الفصل الخامس

تفسير حالات شذوذ الماء

كثيرًا ما يُسلَّط الضوء على حقيقة اختلاف سلوك الماء أحيانًا عن معظم السوائل الأخرى. وقد اكتُشف هذا السلوك الشاذ منذ سنوات عديدة؛ لذا تساءل الناس لفترة طويلة لماذا يبدو أن الماء يتصرَّف بصورة غريبة. وفي مُحاضرة رائعة أمام جمعية نوتنجهام الأدبية والفلسفية في عام ١٨٨٧، أشار جيمس إم ويلسون — الذي كان حينها أستاذًا للرياضيات في مدرسة راجبي، ولكنه أصبح فيما بعدُ رئيس الأساقفة في مانشستر — أن جميع حالات شذوذ الماء قد تعتمِد على خاصيةٍ واحدة له. فهل كان على حق؟ لنُحاول معرفة ذلك.

لقد صادفنا بالفعل شيئًا من هذا الشذوذ المزعوم. على سبيل المثال، بينما تكون معظم الهيدريدات الأخرى (مثل كبريتيد الهيدروجين) في حالةٍ غازية في درجات الحرارة والضغط الطبيعية، يكون الماء سائلًا. علاوة على ذلك، يظلُّ الماء سائلًا في مدًى واسعٍ نسبيًّا من درجة الحرارة (١٠٠ درجة مئوية)، ويستغرق كميةً كبيرة غير مُتوقعة من الطاقة لتبخيره عند نقطة غليانه؛ إذ إن حرارة تبخُّره الكامنة عالية إلى حدٍّ ما.

وقد أوضحنا هاتَين الخاصيتَين الشاذتَين على ما يبدو في الفصل الثاني. فهما نتيجتان طبيعيتان لقوة الرابطة الهيدروجينية المثالية بين جزيئات الماء. وكما عرفنا في موضع سابق، فإن هذه الطاقة في درجة حرارة الغرفة تُعادل عدة أضعاف طاقة التذبذُب الحراري العادية اللازمة لكسرها. في المُقابل، تتفاعل معظم الجزيئات الصغيرة الأخرى بالأساس من خلال قوى فان دير فالز الأضعف بكثير. ونظرًا لأن الطاقة الاعتيادية لهذا التفاعل الأضعف عادة ما تكون أقلَّ بكثيرٍ من طاقة التذبذبات الحرارية في درجة حرارة الغرفة، فإن معظم الجزيئات الصغيرة تكون غير قادرةٍ على البقاء في الحالة السائلة تحت الظروف المحيطة.

اختلاف مفيد

إن تفسير ما قد نُسميه بحالات الشذوذ «البنيوية» للماء السائل ليس أمرًا سهلًا للدرجة. على سبيل المثال، الماء السائل أعلى كثافةً من الجليد، في تناقُض صارخ مع معظم الأنظمة الأخرى حيث يكون الطور السائل أقلَّ كثافة من الطور البلوري. علاوة على ذلك، «يتقلص» الماء البارد عند التسخين، مع وصول كثافته إلى الحد الأقصى عند درجة ٤ مئوية. ونتيجة لذلك، لا يطفو الجليد على الماء فحسب، ولكن أيضًا لأن الماء الشديد البرودة أقلُّ كثافة من الماء الأكثر دفئًا قليلًا، فإن الماء البارد سيميل إلى الاستقرار على سطح البحيرات. ولكِلا هاتَين الخاصيتَين غير العاديتَين عواقب كبيرة. على سبيل المثال، تتراتب البحيرات الباردة في طبقات. كما أنها تتجمَّد من الأعلى وليس من الأسفل؛ إذ تتسبب طبقة الجليد العائمة بما تتَّسِم به من انعدام الحمل الحراري، وانخفاض القدرة على توصيل الحرارة في إبطاء التجمُّد أكثر. وهذا أمرٌ مُهم جدًّا إذا كنتَ سمكة.

وهكذا يكون لكِلا هاتَين الخاصيتَين للماء أهمية مناخية وبيولوجية. بل غالبًا ما يُفترض أن الأهمية البيولوجية العامة للماء مرتبطة بصفةٍ خاصة بخواصِّه الشاذة. لا تزال صحة هذا من عدمها موضع جدل (انظر الفصل السادس). أما ما نحن واثقون بشأنه فهو الأسباب الجزيئية لهذا السلوك الشاذ المزعوم.

