدة مُتسقة مع الطريقة التي تتفاعل بها الجزيئات بعضها مع بعض. إذا نظرنا إلى الأمر باعتباره أحجيةً للصور المقطوعة، فلا يكفي أن تتناسب أشكال القِطَع بعضها مع بعض، ولكن يجب أيضًا أن تتطابق عناصر الصورة عبر الحواف الواصلة بينها.

الجليد العادي

الآن ننتقِل للنظر في البنية الجزيئية للجليد نفسه، وفي هذا المقام يمكننا طرح سؤال بسيط. كيف يُمكننا ربط عدد من جزيئات الماء التي تتفاعل على النحو المشار إليه في النمط التناسقي الرباعي في الشكل ٢-٣، لتشكيل بِنية متكررة منتظمة تملأ الحجم الصحيح (الذي نعرفه من قياس كثافة الجليد) في درجة حرارة مُعينة، لنقُل إنها أقل بقليل من نقطة ذوبان الجليد، وهي درجة صفر مئوية؟
لتبسيط الصورة قليلًا، دعنا ننسى ذرات الهيدروجين مؤقتًا، ونُمثل البنية من حيث ذرات الأكسجين في كل جزيء ماء. وبذلك ستتبيَّن الإجابة عن سؤالنا في الشكل ٣-١، حيث تَتَّضِح بنية الجليد «العادي» من منظرَين مُختلفَين.
لهذه البِنية عدد من السِّمات المُثيرة للاهتمام. أولًا: يتَّسم كل جزيء ماء في الواقع بتناسُق رباعي، وهو ما يتوافق مع ما عرفناه في الفصل الثاني بشأن الطريقة التي تُفضِّل بها الجزيئات التفاعل معًا. ثانيًا: تُشكِّل جزيئات الماء بنًى حلقية سداسية (مغضَّنة)، بينما الزاوية OOO التي تتألَّف عن طريق ثلاثة جزيئات مجاورة من الماء تُشكل في الأساس الزاوية الرباعية الأسطح، وقياسها ١٠٩٫٥ درجات. ولكونها قريبة جدًّا من الزاوية المتوسِّطة لجزيء الماء HOH، وهي ١٠٤٫٥ درجات، فهذا يعني أن جزيئات الماء تكون «مُستقرة» جدًّا في هذا الترتيب، فإذا أظهرت ذرات الهيدروجين، فسنرى أنها لا تحيد إلا بقدْرٍ طفيفٍ جدًّا عن الخط المباشر بين مراكز الأكسجين المجاورة. بصيغةٍ أخرى مختلفة قليلًا، الروابط الهيدروجينية بين الجزيئات المجاورة تكون مُنحنية قليلًا فقط. ثالثًا: تكون أطوال الروابط الهيدروجينية (المتوسطة) كلها في البنية مُتطابقة تقريبًا.
أخيرًا، وكما هو واضح في أحد المواضع المُوضحة في الشكل ٣-١، فالبنية مفتوحة للغاية، حتى إن بإمكاننا أن نرى من خلال القنوات المفتوحة في البنية. وعلى الرغم من أن قدْر «المساحة الفارغة» في البنية مُبالَغ فيه عن طريق تمثيل كل جزيء ماءٍ بواسطة ذرة أكسجينه المركزية، فتظل هناك مساحة كافية لإقحام جزيئات ماء أخرى في هذه القنوات إذا استبدلت تمثيل الكثافة الإلكترونية الشاغلة للمساحة في الشكل ٢-٢ بكل ذرة أكسجين. وعدم حدوث هذا في الثلج هو نتيجة للقيود الزاوِيَّة المفروضة على النسق بسبب اتجاهية تفاعل جزيئات الماء بعضها مع بعض. وحتى لو حاولنا إقحام المزيد من الجزيئات في هذه المساحات، فإنها لن تتمكن من تكوين رابطة مع الجزيئات الموجودة هناك بالفعل.
fig4
شكل ٣-١: بنية «الثلج العادي» عند النظر إليه من اتجاهَين عمودِيَّين. ولأغراضٍ متعلقة بالتوضيح، مُوضَّح فقط مراكز الأكسجين في جزيئات الماء.

ولو أردنا استخدام القوة وأقحمنا جزيئات الماء الأخرى عنوة في هذه الثقوب، فسنملأ الفراغ بالكامل (مما يُشكِّل نسقًا «متراصًّا»)، وسنضاعف كثافة البلورة تقريبًا. لذا، فالكثافة الحقيقية لبنية الثلج تعادل فقط نحو نصف الكثافة التي ستكون عليها حال عدم وجود شرط التفاعل الاتجاهي. وكما سنرى في الفصل الخامس، عندما نأتي للنظر فيما يُسمَّى بالخواص الشاذة للماء، ستكون هذه البنية المفتوحة ذات صلةٍ وثيقة بأسباب انخفاض كثافة الثلج عن كثافة الماء، ما يجعله يطفو عليه.

إذا كان هذا النوع من البِنية البلُّورية المفتوحة، حقًّا، نتاجًا للشكل الهندسي الأساسي الرباعي الأسطح للنمط الرباعي المُوضَّح في الشكل ٢-٣، فإننا نتوقع أن نجد بنًى بلورية مُماثلة في أنظمة أخرى حيث تتفاعل الذرات أو الجزيئات المُكوِّنة لهذه الأنظمة على نسق رباعي مُماثل. وهناك أنظمة على هذا النحو بالفعل. والأمثلة على ذلك تشمل السيليكات في العديد من الصخور، والألماس.

