الماء كسائل وكزجاج
هل يمكن أن يكون للسائل بِنية؟
من الخصائص المُميزة للسائل أنه «يتدفق». في المقابل، الأجسام الصلبة البلورية لا تتدفَّق (اللهم إلا على مقاييس زمنية طويلة جدًّا يُمكننا تجاهُلها في الوقت الحالي). نحن نعلَم أن في أيِّ بلورة، يرتكِز كل جزيء على موضع ثابت مُعين، ومن ثَم ليس لدينا مشكلة في تصوُّر أن البلورة لها بِنية. أما في السوائل، فلكي يتدفق السائل، يجب أن تتحرَّك الجزيئات. إذن، هل يُمكننا الحديث عن وجود بنية للسائل؟
الإجابة بالطبع هي: نعم يمكننا ذلك. وإلا لما حاولنا فهم كيفية تفسير بنية الماء لكثيرٍ من خواص السوائل. ولكن بينما نُوضِّح فكرة ما نَعنيه ببنية السائل، يُمكننا النظر مرةً أخرى في كيفية تصوُّرنا لبُنى الجليد بأنواعه.
لأغراض التبسيط، افترضتُ ضمنيًّا في الفصل الثالث أن جزيئات الماء في الجليد كانت ثابتة، وذلك من أجل التأكيد على الطرُق التي ترتبط بها الجزيئات من خلال الترابط الهيدروجيني لتشكيل البِنى المختلفة. ولكن في الفصل الثاني، أشرْنا إلى الاهتزازات التي تحدُث في الجزيئات المعزولة، وهي الاهتزازات التي تثني الروابط، وتُسبب تمدُّدها، وهذه الحركات ستستمر في الجليد، وإن كان بتردُّداتٍ مُضطربة قليلًا بسبب التفاعُلات بين الجزيئية مع الجزيئات المجاورة.
علاوة على ذلك، ستتذبذب الجزيئات نفسها حول مواضعها المتوسطة.
ولكن بما أن البِنية تتحدَّد ببساطة بمتوسط مواضع ذرات الهيدروجين والأكسجين التي تشكل كل جزيء ماء، وستكون الحركات حول مواضع التوازُن تلك، فإن هذه الحركات لن تؤثِّر على البنية الأساسية للبلورة. فإذا أخذنا لقطة فوتوغرافية للبِنية بزمن تعرُّضٍ أطول من زمن الاهتزاز الاعتيادي، فسنرى تلطيخًا طفيفًا حول المواضع المتوسطة للذرات، ولكن البنية المتوسطة التي تُحدِّدها تلك المواضع المتوسطة لن تتأثر. بالمثل، لن تؤثر نوعية الحركات الدورانية لجزيئات الماء التي ناقشناها في الفصل الثالث على البنية المتوسطة.
يمكننا النظر إلى بِنية السائل بطريقةٍ مماثلة. لنأخذ أولًا لقطة فوتوغرافية بزمن تعرُّض أطول من ذلك الخاص بالاهتزازات الجزيئية الفردية، ولكنه أقصر من ذلك الذي سيُظهر الجزيئات الفردية وهي تتحرَّك من مواضعها «اللحظية». ستُخبرنا هذه اللقطة بمواضع الجزيئات قبل أن تتمكَّن من الانتشار إلى مواضع جديدة. والآن بعد مرور بضع ثوانٍ، لنأخُذ لقطة أخرى بنفس زمن التعرُّض. ستُظهر لنا هذه اللقطة ترتيبًا «لحظيًّا» آخر للجزيئات يختلف في تفاصيله عن الأول؛ إذ ستكون الجزيئات قد تحركت بين اللقطتَين.
السوائل البسيطة أولًا!
قبل أن نستعرض بِنية الماء، نحتاج إلى التراجُع قليلًا والتفكير في إشكالية بِنية السوائل في إطارٍ أعم. وفي هذا السياق، سنتبع خُطى أحد عباقرة القرن العشرين الموسوعيين، وهو جاي دي بيرنال، الذي لم يكن في طليعة روَّاد تطوير علم البلورات بصفةٍ عامة فحسب، بل كان له دور فعَّال ومؤثِّر أيضًا في الاستفادة من هذا العلم في محاولة فَهم بِنى الجزيئات البيولوجية، مثل البروتينات. في الواقع، كان اهتمامُه بكيفية عمل الأنظمة البيولوجية على المستوى الجزيئي — التي تُعَدُّ دراستها محور البيولوجيا الجزيئية — هو ما دفعه إلى التفكير في بِنية الماء. وعندما أدرك أن الماء مُتغلغل في كل الأنظمة الحية، ذهب إلى أننا بحاجةٍ إلى فهم الماء إذا أردنا فهم الوظائف البيولوجية.
في الواقع، وكما أشرْنا في الفصل الثالث، قدَّم بيرنال، بالاشتراك مع آر إتش فاولر، في عام ١٩٣٣ أول ورقةٍ بحثية جادة عن بنية الماء. ويُقال إن تلك الورقة البحثية كُتِبت بعد مناقشة استمرت ليلةً كاملة بين المؤلفَين في مطار موسكو، الذي كان مُغلقًا بسبب الضباب. وبالنظر إلى التأثير الذي أحدثته هذه الورقة — وما زالت تُحدِثه — على فهمنا للماء والمحاليل المائية، فإن تعطُّل حركة المطار هذه ربما كانت أحد أكثر أعطال حركة النقل إثمارًا في تاريخ العلم!
على الرغم من الطابع الإبداعي المؤثر لذلك البحث، فقد وجد بيرنال فيما بعد أن نهجه آنذاك في فهم بِنية الماء السائل غير كافٍ. فقد كان، على حدِّ تعبيره، نهجًا يعتمِد «بنية بلورية، في محاولة لتصوير بِنية الماء باعتبارها مزيجًا من البِنى الرباعية التناسق المُشابهة للكوارتز والتريديمايت». كان ذلك النموذج فائق الانتظام: «كان هذا في النهاية لإثبات مقاربة مُضللة نوعًا ما، تفترض درجةً من الانتظام … في السائل أكبر مما هو موجود في الواقع».