ما هو السلوك الطبيعي ولماذا؟

ببساطة، عندما يتجمد سائل «طبيعي»، يتقلص حجمه. في المقابل، عندما تذوب بلورة «طبيعية» تقل كثافتها؛ إذ يشغل السائل حيزًا أكبر لكل جزيء من البلورة. وعندما نرفع حرارة السائل، يتمدد. وهذا يجعل ضغطه أسهل؛ ومن ثم تزداد القابلية للانضغاط كلما زادت درجة الحرارة. وعندما نُسلط ضغطًا على السائل، تزداد لُزوجته، وتقل قدرة الجزيئات على الانتشار — أو الانتشارية — في السائل.

يمكننا أن نفهم لماذا يكون هذا هو السلوك الطبيعي للسوائل عن طريق الرجوع إلى نموذج الرص العشوائي للسائل البسيط الذي ناقشناه في الفصل الرابع. ألقِ نظرة على الشكل ٤-١، الذي يقارن بين الترتيب المُنتظم للكرات في بلورة وبين الترتيب غير المُنتظم لسائل مثالي. يتبيَّن من المقارنة أن كثافة المادة المُتراصَّة بشكل غير منتظم (السائل المثالي) تكون أقل من كثافة التجمُّع البلوري المنتظم بنحو ١٥ في المائة؛ ومن ثم يجب أن تكون المادة في الحالة السائلة أقل كثافة منها في الحالة البلورية القريبة من نقطة الذوبان. هذه حقيقة هندسية أساسية؛ لا يمكننا رص الكرات بكفاءة أعلى عنه في الرص البلوري المُنتظم الموضح في الشكل. وعلى الرغم من أن الأمر كذلك بالفعل كما هو معروف تجريبيًّا منذ أكثر من مائة عام، فإن إثباته رياضيًّا صعب للغاية؛ إذ لم تثبت صحة هذا الافتراض إلا مؤخرًا فقط.

إذا رفعنا حرارة السائل «الطبيعي» الآن (أو بالأحرى بلورة من مادته)، فمن المعروف عمومًا أنه سيتمدد؛ إذ يزداد متوسط المسافة بين أزواج الذرات. وإذا زدنا الضغط الآن، سنضغط الحيز الذي يشغله السائل، ومن ثم تقل المساحة التي تحتاجها الجزيئات لتتمكن من الحركة، بالإضافة إلى زيادة شدة القوى بين الذرات المتجاورة. ونتيجة لذلك، ستقل الانتشارية وتزداد اللزوجة.

السلوك السيئ للماء

يوضح الشكل ٥-١ بيانيًّا (الشكل العلوي) كيف يتغير حجم الماء، وكيف تتغير قابليته للانضغاط (الشكل السفلي) مع تغير الحرارة. ولأغراض المقارنة يُعرض السلوك المتوقع لكل خاصية من خواص السائل «الطبيعي».

نرى على الفور أن الماء يفعل الأشياء على نحو مختلف تمامًا. ففي درجات الحرارة الأقل، تفعل كل من الخواص الموضحة الشيء «الخطأ».

fig18
شكل ٥-١: كيف تؤثر درجة الحرارة على حجم الماء (الشكل العلوي)، وقابليته للانضغاط (الشكل السفلي)، مقارنة بما يُرصَد في السوائل «الطبيعية».

«يتقلص» الجليد عند الذوبان، بينما يتمدد السائل الطبيعي. وعند أقل من أربع درجات مئوية «يتقلص» الماء السائل عند التسخين، في حين يتمدَّد السائل الطبيعي عبر نطاق درجة حرارته. وبين نقطة الذوبان ودرجة حرارة ٤٦ مئوية «تقل» قابلية الماء للانضغاط مع زيادة الحرارة، بينما تزداد هذه القابلية بالنسبة إلى السائل الطبيعي. وإذا نظرنا إلى لزوجة الماء عند درجة ٣٠ مئوية أو أقل، فإنها «تقل» كلما زاد الضغط من ١ إلى حوالي ١٠٠٠ وحدة ضغط، بينما تزداد اللزوجة مع زيادة الضغط في السائل الطبيعي.