الضغط على الجليد

ولكن قصة الجليد لا تتوقف عند هذا الحد. في الواقع، كان يجب أن أُسمِّي الجليد الذي ناقشناه للتو بالجليد Ih. الرقم الروماني I لأنه كان أول نوعٍ من الجليد عرفناه، والحرف h بسبب تناظُره السداسي (كما يظهر بوضوحٍ على المستوى الجزيئي في الشكل رقم ٣-١، وأيضًا في التناظر السداسي لرقاقات الثلج الفردية عندما تُمسكها على سطح بارد). وهذه التسمية تعني أنه لا بد أن هناك أنواعًا أخرى من الجليد. وهذا صحيح فعلًا.
fig5
شكل ٣-٢: مخطط أطوار الجليد، يظهر الأطوار التي نتوقع رؤيتها عند درجات حرارة وضغوط مختلفة. الصور المصغرة تظهر البنى المختلفة للجليد. الخط المتقطع BC هو امتداد افتراضي لخط الذوبان AB إلى ضغوط أعلى.
على سبيل المثال، إذا قمتُ بتبريد الجليد Ih إلى نحو −٣٠ درجة مئوية، وتطبيق نحو ٣٠٠٠ وحدة من الضغط الجوي، أجد «مرحلة» مختلفة من الجليد، وهو الجليد III. وهذا الجليد عبارة عن بلورة أيضًا؛ حيث تظل الجزيئات فيه تتفاعل من خلال نسَقِنا الرباعي التناسُق المألوف (أما زلتَ تتذكَّره؟). إذا قمتُ الآن بتبريد هذا الجليد III إلى نحو −٤٠ درجة مئوية، فسأحصل على مرحلةٍ أخرى، وهي الجليد II. وما قد يُثير الدهشة في البداية أنني إذا قمتُ بتطبيق الضغط على الماء «السائل» في درجة حرارة الغرفة، فإنني أحصل على مرحلةٍ أخرى عند أكثر من ١٠٠٠٠ وحدة ضغط، وهو الجليد VI، وأحصل كذلك على مرحلة أخرى (الجليد VII) عند زيادة الضغط إلى أكثر من حوالي ١٣٠٠٠ وحدة ضغط.

في الواقع، وطبقًا لآخر إحصاء، هناك ستة عشر (أو سبعة عشر حسب أقوال البعض) طورًا بلوريًّا معروفًا، مما يعني أن الجليد يتبلور بست عشرة (أو سبع عشرة) بِنية مختلفة. أي إن هناك ست عشرة أو سبع عشرة طريقة مختلفة تنتظم بها جزيئات الماء لتُشكِّل بِنًى بلورية مختلفة.

تعتمد كل هذه البنى على النمط الرباعي التناسُق للشكل ٢-٣، وتظهر الشروط المطلوبة، من درجة حرارة وضغط، لتحقيق أقصى استفادة من هذه الأطوار في «مُخطط أطوار» الماء في الشكل ٣-٢. على سبيل المثال، إذا أخذت إحداثي النقطة ٢٠ درجة مئوية ونحو ١٠٠٠ وحدة ضغط جوي، أجدني في منطقة استقرار الماء السائل. وإذا بقيتُ عند نفس مستوى الضغط وخفضت درجة الحرارة إلى نحو −٤٠ درجة مئوية، فإني أعبُر خطًّا فاصلًا (حد الطور) إلى الجليد Ih. إذا زدتُ الضغط الآن إلى نحو ٣٠٠٠ وحدة ضغط، فسأتجاوز حدَّ طورٍ آخر وصولًا إلى الجليد II. وهكذا.

تَظهر بنى كل من هذه الأطوار في الصور المُصغرة على مخطط الأطوار. ومن المثير للاهتمام النظر إلى بعضها بشيءٍ من التفصيل لرؤية الاضطراب الذي يمكن أن تُسببه جزيئات الماء.

التنوع الجزيئي

لننظر أولًا مرة أخرى فيما يحدُث عندما أزيد الضغط على الجليد Ih إلى نحو ٣٠٠٠ وحدة ضغط عند درجة حرارة حوالي −٣٠ درجة مئوية لتكوين الجليد III. إن زيادة الضغط ستضغط الجليد بحيث يشغل حيزًا أقل. وسيتسبب هذا في تشويه نسق ترتيب الجزيئات في الجليد Ih (شكل ٣-١) على نحوٍ متزايد، حتى يصل إلى نقطةٍ عندها يكون من المُريح أكثر للجزيئات أن تُعيد تنظيم نفسها لتشكيل بِنيةٍ مختلفة تشغل حيزًا أقل.
fig6
شكل ٣-٣: بنية الجليد III، مُوضح فيها مراكز ذرات الأكسجين في جزيئات الماء فقط.
الشكل ٣-٣ يُقدِّم لمحةً عن الكيفية التي أعادت بها الجزيئات تنظيم نفسها لتشغل حيزًا أقل (حوالي ٢٠ في المائة في هذه الحالة) من خلال مشهد الجليد III المُوضح فيه؛ يُمكننا التقاط حلقة «خماسية» واحدة على الأقل في الخلية الوحدة المُوضحة (كم حلقة يمكنك إيجادها؟). وفي المتوسط سوف تشغل الجزيئات في هذه الحلقة حيزًا أقل مما كانت ستشغله في الحلقات السداسية للجليد Ih.
تُعتبر إعادة التنظيم في حلقات أقصر واحدةً من الطرق التي تتحايل بها جزيئات الماء لشغل حيزٍ أقل عندما تُوضع تحت الضغط. ويتم الحفاظ على النمط الرباعي، على الرغم من أن روابط الهيدروجين ستُصبح مشدودةً ومشوهة على نحوٍ متزايد من أجل استيعاب الحلقات الأصغر. في حالة الجليد III، يتباين متوسط الزوايا للرابطة OOO بين ٨٨ درجة و١٤٨ درجة. هناك أيضًا زيادة في التبايُن في أطوال الروابط. فبينما كانت في الجليد Ih كلها شِبه متساوية عند ٠٫٢٧٦ نانومتر، فإنها تتراوح بين ٠٫٢٧١ نانومتر و٠٫٢٨٣ نانومتر في حالة الجليد III. لذا، لكي تتمكن روابط الهيدروجين من شغل حيزٍ أقل مع الاحتفاظ بنمط التناسق العام الرباعي الزوايا، كان عليها أن تتغيَّر لتسهيل تكوين بنًى حلقية أصغر تشغل حيزًا أقل.