وكما أقرَّ هو نفسه، كانت بنية الماء مُشكلة عسيرة. وكانت كذلك بشكلٍ خاص؛ لأنه في ذلك الوقت لم يكن هناك فهم كبير لبُنى السوائل الأبسط بكثير من الماء. لذا دفع بأنه كان بحاجةٍ أولًا إلى فهم السوائل الأبسط: «لا يجدُر التطرُّق إلى السوائل المُعقدة حتى نفهم البسيطة منها». ومضى لتطوير نهجٍ لفهم بنية السوائل البسيطة مكَّنه بعد مرور أكثر من عقدَين من الزمن من بناء صورةٍ لبنية الماء تتَّفق مع البيانات التجريبية المُتاحة في ذلك الوقت. وكما سنرى، فإن تلك الأفكار ذات صِلة وثيقة أيضًا بما عرفناه عن بِنية الماء من واقع ما توصَّلت إليه أحدث الدراسات والأبحاث التجريبية والبنيوية عن السوائل في عصرنا الحاضر.
السوائل هي سوائل، ليست غازات أو بلورات
تُمثل بنى السوائل إشكالية ثبت أنها إشكالية أصعب من أن يتم التطرق إليها نظريًّا. وهذا يتناقَض تمامًا مع فهمنا لبُنى البلورات والغازات. لذا، فليس مُستغربًا أن الغازات والبلورات عادة ما كانت نقاط انطلاقٍ لمحاولة فهم بِنى السوائل.
كما رأينا في الفصل الثالث، في بلورة مثالية يُمكن تحديد مواقع الجزيئات في وحدة خلية، ويمكن استنساخ بنية البلورة المُمتدة ببساطة عن طريق تكرار وحدة الخلية تلك في ثلاثة أبعاد. ويمكن فهم بنية بلورة حقيقية من خلال النظر في آثار الانحرافات عن هذه البلورة المثالية، مثل الحركات الحرارية ووجود العيوب. والطابع الدوري الكامن في البنية يُبسِّط بشكلٍ كبير حساب الخواص الفيزيائية لبلورةٍ ما من المُؤشرات الجزيئية المعروفة.
يقع الغاز المثالي في الزاوية المقابلة لبلورة مثالية بحيث تكون المواقع اللحظية للذرات النقطية غير المُتفاعلة عشوائية. ومثلما نفهم سمات بلورة حقيقية عن طريق إحداث اضطرابٍ في انتظام البلورة المثالية، فإننا نكشف سمات الغاز الحقيقي عن طريق النظر في الاضطرابات الناتجة عن إعطاء الذرات النقطية حجمًا، والسماح لها بالتفاعل عن بعد. عندما يُضغط الغاز، تندفع الجزيئات مُقتربة أكثر بعضها من بعض، ومن ثم تتفاعل على نحوٍ أقوى. وما دامت الكثافة مُنخفضة إلى حدٍّ معقول، يُمكننا التنبؤ بقدر كبير من الصواب ببنية الغاز البسيط وخواصه.
لذا لا نجد غرابةً في أن المحاولات الأولى لفهم بِنية السوائل قد تطرقت إلى المشكلة من كِلا هذين النهجين المتناقضين؛ أي عن طريق النظر إلى السائل باعتباره إما بلورة غير منتظمة للغاية وإما غازًا عالي الكثافة. وعلى الرغم من أن هذين النهجين كليهما يمكن أن يُسهِما إلى حدٍّ ما في التنبؤ ببعضٍ من خواص السوائل، فلا يمكن لأيٍّ منهما تفسير البيانات التجريبية على نحوٍ وافٍ.
بعبارة أبسط، معاملة السوائل باعتبارها موادَّ صلبة غير منتظمة يضفي عليها صفة الانتظام «أكثر مما ينبغي». أما إذا تعامَلْنا معها بوصفها غازاتٍ كثيفة، فلا يُمكننا تعيين «ما يكفي» من الانتظام لها؛ فبينما يُصبح الغاز أكثر كثافةً ويقترب من التكثف إلى سائل، لا يمكن للنظرية التعامُل مع التعقيد الذي تتَّسِم به التفاعلات التي تحدُث في السائل المكثَّف.
وجد بيرنال أن هذه النُّهُج «البلورية» و«الغازية» لفهم بنية السوائل غير مُرضية في أساسها. فقد أراد نموذجًا بسيطًا للسائل البسيط، الذي يتكوَّن من ذراتٍ يُمكن اعتبارها كراتٍ ناعمة جاذبة. وربما لأنه كان عالم بلورات، ومن ثم نظر إلى الأمر من زاوية بنيوية، أراد بيرنال صورةً فعلية وملموسة أكثر لبنية السائل: «نظرية من نوع ما عن السوائل تكون متجانسة مع نظرية البلورات الصلبة ومختلفة جذريًّا أيضًا، وتتمتَّع بطبيعةٍ متجانسة في العموم». وذهب بيرنال إلى أن السائل — على عكس البلورة — لا يحتوي على خطوط أو مسطحات من الجزيئات. لذا يجب ألا يفترِض النموذج الوافي مثل هذه الكيانات البنيوية، التي ببساطة ليس لها وجود في السائل.
كان الحل الذي طرحَه بيرنال يُمثِّل فكرة مرئية للغاية وبسيطة بطبيعتها. وهي فكرة أثبتت الأعمال اللاحقة أنها صحيحة جوهريًّا كنموذج مرجعي للسوائل الحقيقية.
أكوام مُرتبة وأخرى فوضوية
السوائل البسيطة الحقيقية، بالطبع، ليست كراتٍ صلبة. من الأفضل النظر إليها باعتبارها كرات ناعمة تجذب إحداها الأخرى، ويُسمَّى التفاعُل بينها ﺑ «الجهد بين الجزيئي» للكرات. في حالة السوائل البسيطة، مثل الأرجون، يكون الجزء الخاص بالقوة التنافُرية من الجهد هو المسئول عن تحريك بنية السائل. وكما كان بيرنال يُحب أن يقول: «الكلمة المفتاحية في بنية السوائل هي تلك التي استخدمها همبتي دمبتي في «أليس عبر المرآة»: «اللانفاذية». فالبنية الفعلية تتحدَّد حتمًا من خلال شكل القوى التنافرية بين الجزيئات القريبة في العموم.»
