تفسير حالات شذوذ الماء
كثيرًا ما يُسلَّط الضوء على حقيقة اختلاف سلوك الماء أحيانًا عن معظم السوائل الأخرى. وقد اكتُشف هذا السلوك الشاذ منذ سنوات عديدة؛ لذا تساءل الناس لفترة طويلة لماذا يبدو أن الماء يتصرَّف بصورة غريبة. وفي مُحاضرة رائعة أمام جمعية نوتنجهام الأدبية والفلسفية في عام ١٨٨٧، أشار جيمس إم ويلسون — الذي كان حينها أستاذًا للرياضيات في مدرسة راجبي، ولكنه أصبح فيما بعدُ رئيس الأساقفة في مانشستر — أن جميع حالات شذوذ الماء قد تعتمِد على خاصيةٍ واحدة له. فهل كان على حق؟ لنُحاول معرفة ذلك.
لقد صادفنا بالفعل شيئًا من هذا الشذوذ المزعوم. على سبيل المثال، بينما تكون معظم الهيدريدات الأخرى (مثل كبريتيد الهيدروجين) في حالةٍ غازية في درجات الحرارة والضغط الطبيعية، يكون الماء سائلًا. علاوة على ذلك، يظلُّ الماء سائلًا في مدًى واسعٍ نسبيًّا من درجة الحرارة (١٠٠ درجة مئوية)، ويستغرق كميةً كبيرة غير مُتوقعة من الطاقة لتبخيره عند نقطة غليانه؛ إذ إن حرارة تبخُّره الكامنة عالية إلى حدٍّ ما.
وقد أوضحنا هاتَين الخاصيتَين الشاذتَين على ما يبدو في الفصل الثاني. فهما نتيجتان طبيعيتان لقوة الرابطة الهيدروجينية المثالية بين جزيئات الماء. وكما عرفنا في موضع سابق، فإن هذه الطاقة في درجة حرارة الغرفة تُعادل عدة أضعاف طاقة التذبذُب الحراري العادية اللازمة لكسرها. في المُقابل، تتفاعل معظم الجزيئات الصغيرة الأخرى بالأساس من خلال قوى فان دير فالز الأضعف بكثير. ونظرًا لأن الطاقة الاعتيادية لهذا التفاعل الأضعف عادة ما تكون أقلَّ بكثيرٍ من طاقة التذبذبات الحرارية في درجة حرارة الغرفة، فإن معظم الجزيئات الصغيرة تكون غير قادرةٍ على البقاء في الحالة السائلة تحت الظروف المحيطة.
اختلاف مفيد
إن تفسير ما قد نُسميه بحالات الشذوذ «البنيوية» للماء السائل ليس أمرًا سهلًا للدرجة. على سبيل المثال، الماء السائل أعلى كثافةً من الجليد، في تناقُض صارخ مع معظم الأنظمة الأخرى حيث يكون الطور السائل أقلَّ كثافة من الطور البلوري. علاوة على ذلك، «يتقلص» الماء البارد عند التسخين، مع وصول كثافته إلى الحد الأقصى عند درجة ٤ مئوية. ونتيجة لذلك، لا يطفو الجليد على الماء فحسب، ولكن أيضًا لأن الماء الشديد البرودة أقلُّ كثافة من الماء الأكثر دفئًا قليلًا، فإن الماء البارد سيميل إلى الاستقرار على سطح البحيرات. ولكِلا هاتَين الخاصيتَين غير العاديتَين عواقب كبيرة. على سبيل المثال، تتراتب البحيرات الباردة في طبقات. كما أنها تتجمَّد من الأعلى وليس من الأسفل؛ إذ تتسبب طبقة الجليد العائمة بما تتَّسِم به من انعدام الحمل الحراري، وانخفاض القدرة على توصيل الحرارة في إبطاء التجمُّد أكثر. وهذا أمرٌ مُهم جدًّا إذا كنتَ سمكة.
وهكذا يكون لكِلا هاتَين الخاصيتَين للماء أهمية مناخية وبيولوجية. بل غالبًا ما يُفترض أن الأهمية البيولوجية العامة للماء مرتبطة بصفةٍ خاصة بخواصِّه الشاذة. لا تزال صحة هذا من عدمها موضع جدل (انظر الفصل السادس). أما ما نحن واثقون بشأنه فهو الأسباب الجزيئية لهذا السلوك الشاذ المزعوم.