ولكن ليست هذه الطريقة الوحيدة التي تستجيب بها الجزيئات للحاجة إلى شغل حيزٍ أقل عند زيادة الضغط. فمع رفع الضغط، يكون هناك حدٌّ لحجم الشد والإجهاد الذي يُمكننا أن نُحدثه في روابط الهيدروجين لتكوين حلقاتٍ أقصر. لذا، للتغلب على هذه المشكلة، تتعاون الجزيئات للقيام بشيءٍ مدهش؛ إذ تستغل بعضًا من المساحة الفارغة التي أشرْنا إليها بالفعل بطريقة مبتكرة عن طريق «تمرير» روابط هيدروجينية عبر حلقات سداسية.

من الأمثلة على ذلك الجليد IV (شكل ٣-٤). مرة أخرى، يتم الاحتفاظ بالنمط الرباعي بالكامل، وتحدث زيادة أخرى في نطاق تشوُّه طول الرابطة تتراوح ما بين ٠٫٢٧٤ نانومتر إلى ٠٫٣٢٤ نانومتر، ليس من المستغرب أن الروابط الأطول هي تلك المرتبطة بالروابط «المنسوجة» التي «تتمدَّد» من خلال التنافُرات بين الجزيئات المُحيطة. تبلغ تغيرات زاوية الرابطة OOO ثلثين فقط من نظيرتها في الجليد III، مما يشير إلى أن تمرير الروابط الهيدروجينية يُخفف قدرًا من الإجهاد الزاوي لعملية الارتباط.
fig7
شكل ٣-٤: بنية الجليد IV، تُظهر كيف يمكن لروابط الهيدروجين أن «تشق طريقها» بين الحلقات.
fig8
شكل ٣-٥: بنية الجليد VIII. لإبراز الشبكات المتداخلة، مُوضح الروابط المرتبطة بالهيدروجين فقط.
تُؤخَذ فكرة التمرير هذه إلى أقصى الحدود في الجليد العالي الضغط؛ VI، وVII، وVIII. يمكن اعتبار كلٍّ من هذه البِنى الثلاث شبكتَين متطابقتَين من جزيئات الماء تتداخلان بالكامل لشغل الحيز المتاح. يتضح هذا بأسهل ما يكون من خلال الجليد VIII، الذي يوضح الشكل ٣-٥ طريقة تداخل بنياته. ولكن كل شبكة من الشبكات البلورية الفرعية المتداخِلة لا تزال محتفظةً بالنمط الرباعي التناسُق، وبما أن الشبكات الفردية رباعية الزوايا، فإن القوة المُحفزة لتشوُّه الرابطة قد اختفت تقريبًا. والشد الموجود ناتج عن التمدُّد المحدود لكل شبكةٍ من وضعها المثالي لاستيعاب حجم جزيء الماء في «الثقوب»، وإلا فلن تكون هناك مساحة كافية لاستيعاب الشبكة «الأخرى». وينجم عن ذلك تمديد لروابط الهيدروجين بنسبة حوالي ٥ في المائة؛ أي إلى ٠٫٢٨٨ نانومتر.

قد نلاحظ بصورة عابرة أن بنية كل شبكة من الشبكات المتداخلة هي نفس بنية الألماس. ومن المُثير للاهتمام التكهُّن بما إذا كان يمكن إقناع شبكتَين من الألماس بالتداخل بطريقةٍ مُماثلة. وإذا كان الأمر كذلك، هل ستكون المادة الناتجة أقوى؟ أو أجمل؟

الخلاصة

من هذه الدراسة السريعة لأربع بِنًى للجليد، يمكننا أن نرى أن الأنساق التي تنتظم فيها جزيئات الماء تُظهر جميعها شكلًا هندسيًّا رباعيَّ التناسق، وتتوافق مع النمط الرباعي لشكل ٢-٣. ولكن هناك تبايُنات في أطوال روابط الهيدروجين وزوايا ذرات الأكسجين OOO التي تُستحث بواسطة الضغط عند تكوين بِنى الجليد العالية الضغط.

يبدو أن قدرة جزيء الماء على ثَني الرابطة «سهلة» نسبيًّا، بما يسمح له أن يستوعب بسهولة انحرافات كبيرة عن القيمة المثالية شبه الرباعية. فعند تقليل الحيز المتاح لتلك الجزيئات عن طريق زيادة الضغط، تستغل الجزيئات احتمالات تشوُّه رابطة الهيدروجين عن طريق تنظيم نفسها بعددٍ كبير ومُدهش من الطرق المختلفة لملء المساحة المتاحة. ولكنها تحتفظ بترتيبها المَوضعي المفضل الرباعي التناسُق في كل هذه البِنى.

عند مناقشة الجزيء نفسه، خلصنا في منتصف الفصل الثاني إلى أنه قد يبدو جزيئًا عاديًّا. وبعد ملاحظة تعدُّد قدرات الجزيء في تكوين البنى في الأنواع المختلفة من الجليد، ربما يجب أن نبدأ في مراجعة هذا الرأي. يبدو أن النمط الرباعي متين ومرِن إلى حدِّ ملحوظ؛ إذ يحافظ على تماسكه وتمامه في ظل نطاقٍ واسع جدًّا من مستويات الحرارة والضغط. هل يمكن أن تكون قدراته المُتعددة تلك ذات صلةٍ بخصائصه ووظيفته؟ تلك مسألة سنعود إليها عند مناقشة كلٍّ من الحالات الشاذَّة للماء (الفصل الخامس)، ودوره البيولوجي المشهود له (الفصل السادس).

الجليد «الشبحي» والهيدروجينات «المفقودة»

ربما لاحظت بعض التناقضات الظاهرية فيما قيل حتى الآن بشأن الجليد وطريقتي في عرض البِنى المختلفة له. سأحاول الآن توضيح هذه الأمور. وفي معرض ذلك، سنُلقي الضوء على جوانب من كلٍّ من الماء البلوري والماء السائل تَبيَّن أنها ليست فقط مُثيرة للاهتمام، ولكنها أيضًا مهمة جدًّا في فهم خصائصهما وسلوكهما.