قد يكون هذا النموذج — المُسمى بالرص العشوائي للكرات المُتساوية — بسيطًا، ولكن الأبحاث والدراسات اللاحقة أظهرت صحَّته الجوهرية، ليس فقط باعتباره نموذجًا لسائل بسيط مثالي، بل أيضًا بوصفه نقطة انطلاقٍ صالحة نحو نظرية الحالة السائلة عمومًا. وكما قال جون زيمان، أحد عظماء مُنظِّري الحالة السائلة في القرن العشرين: «يُنظر الآن إلى هذه الفكرة البسيطة … بوصفها المفتاح لأي فهمٍ نوعي أو كمِّي لفيزياء السوائل.»
وتلك السوائل تشمل الماء.
من نماذج الرص إلى الشبكات
يُعتبر التوسُّع إلى مفهوم الماء أمرًا مباشرًا وواضحًا على الصعيد المفاهيمي. في الفصل الثالث، تطرقنا إلى بنى الجليد بأن تخيَّلنا كيف يمكننا ربط جزيئات الماء معًا لتشغل حيزًا معينًا بطريقة تتوافق مع تفاعل جزيئات الماء بعضها مع بعض (النمط الرباعي ذو الروابط الهيدروجينية)، ووجود شبكة بلورية. بالنسبة إلى نموذج مثالي لبنية الماء السائل، يُمكننا اتباع نفس النهج النظري، ولكن مع «تجاهل قيود الشبكة البلورية» هذه المرة. كل ما علينا فعله هو ربط جزيئات الماء معًا بحيث يتصل كل منها بأربعة جزيئات مجاورة له، مع الحرص على عدم إنشاء بلورة منتظمة وإنتاج نموذج بالكثافة الصحيحة. ويمكننا القيام بذلك بسهولة نسبيًّا.
كيف تتطابق بِنية الماء السائل «الحقيقي» مع هذا النموذج الشبكي العشوائي المثالي؟ لدينا الآن بيانات تجريبية أفضل بكثيرٍ عن بنية الماء مما كانت متاحة لبيرنال. ومن ثم، صرنا نعرف الآن كيف يبدو شكل الماء السائل على المستوى الجزيئي. باختصار، مثلما يحتوي نموذج الرصِّ العشوائي الكروي على جوهر بِنية سائل بسيط، يحتوي نموذج الشبكة العشوائية على جوهر بِنية الماء السائل في الظروف العادية من الحرارة والضغط.
وفي رأيي أن أهم البيانات البِنيوية عن الماء قد جاءت من تشتُّت النيوترونات والأشعات السينية. فلهذه الطرق ميزة كبيرة من حيث وجود علاقة مباشرة بين التشتُّت المقيس والبنية الفعلية. في المقابل، ومن أجل تفسير نتائج كثيرٍ من التقنيات التجريبية الأخرى، نحتاج إلى افتراض نوع من النماذج يربط عملية القياس بالبنية. لذا يعتمد تفسير البيانات جوهريًّا على صحة النموذج الذي افترضناه. ومن ثَم، إذا كان هذا النموذج غير صحيح، فإن الاستنتاجات التي نستخلصها من البيانات ستكون أيضًا غير صحيحة. لذا فالأسلم الاعتماد على نتائج سليمة لقياسات التشتُّت، والتي يُمكننا الآن أن نربط بينها وبين أحدث الحسابات الحاسوبية لإنتاج بِنًى فعلية تتوافق مع بيانات التشتُّت التجريبية.
تدعم نتائج سنوات عديدة من هذه التجارب مُقترح بيرنال بأن الشبكة العشوائية هي في الواقع نموذج مرجعي مثالي لبِنية الماء. في الواقع، يُمكننا فحص تناسُق كل جزيء من جزيئات الماء في هذه البِنى العيِّنة (على الرغم من أن تحديد معيار للتناسُق ليس بالأمر السهل). وتُظهر النتائج أن النمط الرباعي الأسطح هو الغالب، كما هو متوقَّع. كما تُخبرنا كيف تختلف البِنية الحقيقية عن الشبكة العشوائية المرجعية تحت الظروف العادية، وعند تغيير درجة الحرارة والضغط.
العيوب في بِنية الشبكة العشوائية
لا ينبغي أن نتفاجأ بهذا حقًّا. ففي الفصل الثاني، اعتبرنا المنطقة السالبة الشحنة من جزيء الماء مثل «فص» واحد من الشحنة. ونظرًا لأن قيمة تلك الشحنة ضعف تلك الموجودة على كل ذرة هيدروجين، فإن جزيء الماء سيُفضِّل ربط منطقته السالبة الشحنة بذرتَي هيدروجين. ولكن حال عدم توافُر ذرتَين، فعليه أن يكتفي بواحدة فقط. في سياق النسق العام المفضل الرباعي التناسُق، قد يُعتبر الترتيب الثلاثي النسق الثلاثي الأسطح الناتج عيبًا في نموذج الشبكة العشوائية المثالي.
وكما سنرى لاحقًا، تبين أن «عيوب» الشبكة العشوائية المثالية هذه مهمة جدًّا في سياقات كلٍّ من ديناميكيات السوائل (كما سنرى لاحقًا في هذا الفصل) وأهميتها البيولوجية (الفصل السادس).
إذا فحصنا توزيع زاوية الرابطة نفسها في بِنى الماء المستمَدة من التجارب، نرى أيضًا مجموعة من القيم يكون التباين بينها أوسع منه في أطوار الجليد المُختلفة، وإن كان هذا هو ما نتوقَّعه بالنسبة إلى سائل. أيضًا حين ناقشنا الأطوار المُختلفة من الجليد، رأينا كيف يمكن النظر إلى البِنى المختلفة في إطار البِنى الحلقية التي تُشكلها جزيئات الماء المكوِّنة لها؛ فنظرًا لتبايُن زوايا الرابطة وأطوالها في البِنى العالية الضغط، صارت مجموعة من أحجام الحلقات (تتراوح بين ٤ إلى ١٠ في الواقع) في عداد المحتمل.