يبدو أن الماء يسيء التصرُّف عند درجات الحرارة المنخفضة. ولكن عند رفع درجة حرارته، يبدو أنه يتوافق مع السلوك «الطبيعي». والسبب في هذا الطابع الفصامي الظاهر (إذ يكون سلوكه غير طبيعي عند درجات الحرارة المنخفضة، وطبيعيًّا في درجات الحرارة الأعلى) يتعلق بالبنية الموضعية الرباعية التي تُعتبر النمط البنيوي الأساسي في الماء. فهذا السلوك السيئ يعود برُمَّته إلى الهندسة الجزيئية الموضعية التي تعكس اتجاهية تفاعل الرابطة الهيدروجينية (الشكل ٥-١).

الشذوذ في الذوبان

بالنسبة إلى نموذج السائل الطبيعي المصوَّر في الشكل ٤-١، تتيح إزالة قيد التبلور على البلورة الكروية الصلبة للجزيئات شَغْلَ حيز أكبر. لذا يكون السائل أقل كثافة من البلورة. أما بالنسبة إلى الماء، فقد رأينا بالفعل أن بنية الطور البلوري الطبيعي — طور الجليد Ih السداسي — يتطلَّب مساحةً كبيرة، ويوضح الشكل ٣-١ القنوات المفتوحة التي تترتَّب على الهندسة الرباعية «المفتوحة» لتناسُق الماء في نمطنا الرباعي الأساسي. عند ذوبان الجليد، نزيل قيد التبلور. حينها تتمكن الجزيئات من استكشاف مجموعة أوسع من البِنى الهندسية الموضعية، وكما ناقشنا في الفصل الرابع، تَنتُج مجموعة مختلفة من البِنى الموضعية اللحظية (انظر، على سبيل المثال، الشكل ٤-٤).
إذا نظرنا إلى هذا الذوبان من حيث البِنى الحلقية، نجد أن طور الجليد Ih يحتوي فقط على حلقات سداسية. وإزالة قيد التبلور تتيح للسائل تشكيل مجموعة من البِنى الحلقية. وستشتمل هذه البِنى الحلقية على حلقات خماسية ورباعية، وكلاهما سيشغل مساحة لكل جزيء أقل مما ستشغلها الحلقات السداسية لطور الجليد Ih.
بدلًا من ذلك، قد ننظر إلى التغير في الحيز في إطار تشوُّه النمط الرباعي التناسق الأساسي. نحن نعلم أن هذه الأنماط في طور الجليد Ih تكون قريبة جدًّا من الهندسة الرباعية النموذجية. ولكي تتناسب مع الحيز المُتقلِّص المتاح لها في أطوار الجليد العالية الضغط، يجب أن تتشوَّه هذه الوحدات الجزيئية الموضعية الأساسية عن طريق زيادة انحناء زوايا الرابطة OOO، وهو تشوُّهٌ ساعد في تشكيل مجموعة مختلفة من البِنى الحلقية. بعبارة أخرى مختلفة قليلًا، كلما كان النمط الرباعي أكثر تكاملًا، احتل حيزًا أكبر. في المقابل، عندما نتجه إلى بنًى حيث يكون هذا النمط الأساسي أكثر اضطرابًا — ذوبان البلورة في هذه الحالة — يمكن للنظام أن يشغل حيزًا أقل. ومن ثم تزداد كثافته.
إذا نظرنا إلى الأمر من كلتا الزاويتين — كتغيير في توزيع البنى الحلقية أو كتشوه في السائل للنمط الرباعي الأساسي — نجد أن إزالة قيود التبلور للجزيئات تتيح للجزيئات أن تشغل مجموعة من البنى الموضعية، التي يشغل كثير منها حيزًا لكل جزيء أقل مما تشغله البلورة. وتكون المحصِّلة النهائية — كما قد يشير الرسم الكرتوني الثنائي الأبعاد في الشكل ٤-٣ — سائلًا ذا كثافة «أعلى» من كثافة البلورة. ومن ثم يتقلَّص الجليد عند الذوبان.

وهذا يعني أن الماء يتمدد عند التجمد. وبذلك، يمكن أن يسبب قدرًا من الضرر لأنظمة شديدة الاختلاف مثل الخلايا البيولوجية والصخور. لذا، يكون هذا الشذوذ مهمًّا جدًّا من الناحية الجيولوجية والبيولوجية، بالإضافة إلى أنه ربما يقدِّم فكرة بشأن الطعام المجمَّد، ولماذا لا يكون لذيذًا مثلما كان قبل وضعه في الثلاجة.