ما هو السلوك الطبيعي ولماذا؟
ببساطة، عندما يتجمد سائل «طبيعي»، يتقلص حجمه. في المقابل، عندما تذوب بلورة «طبيعية» تقل كثافتها؛ إذ يشغل السائل حيزًا أكبر لكل جزيء من البلورة. وعندما نرفع حرارة السائل، يتمدد. وهذا يجعل ضغطه أسهل؛ ومن ثم تزداد القابلية للانضغاط كلما زادت درجة الحرارة. وعندما نُسلط ضغطًا على السائل، تزداد لُزوجته، وتقل قدرة الجزيئات على الانتشار — أو الانتشارية — في السائل.
إذا رفعنا حرارة السائل «الطبيعي» الآن (أو بالأحرى بلورة من مادته)، فمن المعروف عمومًا أنه سيتمدد؛ إذ يزداد متوسط المسافة بين أزواج الذرات. وإذا زدنا الضغط الآن، سنضغط الحيز الذي يشغله السائل، ومن ثم تقل المساحة التي تحتاجها الجزيئات لتتمكن من الحركة، بالإضافة إلى زيادة شدة القوى بين الذرات المتجاورة. ونتيجة لذلك، ستقل الانتشارية وتزداد اللزوجة.
السلوك السيئ للماء
نرى على الفور أن الماء يفعل الأشياء على نحو مختلف تمامًا. ففي درجات الحرارة الأقل، تفعل كل من الخواص الموضحة الشيء «الخطأ».
«يتقلص» الجليد عند الذوبان، بينما يتمدد السائل الطبيعي. وعند أقل من أربع درجات مئوية «يتقلص» الماء السائل عند التسخين، في حين يتمدَّد السائل الطبيعي عبر نطاق درجة حرارته. وبين نقطة الذوبان ودرجة حرارة ٤٦ مئوية «تقل» قابلية الماء للانضغاط مع زيادة الحرارة، بينما تزداد هذه القابلية بالنسبة إلى السائل الطبيعي. وإذا نظرنا إلى لزوجة الماء عند درجة ٣٠ مئوية أو أقل، فإنها «تقل» كلما زاد الضغط من ١ إلى حوالي ١٠٠٠ وحدة ضغط، بينما تزداد اللزوجة مع زيادة الضغط في السائل الطبيعي.
الشذوذ في الذوبان
وهذا يعني أن الماء يتمدد عند التجمد. وبذلك، يمكن أن يسبب قدرًا من الضرر لأنظمة شديدة الاختلاف مثل الخلايا البيولوجية والصخور. لذا، يكون هذا الشذوذ مهمًّا جدًّا من الناحية الجيولوجية والبيولوجية، بالإضافة إلى أنه ربما يقدِّم فكرة بشأن الطعام المجمَّد، ولماذا لا يكون لذيذًا مثلما كان قبل وضعه في الثلاجة.
بارد وفصامي
وهكذا يكون لدينا تأثيران يحدُثان عند زيادة الحرارة؛ عملية تمدُّد حراري عادية تؤدي إلى زيادة متوسط مسافات الرابطة الهيدروجينية بين الجزيئات و«انخفاض» في الكثافة، وزيادة في التبايُن الزاوي ستؤدي بدورها إلى «زيادة» في الكثافة. وبناء على ذلك، فإن هذين التأثيرَين يعمل كل منهما ضد الآخر؛ إذ يُحاول أحدهما زيادة حجم السائل، والآخر يحاول تقليله. وسيكون التغيُّر المرصود في الحيز نتيجة للتسوية بين هذين الاتجاهين المتنافسَين. عند درجة الحرارة المُنخفضة (التي تقلُّ عن درجة الحرارة القصوى للكثافة، وهي ٤ درجات مئوية)، يُهيمن تباين زاوية الرابطة، مما يؤدي إلى تقلُّص الحجم الكلِّي للسائل، أما فوق هذه الدرجة، فتتولَّى آلية التمدُّد الحراري العادية السيطرة ويبدأ السائل في التمدُّد كسائل عادي.