التوزيعات المكانية
يتجلَّى النمط الرباعي الاعتيادي بوضوحٍ في هذه الصورة. فيُظهر الفصان اللذان «يغطيان» ذرات الهيدروجين في جزيء الماء المركزي نطاقَ مواقع جزيئات الماء المجاورة التي تستقبل الروابط الهيدروجينية من الجزيء المركزي. وهناك «نطاق مُتواصل» من الكثافة مُنحنٍ تحت الجزيء المركزي، عوضًا عن وجود فصَّين مُنفصلَين، بمعدل فصٍّ واحد لكل جزيء من جزيئَي الماء المانحَين للروابط الهيدروجينية للجزيء المركزي.
هذا يعكس حقيقة أن المنطقة السالبة الشحنة على ذرة الأكسجين هي فصٌّ واحد من الشحنة، ويترتب على هذا، على المستوى البِنيوي، أن جزيئات الماء التي تقترِب من جزيء ماء مجاور في اتجاه المنطقة السالبة الشحنة يمكن أن تأخُذ بسهولة مجموعة أوسع من الاتجاهات من تلك التي تقترب من جهة الهيدروجين.
النقاط البنيوية الأساسية
الحركة في الأرجاء
ركَّزنا حتى الآن على تصوير البنية الآنية للماء؛ أي ما يبدو عليه ترتيب الجزيئات في لقطة فورية مأخوذة بزمن تعرُّض أقل من ذلك الذي يمكن للجزيئات نفسها التحرك فيه. لكن الماء سائل، وجزيئاته في حالة حركة، والبنية الآنية الواحدة ستتحول إلى بِنًى آنية أخرى. على صعيد تفصيلي، ستكون هذه البِنى كلها مختلفة، ولكن كل واحدة منها ستكون متَّسقة مع الخصائص البنيوية التي حدَّدناها في وقتٍ سابق. وللحصول على فهمٍ أكثر استيفاء للماء كسائل، نحتاج إلى النظر في كيفية تحوُّل هذه البِنى من بِنية إلى أخرى. وهذا يعني أننا بحاجة إلى معرفة شيءٍ عن الجوانب الديناميكية للماء السائل.
في إطار ذلك، سرعان ما سنواجه لغزًا مُثيرًا للاهتمام. حين ناقشنا صعوبة تشكيل الجليد المُنتظِم وفقًا لترتيب ذرات الهيدروجين، خلصنا إلى أن الحركات الاتجاهية اللازمة لحدوث الانتظام عادة ما تتطلَّب عيبًا من نوعٍ ما. وقد كان هذا ضروريًّا لأن قيود بيرنال-فاولر كانت تعني أن جزيئًا واحدًا لا يُمكنه التحرك من تلقاء نفسه دون كسر تلك القيود.
يُعتبر تصوُّرنا لبنية الماء السائل أيضًا تصورًا لشبكة قوية الاتصال ومرتبطة هيدروجينيًّا فيما بينها؛ ومِن ثَم نتوقَّع أن تُعاني الجزيئات السائلة من قيودٍ مماثلة كما في أطوار الجليد. غير أنه عند ذوبان الجليد تحدُث زيادة في حركة جزيئات الماء تُقدَّر بمليون ضعف. لا يمكن تفسير هذا بكسر الروابط الهيدروجينية عند الذوبان؛ إذ إن متوسط عدد هذه الروابط لكل جزيءٍ في السائل يُعادل نظيره تقريبًا في الجليد. لذا لا بد أن هناك شيئًا آخر يمنح الجزيئات في السائل قُدرتها على التحرُّك.
لنستعرض بعض الأرقام. تُخبرنا القياسات التجريبية أنه في درجة الحرارة المحيطة، يُقدَّر الوقت الذي عادة ما يستغرقه جزيء الماء ﻟ «إعادة التوجيه» في السائل بنحو ٢ بيكوثانية (أو مليون من المليون من الثانية). علاوة على ذلك، يُقدَّر متوسط الوقت الذي يستغرقه جزيء الماء للتحرُّك مسافة مساوية تقريبًا لقُطرٍ جزيئي واحد بنحو ٧ بيكوثانية. غير أن قوة الرابطة الهيدروجينية العادية تكون أكبر بكثيرٍ من مقدار الطاقة النموذجي للتقلُّبات الحرارية في درجة حرارة الغرفة التي ستكون لازمةً لتوفير الطاقة لكسرها.
في الواقع، إن زمن إعادة توجيه جزيء الماء وزمن الانتقال المرصودين يكونان أقصر بعدة قيم أُسيَّة مما كنا نتوقع إذا سهَّل كسر رابطة الهيدروجين أيًّا من هذه الحركات الجزيئية. لذا لا بد أن هناك آلية أخرى تفسر هذه الحركات الجزيئية السريعة على نحو غير مُتوقع في هذا النوع من البنية المائية المرتبطة برابطة هيدروجينية.
هناك احتمالان واضحان. أولًا، وكما ذكرنا عند مناقشة الحركة في الجليد: قد يكون من المُمكن لعددٍ من جزيئات الماء المُتصلة أن تتحرك بصورةٍ جماعية بحيث لا تنكسِر الروابط الهيدروجينية. قد تتحرَّك الجزيئات المجاورة على نحوٍ تعاوني؛ وبذا تتجنَّب الحاجة إلى تجاوز حواجز الطاقة الكبيرة بين التكوينات المجاورة من الجزيئات. أما الاحتمال الآخر (والذي ربما يكون ذا صلة) فيتمثَّل في التفكير في دورٍ مُحتمل للعيوب بطريقةٍ مشابهة لمناقشتنا عن الحركة الدورانية في الجليد. وعلى أساس حسابات المُحاكاة الحاسوبية، فهناك آلية من آليات العيوب البنيوية تُعتبر فعلًا، وفي العموم، حلًّا واحدًا على الأقل لهذا اللُّغز المُتعلِّق بالحركة.
من الطبيعي أن نستنتِج أن هذه العيوب يمكن أن تُسهِّل الانتقال بين بنيتَين مختلفتَين موضعيًّا من الجزيئات مُرتبطتَين هيدروجينيًّا، مما يُتيح تغييرًا في البنية الموضعية دون الحاجة إلى كسر الروابط الهيدروجينية. وهكذا، وعلى الرغم من أن الشبكة المرتبطة هيدروجينيًّا في الماء السائل قوية نسبيًّا بما لا يجعلها تتعطَّل بسهولة بفعل التقلبات الحرارية العادية، يبدو أن آليات العيوب تمنح السائل الحركة التي نُلاحظها.