بارد وفصامي

يُمكننا أن نقدم حجة ذات صلةٍ لتفسير سلوك التمدُّد الحراري عند درجات الحرارة المنخفضة، الموضح في الشكل ٥-١. كما نعلم، يتمدَّد السائل البسيط عند التسخين، حيث يزداد متوسط تباعد الجزيء المجاور الأول. يحدث هذا في الماء أيضًا، ولكن بالإضافة إلى ذلك، تؤدي زيادة الحرارة إلى تشويه زوايا الرابطة OOO في النمط الرباعي الأساسي. والزيادة الناتجة في تبايُن زاوية الرابطة ستُتيح استكشاف البِنى الموضعية «الأعلى كثافة» (كما فَعلَت عند ذوبان الجليد).

وهكذا يكون لدينا تأثيران يحدُثان عند زيادة الحرارة؛ عملية تمدُّد حراري عادية تؤدي إلى زيادة متوسط مسافات الرابطة الهيدروجينية بين الجزيئات و«انخفاض» في الكثافة، وزيادة في التبايُن الزاوي ستؤدي بدورها إلى «زيادة» في الكثافة. وبناء على ذلك، فإن هذين التأثيرَين يعمل كل منهما ضد الآخر؛ إذ يُحاول أحدهما زيادة حجم السائل، والآخر يحاول تقليله. وسيكون التغيُّر المرصود في الحيز نتيجة للتسوية بين هذين الاتجاهين المتنافسَين. عند درجة الحرارة المُنخفضة (التي تقلُّ عن درجة الحرارة القصوى للكثافة، وهي ٤ درجات مئوية)، يُهيمن تباين زاوية الرابطة، مما يؤدي إلى تقلُّص الحجم الكلِّي للسائل، أما فوق هذه الدرجة، فتتولَّى آلية التمدُّد الحراري العادية السيطرة ويبدأ السائل في التمدُّد كسائل عادي.

يُمكننا تفسير شذوذ خاصيةِ قابلية الانضغاط عند درجات الحرارة المُنخفضة بطريقة مماثلة. كما نرى في الشكل ٥-١، على عكس السائل العادي، يُصبح الماء البارد أكثر صعوبةً في ضغطه عندما نرفع الحرارة إلى درجة ٤٦ مئوية. وفوق هذه الدرجة، يعود سلوكه طبيعيًّا. مرة أخرى تحدث منافسة بين تأثيرَين متعارضَين. فعند درجات الحرارة المنخفضة، سيزيد تطبيق الضغط من متوسط تشوُّهات الأنماط الرباعية الأساسية من خلال مزيدٍ من الانحناء للزاوية OOO. وهذا بدوره سيسمح بتكوين بِنًى موضعية أعلى كثافة، ودفع جزيئات الماء أكثر بعضها نحو بعض الناتج عن هذا سيجعل ضغط السائل أصعب. بمجرد أن نتجاوز الحد الأدنى في مُنحنى قابلية الانضغاط، تُهيمن عملية التمدُّد الحراري «العادية»، مما يُقلل من كثافة السائل، ومن ثم يجعل ضغطَه أسهل.

يُمكننا أيضًا بطريقةٍ مماثلة شرح حالات الشذوذ في الخواص الديناميكية، مثل اللزوجة والانتشارية. في السوائل العادية، تُقلل زيادة الضغط من الحجم النوعي لكل جزيء، مما يقلل قدرة الجزيئات على الحركة، وانخفاض الانتشارية بالتبعية. الماء البارد يفعل العكس؛ إذ إن زيادة الضغط تزيد انتشاريته. التفسير هنا في الأساس هو نفسه الذي تناولناه في وقتٍ سابق؛ زيادة الضغط ستُشوِّه النظام التوجيهي الموضعي من خلال زيادة انحناء الرابطة الهيدروجينية. وحين نتذكَّر كيف استدعَينا وجود بِنى العيوب المُتشعبة في الفصل الرابع لتفسير قدرة شبكة الماء السائل المُرتبطة فيما بينها هيدروجينيًّا على الحركة، نجد أن زيادة الضغط ستزيد على الأرجح من تركيز هذا العيب؛ ومِن ثم يكون من المتوقَّع زيادة الانتشار. أما اللزوجة فهي مُرتبطة ببساطة بمعكوس عملية الانتشار؛ لذا فإن تفسيرًا مُماثلًا ينطبق أيضًا على السلوك الشاذ للُّزوجة.