أولًا: في مُخطط الأطوار في الشكل ٣-٢، يشار إلى مستويات الضغوط والحرارة التي يظهر عندها طوران مُعينان من الجليد (الجليد IV وXII) لا بمنطقة على المُخطط، ولكن بأسهُمٍ تُشير إلى منطقة الاستقرار لجليد V.
يعزى هذا إلى أن هذَين الطورَين شبه مُستقرَّين؛ ففي منطقة الضغط ودرجة الحرارة المشار إليها، يكون الجليد V هو الطور المستقر، ويمكن تحضير الجليد IV وXII فقط بإجراءاتٍ محددة جدًّا، قد ينطوي بعضها على إضافة كميات صغيرة من الشوائب التي تبدو أنها تُحقق الاستقرار للبُنى شِبه المستقرة. وتوضيحًا للجوانب الجذَّابة (أو المُحبطة) في مجال البحث في الأنواع المختلفة من الجليد، قد أذكر بصورةٍ عابرة أن الجليد XII قد رُصد لأول مرةٍ باعتباره طورًا شِبه مستقر في منطقة الجليد V، لكن وُجِد منذ ذلك الحين أنه يظهر كطورٍ مُستقر في درجات حرارة أقل.
الجليد XVI، الذي اكتُشف في عام ٢٠١٤، يكون أيضًا شِبه مُستقر عند كلٍّ من الضغط العادي والعالي. ومن المُثير للاهتمام أنه يُفترَض أنه يكون مُستقرًّا تحت الضغط «السلبي»؛ أي تحت الشد. لذا قد تكون منطقة استقراره إلى اليسار من الشكل ٣-٢. وبنية هذا الطور من الجليد المكتشف حديثًا مُثيرة للاهتمام للغاية. وسنلتقي به مرة أخرى في شكل مختلف في الفصل السادس.
ثانيًا: عند توضيح بِنية الجليد Ih، وIII، وIV في الأشكال ٤، و٦، و٧، أظهرتُ فقط مراكز ذرات الأكسجين للتأكيد على الطرُق التي ترتبِط بها الجزيئات معًا. واستخدمتُ تمثيلًا أبسط يوضح فقط الروابط الهيدروجينية بين جزيئات الماء عند التأكيد على بِنية الشبكة البلورية الفرعية المتداخلة للجليد VIII (شكل ٣-٥). فلماذا لم أظهر الهيدروجينات؟
علاوة على ذلك، كنت قد تحفَّظت قليلًا في القول إن هناك ست عشرة أو سبع عشرة بِنية معروفة للجليد، بينما يعرض ثلاث عشرة فقط في الشكل ٣-٢. أين البقية ولماذا لم تُعرض على هذا المُخطط؟ الإجابات عن هذه الأسئلة مترابطة.

الهيدروجينات غير المُنتظمة وقواعد الجليد

الإجابة عن السؤال الثاني ببساطة هي أنَّني لم أُظهر الهيدروجينات في أطوار الجليد Ih، وIII، وIV؛ لأننا لا نعرف أين هي. قد يبدو هذا اعترافًا غريبًا، ولكن في سبيل شرحِه أُعيد تقديم النمط الرباعي للشكل ٢-٣ بالتكرار السداسي في النصف الأيسر من الشكل ٣-٦. لماذا أُكرِّره ست مرات؟ انظر بعناية إلى كل صورةٍ من الصور الستِّ وسيتضح لك أنها ليست واحدة؛ فهي تختلف في مواقع ذرات الهيدروجين، أو اتجاه الجزيء المركزي، الذي هو في جوهره نفس الشيء.
يُظهر كلٌّ من هذه الأشكال بِنية موضعية مضبوطة رباعية التناسُق. إذا ركزنا على ذرات الهيدروجين، يُمكننا أن نقنع أنفسنا بأن نسق ترتيبها متوافق مع مجموعة من القواعد المُتعلقة ببُنى الجليد التي تحدَّدت لأول مرة في ورقة بحثية كلاسيكية نُشرت في عام ١٩٣٣، لجيه دي بيرنال وآر إتش فاولر، والتي لعبت دورًا جوهريًّا جدًّا في فهمِنا للماء، حتى إنني سأشير إليها عدة مرات. تنصُّ هذه القواعد — التي تُعبر بشكلٍ هندسي عن الكيمياء المعروفة — على أنه في الجليد:
  • (١)

    ترتبط كل ذرة أكسجين تساهميًّا بذرَّتَين من الهيدروجين. وهذا في الأساس هو تعريف جزيء الماء.

  • (٢)

    كل ذرةٍ من ذرتَي الهيدروجين في كل جزيء ماء تُشكِّل رابطة هيدروجينية مع ذرةٍ أخرى من أكسجين الماء، بحيث تكون هناك ذرة هيدروجين واحدة بالضبط بين كل زوجٍ من ذرات الأكسجين.

fig9
شكل ٣-٦: الأنساق الستة المُمكِنة لذرات الهيدروجين في النمط الرباعي (على اليسار)، والبنية العادية التي تُرصد من خلال تجربة حيود (على اليمين).

من إحدى نتائج تطبيق هاتَين القاعدتَين أن كل جزيء ماء يرتبط بأربعة جزيئات مجاورة له من خلال الترابط الهيدروجيني، كما رأينا في النمط الرباعي التناسُق الذي كان محور نقاشنا حتى الآن.

بالنظر الآن إلى الأمثلة الستة لدَينا في الجانب الأيسر من الشكل ٣-٦، نرى أن جزيء الماء المركزي يتَّجه اتجاهًا مختلفًا في كلِّ مثال. ومن ثَم يجب أن تكون اتجاهات الجزيئات الأربعة المجاورة مختلفة لتتَّفق مع قاعدتَي بيرنال-فاولر.

عندما ننظر الآن في كيفية ترتيب كثيرٍ من جزيئات الماء داخل بلورة، نجد هذا الشرط الهيدروجيني يزيد الأمور تعقيدًا قليلًا. فعند أخذ أيٍّ من البِنى البلورية التي ناقشناها في إطار مواقع مراكز الأكسجين في جزيئات الماء، نصطدم باحتمالية وجود نوعين مختلفَين من البنى البلورية عند إضافة الهيدروجينات.