يُمكننا أيضًا بطريقةٍ مماثلة شرح حالات الشذوذ في الخواص الديناميكية، مثل اللزوجة والانتشارية. في السوائل العادية، تُقلل زيادة الضغط من الحجم النوعي لكل جزيء، مما يقلل قدرة الجزيئات على الحركة، وانخفاض الانتشارية بالتبعية. الماء البارد يفعل العكس؛ إذ إن زيادة الضغط تزيد انتشاريته. التفسير هنا في الأساس هو نفسه الذي تناولناه في وقتٍ سابق؛ زيادة الضغط ستُشوِّه النظام التوجيهي الموضعي من خلال زيادة انحناء الرابطة الهيدروجينية. وحين نتذكَّر كيف استدعَينا وجود بِنى العيوب المُتشعبة في الفصل الرابع لتفسير قدرة شبكة الماء السائل المُرتبطة فيما بينها هيدروجينيًّا على الحركة، نجد أن زيادة الضغط ستزيد على الأرجح من تركيز هذا العيب؛ ومِن ثم يكون من المتوقَّع زيادة الانتشار. أما اللزوجة فهي مُرتبطة ببساطة بمعكوس عملية الانتشار؛ لذا فإن تفسيرًا مُماثلًا ينطبق أيضًا على السلوك الشاذ للُّزوجة.
هل هذا السلوك الغريب فريدٌ من نوعه؟
الإجابة البسيطة هي لا. إذا كانت تفسيراتنا لهذه الخواص الشاذة صحيحةً وسليمة، ألن نتوقَّع من المواد الأخرى التي تتَّسِم بِنياتها بتناظُرٍ رباعي موضعي مُشابهٍ أن تتصرَّف بشكلٍ غريب أيضًا؟ بلى، نتوقَّع ذلك. وهذا ما يحدُث بالفعل.
بذا، فإن توقُّعاتنا صحيحة. إن الهندسة الموضعية بين الجزيئية هي المسئولة في نهاية المطاف عن «حالات الشذوذ» البنيوية التي يُمكننا ملاحظتها، ليس فقط في الماء السائل، بل أيضًا في السوائل الأخرى ذات البِنى الهندسية الموضعية المُماثلة. يبدو أننا يجب أن نوجه الشكر لروح جيه إم ويلسون لبُعد نظرِه وفطنته في نوتنجهام في عام ١٨٨٧، حين أشار إلى أن خاصية بنيوية واحدة قد تكون مسئولة عن الخواص غير العادية للماء. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من المزاعم المتكررة بأن الأمر عكس ذلك، فلا وجود ﻟ «غموض» حقيقي حول أصل الخواص الفيزيائية للماء. فبإمكاننا فهمها من حيث اتجاهية تفاعُلاتها بين الجزيئية. وفي هذا الإطار، لا يُعَد الماء حالة استثنائية.
المذيب الشامل؟
ثمة جوانب أخرى لسلوك الماء تجعله مُثيرًا للاهتمام بصفة خاصة، وإن كانت لا تُعتبر جوانب شاذة، بالإضافة إلى أنها مفيدة ومهمة للغاية كيميائيًّا وفيزيائيًّا وبيولوجيًّا وجيولوجيًّا وبيئيًّا. تتعلق هذه الجوانب بالخواص الكهربائية للجزيء. وعلى الرغم من أن هذه الخواص مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع البِنية الجزيئية للماء، من الأسهل النظر إليها بمعزلٍ عن حالات الشذوذ البنيوية.
غير أن الماء لم يكن وحيدًا قطُّ في كونه جزيئًا «قطبيًّا»؛ أي جزيئًا يحتوي على شحنات منفصلة. لذا، إذا قُمنا بمزج الماء مع جزيئات قطبية أخرى، فسنتوقع أن حدوث تجاذبات بين الشحنات غير المُتشابهة أيضًا في الجزيئات المضافة. وتكون النتيجة محلولًا مائيًّا يتكون من الجزيئات المُضافة. بالمثل، إذا أضفنا الملح إلى الماء، فسوف يذوب بسهولةٍ أيضًا؛ فالأيون المُوجَب للملح سيبحث بكل سعادةٍ عن المنطقة السالبة في الماء، بينما سيتَّجه الأيون السالب للطرف الهيدروجيني المُوجَب في الماء. لذا، يُعَد الماء مُذيبًا جيدًا بصفةٍ خاصة للجزيئات أو الأيونات القطبية أو المشحونة الأخرى.