هل هذا السلوك الغريب فريدٌ من نوعه؟

الإجابة البسيطة هي لا. إذا كانت تفسيراتنا لهذه الخواص الشاذة صحيحةً وسليمة، ألن نتوقَّع من المواد الأخرى التي تتَّسِم بِنياتها بتناظُرٍ رباعي موضعي مُشابهٍ أن تتصرَّف بشكلٍ غريب أيضًا؟ بلى، نتوقَّع ذلك. وهذا ما يحدُث بالفعل.

إحدى تلك المواد مألوفة لنا كثيرًا، وهي السيليكا. في السيليكا، ورمزها الكيميائي SiO2، تتصل كل ذرة سيليكون بأربعة ذرات أكسجين في نمطٍ رباعي التناسُق مُشابهٍ جدًّا لما كنَّا نناقشه بالنسبة إلى الماء، وتكون كل ذرة أكسجين مُشترَكة بين ذرتَي سيليكون متجاورتَين. لذا لا ينبغي أن نتفاجأ من وجود تشابُهات بينها وبين الماء من حيث خواص حالتها السائلة. فهي تتميز، على سبيل المثال، بدرجة حرارةٍ للكثافة القصوى يُمكن تفسيرُها بنفس الطريقة التي شرحنا بها أسباب مرور الماء بكثافة قصوى في درجة حرارة مُعينة. تشمل الأمثلة الأخرى السيليكون والجرمانيوم، اللذَين يرتبطان في العادة بالذرَّات المجاورة لهما بشكلٍ هندسي موضعي رباعي السطوح.
علاوة على ذلك، بعض الذرَّات أو الجزيئات الأخرى التي ترتبط معًا من خلال الارتباط الموجَّه قد تكون لها بِنًى مفتوحة، ومن ثم تُظهر سلوكًا «شاذًّا» ذا صلة، على سبيل المثال، يتقلَّص البزموت أيضًا عند الذَّوبان. قد نُلاحظ أن هذا السلوك مُشابهٌ لسلوك الماء، ولكن الترابُط الأقوى بين الجزيئات في هذه المواد يعني أن هذا السلوك يحدث في درجات حرارةٍ أعلى بكثير؛ إذ تبلُغ نقاط ذوبان السيليكا SiO2، والسيليكون Si، والجرمانيوم Ge، والبزموت Bi على التوالي ١٧١٠ درجات مئوية، ١٤١٠ درجات مئوية، ٩٣٧ درجة مئوية، و٢٧١ درجة مئوية، مقارنة بصفر درجة مئوية للماء.

بذا، فإن توقُّعاتنا صحيحة. إن الهندسة الموضعية بين الجزيئية هي المسئولة في نهاية المطاف عن «حالات الشذوذ» البنيوية التي يُمكننا ملاحظتها، ليس فقط في الماء السائل، بل أيضًا في السوائل الأخرى ذات البِنى الهندسية الموضعية المُماثلة. يبدو أننا يجب أن نوجه الشكر لروح جيه إم ويلسون لبُعد نظرِه وفطنته في نوتنجهام في عام ١٨٨٧، حين أشار إلى أن خاصية بنيوية واحدة قد تكون مسئولة عن الخواص غير العادية للماء. علاوة على ذلك، وعلى الرغم من المزاعم المتكررة بأن الأمر عكس ذلك، فلا وجود ﻟ «غموض» حقيقي حول أصل الخواص الفيزيائية للماء. فبإمكاننا فهمها من حيث اتجاهية تفاعُلاتها بين الجزيئية. وفي هذا الإطار، لا يُعَد الماء حالة استثنائية.

المذيب الشامل؟

ثمة جوانب أخرى لسلوك الماء تجعله مُثيرًا للاهتمام بصفة خاصة، وإن كانت لا تُعتبر جوانب شاذة، بالإضافة إلى أنها مفيدة ومهمة للغاية كيميائيًّا وفيزيائيًّا وبيولوجيًّا وجيولوجيًّا وبيئيًّا. تتعلق هذه الجوانب بالخواص الكهربائية للجزيء. وعلى الرغم من أن هذه الخواص مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا مع البِنية الجزيئية للماء، من الأسهل النظر إليها بمعزلٍ عن حالات الشذوذ البنيوية.