في النوع الأول، تكون «اتجاهات» جزيئات الماء، وكذلك مواقعها، «منتظمة». هذا يعني أنه في كل وحدة خلية، تكون جزيئات الماء المكافئة في الاتجاه نفسه. أما في النوع الثاني، فتكون غير مُنتظمة؛ ففي كل وحدة خلية، لا تكون جزيئات الماء المكافئة في الاتجاه نفسه. ويتَّضح هذا الفرق، بغرَض تبسيطه، في شكلٍ تناظُري ثنائي الأبعاد، في الشكل ٣-٧، يُمكننا من خلاله أن نرى أن قواعد الجليد ملحوظة في كل من البنى المنتظمة وغير المنتظمة.
fig10
شكل ٣-٧: الفرق (في شكل تناظري ثنائي الأبعاد) بين بِنية بلورية منتظمة هيدروجينيًّا (على اليسار)، وبنية غير مُنتظمة هيدروجينيًّا (على اليمين).

بينما قد يجب أن نتحدَّث اصطلاحًا عن هذا الانتظام/الاضطراب بوصفه نظامًا «اتجاهيًّا»، من حيث إنه يتعلق بالاتجاهات النسبية لجزيئات الماء، إلا إننا عادة ما نتحدث عنه بوصفه انتظامًا/اضطرابًا هيدروجينيًّا، ونميل إلى استخدام المُصطلحَين المختلفَين تبادليًّا.

إذن، لماذا ترتبط هذه التفصيلة الغامضة ظاهريًّا بالأسئلة التي طُرحت في وقتٍ سابق؟

أولًا: بعض أنواع الجليد الموضحة في مُخطط الأطوار في الشكل ٣-٢ غير منتظم اتجاهيًّا، وبعضها يكون منتظمًا. عندما تكون غير منتظمة اتجاهيًّا، لا نعرف في أي طرف من رابطة الهيدروجين يجب أن نتوقع رؤية ذرة هيدروجين، بما أن البنية التي نقيسها يتوسط قياسها جميع الجزيئات المكافئة في البلورة؛ ففي نصف الحالات ستكون ذرة الهيدروجين مرتبطةً بجزيء الماء المركزي في نمطِنا الرباعي التناسُق، وفي النصف الآخر ستكون مرتبطة بالجزيء المجاور.
سيُظهر تحديد بِنيتنا البلُّورية (الذي يتم على النحو الأمثل من خلال التشتُّت النيوتروني) جميع المواقع المُمكنة للهيدروجينات؛ لذا سيبدو أن بنيتنا تحتوي على هيدروجينات في كلا طرفَي الرابطة الهيدروجينية. ولكن بما أن كل رابطة هيدروجينية في الواقع يمكن أن تستوعب ذرة هيدروجين واحدة فقط، فإن احتمال شغل كل موقعٍ من هذه المواقع الهيدروجينية بذرات الهيدروجين سيكون بنسبة ٥٠ في المائة فقط (انظر الجزء الأيمن من الشكل ٣-٦). لذا لا نَجني شيئًا من إظهار ذرات الهيدروجين في بِنيةٍ غير مُنتظمة؛ ومن هنا جاء تجاهُلي لها في الأشكال السابقة.
من بين أنواع الجليد الموضحة في مُخططنا للأطوار، تُعتبر الأطوار Ih، وIII، وIV، وV، وVI، وVII، وXII، وXVI مضطربة اتجاهيًّا، بينما الأنواع II، وVIII، وIX، وXI مُنتظمة اتجاهيًّا. أما الجليد X، فلَه وضع مُختلف نوعًا ما سنذكُره لاحقًا. ولحُسن الحظ أن الجليد IX ليس له أي علاقة على الإطلاق بمرحلة «الجليد التاسع» في رواية «مهد القطة» لكورت فونيجت، وهي مرحلة كانت لها عواقب مروعة، على الرغم من أننا سنُواجه أصداءً لبعض التحذيرات المُشابهة المروعة عندما ننظر في حلقة الماء المُبلمَر في الفصل السابع.

أطوار الجليد السيئة السلوك

نحن الآن نقترب قليلًا من معرفة السبب وراء وجود ثلاثة (أو أربعة) أطوار مفقودة من مُخطط الأطوار في الشكل ٣-٢. وخلال رحلتنا لاكتشاف السبب، سنتعامل مع بعض الإشكاليات المُثيرة للاهتمام المُتعلقة بجوانب مهمَّة من سلوك كلٍّ من الجليد والماء السائل.

لننظُر في الأطوار المُضطربة أولًا. هناك مبدأ معروف في الفيزياء ينص على أن الانتظام يزداد مع انخفاض درجة الحرارة. إذن، بالتأكيد عندما نُخفِّض الحرارة، يجب أن تتغير اتجاهات جزيئات الماء حتى يتم إنتاج طَور مُنتظم من الجليد؟

يحدُث هذا بسهولةٍ فعلًا في حالات الأطوار غير المُنتظمة III وVII؛ فعندما نُخفِّض حرارتهما، تتغير اتجاهات الماء لتشكيل الأطوار المنتظمة IX وVIII على التوالي. ولكن الأطوار الأخرى المُضطربة تكون أقلَّ تجاوبًا بكثير. على سبيل المثال، الجليد XI — وهو النسخة المُنتظمة من الجليد Ih المألوف — لا يتكوَّن ببساطة عن طريق التبريد. بالمِثل، تتصرَّف الأطوار الأخرى غير المُنتظِمة IV، V، VI، وXII — مهما كانت وتيرة تبريدها بطيئة — على نحوٍ سيئ وتبقى غير مُنتظمة. فهي عالِقة في بِنياتها غير المُنتظمة حتى عند درجات الحرارة المنخفضة جدًّا.

هذا لا يعني أننا نكسر القاعدة الثالثة للديناميكا الحرارية التي تُخبرنا بأن كلَّ شيءٍ يجب أن يكون مُنتظمًا عند درجة الصفر المُطلَق. إنما يعني فقط أننا لا نستطيع الوصول إلى البنى المُنتظمة عن طريق التبريد البسيط. فهناك شيء يحول دون حدوث عملية الانتظام.