وهكذا يكون لدَينا صورة مُثيرة نوعًا ما للسائل كشبكةٍ قوية نسبيًّا من الجزيئات — يمكن القول إن صلابتها تُقدَّر على مقياس الوقت بالبيكوثانية — ولكن على الرغم من صعوبة كسر الروابط فيها، فإنها تتصرَّف باعتبارها سائلًا سليمًا ومتحركًا في درجة حرارة الغرفة، والتي هي سمات أساسية لأداء وظائفه الكيميائية والبيولوجية.
إضافة الحرارة
ماذا يحدث لبنية الماء عندما نزيد درجة حرارته؟ عندما نُسخن سائلًا «بسيطًا»، تتحدَّد بِنيته في الغالب بطريقةٍ تجمع جزيئاته — كما هو موضح في التجمُّع العشوائي المتقارب الذي ناقشناه في موضعٍ سابق في هذا الفصل — نتوقَّع أن يزيد متوسط المسافة بين الجزيئات. وهكذا سيتمدَّد السائل ليشغل حيزًا أكبر وتنخفض كثافته.
إضافة الضغط
بالنسبة إلى سائل بسيط، يدفع تطبيق الضغط الجزيئات المجاورة لتصبح أقرب بعضها إلى بعض، مما يُقلل متوسط المسافة بينها. ويؤدي هذا إلى تقليل الحيز المشغول وزيادة في الكثافة. أما بالنسبة إلى الماء، فنجد تأثيرًا مُماثلًا، ولكن التغيُّرات الأكثر إثارة للاهتمام في بنيتِه تحدث نتيجة لزيادة انحناء الرابطة الهيدروجينية. تذكِّر أن زيادة الضغط على الجليد أدَّت إلى زيادة انحناء الرابطة لتمكين الجزيئات من شغل حيز أصغر (مما يسَّر حدوث التغيرات في البِنى الحلقية في حالة الجليد)؛ ومن ثم قد نتوقع حدوث شيء مماثل في السائل.
وسنأتي على مناقشة أمر ذي صلة لاحقًا في هذا الفصل عند تناول الجليد غير المتبلور.
الذهاب إلى الحالة فوق الحرجة
رأينا أن زيادة الحرارة والضغط، كلٍّ على حِدة، تشكِّل عبئًا متزايدًا على اتجاهية الرابطة الهيدروجينية التي تُهيمن على بِنية الماء. فماذا يحدث عند زيادة الحرارة والضغط معًا؟ من المعروف جيدًا أن سلوك الماء فوق الحرج (أي فوق ٣٧٤ درجة مئوية، ونحو ٢٢٠ وحدة ضغط، حيث تبلغ كثافة الماء نحو ثلث ما تكون عليه تحت الظروف القياسية المحيطة) يختلف كيميائيًّا تمامًا عن الماء «العادي». على سبيل المثال، الجزيئات غير القابلة للذوبان نسبيًّا في الماء تحت الظروف القياسية المُحيطة يمكن أن تُصبح قابلة للذوبان إلى حدٍّ كبير، مما يجعل الماء فوق الحرج وسطًا فعالًا لعددٍ من العمليات، مثل معالجة النفايات الخطرة واستخراج المُذيبات. لذا فمن المُثير بصفة خاصة محاولة معرفة مدى اختلاف البنية تحت هذه الظروف الأكثر تطرفًا.
من الأسئلة التي قد نطرحها: إلى أي مدًى يُشوَّه النمط الرباعي للجزيئات المجاورة الأولى؟ ما النتائج البنيوية المترتبة على هذا؟ وهل يستمر تفاعل الرابطة الهيدروجينية الذي يُهيمن على بِنية الماء تحت الظروف العادية؟
فيما يتعلق بالبنية الشبكية، فالأدلة التجريبية واضحة تمامًا: عندما ترتفع الحرارة فوق ١٠٠ درجة مئوية (مع الحفاظ على السائل تحت ضغطٍ مُتزايد لمنع التبخر)، يتصاعد تشوُّه البنية الشبكية للماء. وتكاد تختفي تمامًا عند نحو ٣٠٠ درجة مئوية، على الرغم من أن الكثافة قد تكون عالية؛ إذ تصل إلى ٨٠ في المائة من كثافة السائل القياسي. ويبدو أن النمط التناسُقي الرباعي الأسطح يكون قد اختفى تمامًا.
أما فيما يتعلَّق بالكم المُتبقي من الرابطة الهيدروجينية، فالوضع أقل وضوحًا؛ إذ إن استخراج بصمةٍ واضحة لرابطة هيدروجينية من البيانات البنيوية ليس بالأمر السهل. غير أن استخدام ما يُعتقد أنه معيار هندسي معقول لرابطة الهيدروجين يُشير إلى أن أغلب الترابط الهيدروجيني (ربما ليس كله) يكون قد فُقد مع وصول الكثافة إلى نحو ثلثَي قيمتِها القياسية، وهو استنتاج يتوافق إلى حدٍّ كبير مع ذلك الذي نستنتجه من تقنيات القياس الطيفي التي ترصد وجود روابط الهيدروجين بطريقةٍ مختلفة.
لذا فليس من المُستغرَب أن يختلف سلوك الماء فوق الحرج تمامًا عن سلوك الماء الذي نتعرض له في العادة.
التبريد
وعلى الرغم من ذوبان الجليد عند التسخين، وتجمُّد الماء عادة عند التبريد إلى درجة صفر مئوية، يمكن تعريض الماء للتبريد الفائق مثل السوائل الأخرى؛ فتحت ظروفٍ مُعينة يمكن خفض درجة حرارته إلى ما دون نقطة تجمده العادية ويظل سائلًا. بل يمكن أن يظل سائلًا حتى بلوغ «درجة حرارة التنوِّي المُتجانس» التي تقارب −٤٠ درجة مئوية. لذا من الواضح أننا نودُّ معرفة ما يحدُث لبنيته عند خفض الحرارة إلى هذا الحد الأدنى: إلى أي مدًى قد يقترب من البنية الشبكية العشوائية المثالية الرباعية السطوح؟
للأسف، ليس من السهل إجراء قياسات بنيوية دقيقة على السائل الفائق التبريد؛ فهو نظام غير مُستقر، وسيتبلور حال وجود شوائب. حتى عندما نزيل معظم الشوائب، يظلُّ من الصعب الحفاظ على المادة سائلةً مدة طويلة بما يكفي لإجراء قياس بنيوي سليم.