نعلم من واقع مُناقشتنا للجزيء نفسه في الفصل الثاني أنه يمتلك مناطق منفصلة ذات شحنة موجبة وسالبة. الصورة الأبسط التي عرضناها في الشكل ٢-١ كانت تحتوي على شحناتٍ موجبة افتراضية على ذرات الهيدروجين، ومنطقة سالبة الشحنة على ذرات الأكسجين على الجانب الآخر. وبما أننا نعلم أن الشحنات غير المُتشابهة تتجاذب، فإن نموذجًا بسيطًا لتفاعل الترابط الهيدروجيني بين جزيئين من الماء من شأنه أن يُبين أن المناطق الموجبة الشحنة تجذب المناطق السالبة الشحنة، مما ينتج عنه بنيتنا الموضوعية الرباعية المألوفة لنا.

غير أن الماء لم يكن وحيدًا قطُّ في كونه جزيئًا «قطبيًّا»؛ أي جزيئًا يحتوي على شحنات منفصلة. لذا، إذا قُمنا بمزج الماء مع جزيئات قطبية أخرى، فسنتوقع أن حدوث تجاذبات بين الشحنات غير المُتشابهة أيضًا في الجزيئات المضافة. وتكون النتيجة محلولًا مائيًّا يتكون من الجزيئات المُضافة. بالمثل، إذا أضفنا الملح إلى الماء، فسوف يذوب بسهولةٍ أيضًا؛ فالأيون المُوجَب للملح سيبحث بكل سعادةٍ عن المنطقة السالبة في الماء، بينما سيتَّجه الأيون السالب للطرف الهيدروجيني المُوجَب في الماء. لذا، يُعَد الماء مُذيبًا جيدًا بصفةٍ خاصة للجزيئات أو الأيونات القطبية أو المشحونة الأخرى.

لا ينفرد الماء بهذه القدرة على إذابة «الأشياء»، ولكنه يُجيد ذلك بشدة. ويرجع هذا إلى سببَين رئيسين. الأول، كما ذكرنا في الفصل الثاني: لأن عزمَه القطبي — الذي يقيس قوة الجودة القطبية للجزيء — عالٍ جدًّا. غير أننا ذكرنا أيضًا في الفصل الثاني أن للماء قدرة استقطاب عالية؛ إذ يزداد توزيع شحنته بسهولةٍ نسبيًّا عندما يكون في مجالٍ كهربائي.

في السائل، سيختبر كل جزيء ماء مجالًا كهربائيًّا (متذبذبًا) من جيرانه. هذا المجال سيُحدث اضطرابًا في توزيع شحنته الكهربائية. وسيكون التأثير العام لذلك في السائل هو زيادة متوسط العزم القطبي الجزيئي في السائل. وعلى الرغم من عدم وجود قياسات سهلة التفسير لدرجة تعزيز العزم القطبي، فإن الحسابات المُستنِدة إلى بِنى السائل الواقعية تشير إلى توزيعٍ واسع لنتائج العزم القطبي الفردي، تتراوح من حوالي ٢ إلى حوالي ٤ ديباي، ما يعني متوسطًا أعلى بصورة ملحوظة من قيمة الجزيء المعزول التي أشرنا إليها في الفصل الثاني، والتي تبلغ ١٫٨٥ ديباي.

الانفصال ليس صعبًا

من نتائج تعزيز عزم القطبية هذا زيادة قُدرة الماء السائل كمذيب. لنفكر على سبيل المثال في إضافة بعض الملح العادي (NaCl) إلى الماء. الشحنات الفعالة على أيونات الصوديوم والكلور أكبر من نظيرتها على جزيئات الماء، لماذا إذن لا تُفضِّل أيونات الصوديوم والكلور التلاحُم معًا في المحلول؛ فالطاقة التي ستربطهما معًا، في النهاية، أكبر من تلك التي ستُقنعهما بأن يكونا مُتعدِّدَي الشركاء، ويتزاوجا مع جزيءٍ أو اثنَين من الماء، وبالتالي يذوبان؟ السبب في ذلك هو أن الماء لدَيه حيلة سرِّية قذرة (إذا كنت تؤمن بالزواج الأحادي)، تتمثل في أن وجودَه في حدِّ ذاته يُضعِف التجاذب بين الأيونات ذات الشحنات المتضادَّة.
يعود هذا إلى فيزياء التفاعل الأساسية بين شحنتَين. نحن نعلم أن القوة التي تجذب شحنتين q+ وq تعتمد على حجم الشحنات والمسافة بينهما. فيضعُف التفاعُل كلما كانت الأيونات متباعدة، فيما يُعرَف بقانون التربيع العكسي.
غير أن القوة تُعدَّل بفعل طبيعة الوسط الذي يحدُث فيه التفاعل، وكلما كان الوسط أكثر قطبية، كان التفاعُل أضعف. ويُقاس هذا الضعف كميًّا بواسطة «ثابت العزل الكهربائي» أو «النفاذية» الكهربائية ε: كلما كانت النفاذية أكبر، كان التفاعل أضعف. والسوائل المُكوَّنة من جزيئات ذات عزمٍ قطبي عالٍ لها نفاذية كبيرة. لذا تنفض التجاذبات بين الأيونات، وتتجمَّع جزيئات الماء حول الأيونات التي ذابت الآن في المحلول.