لا ينفرد الماء بهذه القدرة على إذابة «الأشياء»، ولكنه يُجيد ذلك بشدة. ويرجع هذا إلى سببَين رئيسين. الأول، كما ذكرنا في الفصل الثاني: لأن عزمَه القطبي — الذي يقيس قوة الجودة القطبية للجزيء — عالٍ جدًّا. غير أننا ذكرنا أيضًا في الفصل الثاني أن للماء قدرة استقطاب عالية؛ إذ يزداد توزيع شحنته بسهولةٍ نسبيًّا عندما يكون في مجالٍ كهربائي.
في السائل، سيختبر كل جزيء ماء مجالًا كهربائيًّا (متذبذبًا) من جيرانه. هذا المجال سيُحدث اضطرابًا في توزيع شحنته الكهربائية. وسيكون التأثير العام لذلك في السائل هو زيادة متوسط العزم القطبي الجزيئي في السائل. وعلى الرغم من عدم وجود قياسات سهلة التفسير لدرجة تعزيز العزم القطبي، فإن الحسابات المُستنِدة إلى بِنى السائل الواقعية تشير إلى توزيعٍ واسع لنتائج العزم القطبي الفردي، تتراوح من حوالي ٢ إلى حوالي ٤ ديباي، ما يعني متوسطًا أعلى بصورة ملحوظة من قيمة الجزيء المعزول التي أشرنا إليها في الفصل الثاني، والتي تبلغ ١٫٨٥ ديباي.
الانفصال ليس صعبًا
حذارِ أيتها الأيونات! فالماء مُذيب قوي جدًّا.
تحويل الشحنات
إن وجود الأيونات في الماء السائل، حتى بأدنى تركيزٍ طبيعي لها، كافٍ لحدوث عمليات نقل الشحنة، والتوصيل الكهربائي بالتبعية. وكما سنرى لاحقًا في الفصل السادس، فإن القدرة على نقل الشحنة مُهمة عند النظر في الأهمية البيولوجية للماء.
آلية التوصيل
على الرغم مِن أننا نعلم أن هذه الأيونات تُشارك في توصيل الشحنة عبر الماء، فلا يزال هناك جدل حول الآلية الفعلية لذلك. وكان التفسير المُفضل لذلك لسنواتٍ عديدة، يتمثل في عمليةٍ اقترحها الكيميائي الألماني تيودور جروتوس منذ أكثر من قرنَين، والذي يرجع إليه الفضل في تأسيس النظرية الأولى للتحليل الكهربي وصياغة القانون الأول للكيمياء الضوئية.
بقدْر ما تبدو هذه الآلية جذابة، إلا أنها تتعارَض مع بعض الأدلة التجريبية.
وهكذا يمكن اعتبار أن هذه العملية تُستحث بقطع رابطة الهيدروجين أمام البروتون المتحرك مع تكوين رابطة هيدروجين لاحقة في ظهره. يمكن تشبيه الأمر هنا بالنبي موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه.
هل هذا هو دور ميكانيكا الكم؟
كان الدارِج طوال ما لا يقلُّ عن أربعين عامًا الاعتقاد بأن البروتونات قد «تمر نفقيًّا» عبر سلاسل جزيئات الماء. في هذا التأثير الميكانيكي الكمومي المعروف، قد يكون الجسيم الذي لا يملك طاقةً كافية للتغلُّب على حاجز الطاقة قادرًا في الواقع على المرور نفقيًّا «خلاله». وبقدْر ما قد تبدو الفكرة جذَّابة، فإن الحسابات الحديثة لا تدعم فكرة كون هذه الآلية ذات أهمية كبيرة هنا.
غير أن ما تُظهِره الحسابات فعليًّا أن الحاجز أمام حركة البروتون على طول الرابطة الهيدروجينية «يُجرَف» إلى حدٍّ ما بفعل حركة النقطة الصفرية لذرات الهيدروجين التي أشرنا إليها في الفصل الثاني. يُعتقَد أن حركة النقطية الصفرية هذه تُقلل بصورةٍ فعالة من حاجز الطاقة التقليدي لحركة البروتون بنسبة ٧٥ في المائة تقريبًا، مما يُسهل عملية نقل البروتون. وبما أن حركة النقطة الصفرية تزداد كلَّما كانت الذرة أخفَّ وزنًا، فإن حقيقة أن الماء يحتوي على ذرتَين خفيفتَين مهمة لانتقال الشحنة في السائل. وهذه الأهمية موصولة لقدرته العالية بصورةٍ غير طبيعية على توصيل البروتونات التي مِن المحتمل أن تكون لها أهمية بيولوجية كبيرة، كما سنرى في الفصل السادس.