ثمة طرق لتحقيق الاستقرار للسائل الفائق التبريد، مثل وضع قطرات صغيرة جدًّا في مُستحلبات أو في ثقوب دقيقة جدًّا في مواد أخرى. غير أنه نظرًا إلى أن تلك القطرات أو الثقوب تكون صغيرةً جدًّا بحيث يمكن أن تتأثر بنية الماء نفسها إلى حدٍّ كبير بوجود السطح؛ لا يمكننا التأكد من أننا أمام الماء في حالته القياسية حقًّا. علاوة على ذلك، ثمة صعوبات تجريبية في استخراج بيانات غير «ملوَّثة» بالتفاعلات بين السائل وسطح الحاوية؛ فبالنسبة لهذه القطرات الصغيرة، يمكن أن تكون مساهمات هذه التفاعُلات في الإشارة المرصودة كبيرة، ولا توجد طريقة واضحة لإزالتها من البيانات المرصودة.
غير أن بعض القياسات البنيوية للنيوترونات والأشعة السينية قد أُجريت على عينة الماء الكبيرة التي تعرضت إلى تبريد فائق حتى −١٠ درجات مئوية، ومؤخرًا على القطرات الدقيقة حتى درجة حرارة التنوِّي المتجانس مباشرة. تُظهر هذه القياسات أن المسافة إلى الجزيء المجاور الأول تقلُّ كما كنَّا نتوقع. علاوة على ذلك، تقل درجة انحناء رابطة الهيدروجين، مما يؤدي إلى تشوه أقل للنمط المتوسط للجزيء المجاور الأول الرباعي السطوح. وتستمر أنماط الترتيب الشبكي هذه كلما قللنا درجة الحرارة أكثر، ومع الوصول إلى درجة حرارة التنوِّي المتجانس التي تقترب من −٤٠ درجة مئوية، يبدو أننا نقترب أكثر من البنية الشبكية الرباعية السطوح المثالية.
ولكن «إلى أي مدًى» يمكننا أن نقترب في الواقع من هذه البنية المثالية؟ كيف ستبدو البنية إذا لم يتبلور السائل الفائق التبريد عند حوالي −٤٠ درجة مئوية؟
تجنُّب التبلور
يمكن تجنُّب التبلور في كثير من السوائل عند التبريد من خلال التبريد السريع. وهذه هي الطريقة المُتبعة في إنتاج «الزجاج»؛ تلك المادة الصلبة التي لم تتبلور في ترتيبٍ منتظم، ولكنها احتفظت ببِنية غير مُنتظمة. والقيام بهذا يكون أسهل مع بعض المواد عن بعضها الآخر، على سبيل المثال، يتم إنتاج زجاج النوافذ العادي بتبريد السيليكات السائلة ببطءٍ شديد. أما الماء، فيجب أن يكون مُعدل التبريد سريعًا جدًّا، حتى إنه على الرغم من تكوين شكلٍ غير متبلور من الجليد عن طريق ترسيب البخار على سطحٍ بارد منذ زمنٍ طويل يرجع إلى عام ١٩٣٢، لم يتم «تزجيج» الماء من خلال التبريد السريع للسائل حتى عام ١٩٨٢. وحتى هذا الإنجاز لم ينجُ من التساؤلات لعدة سنوات قبل أن تُصبح إمكانية صنع شكلٍ غير متبلور — أو غير منتظم الشكل — من الجليد من السائل مباشرة أمرًا مقبولًا.
فما هي بنية هذه المادة الجليدية غير المتبلورة، غير المُنتظمة الشكل؟ بعد عقود من العمل والبحث، بِتنا نعلم أن بنية الزجاج القائم على السيليكا هي في الأساس بِنية سائلة، ولكن جزيئاتها «متجمِّدة في الزمن»؛ إذ تكون الجزيئات مُثبتة في بنيةٍ شبيهة بالسائل. وقياسًا على ذلك، قد نتوقَّع أن تكون بنية الجليد غير المُتبلور هي بنية الماء الفائق التبريد، مع تكوين جزيئات الماء للبِنية الشبكية الرباعية نفسها، ولكن مع ثباتها في تلك المواضع.
ومع ذلك، وكما تعلَّم الكثيرون منَّا بعد أن دفعنا الثمن، قد يكون من الخطر التسرُّع في الوصول إلى استنتاجاتٍ حول الأمور المُتعلقة بالماء. لذا قد يكون من الحكمة أن ننظر أولًا في كيفية إنتاج الجليد غير المُتبلور وما تُخبرنا التجارب عن بِنيته. عندما نفعل ذلك، تصبح الأمور أكثر إثارة مما لو افترضنا ببساطة أن جزيئات الماء في الجليد غير المُتبلور ثابتة في ترتيبٍ بنيوي هو في الأساس نفس الترتيب البنيوي للسائل البارد.
لكن هذا هو الفصل الأول فقط في قصة مُثيرة، لم تكتمِل فصولها حتى الآن.
الجليد غير المُتبلور أم أطوار الجليد غير المتبلورة؟
يبدأ الفصل الثاني في هذه القصة بتحضير شكلٍ صلبٍ غير مُتبلور من الماء عن طريق تبريد السائل بسرعة، بحيث يتم «تجميد» حركات الجزيئات حتى لا يكون لدَيها وقت كافٍ لإعادة ترتيب نفسها في ترتيبها البلُّوري المُنتظم المُفضل. وتجنب عملية التبلور بهذه الطريقة سهل بالنسبة إلى عددٍ من «مواد التزجيج الجيدة»، مثل الزجاج المُصنَّع بالأساس من مادة السيليكا، والذي نشرب فيه مشروباتنا. لكن الماء مادة سيئة جدًّا لتشكيل الزجاج. بل في غاية السوء، لدرجة أنه يحتاج إلى مُعدَّل تبريدٍ يزيد على مليون درجة في الثانية لمنعه من التبلور.