حذارِ أيتها الأيونات! فالماء مُذيب قوي جدًّا.

تحويل الشحنات

بالإضافة إلى ارتفاع الانتشار الجزيئي بصورةٍ غير طبيعية في الماء السائل، ترتفع توصيليته الكهربائية أيضًا. يبدو هذا غريبًا للوهلة الأولى، لماذا تقوم مجموعة من جزيئات H2O المُحايدة بتوصيل الكهرباء أصلًا؟ لدَينا بالفعل مفتاح لإجابة هذا السؤال من مناقشتنا للعيوب في الجليد.
رغم أننا نفترِض حتى الآن أن الماء السائل مُكوَّن من جزيئات H2O محايدة، فالأمر ليس بهذه البساطة. ولعلَّ هذا من حُسن حظنا؛ لأنه لو كانت هناك جزيئات مُحايدة فقط، فإن الكثير من الأشياء المُهمَّة لوجودنا لم تكن لتحدُث. العامل الحاسم غير المتوقَّع هنا أن جزيئات الماء يمكن أن تتفكَّك إلى أيونات من خلال تفاعُل تفكك.
هذه الأيونات — أو الصيغ المائية منها، مثل H5O2+ — لا تُوجَد إلا بتركيزات منخفضة جدًّا، تبلغ نحو زوجٍ واحد من الأيونات في حوالي عشرة ملايين جزيء ماء في الظروف القياسية المُحيطة. ولكن حقيقة وجودها تعني أن الماء حمض ضعيف (لوجود أيونات موجبة) وقلوي ضعيف (لوجود أيونات سالبة) على حدٍّ سواء. يمكن تعديل التوازن بين تركيزات الأيونات الموجبة والسالبة — والحامضية أو القلوية بالتبعية — عن طريق إضافة جزيئات أخرى. يؤثر تغيير الحرارة كذلك على توازُن التفكُّك؛ فعند درجة حرارة ١٠٠٠ مئوية وضغط يساوي ١٠٠ وحدة ضغط، يتأيَّن جزيءٌ واحد تقريبًا من كل ألف جزيءٍ من الماء، مما يجعل السائل مُركبًا كيميائيًّا مختلفًا تمامًا، وفي غاية الشراسة.

إن وجود الأيونات في الماء السائل، حتى بأدنى تركيزٍ طبيعي لها، كافٍ لحدوث عمليات نقل الشحنة، والتوصيل الكهربائي بالتبعية. وكما سنرى لاحقًا في الفصل السادس، فإن القدرة على نقل الشحنة مُهمة عند النظر في الأهمية البيولوجية للماء.

آلية التوصيل

على الرغم مِن أننا نعلم أن هذه الأيونات تُشارك في توصيل الشحنة عبر الماء، فلا يزال هناك جدل حول الآلية الفعلية لذلك. وكان التفسير المُفضل لذلك لسنواتٍ عديدة، يتمثل في عمليةٍ اقترحها الكيميائي الألماني تيودور جروتوس منذ أكثر من قرنَين، والذي يرجع إليه الفضل في تأسيس النظرية الأولى للتحليل الكهربي وصياغة القانون الأول للكيمياء الضوئية.