ويرجع السبب في هذا الشيء جزئيًّا إلى قاعدتَي بيرنال-فاولر.

تنظيم أطوار الجليد

لننظر مرةً أخرى إلى الشكل التناظُري الثنائي الأبعاد لجزء صغير من بلورة جليد غير منتظمة في الشكل ٣-٧. يتبع نسق الترتيب قاعدتَي بيرنال-فاولر بوضوح؛ إذ يتألف كلُّ جزيءِ ماء من ذرة أكسجين مرتبطة برابطة تساهمية بذرتَي هيدروجين، ترتبط كل منهما بجزيئات الماء المجاورة، وكل ذرة أكسجين في الماء مرتبطة أيضًا بذرتَي أكسجين مُجاورتَين أُخريَين من خلال هيدروجينات جزيئات الماء الأخرى تلك.

إذا أردنا تنظيم هذه المجموعة من جزيئات الماء، فسنُضطر إلى تدوير عدد من الجزيئات لتأخذ اتجاهات مختلفة. على سبيل المثال، تدوير الجزيء المركزي بزاوية ١٨٠ درجة سيدفعه إلى الاتجاه المُوضَّح في البِنية المُنتظمة. ولكن قيود بيرنال-فاولر تَحُول دون إجراء هذا التدوير؛ فهناك بالفعل ذرات هيدروجين من الجزيئات المُجاورة على الروابط التي يحتاج هذا التدوير لوضع ذرات الهيدروجين الخاصة به عليها؛ لذا لا يمكن تنفيذ هذه الحركة. ولتحقيق تقدُّم أكثر، نحتاج إلى العثور على آلية تجعل هذه الأنواع من الدورانات مُمكنة.

قد يكون أحد الاقتراحات للقيام بذلك القول بضرورة القيام بعدد من الحركات «المتناسقة» في وقت واحد بواسطة عددٍ من الجزيئات، بحيث تظلُّ قواعد بيرنال-فاولر مستوفاة. هذا ممكن من حيث المبدأ، ولكن الطاقة اللازمة لتنشيط مثل هذه العملية التعاونية كبيرة؛ ولذا من غير المُرجَّح أن تكون متاحةً في درجات الحرارة المنخفِضة. ثمة اقتراح آخر يتمثل في استعراض احتمالات وجود عيوب في بِنية الجليد قد تُسهل الحركات الاتجاهية المطلوبة.

نعلَم من الخصائص الكهربائية للجليد أن هذه العيوب يجب أن تكون موجودة؛ إذ يُوصِّل الجليد الكهرباء من خلال حركة البروتونات؛ لذا لا بد أن هناك آلية تمكِّن الهيدروجين من التحرك في بنية الجليد عند تطبيق مجال كهربائي، كأن يتحرك من اليسار إلى اليمين، كما في الشكل ٣-٧. بمجرد أن تُصبح هذه العيوب حاضرة، ولو بأعداد قليلة، ستُصبح الحركات الاتجاهية ممكنة، وقد تستطيع الامتداد عبر البلورة.
ثمة نوعان من العيوب معروفان عمومًا في بِنى الجليد؛ العيوب «الاتجاهية» (أو عيوب بيروم، نسبةً لاسم مُقترِحها)، والعيوب «الأيونية». وكما هو مُوضَّح في النصف العلوي من الشكل ٣-٨، هناك نوعان من عيوب بيروم؛ العيب D (من الألمانية doppelbesetze، وتعني مزدوجة الامتلاء)، والعيب L (من leere، وتعني فارغ). مِن المفترض أن تكون هذه الأوصاف واضحةً وغنية عن البيان. العيوب الأيونية هي ببساطة H3O+ وOH، والتي تكونت من خلال انتقال بروتون (هيدروجين) من جزيء إلى آخَر مجاور له. تُعتبر عملية التأيين هذه عمليةً مألوفة في الماء السائل، في ظلِّ ظهور كِلا الأيونَين بتركيز ١ في ١٠ ملايين جزيء ماء في حالة الحموضة المُحايدة.
fig11
شكل ٣-٨: الأنواع المختلفة للعيوب في بِنى الجليد والحركة المُحتملة للعيب الأيوني H3O+.
يمكن لأي نوع من كِلا النوعَين من العيوب أن «يحرر» الحركات الدورانية، كما هو مشار إليه في النصف السُّفلي من الشكل رقم ٣-٨ للعيب الأيوني H3O+؛ إذ تترك العيوب النقطية المهاجرة خلفها أثرًا من جزيئات ماء تغيَّرت اتجاهاتها. وهكذا يُصبح لدَينا الآن آلية ممكنة لإعادة توجيه الجزيئات، بحيث يمكن لبلورة الجليد غير المنتظمة الوصول إلى بنيتها المفضلة المنتظمة والمنخفضة الحرارة.
يبدو فعلًا أن هذه العيوب النقطية «الجوهرية» كافية لطورَي الجليد III وVII لتنتظِم عند تبريدها وتتحوَّل إلى الطورَين IX وVIII على التوالي. ولكن لا تزال أطوار الجليد الأخرى غير المُنتظمة تقاوم التنظيم لسببٍ ما لم نفهمه بعد. ولحمل هذه الأطوار على الانتظام، وُجِد أن مِن الضروري إدخال عيوب نقطية «دخيلة» عن طريق إضافة كميات قليلة جدًّا من حمضٍ أو قاعدة، وعندما تقترِن هذه العملية بالتبريد البطيء والمُتأني، يبدو أن ذلك يُعزز عملية الانتظام.
في حالة الجليد Ih، تؤدي إضافة تركيزات صغيرة من هيدروكسيد البوتاسيوم (بمعدلِ جزيءٍ واحد في حوالي ٥٠٠ جزيء من الماء) إلى بدء الانتقال إلى حالة الانتظام مُمثلة في الجليد IX عند نحو −٢٠٠ درجة مئوية. في المقابل، يبدو أن إضافة الحمض بدلًا من القلوي (جزيء حمض الهيدروكلوريك HCl بمستوى إضافةٍ أقلَّ بكثيرٍ يصل إلى نحو جزيءٍ واحد كل ٥٠٠٠٠ جزيء) ضرورية لأطوار الجليد V، VI، وXII للوصول إلى حالة الانتظام. ويؤدي التبريد المتأنِّي لكلٍّ من هذه الأطوار الثلاثة إلى أطوارها المُنتظمة التي اكتُشِفت مؤخرًا، وهي على التوالي: XII، وXV، وXIV. وهذه هي الأطوار الثلاثة «الغائبة» في مُخططنا للأطوار (شكل ٣-٢).