لم يتم تحقيق معدل التبريد هذا بنجاح إلا في أوائل الثمانينيَّات على يدِ واحدة من أبرز المجموعات البحثية المُتخصِّصة في الجليد، في بلدٍ جليدي بالقدْر المناسب (النمسا)، وذلك عندما نجح إرفين ماير وبيتر بروجيلر في إطلاق دفقٍ رقيق من الماء في سائلٍ بارد جدًّا (على سبيل المثال، البروبان السائل عند درجة −١٩٣ مئوية).
كانت كثافته ٠٫٩٤ جرام/سنتيمتر٣ أيضًا. وعلى الرغم من أن الكثافات المُماثلة للجليد غير المُتبلور والماء الزجاجي الفائق التبريد أشارت إلى احتمال تشابُهِ بنيتهما، لم يكن هناك أي دليل تجريبي في ذلك الوقت لدعم هذا الافتراض أو دحضِه.
بعد فترة وجيزة من العمل الذي أنجزَتْه مجموعة إنسبروك، وفي الجانب الآخر من العالم، في كندا تحديدًا، جاء مختبر آخر رائد في بحوث الجليد (والذي قاده ببراعة الرئيس المستقبلي لنادي جبال الألب الكندي، تيد والي) ليُضفي مزيدًا من الغموض والتعقيد على الفهم السائد (الراسخ) للجليد، من خلال إنتاج جليدٍ يبدو ظاهريًّا غير مُتبلور عن طريق ضغط الجليد البلوري إلى أكثر من ١٠٠٠٠ وحدة ضغط. قد يبدو إجراء تجربةٍ كهذه أمرًا مُستغربًا، لكن كان لديهم حجة مثيرة لتبريرها: إذا تم ضغط مادة صلبة عند درجة حرارة منخفضة بما يكفي لمنع تحولها إلى مرحلةٍ بلورية أخرى، فقد «يذوب» متحولًا إلى جسمٍ صلب غير متبلور.
مرة أخرى، كان تفسير هذه التجربة بأنها أنتجت مادةً غير متبلورة حقيقية مثيرًا للجدل في ذلك الوقت، وظلَّ كذلك عقودًا. كان بعض القائمين على التجربة يعتقدون أن الضغط المُفرط قد أدى إلى انهيار الشبكة البلورية للجليد، وأن ما رُصِد كان ذوبانًا «ميكانيكيًّا» نتج عنه «بلورات نانوية» صغيرة جدًّا من الجليد.
وهكذا صار لدَينا الآن مادة مائية صلبة غير بلورية على ما يبدو، تم تحضيرها بثلاث طرقٍ مختلفة. هل هذا يعني أنه قد حان الوقت للبحث عن بِنياتها وحسم الشكوك التي تتراكم؟ ليس بعد؛ فلا يزال في القصة فصلان آخران قبل أن نتمكَّن من القيام بذلك.
سنتوقف الآن ونلتقِط أنفاسنا قبل النظر في بِنى هذه الأشكال الخمسة.
استكشاف حقول الجليد (غير المُتبلورة)
الشكل | الاختصار | طريقة التحضير | الكثافة (ج/سم٣) |
---|---|---|---|
الماء الصلب (الجليد) غير المُتبلور | ASW | ترسيب بخار الماء | ٠٫٩٤ |
الماء الزجاجي الفائق التبريد | HGW | تبريد قطرات السائل على ١٠٧ درجات/ثانية | ٠٫٩٤ |
الجليد غير المتبلور المنخفض الكثافة | LDA | تسخين الجليد غير المُتبلور العالي الكثافة إلى أعلى من −١٥٥ درجة مئوية تقريبًا | ٠٫٩٤ |
الجليد غير المُتبلور العالي الكثافة | HAD | ضغط الجليد Ih إلى أعلى من ١٢٠٠٠ وحدة ضغط عند −١٩٦ درجة مئوية | ١٫١٥ |
الجليد غير المتبلور الفائق الكثافة | VHDA | تسخين الجليد غير المُتبلور العالي الكثافة على نحو حوالي ٨٠٠٠ وحدة ضغط إلى نحو −١١٠ درجات مئوية | ١٫٢٦ |
استنادًا إلى قياسات تشتُّت الأشعة السينية على قطرات الماء المُبردة تبريدًا فائقًا، أشرْنا بالفعل إلى أنه عند تبريد الماء تبريدًا فائقًا، تتقلَّص الشبكة بشدَّة وتبدو فعلًا أنها تقترِب من بِنية الشبكة العشوائية المثالية. وعلى الرغم من أننا لا نملك أدلة مباشرة تُمكِّننا من تأكيد ذلك، فقد نفترض أن هناك نوعًا من التسلسُل البنيوي بين الماء المبرد تبريدًا فائقًا وهذا الشكل غير المُتبلوِر المنخفض الكثافة.
البِنى العالية الكثافة
تم الكشف عن بنيتَي هذين الشكلَين المُتبقيين من الجليد غير المُتبلور باستخدام قياسات تشتُّت النيوترونات، والتي تقول التفسيرات الراهنة لها إن كل جزيءِ ماءٍ في كِلا الشكلَين المُرتفِعَي الكثافة يرتبط في المتوسط برابطة هيدروجينية بأربعة جزيئات مجاورة. لذا لا يوجَد تغيير في البِنية الموضعية الأساسية للجزيئات المجاورة الأولى، وبذلك يكون النمط الرباعي قد نجا. غير أن الأمور تبدو مختلفةً جدًّا إذا نظرنا إلى جزيئات الماء التي تكون «خارج» نطاق المسافة مع طبقة الجزيئات المجاورة الأولى التي تتحدَّد بواسطة الجزيئات المجاورة الأربعة المرتبطة هيدروجينيًّا. أما بالنسبة إلى الجليد غير المُتبلور المنخفض الكثافة، فلا تُوجَد جزيئات ماء في هذه المنطقة. ولكن في المتوسط يوجَد جزيء إضافي في هذه المنطقة للجليد غير المُتبلور العالي الكثافة، واثنان إضافيان للجليد غير المتبلور الفائق الكثافة ذي الكثافة الأعلى.
تعدُّد الأشكال غير المُتبلورة
قبل أن نكتشف إمكانية إنتاج أكثر من شكلٍ مختلف بنيويًّا من الجليد غير المتبلور، ساد شعور عام بأنه من المُحتمل أن تكون هناك بِنية غير متبلورة واحدة فقط للمادة. هذا يختلف عن حالة البلورات، حيث غالبًا ما يمكن ترتيب الجزيئات — كما رأينا في الجليد — بطرق منتظمة مختلفة لتشكيل بِنًى بلورية مختلفة.