كما هو موضح في الشكل ٥-٢، يُشار إلى أن بروتونًا ينتقل من أيون H3O+ من خلال رابطة هيدروجينية إلى جزيء ماءٍ مجاور، مما يُعيد إنشاء الأيون H3O+ على الجزيء المجاور. ثم ينتقل بروتون آخر من الجزيء المُتلقي بطريقةٍ مماثلة إلى جزيء مُجاور آخر، وهكذا، مما يؤدي إلى انتقال البروتون «الزائد» الأصلي عبر السائل.
fig19
شكل ٥-٢: فكرة تيودور جروتوس عن كيفية انتقال الشحنة الكهربية الموجبة في الماء.
يمكن استدعاء عملية مُماثلة لمحاولة شرح الحركة «العكسية» لأيون OH؛ جرِّب ذلك برسم سلسلةٍ مُماثلة مرتبطة برابطةٍ هيدروجينية من جزيئات الماء مع وضع OH في أحد الأطراف، ثم اسمح لذرة هيدروجين من أحد جيرانها بتحويله إلى H2O. ثم استمر هكذا على طول السلسلة حتى تصِل إلى الطرف الآخر، حيث ستكون قد أنشأت أيون OH جديدًا. وهكذا ستكون الشحنة السالبة قد انتقلت من أحد طرفَي السلسلة إلى الطرف الآخر.

بقدْر ما تبدو هذه الآلية جذابة، إلا أنها تتعارَض مع بعض الأدلة التجريبية.

موضح في الشكل ٥-٣، من خلال سلسلة من اللقطات البنيوية، تفسير يبدو أنه يتَّفق مع البيانات التجريبية. الجزيء A في الصورة العلوية هو أيون H3O+. وبما أنه يحتوي على ثلاث ذرات من الهيدروجين، فإنه يرتبط هيدروجينيًّا بثلاثة جزيئات أخرى من الماء من خلال توجيه كل واحدة من ذرات الهيدروجين تلك نحو المناطق السالبة الشحنة من ثلاثة جزيئات ماء مجاورة.
لكي يتمكن البروتون الإضافي من الانتقال عبر رابطة هيدروجينية، يجب أن يفقد الجزيء المجاور المُتلقي في مدار التناسق الأول للجزيء A (الجزيء B) أحد جيرانه الأربعة، لنقل الجزيء C، الذي يوجَد في الغلاف التناسقي الثاني للأيون H3O+ (الجزيء A). يُعتقَد أن كسر هذه الرابطة الهيدروجينية (انظر الصورة الوسطى) يتحكم في معدل انتشار البروتون. بمجرد أن ينتقل البروتون إلى الجار B، يفقد الجزيء A جارًا رابعًا؛ لذا يرتبط جزيء ماءٍ آخر به (D).
fig20
شكل ٥-٣: اعتقادنا الحالي عن كيفية انتقال البروتونات عبر الماء.

وهكذا يمكن اعتبار أن هذه العملية تُستحث بقطع رابطة الهيدروجين أمام البروتون المتحرك مع تكوين رابطة هيدروجين لاحقة في ظهره. يمكن تشبيه الأمر هنا بالنبي موسى وهو يشق البحر الأحمر بعصاه.

هل هذا هو دور ميكانيكا الكم؟

كان الدارِج طوال ما لا يقلُّ عن أربعين عامًا الاعتقاد بأن البروتونات قد «تمر نفقيًّا» عبر سلاسل جزيئات الماء. في هذا التأثير الميكانيكي الكمومي المعروف، قد يكون الجسيم الذي لا يملك طاقةً كافية للتغلُّب على حاجز الطاقة قادرًا في الواقع على المرور نفقيًّا «خلاله». وبقدْر ما قد تبدو الفكرة جذَّابة، فإن الحسابات الحديثة لا تدعم فكرة كون هذه الآلية ذات أهمية كبيرة هنا.

غير أن ما تُظهِره الحسابات فعليًّا أن الحاجز أمام حركة البروتون على طول الرابطة الهيدروجينية «يُجرَف» إلى حدٍّ ما بفعل حركة النقطة الصفرية لذرات الهيدروجين التي أشرنا إليها في الفصل الثاني. يُعتقَد أن حركة النقطية الصفرية هذه تُقلل بصورةٍ فعالة من حاجز الطاقة التقليدي لحركة البروتون بنسبة ٧٥ في المائة تقريبًا، مما يُسهل عملية نقل البروتون. وبما أن حركة النقطة الصفرية تزداد كلَّما كانت الذرة أخفَّ وزنًا، فإن حقيقة أن الماء يحتوي على ذرتَين خفيفتَين مهمة لانتقال الشحنة في السائل. وهذه الأهمية موصولة لقدرته العالية بصورةٍ غير طبيعية على توصيل البروتونات التي مِن المحتمل أن تكون لها أهمية بيولوجية كبيرة، كما سنرى في الفصل السادس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