الجليد X وما بعده

أعلى أطوار الجليد التي تناولناها حتى الآن من حيث مستوى الضغط هو جليد VII (أو الطور الجليدي VIII الذي يُعتبَر الشكل المنتظم اتجاهيًّا له). بما أن جزيئات الماء في هذه البنية البلورية المتداخلة المزدوجة مُتراصة بأقصى قدْر مُمكن لها، ماذا سيحدث إذا واصلتُ تطبيق الضغط على هذه البنية؟
أولًا: سأضغط الجزيئات لتقترِب أكثر بعضها من بعض. وسيكون من نتائج ذلك أن المسافة بين ذرة الهيدروجين في أحد الجزيئات وبين الأكسجين في جاره المُرتبط معه برابطة هيدروجينية ستُصبح أقصر. وإذا واصلت ضغط البلورة أكثر، سيأتي وقتٌ تكون فيه كل ذرة هيدروجين على نفس المسافة من جزيء الماء «المصدر» وجاره «المرتبط معه برابطة هيدروجينية». عند هذه المرحلة، لن يتمكَّن الهيدروجين من التمييز بين الجزيء «المصدر» والجزيء «الجار». وستكون الرابطة الهيدروجينية قد أصبحت مُتماثلة، ولن يكون لقاعدتي بيرنال-فاولر اللتَين تتطلَّبان وجود جزيئات H2O متميزة أي أهمية في هذا المقام. وبذلك سأكون قد حصلتُ في الواقع على بلورة من ذرات الهيدروجين والأكسجين، بدلًا من جزيئات الماء المميَّزة.
كان مقدار الضغط الذي يحدُث فيه مثل هذا الانتقال إلى ما اصطُلح على تسميته بالجليد X مجالًا نشطًا للتحقيق النظري والتجريبي لسنواتٍ عديدة. وعلى الرغم من أن الخواص الطيفية التي قد تُشير إلى حدوث انتقال إلى جليدٍ مُتماثل قد رُصِدت عند مقادير من الضغط تُقدَّر بنحو نصف مليون وحدة ضغط جوي، فلم يتم حتى الآن التعرُّف بشكلٍ قاطع على الجليد X.

كانت هناك تكهنات حول ما قد يحدث لجزيئاتنا المائية المسكينة مع تطبيق مقادير أكبر من الضغط. بل وطُرحت بِنًى أيونية أكثر كثافة، وثمة توقُّع بأن المادة ستُصبح حتمًا في النهاية مادة معدنية. قد تكون هذه التكهنات مُبهرة، لكنها لا تؤثر فعليًّا على فهمنا لخواص وسلوك الماء على الأرض؛ لذا سنترك هذا النقاش عند هذا الحد ونعود إلى الأرض.

حالة الجليد المكعب الغريبة

حتى الآن، امتنعتُ — ربما إلى حدٍّ مزعج — عن التصريح بما إذا كان هناك ستة عشر أم سبعة عشر طورًا معروفًا للجليد. وسأشرح الآن لماذا لم أكن باتًّا بشأن ذلك، وفي هذا الإطار سنمرُّ ببعض الأمور الأخرى المُثيرة للاهتمام التي لا تتعلَّق فقط بالجليد على الأرض، ولكن تتعلق أيضًا بالجليد في أماكن أخرى في النظام الشمسي.