قد تكون ظاهرة «تعدُّد الأشكال البلورية» هذه مُثيرة للاهتمام بصفة خاصة؛ لأن الأشكال البلورية المُختلفة يمكن أن تكون لها خواص فيزيائية مختلفة. هذه النقطة لا تخفى بالتأكيد على القائمين على صناعة الأدوية على سبيل المثال، الذين قد يحتاجون إلى التأكُّد من أن عقارًا ما له شكل بلوري مُعين لتحسين امتصاص الجسم له. أما بالنسبة إلى الأشكال البنيوية غير المُتبلورة، فكان يُعتقَد أنه مع غياب قيود الشكل البلوري ستكون هناك طريقة واحدة فقط لترتيب الجزيئات بطريقةٍ غير بلورية. ومن خلال هذه النتائج التي توصَّلنا إليها عن الجليد، اضطُررنا إلى النظر في إمكانية تعدُّد الأشكال غير المتبلورة.
لذا بوصفنا علماء مُتشككين، ربما يجب أن ندرس احتمالية ألا تكون هذه البِنى الجليدية غير المتبلورة مُختلفة اختلافًا واضحًا. لقد رأينا في وقتٍ سابق أن وضع الماء السائل تحت الضغط يُعدل بِنيته من خلال دفع طبقة الجزيئات المجاورة الثانية غير المُرتبطة لتقترب أكثر، لكننا لم نرَ حينها حاجةً لتسمية هذا بِنية سائلة مُختلفة جوهريًّا.
استنادًا لمُناقشتنا للبنى غير المتبلورة العالية الكثافة أعلاه، ألا تبدو العلاقة البنيوية بين البِنية الشبكية شبه العشوائية للجليد غير المُتبلور المنخفض الكثافة وبنى الجليد غير المُتبلور العالية الكثافة مُشابهة للعلاقة بين الماء ذي الكثافة المنخفضة والعالية؟ في هذه الحالة، هل يجب أن ننظُر فعلًا إلى الجليد غير المُتبلور ذي الكثافة المُنخفضة والعالية باعتبار أن لدَيهما بِنى مختلفة بصورة واضحة؟
على الرغم من أن الأدلة المؤيدة أو المُعارضة لمِثل هذا الاقتراح ليست حاسمة، فهناك بيانات مُقنعة إلى حدٍّ كبير تُشير إلى أننا نتعامل فعلًا مع ثلاثِ بنًى جليدية غير متبلورة متمايزة. وتُظهر القياسات الدقيقة حدوث قفزةٍ كبيرة في الكثافة عند الانتقال من حالة الجليد غير المُتبلور المنخفض الكثافة إلى الجليد غير المُتبلور العالي الكثافة، فإذا كان لهذَين الشكلَين في الأساس البنيةُ الأساسية نفسها، فلنا أن نتوقَّع أن بإمكاننا الانتقال بسلاسة من واحدةٍ إلى الأخرى. بالمِثل، عند تحويل الجليد غير المُتبلور العالي الكثافة إلى جليدٍ غير مُتبلور فائق الكثافة، نجد تغييرًا كبيرًا في قابلية الانضغاط، على الرغم من عدم حدوث تغيُّر كبير في الكثافة. وبناء على ذلك، تُشير الأدلة الحالية إلى أن لدَينا حالة حقيقية من تعدُّد الأشكال غير المتبلورة.
إذا كان الأمر كذلك، فنحن نتوقَّع حدوث فجوةٍ بين بِنيةٍ غير مترابطة وأخرى مترابطة، وهو انتقال طوبولوجي من المُحتمل أن ينعكس في صورة توقُّف بعض الخواص الفيزيائية، وكما أشرْنا في وقتٍ سابق، يحدث تغير في قابلية الانضغاط عند الانتقال من الجليد غير المتبلور العالي الكثافة إلى الجليد غير المتبلور الفائق الكثافة.
غير أن تخفيف الضغط الناجم عن تمرير الروابط الهيدروجينية سيؤدي على الأرجح إلى الحدِّ من تشوُّه النمط الأساسي الرباعي الأسطح الرباعي التناسُق، وهذا عكس ما ترصده التجارب. علاوة على ذلك، فشلت المحاولات حتى الآن للكشف عن حدوث أي تمريرٍ للروابط في بِنى الجليد غير المُتبلورة التي جرت محاكاتها بالكمبيوتر في العثور على أي منها.
لذا، وبينما لا تزال القضية قيد النظر، فإن الأدلة المُتراكمة حتى الآن تُشير إلى أننا يجب أن ننظر إلى الجليد غير المُتبلور المُنخفض الكثافة، والجليد غير المُتبلور العالي الكثافة، والجليد غير المُتبلور الفائق الكثافة، باعتبارها جميعًا أشكالًا متمايزة من الجليد غير المُتبلور ذات التعدُّد الشكلي.
هل الجليد غير المُتبلور غير بلُّوري حقًّا؟
قبل ختام هذا النقاش حول الجليد غير المتبلور، يجب أن نُشير إلى نقطة أخرى إضافية لا يزال هناك بعض الخلاف حولها: هل هذه الأشكال غير المُتبلورة حقًّا غير مُتبلورة أم ربما تكون مجرد تجمُّعات بلورية دقيقة جدًّا مرتبطة بعضها ببعض؟ أم قد تكون مجرد مزيجٍ من بلورات صغيرة من أطوار مختلفة، بالنظر إلى العدد الكبير من أطوار الجليد البلورية المختلفة؟
سعيًا لحلِّ هذه الإشكاليات، بُذلَت محاولات جادة لتفسير بيانات التشتُّت النيوتروني من حيث التبلور. ولكن فشلت جميع النماذج الدقيقة التبلور التي اختُبرت حتى الآن في التوافق مع البيانات التجريبية. وهكذا، وعلى الرغم من صعوبة «التأكد التام» من بيانات التشتُّت النيوتروني (أو الأشعة السينية) أن العينة حقًّا غير بلورية، فإن الرأي الغالِب يقول إن هذه البِنى الجليدية هي فعلًا وبحقٍّ غير مُتبلورة.