لنعُد إلى الصورة العلوية لبِنية الجليد Ih في الشكل ٣-١. يُمكننا تصوُّر هذه البِنية كما لو كانت قد تكوَّنت عن طريق ربط طبقاتٍ من حلقات سُداسية مثنية بعضها فوق بعض. والطريقة التي رُصَّت بها هذه الطبقات للجليد Ih، بحسب المنظر المُوضَّح في النصف العلوي من الشكل، سارت بحيث تكون الحلقات بعضها فوق بعض، وهذا يُفسِّر وجود القنوات المفتوحة التي أشرتُ إليها سابقًا.
علاوة على ذلك، إذا نظرنا إلى طبقتَين متجاورتَين متراصتَين بعضهما فوق بعض، نرى أنهما صورتان طبق الأصل بعضهما من بعض، ربما يُمكن ملاحظة هذا بسهولة في المنظر السفلي في الشكل ٣-١. وإذا وسمْنا كل طبقة بحيث نُوضِّح هذا الاختلاف، فسنُسمي هذَين النوعَين من الطبقات النوع A والنوع C.
غير أن هذا الترتيب ACACAC الذي نجِدُه في الجليد Ih ليس الطريقة الوحيدة لرصِّ هذه الطبقات السداسية. فثمة طريقة أخرى.
انظر إلى الطبقتَين العلويتَين في الصورة العلوية من الشكل ٣-١. تخيَّل قطع الروابط الهيدروجينية التي تربط الطبقتَين العلويتَين (تحت الأكسجين المؤشَّر بالنجوم)، وتدوير الطبقة العلوية بزاوية ٦٠ درجة. لم يعُد بالإمكان إعادة ربط الجزيئات الموسومة مرة أخرى بالطبقة أدناها. ولكن يُمكن جعل الطبقة العلوية في موقعٍ يمكنها منه إعادة الارتباط مرة أخرى بالطبقة أدناها عن طريق تحريكها إلى أسفل إلى موقعٍ يمكن فيه لذرَّات الأكسجين المؤشَّرة بالنجوم الارتباط مرةً أخرى بعضها ببعض. ومع القيام بذلك، سنكون قد جلبنا بعض الجزيئات فوق القنوات المفتوحة في التراصِّ الأصلي. لنُسَمِّ هذه الطبقة العلوية المُعاد توجيهها النوع B. سيتضح هذا بسهولة باستخدام النماذج؛ لذا لا داعيَ للقلق إذا لم يكن الأمر واضحًا لك الآن، فقط لاحظ أن هناك ثلاث طرقٍ مُمكنة لتسمية كل طبقةٍ تتسق مع الطريقة التي يمكن لجزيئات الماء ذات الطبقات السداسية المَثنية أن ترتبط بها هيدروجينيًّا بعضها مع بعض، وهذه الطرق هي: A، B، وC.
لقد أشرْنا بالفعل إلى أن الجليد Ih ينتج من التراصِّ ACACAC، وأن هذا التراصَّ له تناظر سداسي. في المُقابل، يُعطينا التراصُّ ABCABC بنيةً مختلفة. فبما أن لهذا التراصِّ تناظرًا مكعبًا، فقد سُمي بالجليد Ic، أو الجليد المكعب. هذه هي بنية الجليد «المفقودة» التي كنتُ حتى الآن حذرًا بشأنها؛ ببساطة لأننا لسْنا مُقتنِعين بوجوده بالفعل؛ إذ لم يستطع أحد حتى الآن أن يصنع عيِّنةً نقية منه.
حتى منتصف ثمانينيات القرن العشرين، كان يُعتقَد فعلًا أن طور الجليد Ic هو طور حقيقي من الجليد، على الرغم من أنه لم يتشكَّل في منطقة فريدة على مُخطط أطوار الجليد. كانت المادة التي تُسمَّى الجليد المُكعب تُصنَع بعدَّة طرق، عادة عن طريق تسخين بعض أنواع الجليد العالية الضغط في نطاق الضغط المُحيط، وكان يُعتقَد أحيانًا أنه طَور آخر شِبه مستقر من أطوار الجليد. ولكن كانت هناك سِمات في بيانات حيود النيوترونات والأشعة السينية تُستخدَم لتحديد البِنى البلورية التي لا تبدو سليمةً تمامًا.
واختصارًا لقصة طويلة جدًّا لا تزال مُستمرة، ثبت بالتجربة أن ما كان يُسمَّى سابقًا بالجليد المُكعب ما هو إلا بِنية يكون فيها تراصُّ الطبقات السداسية الشكل غير مُنتظم. فلا ينتظم النسق بالترتيب ABCABCABC إلخ، ولكنه يكون نسقًا أكثر عشوائية من الطبقات، على سبيل المثال ABCBCACBACAB … وهكذا.
كل هذه الأشكال من التراصِّ مرتبطة ارتباطًا كاملًا برابطة هيدروجينية، وتتكون من نسقنا الأساسي الرباعي التناسُق. لكنها ليست بلورات «سليمة» بالمعنى الدقيق. ربما يكون من الأفضل وصفها بالجليد Ih، ولكن مع وجود عيوبٍ في تراصِّ الطبقات بعضها فوق بعض أثناء نمو البلورة. وهذا التراصُّ للبُنى المَعيبة معروف في مواد أخرى لها بِنًى مرتبطة ببُنى الجليد، مثل كربيد السيليكون. لذا على الرغم من أن هذا النوع من البِنى الصلبة مُثير للاهتمام، فإنه ليس حكرًا على الماء.

لكن إذا لم تكن البلورة «سليمة»، فلماذا نُزعج أنفسنا بشأنها، خاصة عندما تكون بِنيتها مُضطربة نوعًا ما ويصعُب شرحها؟ الإجابة ببساطة، لأنها ذات صلةٍ بالطريقة التي يتبلور بها الماء إلى جليد، وبالشكل الذي يُوجَد عليه الماء في أماكن أخرى، في كلٍّ من غلاف الأرض الجوي، وربما في أماكن أخرى في النظام الشمسي.

لنتناول نقطة التبلوُر أولًا. عندما يتبلور سائل إلى جسمٍ صلب بلوري، يكون هناك حاجز طاقة لتكوين النواة الصغيرة الأولى للبلورة. ويتَّضح أن حاجز الطاقة لتكوين نُوِيٍّ صغيرة من «الجليد المكعب» أقل من الحاجز المطلوب لتكوين الجليد السداسي المُستقر Ih. ولكن كلما نمَتْ تلك النواة، يصبح التراصُّ التكراري للبِنية المَعيبة غير مستقر بالنسبة إلى الجليد Ih، ومن ثم يتحول إلى بنية الجليد Ih السداسي المُنتظم. وإذا كنا نُنتج الجليد في مساحات ضيقة — على سبيل المثال في الزجاج الدقيق المَسام — نجد مرةً أخرى أن الطبقات القليلة الأولى يمكن أن تكون أمثلةً على الترتيب المكعب. ويثبت بالفعل أن تراص البنية المَعيبة شِبه مستقر عن طريق تسخين البنية إلى درجة حرارة تنشط فيها حراريًّا العيوب التي ناقشناها فيما سبق، والتي تسمح بالحركات التوجيهية. وتُصحح أخطاء التراص، ويتبقى لنا الجليد Ih المألوف لنا.

إذا ابتعَدْنا عن سطح الأرض، نجد أدلةً على وجود «الجليد المكعب» وعلى أهميته المحتملة. على سبيل المثال، هناك دلائل على أن بلورات الثلج تبدأ حياتها كنُوِيٍّ «مكعبة». علاوة على ذلك، أحيانًا ما قد يحتوي الجليد في السُّحب العالية الارتفاع، التي تتكون عن طريق تبلور بخار الماء، على أمثلة للبنية «المكعبة». وقد قدَّم كريستوف شاينر وصفًا لأول مرة في عام ١٦٢٩ للهالة التي تحمل اسمه، والتي تُرى أحيانًا عند زاوية ٢٨ درجة من الشمس أو القمر عندما يُضيء أحدهما من خلال إحدى هذه السُّحب. وتتسق هذه الزاوية مع تلك الفرضية. وبالابتعاد تمامًا عن الأرض، نجد أن هناك أيضًا أدلة على أن الجليد المكعب من مكوِّنات جليد المذنَّبات، وعلى كونه كذلك عنصرًا فيزيائيًّا فلكيًّا مهمًّا في مواضع أخرى في الكون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